.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 
 

فصل

(مراتب حضور القلب)

بعد أن علمت أن حضور القلب في العبادات، جوهر العبادة وروحها، وأن نورانية العبادة مع مراتب كمالها، مرتبطتان بحضور القلب ومراتبه، لابد من معرفة مراتب حضور القلب وهي أن بعضها تختص بأولياء الحق سبحانه، وتكون أيدي الآخرين قاصرة عن الوصول إلى قمتها. وبعضها متيسره الحصول والتحقق لكافة الناس أيضا.

ولابد من معرفة أن حضور القلب، ينقسم بصورة عامة إلى قسمين مهمين:

أحدهما: حضور القلب في العبادة. والآخر حضور القلب في المعبود وقبل شرح هذا الموضوع، لابد من ذكر مقدمة هي:

يقول أهل المعرفة ـ العرفاء ـ إن العبادات بأسرها، ثناء للمعبود ولكن كل منها ثناء للحق سبحانه، بواسطة نعت من النعوت أو اسم من الأسماء إلا الصلاة فإنها ثناء للحق مع جميع الأسماء والصفات. وقد تقدم منا الكلام لدى شرح بعض الأحاديث وقلنا بأن ثناء المعبود من الفطرة التي جبل عليها جميع الناس، والتي تقضي بلزوم الثناء على المعبود، والخضوع للكامل المطلق والجميل المطلق والمنعم المطلق والعظيم المطلق. وحيث أن أحداً لا يستطيع أن يكتشف كيفية ثناء الذات الأحدى المقدس، لأنه قائم على معرفة الذات والصفات، وكيفية ارتباط عالم الغيب بعالم الشهادة، وعالم الشهادة بعالم الغيب، وأن هذه المعرفة غير متيسرة لكل أحد إلا عن طريق الوحي والهام الإلهي ولهذا كان العبادات بشكل عام توقيفيه، وبيد الحق سبحانه، ولا يحقّ لأحد أن يشرّع من عنده، ويبدع عبادة كما لا اعتبار لأساليب التواضع والاحترام المعهودة عند الناس أمام الكبار والسلاطين، أمام عظمة ساحة قدس رب العالمين. فلا بد للإنسان أن يفتح سمعه وعينه ويتلقى كيفية العبادة و العبودية من الوحي و الرسالة، من دون أن يتصرّف هو بنفسه.

فبعد أن علمنا بأن العبادة هي الثناء على المعبود، إعلم بأن حضور القلب كما أشير إليه ينقسم إلى قسمين مهمين:

[ 466 ]

أحدهما حضور القلب في العبادة، والآخر حضور القلب في المعبود.

أما حضور القلب في العبادة، فله أيضاً مراتب، وعمدتها مرتبتان:

إحداهما: حضور القلب في العبادة إجمالاً: وهو أن الإنسان لدى إنجازه لعبـادة ـ مهما كانت هذه العبادة من الطهارة مثل الوضوء والغسل أو من قبيل الصلاة والصيام والحج وغيرها من الأمور العبادية ـ يعرف إجمالا بأنه يثني على المعبود، رغم عدم معرفته أي ثناء يثني أو أي اسم من أسماء الحق يدعو.

لقد كان شيخنا العارف الكامل الشاه أبادي روحي فداه ـ يضرب مثالاً على حضور القلب في العبادة على سبيل الأجمال، بأن شخصاً ينظم قصيدة في مدح أحد ثم يعطيها لطفل لا يستوعب معناها أبداً، لكي يلقيها أمام ذلك الممدوح، ثم يُفهم الطفل بأن هذه القصيدة قد نظمت في مدح ذلك. فعندما يقرأ الطفل هذه القصيدة، يعلم إجمالاً بأنه يثني على الممدوح رغم جهله لكيفية ثنائه عليه. ونحن الذين أيضاً بمثابة الأطفال نمدح الحق، من دون أن نعرف ما هي أسرار هذه العبادات؟ وما هي الأسماء التي ترتبط بها هذه العبادات؟ وكيف تكون هذه العبادات ثناءاً للحق جل وعلا؟ ولكن لابد وأن نعرف إجمالاً بأن كل واحد من هذه العبادات، ثناء على الكامل المطلق والمعبود المطلق والممدوح المطلق، على الشكل الذي أثنى هو بنفسه على نفسه، وأمرنا أن نثني أمام ساحته المقدسة بنفس هذه الكيفية.

والآخر من مراتب حضور القلب، هو حضور القلب في العبادة بصوره تفصيلية. ولا تتيسر لأحد المرتبة الكاملة منها إلا للخلص من أوليائه، ولأهل المعرفة، ولكن بعض المراتب الدانية منها متيسرة الحصول للآخرين، حيث تكون المرتبة الأولى منها هي الإلتفات إلى معاني الألفاظ في مثل الصلاة والدعاء. وقد أشير إلى هذه المرتبة في رواية مأثورة عن(ثواب الأعمال) سابقاً.(في صفحة 392 من هذا الكتاب).

والمرتبة الأخرى أن يعرف حسب الإمكان أسرار العبادة، ويعلم كيفية ثناء المعبود في كل من الأوضاع والأحوال.

[ 467 ]

إن أهل المعرفة قد بيّنوا شيئاً قليلاً من أسرار الصلاة والعبادات الأخرى، واستفادوا حسب الإمكان من أخبار المعصومين عليهم السلام، وإن كان فهم الحقيقة بأسرها غير متيسر إلاّ للقليل من الناس، وما تيسّر فهمه، فهو غنيمة لأهله.

وأما حضور القلب في المعبود: فله مراتب أيضاً وعمدتها مراتب ثلاثة:

إحداها حضور القلب في تجلّيات الأفعال. ثانيها حضور القلب في تجلّيات الأسماء والصفات وثالثها حضور القلب في تجلّيات الذات. ولكل واحدة من هذه المراتب الثلاث بصورة كلية أربع مراتب:

المرتبة العلمية، المرتبة الإيمانه، المرتبه الشهوديه، المرتبة الفنائية. والمقصود من حضور القلب في تجلّيات الأفعال العلمية، هو أن الشخص العابد السالك يدرك عن يقين وبرهان بأن مراتب الوجود كافة، ومشاهد الغيب والشهود بأسرها، قبس من فيوضات تجلي الذات الأقدس، وأن من أدنى مرتبة في عالم الطبيعة إلى مبدأ الملكوت الأعلى والجبروت الأعظم، حاضر عند ساحة قدسه، بحضور واحد، وأن الجميع شعاع مظهر مشيئته كما ورد في الحدث الشريف المنقول عن الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام: "خَلَقَ اللهُ المَشيَّةَ بِنَفْسِهَا ثُمَّ خَلَقَ الأشْيَاءَ بِالمَشِيَّةِ(1). فالمشية تكون بنفسها مظهراً للذات، وسائر المجودات مخلوقه بها. ونحن لسنا بصدد الاستدلال على هذا المعنى الشريف. فإذا علم العابد هذا المعنى عن علم ودليل، فهم بأنه هو وعبادته وعلمه وإرادته وقلبه وحركات قلبه وظاهره وباطنه والجميع حاضرون في ساحة قدسه بل الكل عين الحضور.

وإذا سَجّل مع قلم العقل هذا المعنى الثاني بالدليل، على لوح القلب، واعتقد عبر الترويض العلمي والعملي، بهذه القضية اليقينية الإيمانية، لبلغ حضور القلب مرتبة تجلي الإيمان. وبعد حصول الكمال لهذا الإيمان والمجاهدة والترويض والتقوى الكاملة للقلب، تشمله الهداية الإلهية، ويحصل في قلبه قدراً من تجليات الأفعال بالعيان والشهود، ثم يتكامل حتى يصبح القلب كلياً مرآة للتجليات، ويحصل للسالك الصعق والفناء. وهذه هي المرتبة الأخيرة للحضور،

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب أن الإرادة من صفات الفعل، ج4.

[ 468 ]

التي تنتهي إلي فناء الحاضر في تجليات الأفعال. وكثير من أهل السلوك يبقون في هذا الصعق إلى الأبد ولا يصحون.

وإذا كان قلب السالك مؤهلاً لأكثر من ذلك من جراء إشعاع الفيض الأقدس في عالم الأزل، يصحو السالك من الصعقة، ويحصل له الإنس ويعود إلى عالمه ويكون مورداً لتجلّيات الأسماء، ويطوي تلك المراتب الأربعة، ويصل إلى مرحلة الفناء في الصفات، وبمناسبة عينه الثابتة يفنى في اسم من الأسماء الإلهية. وإن كثيراً من أهل السلوك يبقون في هذا الفناء الأسمائي ولا يصحون. ولعل الكلمة القائلة "إنَّ أوليائي تَحْتَ قبابي لا يَعْرِفُهُمْ غَيْري"(1). إشارة إلى هؤلاء الأولياء.

وإذا كان هناك استعداد أكثر من جراء تجلي الفيض الأقدس في عالم الأزل، يحصل للسالك بعد الصعقة والفناء، الأنس أيضاً ويصحو، ويصير محلاً للتجليات الذاتية ويطوي المراحل الأربعة حتى مرتبة الفناء الذاتي، والصعق الكلي فينتهي السير إلى الله ويحصل الفناء التام.

قال بعض أن الآية الكريمة (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(2). تشير إلى هذه الطائفة من أولياء الله والسالكين إليه وأجرهم لا يكون الا على الذات المقدس تبارك وتعالى.

وقد يتفق أن يفيق السالك من فناءه فينهض حسب استعداده، وقدر إحاطة عينه الثابتة، لهداية الناس (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ)(3). وإن كانت عينه الثابتة تابعة للاسم الأعظم، لاختتمت به دائرة النبوة ـ كما اختتمت بالنبي المعظم الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يوجد شخص أخر من الأولين والآخرين ومن الأنبياء والمرسلين، كانت عينه الثابتة، تابعة للاسم الأعظم وكان ظهور ذاته بجميع الشؤون ـ ولهذا حصل له صلى الله عليه وآله وسلم ظهور بجميع الشؤون وحصلت الغاية من الظهور في الهداية، وتم الكشف الكلي، واختتمت النبوة بوجوده المقدس.

ـــــــــــــــ

(1) أخبار العلوم، المجلد الرابع، ص256.

(2) سورة النساء، آية: 100.

(3) سورة المدثر، آيات: 1 و2.

[ 469 ]

وإذا فرضا أن شخصاً من أولياء الله تبعاً لذات النبي المقدس وهدايته سبحانه، بلغ نفس المقام المقدس، لكان كشفه عين النبي، إذ لا يجوز التكرار في التشريع. فإذن انتهت دائرة النبوة في وجوده المقدس. صلى الله عليه وآله وسلم ووضع اللبنة الأخيره في دائرة النبوة، كما ورد في الحديث.

ولابد من معرفة أن العبادات والكيفيات المعنوية لها، تختلف كثيراً من شخص لآخر من أصحاب المقامات المذكورة وتتفاوت، حيث يكون لكل منهم حظّ و نصيب من المناجات مع الحق المتعالي، مالا يكون لغيره الذي لم يبلغ ذلك المقام. ومن الواضح أن ما حصل للأمام الصادق عليه السلام لدى العبادة لا يمكن أن يحصل للآخرين.

لقد نقل عن كتاب(فلاح السائل) للسيد ابن طاووس قدس الله سره ـ أنه قال: "فَقَدْ رُويَ أَنَّ مَوْلاَنَا جَعْفَرَ بنَ محمَّد الصادقَ عليه السّلام كانَ يَتْلُو القُرآن في صَلاَتِهِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمّا أفَاقَ سُئِلَ: مَا الَّذِي أَوْجَبَ مَا انْتَهَتْ حَالُكَ إِلَيْهِ؟ فَقالَ مَا مَعْنَاهُ: مَا زِلْتُ أُكَرِّرُ آياتِ القُرْآنِ حَتّى بَلَغْتُ إِلَى حَالٍ كَأَنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أَنْزَلَهَا عَلَى المُكَاشَفَةِ وَالعِيانِ، فَلَمْ تَقُمِ القُوَّةُ البَشَرِيّةُ بِمُكَاشَفَةِ الجَلاَلَةِ الإِلهِيَّةِ"(1).

والحالة التي كانت تحصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم تحصل لأحد من الكائنات كما ورد في الحديث المشهور(لِي مَعَ الله حالٌ لا يَسَعَهُ مَلَكُ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌ مُرْسَلٌ)(2). وعليه أترك هذا الموضوع الذي لا حظ لي فيه إلاّ الألفاظ، وأشير إلى أن المهمّ لأمثالنا المحرومين من مقامات الأولياء، أن لا نجحد هذه المقامات بل نسلّم بها فإن في التسليم لأمر الأولياء فوائد كثيرة وفي الإنكار والعياذ بالله مفاسد. اللَّهُمَّ إِنِّي مُسَلِّمٌ لأَمْرِهِمْ ـ صلواتُ الله عليهم أجمعين ـ .

فصل

(بيان بعض أسرار العبادة وتجسيم الأعمال)

إعلم أنه لا يتم حضور القلب في العبادات، إلا بعد تفهيم القلب لأهمية

ـــــــــــــــ

(1) فلاح السائل ص107.

(2) كتاب أحاديث المثنوى.

[ 470 ]

العبادات، وهو لا يتيسر إلاّ عند استيعاب أسرارها وحقائقها. ومن الواضح أن ذلك لا يحصل لنا، ولكنني أذكر منها بالمقدار الذي يتناسب مع فهم أمثالي مستفيداً من أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام، ومن كلمات أهل المعرفة، بالمقدار الذي ينسجم مع حجم هذا الكتاب.

إعلم ـ كما أشرنا مرّات ـ أن لكل من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورة باطنية ملكوتية، وأثر في قلب العابد، أما الصورة الباطنية فهي التي تعمّر العوالم البرزخية والجنة الجسمانية، لأن أرض الجنة قاع خالية من كل شيء كما ورد في الحديث، وأن الأذكار والأعمال موادّ إنشاء وبناء لها. كما ورد في الحديث أيضاً. وإن الآيات الكثيرة من الكتاب الشريف الإلهي، تدل على تجسّم الأعمال مثل قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)(1). ومثل قوله تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا)(2).

والأخبار الدالة على تجسم الأعمال والصور الغيبية الملكوتية مذكورة في أبواب مختلفة. ونحن نكتفي بذكر بعضها:

روى الصدوقُ ـ قُدِّسَ سِرُّهُ ـ بإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "مَنْ صَلّى الصَّلَواتِ المَفْروضاتِ في أَوَّلِ وَقْتِهَا وَأَقَامَ حُدودَها، رَفَعَهَا المَلَكُ إِلَى السَّماءِ بَيْضاءَ نَقِيَّهً تَقولُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، اسْتَوْدَعَنِي مَلَكٌ كَرِيمٌ. وَمَنْ صَلاّها بَعْدَ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرٍ عِلَّةٍ وَلَمْ يُقِمْ حُدودَها، رَفَعَهَا المَلَكُ سَوْداءَ مُظْلِمَةً وَهِيَ تَهْتِفُ بِهِ ضَيَّعْتَنِي ضَيَّعَك اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي وَلاَ رَعَاكَ اللهُ كَمَا لَمْ تَرْعَنِي" (3).

ويستفاد من هذا الحديث الشريف مضافاً إلى تحقق الصورة الملكوتية للعمل، حياة الصورة الملكوتية وشؤونها الحياتية أيضاً، وهذا ضرب من البرهان على تجسم الأعمال. والأخبار تدل على أن لجميع الموجودات حياة ملكوتية، وأن عالم الملكوت كله حياة وعلم. (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)(4).

ـــــــــــــــ

(1) سورة الزلزلة، آيات: 7 ـ 8.

(2) سورة الكهف، آية: 49.

(3) وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب الثالث من أبواب المواقيت، ح 17، ص90.

(4) سورة العنكبوت: آية: 64.

[ 471 ]

وفي الكافي بإسناده عن أبى عبد الله في حديث طويل: إذا بَعَثَ اللهُ المُؤمِنَ مِنْ قَبْرِهِ خَرَجَ مَعَهُ مِثالٌ يِقْدُمُ أَمَامَهُ، كَلَّمَا يَرَى المُؤْمِنُ هَوْلاً مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ قَالَ لَهُ المِثالُ: لاَ تَفْزَعْ وَلاَ تَحْزَنْ وَأَبْشِرْ بالسُّرورِ وَالكَرَامَةِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتى يَقِفَ بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُحَاسِبُهُ حِساباً يَسيراً وَيَأْمُرُ بِهِ إِلَى الجَنَّةِ وَالمِثالُ أَمَامَهُ، فَيَقولُ لَهُ المُؤْمِنُ: يَرْحَمُكَ اللهُ نِعْمَ الخَارِجُ، خَرَجْتَ مَعي مِنْ قَبْرِي وَمَا زِلْتَ تُبَشِّرُنِي بِالسُّرُور وَالكَرَامَةِ مِنَ اللهِ حَتّى رَأيْتُ ذلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ أنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا السُّرُورُ الَّذِي كُنْتَ أَدْخَلْتَهُ عَلَى أخيكَ المُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا، خَلَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ لأُبَشِّرَكَ"(1).

وفي هذا الحديث الشريف أيضاً دلالة واضحة على تجسّم الأعمال في نشأة الآخرة. كما ذكر الشيخ الأجل بهاء الدين قدس سره أيضاً إثر ذكره لهذا الحديث:(وقد ورد في بعض الأخبار تجسم الاعتقادات أيضاً فالأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر صوراً نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج، والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر صوراً ظلمانية مستقبحة توجب غاية الحزن والتألم كما قاله جماعة من المفسرين في قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) ويرشد إليه قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ،وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه). ومن جعل التقدير ليروا جزاء أعمالهم ولم يرجع ضمير يره إلى العمل فقد بعد عن الحق)(2). انتهى كلامه رفع مقامه الشريف.

وفي هذا المقام كلام غريب صدر من بعض المحدثين الأجلاّء والأولى عدم ذكره، وهو ينبع من توهم المنافاة بين القول بتجسم الأعمال، والقول بالمعاد الجسماني مع أن هذا الكلام ـ تجسّم الأعمال ـ يؤكد المعاد الجسماني وكلمة تمثّل في هذا الحديث الشريف تعطي نفس المعنى التمثل المذكور في قوله تعالى:

(فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)(3). والذي هو التمثل بالصورة الجسمانية حقيقة،

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الأيمان والكفر، باب أدخال السرور على المؤمنين، ح8.

(2) أربعين الشيخ البهائي ص 200، شرح حديث 33 عن مرآة العقول ج 9 ص 94.

(3) سورة مريم، آية: 17.

[ 472 ]

وليس بمعنى الوهم والخيال والرؤيا في المنام. وليس من المستحسن صرف أمثال هذه الآيات والروايات عن ظاهرها لأجل عدم انسجام مضمونها مع عقولنا، رغم مطابقتها للبرهان القاطع المذكور في محله، وموافقته لمذهب الحكماء والفلاسفة. فإن من أفضل الأمور التسليم أمام ساحة قدس الحق المتعالي والأولياء المعصومين والإذعان إلى الآيات الشريفة والروايات المباركة.

فعلم أن كل عمل مقبول لدى ساحة قدس الحق المتعالي صورة بهية حسنه تتناسب معه من الحور أو القصور أو الجنان العالية أو الأنهار الجاريه. ولا يوجد كائن على صفحة الوجوب جزافاً، بل هناك ارتباطات عقليه بينها لا يدركها إلا الكملين من الأولياء. وعلى أي حال إن هذا الموضوع يتطابق مع مقاييس العقل والبراهين الفلسفية. ثم بعد أن عُلم بأن الحياة في عالم الآخرة ولذّاتها ترتبط بأعمال تنتقل صورها الكمالية إلى ذلك العالم، وإن تلك الأعمال عبادات قد اكتشفها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر أمتّه بها، وأن كمال العبادة وحسنها منوط بالنية وتوجه القلب والمحافظة على شرائطها، وأنه إذا فقدت العبادة هذه الأمور أو بعضها، سقطت عن الاعتبار، بل كانت لها صورة بشعة مشوّهة يلقاها الإنسان في عالم الآخرة، كما يستفاد من الأخبار والأحاديث.

بعد أن علمت هذه الأمور، على كل إنسان مؤمن بعالم الغيب وبأحاديث الأنبياء والأولياء وأهل المعرفة، وذوي الرغبة في الحياة الأبدية، أن يصلح أعماله مهما كلفت من مشقة وجهد وترويض للنفس حيث يجب عليه بعد موافقة ظواهر أعماله للقواعد الاجتهادية أو فتوى الفقهاء رضوان الله عليهم السعي في سبيل إصلاح سيرته وباطنه، وبذل الجهد حتى يأتي بالفرائض على الأقل مع توجه القلب، ويجبر عيوبها بالنوافل. كما ورد في الأحاديث الشريفة، أن النوافل تجبر الفرائض وتبعث على قبولها.

في العِلَل: بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنَّما جُعِلَتِ النّافِلَةُ لِيَتِمَّ بِهَا مَا يَفْسُدُ مِنَ الفَرِيضَةِ (1).

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعه، المجلد الثلث، باب 17 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ح 10.

[ 473 ]

وروى الشَّيخ ـ قُدِّس سِرُّه ـ بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "يُرْفَعُ لِلرَّجُلِ مِنَ الصَّلاةِ رُبْعُها أوْ ثُمْنُهَا أَوْ نِصْفُهَا أَوْ أَكْثَرُ بِقَدْرِ مَا سَها(1).، وَلكِنَّ اللهَ تَعَالى يُتِمُّ ذلِكَ بِالنَّوافِلِ (2).

ومن هذا القبيل روايات كثيرة. ومن المعلوم أننا لا نخلو من السهو والنسيان وتشويش في الحواس والأمور الأخرى التي تتنافى مع الصلاة أو مع كمالها، وقد شرّع الله بلطفه الكامل النوافل حتى تجبر نقيصتها، ومن اللازم وبقدر الإمكان إن لا نغفل عن هذا الأمر ولا نترك النوافل.

وعلى أي حال أيها العزيز، أفق قليلاً من الغفلة، وتأمل في أمرك، وانظر في صحيفة أعمالك، واخشَ من أعمال تظن أنها صالحه مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها، في حين أنها تكون سبب عنائك وذُلّك في ذلك العالم. فحاسب نفسك ما دامت الفرصة مؤاتية، وزن عملك بيدك، وزنه في ميزان شريعة أهل البيت وولايتهم، وتبين من صحته وفساده وكماله ونقصه، وأجبره ما دامت الفرصة سانحة، والمُهلة باقيه. وإن لم تحاسب نفسك هنا ولم تصحّح أعمالك فستحاسب هناك، ويوضع ميزان الأعمال أمامك، فتواجه مصائب عظمى. إتق الله في ميزان عدله، ولا تغترّ بشيء، ولا تترك الجد والاجتهاد، وراجع صحيفة أعمال أهل البيت عليهم السلام المعصومين من الخطأ وتأمل فيها، حتى تعرف بأن الأمر صعب والطريق ضيق ومظلم.

أنظر إلى هذا الحديث الشريف وانتبه إلى تفاصيل من خلال هذا الإجمال.

عن فخر الطايفة وسنادها وذخرها وعمادها محمَّد بن النُّعمان المفيد ـ رضوان الله عليه ـ في الإرشاد: عن سعيدِ بن كُلثومٍ، عن الصادق بن جعفرِ بن محمَّد عليه السلام

ـــــــــــــــ

(1) قوله(بقدر ما سها) أن المقصود من هذا الحديث الشريف كما هو في الروايات الأخرى، هو أنه يرتفع من الصلاة ويقبل منها بقدر توجه القلب. فقوله(بقدر ما لها) لأجل بيان أصل النسبة وليس لبيان القدر المرفوع. ويحتمل أن يكون السهو بمعنى سكون القلب ولينه لأن السكون قد يكون بمعنى اللين كما ذكره الجوهري.(منه عفى عنه).

(2) وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ح 12.

[ 474 ]

قالَ: وَاللهِ مَا أكَلَ عَليُّ بْنُ أبِى طالِب عليه السّلام مِنَ الدُّنْيا حَراماً قَطُّ حَتّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرانِ كِلاَهُمَا ِللهِ رضاً إلاّ أخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَيْهِ فِي بَدَنِه(دينه ـ خ ل) وَمَا نَزَلَتْ بِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم نازلَةٌ قَطُّ إلاّ دَعَاهُ ثِقَةً بِهِ، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ وَجِلٍ كَانَ وَجْهُهُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ يَرْجُو ثَوابَ هذِهِ وَيخافُ عِقابَ هذِهِ.

وَلَقَدْ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ مَمْلوكٍ فِي طَلَبِ وَجْهِ اللهِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مِمّا كَدَّ بِيَدَيْهِ وَرَشَحَ مِنْهُ جَبِينُهُ. وَإِنَّهُ كَانَ لَيَقوتُ أَهْلَهُ بِالزَّيْتِ وَالخَلِّ وَالعَجْوةِ، وَمَا كَانَ لِبَاسُهُ إِلاّ كَرابيسَ إذا فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ يَدِهِ دَعا بِالجَلَمِ فَقَصَّهُ.

وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَلاَ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ أَقْرَبُ شَبَهاً بِهِ فِي لِبَاسِهِ وَفِقْهِهِ مِنْ عَلِيِّ بن الحُسَيْنِ عليهما السّلام، وَلَقَدْ دَخَلَ أبو جَعْفَرٍ عليه السّلام ابْنُهُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَ مِنَ العِبَادَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ، فَرَآهُ قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهُ مِنَ السَّهَر وَوَمَضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ البُكَاءِ وَدَبِرَتْ جَبَهَتُهُ وَانْخَرَمَ أَنْفُهُ مِنَ السُّجودِ وَوَرِمَتْ سَاقَاهُ وَقَدَمَاهُ مِنَ القِيامِ فِي الصَّلاَةِ.

وَقَالَ أَبو جَعْفَرٍ عليه السّلام: فَلَمْ أَمْلِكْ حِينَ رَأيْتُهُ بِتَلْكَ الحالِ إلاّ البُكاءَ فَبَكَيْتُ رَحْمَةً لَهُ فَإِذَا هُوَ يُفكِّرُ، فَالتَفَتَ إِلَىَّ بَعْدَ هُنَيْئَةٍ مِنْ دُخُولِي فَقالَ: يَا بُنَيَّ أَعْطِنِي بَعْضَ تِلْكَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا عِبَادَةُ عَليِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عليه السّلام، فَأَعْطَيْتُهُ فَقَرَأ فِيهَا شَيْئاً يَسيراً ثُمَّ تَرَكَهَا مِنْ يَدِهِ تَضَجُّراً وَقَالَ: مَنْ يَقْوى[عَلَى] عِبَادَةَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَاِلبٍ عليه السّلام (1).

وعن أبي جعفر عليه السلام: كانَعليُّ بْنُ الحُسَيْنِ عليهما السلام يُصَلِّي فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ألْفَ رَكْعَةٍ وَكَانَتِ الرِّيحُ تُمَيِّلُهُ مِثْلَ السُّنْبُلَةِ (2).

عزيزي: فكّر قليلاً في هذه الأحاديث الشريفة، و انظر إلى الإمام الباقر عليه السلام المعصوم الذي بكى من شدّة وكيفية عبادة أبيه. والى الإمام السجاد عليه السلام رغم شدّة محافظته على العبادة وكمالها والتي بعثت على بكاء ابنه الإمام الباقر عليه السلام، أنه صلوات الله عليه قرأ شيئاً يسيراً من صحيفة عمل جده علي بن أبي طالب عليه السّلام، و أظهر عجزه. و من المعلوم أن الجميع عاجزون

ـــــــــــــــ

(1) الإرشاد ص255 ـ 256.

(2) الإرشاد ص256.

[ 475 ]

عن عبادة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام وأن الناس عاجزون عن عبادة المعصومين عليهم السّلام، ولكن لا يجوز للإنسان العاجز عن نيل المقام العالي أن يترك العبادات نهائيا.

لا بد من معرفة أن هذه العبادات ـ والعياذ بالله ـ لا يكون عبثاً، بل ان إبداء أهل المعرفة الحقيقيين العجز والذل وإلحاحهم في الدعاء والمسألة، من أجل أن الطريق ضيق ومحفوف بالمخاطر، وأن مضاعفات الموت، صعبة للغاية. إن حالة اللامبالاة هذه التي نعيشها تكون نتيجة ضعف إيماننا ووهن عقيدتنا وجهلنا.

إلهي أنت واقف على حقيقتنا، وعالم بقصورنا وتقصيرنا، وضعفنا وعجزنا. أنت غمرتنا برحمتك قبل أن نسألها. وابتدأتنا بنعمك، وتفضّلت علينا من دون طلب والتماس. نحن نعترف بتقصيرنا وكفرنا لآلائك اللامتناهية، ونجد أنفسنا من المستحقين لعذابك الأليم، ودخول الجحيم ولا نملك شيئاً يسعفنا ووسيلة تعيننا، إلاّ ما عرفتنا به على لسان أنبيائك من التفضّل والترحّم وسعة جودك ورحمتك، فقد عرفناك بهذه الصفات حسب فهمنا واستيعابنا. فماذا تصنع مع حفنة تراب إن لم ترحمه وتتفضل عليه؟

أَيْنَ رَحْمَتُكَ الوَاسِعَةُ؟ أَيْنَ أَيَادِيكَ الشّامِلَةُ؟ أيْنَ فَضْلُكَ العَمِيمُ؟ أَيْنَ كَرَمُكَ يَا كَرِيمُ؟

فصل

في بيان أن التفرغ في العبادة يوجب الغنى في القلب

لا بد من معرفة أن الغنى من الأوصاف الكمالية للنفس، بل يكون من الصفات الكمالية للموجود بما أنه موجود، ولهذا، يكون الغنى من الصفات الذاتية للذات الحق المقدس جلّ وعلا، وإن الثروة والأموال لا توجب الغنى في النفس، بل نستطيع أن نقول إن من لا يملك غنىً في النفس، يكون حرصه تجاه المال والثراء والمنال أكثر، وحاجته أشد. ولمّا لم يكن أحد غنياً حقيقياً أمام ساحة الحق جلّ جلاله المقدسة الغنى بالذات، وكانت الموجودات كلها من أدنيها وهو التراب

[ 476 ]

إلى ذُروة الأفلاك، ومن والهيولى الأولى إلى الجبروت الأعلى، فقيرة ومحتاجة، لهذا كلما كان تعلق القلب إلى غير الحق، وتوجّه الباطن نحو تعمير المُلك والدنيا أشدّ، كان الفقر والحاجة أكثر، أما الحاجة القلبية، والفقر الروحي، فواضح جداً، لأن نفس التعلق والتوجه فقر. وأما الحاجة الخارجية التي تؤكد بدورها الفقر القلبي، فهي أيضا أكثر، لأن أحداً لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء وإن ظهروا في مظهر الغنى ولكنهم بالتمعن يتبين أن حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم. فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنيـاء، ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج.

وكلّما اتجه القلب نحو تدبير الأمور وتعمير الدنيا أكثر، وكان تعلقه أشد، كان غبار الذل والمسكنة عليه أوفر، وظلام الهوان والحاجة أوسع، وعلى العكس كلّما رَكَلَ بقدمه التعلق بالدنيا، حوّل بوجه قلبه إلى الغنى المطلق، وآمن بالفقر الذاتي للموجودات، وعرف بأن أحداً من الكائنات لا يملك لنفسه شيئاً، وأن جميع الأقوياء والأعزّاء والسلاطين قد سمعوا بقلوبهم أمام ساحة الحق المقدسة من الهاتف الملكوتي، واللسان الغيبي، الآية الكريمة (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1). كلما استغنى الإنسان عن العالمين أكثر، وبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لمُلك سليمان قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها. كما ورد في الحديث أن جبرائيل قد هبط من قبل الله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلم، فتواضع صلوات الله وسلامه عليه ورفض قبولها وافتخر بفقره.

ويقول علي بن ابي طالب عليه السّلام لابن عباس وَإنّ دُنْيَاكٌمْ عِنْدِي لأهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرادَةٍ تَقْضمُهَا (2) ويقول الأمام علي بن الحسين عليه السّلام "أَسْتَنْكفُ أنْ أَطْلُبَ الدُنيا مِن خَالِقَهَا فَكَيفَ بِطَلَبِهَا مِن مَخْلُوقٍ مثلي".

وورد في كتاب (سلسلة الرعية الكبرى) لنجم الدين، بعد الأيمان المغلظة: "لو خيروني بين ثروة الدنيا وجاهها مع الجنة وحورها وقصورها، وأرادوا مني

ـــــــــــــــ

(1) سورة فاطر، آية: 15.

(2) الخطبة 224 من نهج البلاغة.

[ 477 ]

مجالسة الأغنياء من جهة، وبين البؤس في الدنيا والشقاء في الآخرة وأرادوا مني مجالسة الفقراء من جهة أخرى، لاخترت الفقراء وابتعدت عن عار مجالسة الأغنياء والنار خير من العار. نعم إن أهل الحق يعرفون أن التوجه نحو خزائن الدنيا والمال والجاه والمجالسة مع أهلها يسبّب أي نوع من الكدورة والظلام في القلب؟ وكيف يبعث على الوهن والفتور في العزيمة، ويوجب الفقر والحاجة لدى القلب وفقره، ويصرفه عن الانتباه إلى النقطة المركزية الكاملة بصورة مطلقة؟ ولكن عندما أعطيت ـ أيها العزيز ـ القلب إلى أهله والبيت إلى صاحبه وأعرضت عن غيره ولم تدفع البيت إلى الغاصب، تجلّى فيه صاحبه. ومن المعلوم تجلي الغَنيّ المطلق، يدفع إلى الغني المطلق، ويغرق القلب في بحر العزة والغِنى، فيمتلأ من الغنى وعدم الاحتياج (وَلِلّهِ العِزَّةُ وَلِرَسولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(1) وينهض صاحب البيت بإدارة أموره، ولم يترك الإنسان إلى نفسـه، وإنما يتدخل ويتصرف في جميع شؤون عبده، بل يصبح هو سمعه وبصره ويده ورجله، وتتحقق ثمرة التقرب بالنوافل، كما ورد في الحديث الشريف عن الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: " وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّافِلَةِ حَتّى أحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَع بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا _ الحديث (2). فتوصد باب فقر العبد وفاقته نهائياً ويستغني عن العالمين.

ومن المؤكد أنه يرتفع من وراء هذا التجلي الخوف من جميع الكائنات، ويحلَّ الخوف من الحق المتعالي محله، وتملأ القلب عظمة الحق وهيبته، ولا يرى لغير الحق عظمة واحتشاماً وتصرّفاً، ويدرك حقيقة(لا مُـؤثر فِي الوُجودِ إِلاَّ الله) بكل قلبه. وقد أشير في هذا الحديث الشريف إلى بعض هذه المطالب التي ذكرناها(تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي املأ قَلْبَكَ غنىً ـ الخ) وهذا التفرغ القلبي لأجل العبادة يسمو بالإنسان رويداً رويداً إلى أعلى مراتب حضور القلب للعبادة.

هذه نبذة من الآثار التي تترتب على العبادة كما ذكرناها.

فلو أن القلب غفل عن الاشتغال بالحق وأهمل التفرغ في التوجه نحوه لغدت

ـــــــــــــــ

(1) سورة المنافقون، آية: 9.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب من أذى المسلمين، ح8.

[ 478 ]

هذه الغفلة أساس كل الشقاء، وينبوع جميع النقائص ومبعث كافة الأمراض النفسية، وبسبب هذه الغفلة يحول بين القلب والحق المتعالي ظلامٌ داكن وكدورة شديدة وحجب غليظة تمنع من تغلغل نور الهداية فيه، وتحرمه من التوفيقات الإلهية، وينعطف القلب مرة واحدة إلى الدنيا وملذاتها من تعمير البطن والفرج. ويغشاه حجاب الأنانية والإنية، وتطغى النفس، ويكون تحرك صاحب هذه النفسية من خلال الترفع و الأنانية، ويبدو ذله الذاتي وفقره الحقيقي ويبتعد في كل حركاته وسكناته عن ساحة الحق المتعالي، ويكون نصيبه الخذلان. كما تولى الحديث الشريف بيانه:(وَأَنْ لاَ تَفْرَغْ لِعبَادَتِي أَمْلأُ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لاَ أَسُدُّ فَاقَتَكَ وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ).

تـنبـيه:

لابد من معرفة أن المقصود من إيكال الأمر إلى العبد ـ أَكِلُكَ إلى طَلَبِكَ ـ ، ليس بمعنى تفويض الأمر إليه، لأن هذا المسلك لدى العرفاء والفلاسفة ومذهب الحق باطل وممتنع. إذ لا يوجد كائن خارج عن نطاق تصرف الحق سبحانه، وحيطة قدرة ذاته المقدس، ولا يوكل إليه شيءٌ من تدبير أموره. لكن العبد لمّا ينصرف عن الحق ويتوجه إلى الدنيا وتتحكم فيه الطبيعة وتتغلب عليه الأنانية ويبرز فيه العجب والذاتية والمحورية، يُعبر عن ذلك بإيكال الأمر إلى العبد. وأما الإنسان الذي يولي وجهه نحو الحق والملكوت الأعلى، ويغمر جوانب قلبه نور الحق، فلا محالة تكون تصرفاته حقاً، بل يتحول في بعض المراحل وجوده إلى وجود الحق. كما أشير إلى بعض هذه المقامات في الحديث الشريف المذكور في الكافي عند عرضه لبعض آثار التقرب إلى الله بالنوافل. والله العالم.

[ 479 ]

الحَديث الثَامِن وَالعشرون

لقــاء الله

[ 481 ]

بالسند المتّصل إلى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيِّ ـ رحمه الله ـ عن محمّد بن يحيى، عن أحمدَ بنِ محمّدٍ، عن محمَّد بنِ خالدٍ؛ وَالحسينِ بنِ سَعيدٍ جميعاً، عن القاسم بن محمَّد، عن عبد الصَّمد بن بشير، عن بعض أصحابه، عنى أبي عبد الله عليه السلام قال:"قُلْتُ: أصْلَحَكَ اللهُ مَنْ أحَبَّ لِقاء اللهِ لِقَاءهُ وَمَنْ أبْغَضَ لِقَاء اللهِ أبْغَض الله لِقاءهُ؟ قالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَوَاللهِ إنّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ: فَقالَ: لَيْسَ ذلِكَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إنَّما ذلِكَ عِنْدَ الْمُعايَنَةِ إذا رَأى ما يُحِبُّ فَلَيْسَ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يَقْدِمَ عَلَى اللهِ، وَاللهُ تَعالى يُحِبُّ لِقاءَهُ وَهُوَ يُحِبُّ لِقاءَ اللهِ حينَئِذٍ، وَإذا رَأى ما يِكْرَهُ فَلَيْسَ شَيْءٌ أبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ لِقاءِ اللهِ وَاللهُ يُبْغِضُ لِقاءَهُ (1).

ـــــــــــــــ

(1) "فروع الكافي"المجلد الثالث، ص 134.

[ 482 ]

الشرح:

أصْلَحَكَ الله دعاء في الخير، ولا يلزم في الدعاء أن يكون المدعو له فاقداً لمضمون الدعاء، بل الدعاء مستحب حتى وإن كان مضمونه حاصلاً في المدعو له. فيكون الدعاء للإمام الصادق عليه السّلام بالصلاح والسداد ضمن الحدود المتعارفة.

كما أن جملة غَفَر اللهُ لَكَ و وعَفَا اللهُ عَنْكَ من الأدعية التي يصلح أن ندعو بها لتلك الذوات المقدسة. وقد حمل بعض الآية الكريمة (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(1).على هذا المعنى المذكور، و قالوا إن هذه الآية المباركة بمثابة أن يقال غَفَرَالله لَكَ ولا يجب أن يكون الطلب من أجل تحقق مضمونه. ولكن هذا التفسير في الآية المباركة بعيد. ونحن قد بيّنا ذلك في شرح حديث من الأحاديث السابقة(2) وعلى كل حال فإن الصحيح هو عدم توقع حصول المضمون من هذه الإنشاءات والأدعية من المدعو غالباً.

اللَقَاء بفتح اللام وكسره، مصدر لقي على وزن رضي، كما أن لِقَاءَهً ولِقَايَةً ولِقْيّاً ولِقْياناً ولِقْيانَةً بكسر اللام في جميع ذلك ولُقياً ولُقىً ولُقْياناً ولُقْيَةً ولُقْيانَةً بضم اللام في جميع ذلك، مصدر لقي أيضاً، ومعناه لرؤية واللقاء. ويأتي بيان معنى لقاء الله حسب ما يتناسب وحجم هذا الكتاب.

ـــــــــــــــ

(1) سورة الفتح، آية: 2.

(2) شرح الحديث الواحد والعشرون.

[ 483 ]

وأبْغَضَ من باب الأفعال، و بَغُضَ مثل ـ كَرُمَ، ونَصَرَ وَفَرِحَ بَغَاضَةً فهو بَغيضٌ، بمعنى ضد الحب. و بغْضَة وبَغْضاء شدّة البغض. و على أي حال فإن الحب والبغض من الصفات النفسية المتقابلة، ومعناهما واضح لدى الوجدان، مثل وضوح كافة المعاني الوجدانية والصفات النفسية التي تكون حقيقتها أوضح من الإدلاء بمعانيها. وسيأتي معنى نسبة الحب والبغض إلى الذات الحق المقدس، و إنها بأي اعتبار تكون، إنشاء الله تعالى.

قوله إنـّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ و لما تصور الراوي الموت ملازما مع لقاء الله أو كان مقصوده من لقاء الله نفس الموت. اعتبر كره الموت كرها للقاء الله تعالى، فسأل هذا السؤال، فأجاب الإمام عليه السلام بأنه ليس المقياس كراهية الموت بصورة مطلقة بل الميزان كراهية الموت لدى نزع الروح عندما يرى آثار الملكوت و العوالم الأخرى.

وقوله عليه السلام " لـَيـْسَ ذلك حَيْثُ تَذْهَبُ . يستعمل كثيراً في اللغة العربية مثل هذا التعبير، ويقصدون منه ذهاب الوهم، بل التعبير المتداول فبي الذهاب ومشتقاته هو ذهاب الوهم و العقيدة وأمثالها. كما أن المذهب يكون بهذا المعنى. وهذا يبتنى على الاستعارة لأنه مأخوذ من الذهاب الخارجي.

قوله عليه السلام عـِنـْدَ المُعَايَنَةِ ، المعاينة مصدر من باب المفاعلة وعايَنْتُ الشَّيْءَ عِياناً إذا رَأَيْتَهُ بِعَيْنِكَ. ويسمى حين النزع والاحتضار بالمعاينة، لأن الميّت يشاهد آثارعالم الآخرة بعينه، حيث تنفتح عيونه الغيبية الملكوتية، وتنكشف له نبذة من أحوال الملكوت، ويعاين بعض آثار وأعمال و أحوال نفسه.

ونحن نذكر ما يحتاج من الحديث الشريف إلى الشرح والبيان في خلال فصول. وعلى الله التُّكلانُ.

فصل

في لقاء الله وكيفيته

إعلم أن الآيات والأخبار الواردة في لقاء الله صراحة أو كناية وإشارة، كثيرة لا يسع هذا المختصر الخوض في ذلك مفصلاً. ولكننا نشير إلى بعضها بصورة

[ 484 ]

مختصرة. ومن أراد التفصيل في ذلك أكثر فعلية مراجعة كتاب(لقاء الله) للمرحوم العارف بالله، الحاج ميرزا جواد التبريزي قدس سره، حيث جمع إلى حد كبير الأخبار المأثورة في هذا الموضوع.

إعلم بأنه قد ذهب بعض العلماء والمفسرين إلى سدّ باب السبيل إلى(لقاء الله) نهائياً، والجحود للمشاهدات العينية والتجليات الذاتية والأسمائية، زاعمين بذلك أنهم ينزهون الذات المقدس، ومفسرين جميع آيات لقاء الله وأحاديثها، بلقاء يوم الآخرة، ولقاء الجزاء والثواب والعقاب.

وهذا التوجيه ليس ببعيد كثيراً، بالنسبة إلى مطلق اللقاء واتجاه بعض الآيات والروايات، ولكنّه بالنسبة إلى بعض الأدعية المعتبرة والأحاديث المأثورة في الكتب المعتبرة، والأحاديث المشهورة التي ارتكز عليها علماؤنا العظام، موهون وبعيد جداً.

ولا بد أن تعرف بأنه ليس مقصود من أجاز فتح الطريق على لقاء الله ومشاهدة جمال الحق وجلاله، جواز اكتناه ـ التعرف على الحقيقة والذات ـ ذاته المقدس، أو إمكان الإحاطة في العلم الحضوري والمشاهدة العينية الروحانية، على ذاته، المحيط بكل شيء على الإطلاق، فإن امتناع الاكتناه لذاته المقدس بالفكر في العلم الكلي ـ الفلسفة ـ وامتناع الإحاطة بالبصيرة في العرفان، من الأمور البرهانية، ومتّفق عليه لدى جميع العقلاء، وأرباب القلوب والمعارف. بل المقصود لدى من يدعي مقام لقاء الله هو: أنه بعد حصول التقوى التامة والكاملة، وانصراف القلب نهائياً عن جميع العوالم، ورفض التوجه نحو النشأتين ـ المُلك والملكوت ـ ووطأ الأنانية والإنيّة، والإقبال الكلي نحو الحق المتعالي وأسماء ذاته المقدس وصفاته، والانصهار في عشق ذاته المقدس وحبّه، وتحمّل جهد وترويض القلب، يحصل صفاء في القلب لدى السالك يبعث على تجلّي أسماءه وصفاته، وتمزّق الحجب الغليظة التي أسدلت بين العبد من جهة والأسماء والصفات.من جهة أخرى، والفناء في الأسماء والصفات، والتعلق بعزّ قدسه وجلاله والتدلّي التام بذاته. وفي هذا الحال لا يوجد حاجز بين روح السالك المقدسة والحق المتعالي سوى حجاب الأسماء والصفات.

[ 485 ]

ويمكن أن يرفع الستار النوري للأسماء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضاً، وينال التجليات الذاتية الغيبية، ويرى نفسه متدلياً ومتعلقاً بالذات المقدس، ويشهد الإحاطة القيومية للحق والفناء الذاتي لنفسه، ويرى بالعيان أن وجوده ووجود كافة الكائنات، ظلاًّ للحق المتعالي.

وكما قامت البراهين على أنه لا حجاب بين الحق سبحانه وتعالى والمخلوق الأول المجرد عن جميع المواد والتعلقات، بل البرهان قائم على عدم وجود حجاب بين الحق وكافة المجردات بشكل عام، فكذلك لا يوجد حجاب بين هذا القلب الذي يبلغ في سعته وإحاطته الموجودات المجردة بل اجتيازها ووطئ بأقدامه على رؤوسها، وبين الحق المتعالي. كما في الحديث الشريف المنقول عن(الكافي) و(التوحيد):

"إنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصالاً بِرُوحِ اللهِ مِنْ اتِّصالِ شُعاعِ الشَّمْسِ بِهَا"(1) وفي المناجاة الشعبانية المقبولة لدى العلماء، والتي يدل مضمونها على أن هذه المناجاة من الأئمة المعصومين عليهم السّلام: " إِلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. إِلهِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فأجابَكَ وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ فَناجَيْتَهُ سِرّاً وعَمِلَ لَكَ جَهْراً "(2). وفي الكتاب الإلهي الشريف، لدى حكاية معراج الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم  (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ،فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)(3). ولا تتنافى هذه المشاهدة الحضورية الفنائية، مع البرهان على عدم الاكتناه والإحاطة للذات المقدسة، ومع الأخبار والآيات التي تدل على تنزيه الحق جلا وعلا من كل عيب ونقص وحدّ. بل يكون مؤكداً ومؤيّداً لها. فانظر الآن ما جدوى هذه التوجيهات والتأويلات البعيدة؟ هل نستطيع أن نوجه كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الذي يقول " فـَهـَبـْني صـَبـَرْتُ عَلى عَذابِكَ

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمن، ح4.

(2) مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانية.

(3) سورة النجم، آية: 8 و9.

[ 486 ]

فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ" (1) هل أن تحرّق وتألّم أولياء الله، من فراق حور العين وقصور الجنه؟ وهل يمكن تفسير هذه الجملة (ما عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نارِكَ وَلا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ بَلْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبادَةِ فَعَبَدْتُكَ عِبادَةَ الأَحْرارِ) على أن هذا الأنين هل هو من جرّاء الفراق عن الجنه وأطعمتها؟ هيهات أن يكون ذالك، إنه لكلام غير موزون، وتوجيه غير مقبول.

هل يمكن القول أن تجلّي جمال الحق سبحانه ليلة المعراج، والمجلس الذي أقيم في تلك الليلة من دون أن يحضرها أحد من الكائنات أو لم يطلع على أسراره أحد، حتى أمين الوحي جبرائيل، بأنه مشاهدة للجنة و قصورها المشيّدة، وأن أنوار العظمة والجلال هي رؤية لنعم الحق؟

هل أن التجلّيات التي حصلت للأنبياء عليهم السلام، التي ورد ذكرها في الأدعية المعتبرة هي من قبيل النعم والمأكول والمشروب أو البساتين والقصور؟

ومن المؤسف أننا نحن المساكين، المسجونين في الحجب المظلمة، و المصفدون بسلاسل الآمال والأمنيات، لا نفهم إلاّ المطعومات والمشروبات و المنكوحات وأمثالها، و إذا أراد فيلسوف أو عارف أن يرفع هذه الحجب، اعتبرنا سعيه هذا غلطاً و خطأً، و ما دمنا مسجونين في البئر المظلم، عالم المُلك لم نستوعب شيئا من أصحاب المعارف والمشاهدات.

ولكن عزيزي: لا تقارن نفسك مع الأولياء، و لا تظن بأن قلبك يضاهي قلوب الأنبياء وأهل المعارف. إن قلوبنا المشحونة بغبار التعلق بالدنيا، وملذاتها وإن انغماسنا في الشهوات يمنع قلوبنا من أن تكون مرآة لتجلي الحق سبحانه، ومحلاً لظهور المحبوب. ومن المعلوم أننا لا نعي شيئا من تجليات الحق وجماله وجلاله عندما نشعر بالأنانية والذاتية و المحورية بل يجب أن نكذب في هذا الحال أحاديث الأولياء وأهل المعرفة، فإن لم نكذّبها بألسنتنا في الظاهر، لكذّبناها في قلوبنا. و إن لم نجد سبيلاً للتكذيب، بأن كانت أحاديث النبي صلى اله عليه وآله وسلم أو الأئمة المعصومين عليهم السلام، لفتحنا باب التأويل و التفسير، وفي

ـــــــــــــــ

(1) مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

[ 487 ]

النهاية نسدّ باب معرفة الله.

فنفسر قوله (مَا رَأَيْتُ شَيْئاً إلاّ وَرَأَيْتُ اللهَ مَعَهُ وَقَبْلَهُ وَفِيهِ) على رؤية الآثار. وقوله لَمْ أَعْبُدْ رَبّاً لَمْ أَرَهُ بالعلم بالمفاهيم الكلية التي تضارع علومنا، وقوله في آياته الكريمة التي تتحدث عن لقاء الله، بلقاء يوم الجزاء. وقوله لي مَعَ الله حَالَةٌ بحالة الرقّة في القلب. وقوله وَارْزُقْنِي النَّظَرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ وتأوّه الأولياء وتحرّقهم في معاناة الفراق، بالبعد عن حور العين، وطيور الجنة وهذه التفاسير لا تكون إلا نتيجة أننا لا نكون رجال تلك الساحات، ولا نفهم إلا المتع الحيوانية والجسمانية دون غيرها، ولهذا ننكر جميع المعارف. و الأنكى من كل ذلك، هذا الإنكار الذي يفضي إلى غلق باب كل المعارف، ويحجزنا عن السعي والطلب، ويجعلنا نقتنع بمستوى الحيوانية والبهيمية، ويحرمنا من عوالم الغيب و الأنوار الإلهية. لقد أصبحنا نحن المساكين المحرومين نهائياً من المشاهدات و التجليات في منأى حتى عن الإيمان بهذه المعاني التي هي درجة من الكمال النفسي والتي يمكن أن تسوقنا إلى مرحلة متقدمة. إننا نهرب من العلم الذي قد يكون منطلقاً وبذرة للمشاهدات، ونغلق عيوننا وأسماعنا نهائياً ونضع القطن في آذاننا حتى لا يتطرق كلام الحق إليها. و إذا سمعنا حقيقة من لسان عارف هائم أو سالك حزين أو فيلسوف متأله، نتصدى فوراً نتيجة عدم طاقة آذاننا على استماع تلك الحقيقة، ونتيجة أن حُبَّ النفس يمنعنا من جعل هذه الحقائق أسمى من قدرة استيعابنا لها، ونتصدى فوراً للطعن فيه ولعنه وتكفيره وتفسيقه، ولا نأبى من أي غيبة أو تهمة.

إننا نوقف الكتاب ونشترط على كل من يستفيد منه أن يلعن المرحوم الملاّ محسن فيض الكاشاني ـ صاحب كتب الأخبار والأخلاق والكلام والتفسير ـ يومياً مائة مرة. ونرمي صدر المتألهين الذي هو قمة التوحيد بالزندقة ولا نبخل عن إهانته أبداً، ونقول عنه بأنه صوفي رغم عدم ظهور أي رغبة منه في كل كتبه نحو مذهب التصوف ورغم تأليفه لكتاب(كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية).

إننا نترك الذين يستحقون اللعن، ويكونون ملعونين على لسان الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونلعن من يصرخ بالإيمان بالله ورسوله والأئمة الهادين عليهم السلام. وإنني أعلم بأن هذا اللعن والتوهين لا يسيء إلى مقامهم، بل قد

[ 488 ]

يضاعف حسناتهم ويرفع من درجاتهم، ولكنه يسيئ إلينا وقد يبعث على الخذلان وسلب التوفيق منّا.

يقول شيخنا العارف ـ الشاه آبادي ـ روحي فداه(لا تلعنوا الأشخاص حتى الكافر الذي مات ولم تعرفوا أنه على أيّ دين مات، إلاّ إذا أخبر وليّ معصوم عن حاله بعد الموت، إذ من الممكن أنه أصبح مؤمنا لدى سكرات الموت، وإنما العنوا بصورة عامة وكلية).

فكم الفرق بين شخص يملك مثل هذه النفس القدسية التي لا ترضى أن يلعن من مات على الكفر ظاهراً، لإمكان أنه غداً مؤمناً في اللحظات الأخيرة من حياته، وشخص آخر من أمثالنا ـ وإلى الله المشتكى ـ يرقى المنبر مع أنه من أهل العلم والفضيلة ويقول أمام العلماء والفضلاء مستغرباً(أن فلان رغم انه فيلسوف، يتلو القرآن). وهذا الكلام يشبه ما إذا قلنا(أن فلان رغم كونه نبياً، يعتقد بالمبدأ والمعاد).

إنني أيضاً لا أعتقد كثيراً بالعلم فقط، إن العلم الذي لا يفضي إلى الإيمان أراه الحجاب الأكبر، ولكن لو لم نرد الحجاب ولم نتعلم لما تمكنّا من خرقه. إن العلوم بذور المشاهدات. وإنه لمن الممكن أن يبلغ الإنسان إلى مقامات شامخة من دون تعلّم حجاب المصطلحات والعلوم، ولكن هذا خلاف العادة، وخلاف طبيعة السنن، وإنه نادراً ما يحصل. فالطريق الطبيعي لمعرفة الله وطلبه هو أن الإنسان يبتدئ أولاً بإنفاق وقت في التفكر بالحق سبحانه، ويحصل على العلم بالله وأسماء ذاته المقدس وصفاته حسب الأساليب المتبعة من التلمذة على يد رجال ذلك العلم، ثم يتزوّد من العارف بواسطة الرياضة العلمية والعملية وينتهي بذلك حتماً إلى النتيجة المنشودة.

وإن لم يكن الإنسان من أهل المصطلحات ـ العلم ـ يستطيع أن يصل إلى النتيجة من خلال تذكّر المحبوب، وانشغال القلب بالذات المقدّس. ومن المعلوم إن مثل هذا الانشغال القلبي والتوجه الباطني سيكون سبباً لهدايته وأن الله سبحانه وتعالى سيعينه في ذلك، وأن حجاباً من الحجب سيرفع له، وأنه سيتنازل قليلاً عن موقفه

[ 489 ]

المُنكر ـ تجاه العرفاء والفلاسفة ـ ولعلّ الله سبحانه وتعالى يفتح عليه ببركة عناياته الخاصة، باباً من المعارف إنه وليّ النعم.

فصل

في بيان انكشاف بعض الأحوال الغيبيّة على الإنسان لدى موته

 يفهم من هذا الحديث الشريف، أن حين المعاينة وعند الموت، تنكشف على الإنسان الذي أوشك على الرحيل بعض مقاماته وأحواله. ويطابق هذا ضرباً من البراهين ويوافق مكاشفات أصحاب الكشف والعيان. ويجاري الأحاديث والآثار الأُخرى أيضاً.

إن الإنسان ما دام يشتغل بتعمير هذا العالم، ويكون قلبه متجهاً نحو هذه النشأة، وما دام سكر الطبيعة ـ عالم المادة ـ قد أغماه وأفقده وعيه، والشهوة والغضب المخدرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه، يكون محجوباً نهائياً عن صور أعماله وأخلاقه، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مهجورة في ملكوت قلبه. ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجهه صعابها وضغوطها، ويبتعد قليلاً عن هذه النشأة، فإذا كان من أهل الإيمان واليقين، وكان قلبه متعلقاً بهذه العوالم المادية، اتجه قلبه في نهاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم، والسائقون المعنويون، وملائكة الله الموكّلون عليه، يسوقونه جميعاً إلى ذلك العالم وبعد هذا السوق، وذاك الانصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ، وتنفتح عليه من عالم الغيب كُوّةٌ ويتكشّف له حاله ومقامه قليلاً كما نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إنَّهُ قَالَ: " حَرَامٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أن تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيا حَتّى تَعْلَمَ أنَّهَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ هِيَ أمْ مِنْ أهْلِ النَّار"(1).

وهنا حديث شريف نذكره بتمامه لأن فيه بشارة لأهل الولاء، بولاية مولى الموالي، والمتمسكين بذيل عناية أهل بيت العصمة عليهم السّلام. وهو الحديث نقله الفيض الكاشاني في كتابه علم اليقين. قَالَ: وفي كتاب الحسين بن سعيد الأهوازيِّ، عَنْ عَبّادِ بنِ مروانَ قالَ: سَمِعْتُ أبَا عَبْدِاللهِ عليه السّلام يَقُولُ: " مِنْكُمْ وَاللهِ

ـــــــــــــــ

(1) علم اليقين للفيض الكاشاني، المجلد الثاني، ص 853.

[ 490 ]

يُقْبَلُ، وَلَكُمْ وَاللهِ يُغْفَرُ، إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أحَدِكُمْ وَبَيْنَ أنْ يُغْتَبَط وَيَرَى السُّرور وَقُرَّة الْعَيْنِ إلاّ أنْ تَبْلُغَ نَفْسُهُ ههُنا ـ وَأوْمى بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِةِ ثُمَّ قَالَ عليه السّلام ـ إنَّهُ إذا كانَ ذلِكَ وَاحْتَضَرَ، حَضَرَةُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم وَعَلِيٌّ وَالأئمَّةُ وَجَبْرَئيلُ وَميكائيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ عليهم السّلام، فَيَدْنُو مِنْهُ جَبْرئيل عليه السّلام فيقول لِرَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ هذا كَانَ يُحِبُّكُمْ أهْلَ الْبَيْتِ فَأحِبَّهُ، فَيقولُ رَسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جَبْرَئيلُ إنَّ هذا كَانَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَأهْلَ بَيْتِهِ فَأَحِبَّهُ، فَيقولُ جَبْرَئيلُ: يا مَلَكَ الْمَوْتِ إنَّ هذا كانَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ وآلَ رَسولِهِ فَأحِبَّهُ وَارْفُقْ بِهِ.

فَيَدْنُو مِنْهُ مَلَكُ المَوْتِ عليه السّلام فَيقولُ: يا عَبْدَاللهِ أخَذْتَ فِكاكَ رَقبتِكَ؟ أخَذْتَ أمانَ بَراءَتِكَ؟ تَمَسَّكْتَ بِالْعِصْمَةِ الْكُبْرى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا؟ فَيُوفِّقهُ اللهُ فَيَقُـول: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: وَمَا ذاكَ؟ فَيقُولُ: وِلاَيَةُ عَلَيِّ بْنِ أبي طالِب عليه السّلام، فَيَقولُ: صَدَقْتَ، أمَّا الَّذي كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَد آمَنَكَ الله، وأمّا الَّذِي كُنْتَ تَرْجو فَقَد أَدْرَكْتَ، أبْشرْ بِالسَّلَفِ الصالِحِ مُرافَقَةِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ وَسَلَّم وَعَليٍّ وَالأئمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ عليهم السلام.

ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَهُ سَلاًّ رَفيقاً ثُمَّ يَنْزِلُ بِكَفْنِهِ مِنَ الجَنَّةِ وحُنوطُهُ حُنوطُ كَالمِسْكِ الأذْفَرِ فَيُكْفَنُ بِذلِكَ الْكَفَنِ وَيُحْنَطُ بِذلِكَ الحُنُوطِ، ثُم يُكْسى حُلَّةً صَفْرَاءَ مِنْ حُلَلِ الجَنَّةِ. فَإذا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ فُتِحَ لَهُ بابٌ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ رَوْحِهَا وَرَيحانِهَا ثُم يُقالُ لَهُ: نَمْ نَومَةَ العَروسِ عَلى فِرَاشهَا، أبْشِرْ بِرَوْحٍ وَرَيْحانٍ وَجَنَّةِ نَعيمٍ وَرَبٍّ غَيْرَ غَضْبَانَ.

قَالَ: وَإِذَا حَضَرَتِ الكَافِرَ الوَفَاةُ حَضَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم وَعَليّ وَالأئمَّةُ وَجَبْرَيلُ وَميكائيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ عليهم السّلام، فَيَدْنُو مِنْهُ جَبْرئيل فَيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ إنَّ هذا كان مُبغِضاً لَكُمْ أهْلَ الْبَيْتِ فَأبْغِضْهُ،فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه ؤَسَلَّم: يا جَبْرَئيلُ إِنَّ هذا يُبْغِضُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَأهْلَ بَيْتِ رَسولِهِ فَأبْغِضْهُ: فَيَقُولُ جَبْرئيلُ: يَا مَلَكُ الْمَوْتِ إَنَّ هذا يُبْغِضُ اللهَ وَرَسولَهُ وَأهْلَ بَيْتِ رَسولِهِ عليهم السّلام فَأبْغِضْهُ وَاعْنُفْ عَلَيْهِ.

فَيَدْنُو مِنْهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَاللهِ أخَذْتَ فِكاكَ رَقَبَتِكَ؟ أخَذْتَ بَراءَة أما

[ 491 ]

تَمَسَّكْتَ بِالعِصْمَةِ الْكُبْرى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيا؟ فَيَقولُ: لا، فَيَقولُ لَهُ: أَبْشرْ يَا عَدُوَّ اللهِ بِسَخَطِ عَذَابِهِ وَالنَّار، وأمَّا الَّذي كُنْتَ تَرْجو فَقَدْ فَاتَكَ، وَأمَّا الَّذي كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَدْ نَزَلَ بِكَ. ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسُهُ سلاًّ عَنِيفاً، ثُمَّ يُوَكِّلُ بِرُوحِهِ ثَلاثَمائَهِ شَيْطانٍ يَبْزُقونَ فِي وَجْهِهِ وِيِـَتَأذّى بِريحِهِ، فإذا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ فُتِحَ لَهُ بَابُ مِنْ أبْوابِ النَّارِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ فِيح رِيحِهَا وَلَهَبِهَا(1).

ولا بد أن تعرف أن عالم برزخ كل شخص، أنموذج من نشأته يوم القيامة، والبرزخ عالم يتوسط بين هذا العالم وعالم القيامة، وتنفتح على هذا العالم كوَّة من الجنة أو النار. كما أشير إليه في نهاية هذا الحديث الشريف، وفي الحديث النبوي المعروف "الْقَبْرُ إمّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أوْ حٌفْرَةٌ مِنْ حٌفَرِ النِّيرانِ"(2).

فتبين أن الإنسان لدى سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها، ويسمع من ملك الموت بشارة الجنة أو الوعيد بالنار. وكما أن هذه الأمور تنكشف عليه قليلاً، كذلك تنكشف عليه الآثار التي تركتها أعماله وأفعاله في قلبه، من النورانية وشرح الصدر ورحابته أو أضدادها أيضاً من الظلام والكدُورة والضغط وضيق في الصدر، فإن كان من أهل الإيمان والسعادة، يستعد قلبه عند معاينه البرزخ لمشاهده النفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال، وتظهر فيه آثار تجلّيات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحب للقاء الله، وتشتعل في قلبه، جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب، إن كان من أهل الحسنى وحبّ الله والجاذبة الربوبية، ولا يعرف أحد إلاّ الله، مقدار اللّذات والكرامات الموجودة في هذاالتجلّي والاشتياق !

وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، أغدقت عليه من كرامات الحق المتعالى بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحق ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسرور والروح والريحان، ولا تطيق الأعين المُلكية والذائقة المادية، لرؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح.

ـــــــــــــــ

(1) علم اليقين، المجلد 2، ص854 ـ 856.

(2) سنن الترمذي، المجلد الرابع، ص 640 باب 26 كتاب صفة القيامة.

[ 492 ]

وإن كان من أهل الشقاء والجحود والكفر والنفاق والأعمال القبيحة والأفعال السيئة، انكشف عليه بقدر نصيبه من دار الدنيا وما وفّره واكتسبه لنفسه منها، من آثار السخط الإلهي والقهر، ونموذجاً من دار الأشقياء، فيدخل الذعر والهلع في نفسه بدرجة لا يكون عنده شيء أبغض من التجليات الجلالية والقاهرة للحق المتعالى ويستولي عليه من جرّاء هذا البغض والعداوة الشديدين، الضغوظ والظلام والصعاب والعذاب. لا يعرف حجمها أحد إلاّ الذات الحق المقدس، وهذه المحن تكون لمن كان من الجاحدين والمنافقين ومن أعداء الله وأعداء أوليائه في هذه الدنيا. وينكشف على أهل المعاصي والكبائر، بقدر أجتراحهم للسيئات، نوذجاً من جهنمهم، فلا يكون شيء عندهم أبغض من الرحيل من هذا العالم، فيُرحلون بكل عنف وقسوة وعذاب، وفي نفوسهم حسرات لم تتحقق في هذه الأحوال.

ويستفاد من هذا البيان أن الإنسان لدى الاحتضار والمعاينة، يشاهد ما كان فيه وهو غير واقف عليه، رغم أنه بذر بنفسه هذه المعاينة والمشاهدة في عالم وجـوده.

إن الحياة الدنيوية، كانت ستاراً ملقىً على عيوبنا، وحجاباً على وجه أهل المعارف، وعندما يزاح هذا الستار، ويُخترق هذا الحجاب، ويرى الإنسان أنموذجاً، مما أعدّه لنفسه، ومما كان فيه.

إن الإنسان لا يرى في العوالم الأخرى من العذاب والعقاب، إلاَّ ما وفّره وهيّأه في هذه الدنيا، ولا يشاهد في العالم الآخر إلاّ صورة ما أنجزه في هذا العالم من الأعمال الصالحة والخلق الحسن، والعقائد الصحيحة، مع رؤيته لما يتفضّل عليه الحق المتعالى بلطفه من الكرامات الأخرى.

يروي صاحب كتاب تفسير(الصافي) عن(مجمع البيان) في ذيل الآية المباركة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه)(1). ـ الخ ـ حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وفيه هِيَ ـ هذه الآية ـ أحْكَمُ آيَةٍ فِي الْقُرآنِ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

ـــــــــــــــ

(1) سورة الزلزلة، آية: 7.

[ 493 ]

وَآلِهِ وَسَلَّم يُسَمِّيهَا الْجَامِعَةَ (1).

فلا بد وأن نعلم بأننا إذا تعلقنا بالحق المتعالى وأوليائه، ووضعنا في رقابنا حبل طاعة الذات المقدس، وجعلنا اتجاه القلب إلهياً وربانياً، لظهرت أمامنا حين النزع، الحقائق بعينها في صور بهيّة. وعلى العكس إذا كانت قلوبنا ذات صبغة دنيوية، وانصراف عن الحق، فمن الممكن أن تُبذر فيها شيئاً فشيئاً بذور عداوة الحق والأولياء، وتشتدّ هذه العداوة، حين المعاينة، فتظهر آثارها الغريبة الموحشة كما قد سمعت.

إذن من الأمور الهامّة السعي في سبيل تطوير حالة القلب، وجعلها إلهية، وتوجيهها نحو الحق المتعالى وأوليائه ودار كرامته، ويتمّ هذا قطعاً بواسطة التفكر في آلاء الذات المقدس، ونعمائه والمحافظة على طاعته وعبادته. ولكن يجب أن لا يعتمد الإنسان على نفسه ومساعيه، بل يستعين بالله على ذلك في جميع الأحوال، وخاصة في حالات الخلوة مع الله بكل تذلّل وتضرّع وبكاء، ويطلب منه أن يلقي حبّه في قلبه ويضيئه بنور محبته ومعرفته، ويخرج حب الدنيا وما عدَى الله من قلبه، ومن الواضح أن هذا الدعاء يكون في بدء الأمر من دون لبّ، ويكون صرف لقلقة لسان، لأن مطالبة زوال حب الدنيا من القلب مع كونه مفرطاً في التعلق بها، مشكل جداً، ولكن نرجو بعد التمعن في ذلك فترة من الزمن، والمراقبة، وافهام القلب النتائج الحسنة لمحبة الله، والنتائج السيئة لحب الدنيا، أن يتحقق ذلك إنشاء الله تعالى.

فصل

في بيان معنى حبّ الحق المتعالى وبغضه

إعلم أن نسبة الحب والبغض وأمثالها للحق المتعالى، الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، لا تكون بمعناها المتفاهم العرفي، لأن لازمها الانفعال النفسي الذي يتنزّه الحق سبحانه منه. ولا مجال في هذا المختصر، للإسهاب في ذلك، فنقتصر على الإجمال والإشارة.

لا بد من معرفة أن كثيراً من الأوصاف والأحوال، بعد تنزلها من العوالم

ـــــــــــــــ

(1) هذه الرواية منقولة عن عبدالله بن مسعود كما في مجمع البيان المجلد الخامس ص 525.

[ 494 ]

الغيبية التجردية، وحصولها للنشأة المُلكية المادية التي هي عالم الفرق بل عالم فرق الفرق، تتجلّى في صورة تختلف عن الصور الغيبية المتجردة من الآثار واللوازم. كما أن الأفلاطونيين الذين يعتقدون بأن كافة الموجودات المُلكية، مظاهر للأرواح الغيبية، وتنزّلات للحقائق الملكوتية، وأمثلة للمُثُل الأفلاطونية، هؤلاء يرون أن العوارض والكيفيات التي تقوم في هذا العالم بغيرها ـ لا بنفسها كما هو شأن الجواهر ـ يرون أنها تتجلّى في ذلك العالم صورها الذاتية بوجوداتها من دون حاجة إلى الارتكاز على الغير، وعليه نقول إن أمثال هذه الأوصاف والأحوال التي تلازم في عالم المُلك، التجدد والانفعال، تكون موجودة في العوالم الغيبية، والنشآت التجردية وخاصة في عالم الأسماء ومقام الواحدية، في صورة منزّهة وبعيدة عن جميع النقائص، ويكون التعبير عن تلك الصور، حسب النشأة التجردية والصُقع الربوبي مغايراً عن التعبير عنها في هذا العالم.

فمثلاً أن التجليات الرحمانية والرحيمية والتي نقول عنها أيضاً التجليات الجمالية واللطفية والحُبية والأنسية، إذا ظهرت في هذا العالم، كانت في صورة الحب والرحمة واللطف، الملازمة للانفعال والتأثر، وذلك نتيجة ضيق هذا العالم. ففي الحديث أن للرحمة مائة جزء، وإن جزءاً واحداً منها قد هبط إلى هذا العالم، وتحققت به الرحمة كل الرحمة في هذا العالم، مثل الرحمة الحاصلة بين الأولاد والأبوين وأمثال ذلك. كما أن التجلّيات القاهرية والمالكية التي هي من تجليات الجلال، تظهر في هذا العالم في صورة البغض والغضب المتلازمين للانفعال والتأثر أيضاً.

وعلى أي حال إن باطن الحب والبغض والغضب، الرحمانية والقهَّارية وتجلّيات الجمال والجلال، تكون تلك التجلّيات، موجودة بعين الذات، ولا تتطرق إليها الكثرة والتجدّد والانفعال. كما أن مظهر الرحمانية والقهّارية، الحبّ والبغض المتوافران في هذا العالم، وحيث إن المظهر ـ الحب والبغض ـ يكون فانياً في الظاهر ـ الرحمانية والقهارية ـ والظاهر يتجلى في المظهر، يصحّ في بعض المقامات التعبير عن أحدهما بالآخر. وعليه يكون سخط الحق المتعالى لعبده، ظهوراً بالقهّارية والانتقام، وظهور حبه له، بالرحمة والكرامة. والله العالم.

[ 495 ]

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست