.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 
 

الحَديث التاسِع والعشرون

وصيّة النبي لعليّ بخصال

[ 497 ]

بالسَّند المتّصل إلى أفضل المحدّثين وأقدمِهِم محمَّدِ بن يعقوبَ الكلينيِّ رضي الله عنه عن محمَّد بن يحيى، عن أحمدَ بنِ محمّد بن عيسى، عن عليِّ بنِ النُّعمانِ، عن معاوية بن عمّارٍ قالَ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ عليه السَّلام يقولُ: كانَ فِي وَصيَّةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم لِعَليٍّ عليه السّلام أنْ قالَ: يَا عَلِيُّ أوصيكَ في نَفْسِكَ بِخِصالٍ فَاحْفَظْهَا عَنِّي، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْهُ. أَمَّا الأَولى فَالصِّدْقُ وَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنْ فيكَ كِذْبةٌ أبَداً. والثّانِيَةُ الوَرَعُ وَلاَ تَجْتَرِئْ عَلَى خِيَانَةٍ أَبَداً. وِالثّالِثَةُ الخَوْفُ مِنَ اللهِ عَزَّ ذِكْرُهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَالرّابِعَةُ كَثْرَةُ البُكَاِء مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَعَالى يُبْنَى لَكَ بِكُلِّ دَمْعَةٍ أَلْفُ بَيْتٍ فِي الجَنَّةِ. وَالخَامِسَةُ بِذْلُكَ مَالَكَ وَدَمَكَ دُونَ دِينَكَ. وَالسّادَِسَةُ الأَخْذ بِسُنَّتي في صَلاتي وَصَوْمي وَصَدَقَتي، أَمَّا الصَّلاةُ فَالخَمْسُونَ رَكْعَةً، وَأَمَّا الصِّيامُ فَثَلاثَةُ أَيّامٍ فِي الشَّهْرِ: الخَمِيسُ فِي أَوَّلِهِ وَالأَرْبَعاءُ في وَسَطِهِ وَالخَمِيسُ فِي آخِرِهِ، وأَمَّا الصَّدَقَةُ فَجُهْدُكَ حَتّى تَقولَ قَدْ أَسْرَفْتَ وَلَمْ تُسْرِف.

وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللّيْلِ وَعَلَيْكَ بِصَلاَةِ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ بِصَلاَةِ اللَّيْلِ، وَعَلَيْكَ بِصَلاَةِ الزَّوالِ، وَعَلَيْكَ بِصَلاَةِ الزَّوالِ وَعَلَيْكَ بِصَلاَةِ الزَّوَالِ وَعَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ القُرْآنِ عَلَى كُلِّ حالٍ، وَعَلَيْكَ بِرَفْعِ يَدَيْكَ فِي صَلاَتِكِ وَتَقْلِيبِهِمَا، وَعَلَيْكَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضوءٍ، وَعَلَيْكَ بِمَحَاسِنِ الأَخْلاَقِ فَارْكَبْهَا وَمَساوِئ الأَخْلاَقِ فَاجْتَنِبْهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلاَ تَلُومَنَّ إِلاّ نِفْسَكَ (1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد 1، كتاب فضلالعلم، باب النوادر، ح5.

[ 489 ]

الشرح:

(الخصال) جمع خصلة ومعناها الفضيلة النابعة من السجية، كما في(الصِّحاح) وعليه يكون استعمالها في مطلق الأفعال و الخلق، كما في هذا الحديث الشريف وغيره، من باب المجاز. ومن الممكن أن تكون الخصلة، أعم من الفضيلة الراسخة في طبيعة الإنسان، فيكون استعمالها في مثل الموارد من باب الحقيقة.

قوله عليه السّلام(الورَع) بفتح الراء و(الرِّعة) مصدران لـَورِع يَرِع بكسر الراء فيهما. ومعناه التقوى أو شدّة التقوى ومنتهى الحذر. ومن المحتمل أن يكون المعنى مأخوذاً من ورّعته توريعاً، أي كففته، لأن الورع في الحقيقة، كف النفس، ومنعها من تخطى حدود الشرع والعقل. أو من ورّع بمعنى الرد، يقال َورّعت الإبل عن الماء إذا رددتها، لأن المؤمن يرّد نفسه عن الشهوات والولوج فيها.

قوله عليه السلام:(لا تَجْتَرِئْ) يكون من باب الافتعال، بمعنى الجسارة والشجاعة، وكثرة الإقدام في الأمور. في الصحاح عن أبي زيد(الجُرْأةُ مِثالُ الجُرْعَةِ: الشَّجاعَةُ) و(في الصحاح) أيضاً(الجَريءُ الِمْقَدامُ).

قوله عليه السلام:(فَجُهْدُكَ) الجُهْدُ بضمّ الجيم وفتحها: الطاقَةُ والمَشَقَّةُ، يُقالُ: جَهَدَ دابَّتَهُ وَأَجْهَدَهَا، إذا استعملها أكثر من طاقتها. ويكون الجهد أيضاً بمعنى الجدّية و الإصرار. وهذه المعاني تتناسب مع هذه الرواية.

قوله عليه السّلام: عَلَيْكَ بِصَلاَةِ اللَّيْلِ إن كلمة عليك اسم فعل،

[ 449 ]

وتستعمل بمعنى الفعل المتعدي أو في محل الفعل المتعدي عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي ألزموا، وعليه تكون الباء للتأكيد و التأييد لا للتعدية. وقال في مجمع البحرين إذا تعدّت عليك، بالباء كان معناها استمسك مع إفادة المبالغة.

ونحن نذكر إنشاء الله معاني الحديث، ضمن مقدمات وفصول.

مقدمة

يتضح من نواحي عديدة من هذا الحديث الشريف، أن هذه الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام كانت عنده صلوات الله و سلام عليه مهمة جداً، هذه النواحي هي:

إحداها: توجيه الوصية نحو أمير المؤمنين عليه السّلام مع أنه سلام الله عليه، أسمى من أن يتساهل في الأحكام الشرعية، والأوامر الإلهية، ولكنّ هذه الأمور لدى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كانت هامّة جداً، فلم يحجم عن الوصية بها. ومن المتعارف أن رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلم لا يوصي بشيء إلا وكان يعتني به، ويراه مهماً، فلأجل إظهار أهميته، يوصي به، حتى لمن يعرف أنه لا يتهاون به.

أما احتمال أنه صلّى الله عليه وآله و سلم قد أوصى لأمير المؤمنين عليه السّلام حتى يُفهم الآخرين، من قبيل(إيـَّاكَ أَعْنِى وَ أسمَعِي يَا جَارةَ) فهو بعيد. لأن سياق الحديث بأن الخطاب متوجه نحو الإمام علي عليه السّلام، وأنه المقصود مباشرة، كما يستفاد من كلمة(فِي نَفْسِكَ) و(احْفَظْهاَ) و(اللَّهُّمَ أَعِنْهُ). ثم أن مثل هذه الوصايا كانت متداولة بين الكبار من الناس، وبين الأئمة الأطهار عليهم السّلام من وصية بعضهم البعض الآخر، وكان الظاهر من سياق كل واحد من مثل هذه العبارات التي وردت من إمام لإمام آخر عليهم السلام، هو الإمام المخاطب بنفسه. كما ورد في إحدى وصايا الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام إلى ولديه الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السّلام:(أُوصِيكُمَا وَأَهْلَ بَيْتِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي) ومن المعلوم أن الحسنين عليهما السلام كانا داخلين في هذه الوصية، وتكشف هذه الوصايا عن شدة اهتمام وتعلق المعصومين عليهم السّلام بعضهم ببعض.

[ 500 ]

وعلى أي حال إن كون الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مخاطباً بالوصية يكشف عن عظمة الوصية وأهميتها.

ثانيتها: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أكد على هذه الوصية بهذا المستوى من التأكيد للإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام رغم أنه لن يتجاوز وصية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قيد أنملة ولم يبد تجاهها وهناً ولا فتوراً.

ثالثتهما: نبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عليًّا بعد أن قال:(يا عـَليّ أُوصِيكَ) على أهمية الوصية قائلا:(فـَاحـْفـِظـْها عـَنـِّي). ولما تمنى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على عليّ عليه السّلام أن يأتي بهذه الوصايا المهمة دعا له قائلاً:(اللـَّهـُم أَعِنْه) وهكذا بقية التأكيدات التي وردت في كل واحدة من هذه الجمل بصورة مستقلة مثل نون التأكيد، وتكرار الوصية وغير ذلك مما لا نحتاج إلى تعداده.

إذن يعلم أن هذه الوصايا من الأمور الهامة. ومن الواضح أنه لا يعود في جميع هذه الوصايا بالفائدة على رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلم، وإنما تعود المنفعة إلى المخاطب. والإمام عليه السّلام وإن كان في الأصل هو المخاطـب، ولكن التكاليف عامة ومشتركة بين الجميع، حيث لا تعطل برحيل المخاطب، بل إنها متواصلة مع الأجيال.

ولا بد من معرفة أن شدّة تعلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بالإمام علي عليه السّلام تبعث على الفائدة الكبيرة لهذه الوصايا التي بُيّنت بهذا الأسلوب وعلى أهميتها الكثيرة. والله أعلم. 

فصل 

في مفاسد الكذب 

من وصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ملازمة الصدق والابتعاد عن الكذب فَالصُدقُ وَلا يَخْرُجَنّ مِنْ فِيكَ كِذْبَةً أبداً ويستفاد من تقديم رسول الله

[ 501 ]

صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الوصية على الوصايا الأخرى، أن هذه الوصية أهم من كافة الوصايا المذكورة. ونحن نقدم مفاسد الكذب على مصالح الصدق.

واعلم أن هذه الرذيلة من الأمور التي اتفق العقل و النقل على قبحها وفسادها وأنها في نفسها من الفواحش و المعاصي الكبيرة، كما تدل على ذلك الأخبار. وقد تترتب عليها مفاسد أخرى لا تقل عن هذه الموبقة، بل قد يسقط الإنسان من أعين الناس في الوسط الاجتماعي على إثر كذبة واحدة عندما تُكتشف، ولا يستطيع إلى نهاية العمر أن يجبرها. فإذا اشتهر إنسان لا قدّر الله بالكذب، فلعلّه لا يوجد شيء آخر يسيء إلى شخصية الإنسان أكثر من الكذب. و مضافاً إلى ذلك فإن مفاسده الدينية وعقوباته الآخروية كثيرة أيضاً. ونحن نقتصر على ذكر بعض الأحاديث الشريفة في هذا الموضوع. وحيث أن شناعة الكذب من الأمور الواضحة المعروفة، نبتعد عن الإسهاب في الحديث عنه.

روى في الوسائل عن محمَّد بن يعقوب بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل جَعَلَ لِلشَّرِّ أقفالاً وَجَعَل مَفاتيحَ تِلْكَ الأقْفالِ الشَّرابَ، وَالكِذْبُ أشَرُّ مِنَ الشَّرَابِ"(1).

والآن تدبر في هذا الحديث الشريف المروي عن عالم آل محمد عليهم السلام، و المذكور في كتاب يعدّ مرجعاً لجميع علماء الأمة، ويتلقى بالقبول لدى كافة العلماء رضوان الله عليهم، و أنظر هل يبقى سبيل للاعتذار؟ أليس هذا التهاون في الكذب إلاّ من جراء الضعف في الإيمان تجاه أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام؟

نحن لا نعرف الصور الغيبية لأعمالنا، ولا ندرك الارتباطات الغيبية بين المُلك والملكوت، ولهذا نبتعد عن مثل هذه الأخبار، ونحن من أمثالها على المبالغة. ولكن هذا المنهج باطل وناتج من الجهل والضعف في الإيمان. فلو فرضنا بأننا حملنا هذا الحديث الشريف على المبالغة، أليست المبالغة ذات شروط ووضع خاص؟ هل نستطيع أن نقول عن كل شيء أنه أسوأ من الخمر، أولا بد وأن

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكذب، ح 3.

[ 502 ]

يكون الشيء ذا شرّ عظيم حتى نتمكن من المبالغة ونقول إنه أعظم من الشر؟

وبإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قالَ: " الكِذْبُ هُوَ خَرَابُ الإِيمانِ"(1).

في الحقيقة أن مثل هذه الأخبار، تهزّ أعماق الإنسان، وتقصم ظهره فإننا نتصور بأن الكذب من الأعمال الفاسدة، التي فقد الإحساس بقبحها نهائياً من جرّاء شيوعها بين الناس، ولكن سيأتي وقت ننتبه ونشعر بأن الإيمان الذي هو رأس مال حياة عالم الآخرة، قد زال من أيدينا من جراء الاستهانة بالكذب ولم نشعر بذلك أبداً.

وعن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سُئِلَ رَسُولُ الله صلّى اللهُ عَليهِ وآلهِ وَسَلم يَكُونُ المؤمِنُ جَبَاناً؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ وَيَكُونُ بَخيلاً؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: ويَكُونُ كَذَّاباً؟ قال: لا(2).

ونقل عن صدوق الطائفة محمد بن علي بن الحسين إنه قال: من كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أَرْبَى الرِّبا الكِذَبُ (3). مع أن التشديد في حرمة الربا وبشاعته مما يذهل الإنسان.

ومن الأمور التي لابد للإنسان أن يلتفت إليها، هو أن الأخبار قد استنكرت الكذب حتى هزله ومزحه، وشدّدت في ذلك. و أفتى العلماء بحرمته أيضاً. كما ذكر صاحب الوسائل في عنوان الباب الذي هو تعبير عن فتاواه: بـَاب تَحْريم الكذِب في الصغيرِ و الكبيرِ و الجِد والهزْلِ عدا ما استثنى(4).

وعن الكافي الشريف عن أبي جعفر عليه السـّلام قالَ كانَ عَليّ بن الحُسين صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمَا يقولُ لِوَلِدِه اتِّقُوا الكَذِبَ، الصَغيرَ مِنْه وَالكبِير فِي كل جِدّ وَهَزْلٍ فَإنَ الرَّجُلِ إذا كَذِبَ في الصَغيرِ اجْـتَرَئ في الكَبيرِ أمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللهِ صَلّى الله عَليه وآله

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح 4.

(2) و(3) وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 138، باب تحريم الكذب، أبواب أحكام العشرة، ح 11 و12.

(4) وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 140، باب تحريم الكذب في الصغير والكبير والجد والهزل عدا ما استثنى.

[ 503 ]

وَسَلم قال: مَا يَزَالَ العبَدُ يَصدُقَ حَتَّى يَكْتُبُهُ الله صَدِّيقاً وَمَا يَزَالَ العَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبُهُ اللهُ كَذَّاباً(1).

وفي الكافي عن الأصبغ بن نباته ـ قالَ: قالَ أميرُ المؤمنين عليه السّلام:"لاَ يَجِدُ عَبْدٌ طَعْمَ الإِيمانِ حَتّى يَتْرُكَ الكِذْبَ هَزْلَهُ وَجِدَّهُ"(2).

وفي وصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر: يـَا أبـَا ذَرٍّ، وَيْلٌ لِلَّذي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ (3).

وبعد عرض هذه الأخبار الشديدة و المنقولة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، لا بد من الجرأة الكبيرة والشقاء المضاعف، حتى يقدم الإنسان على هذا الأمر الخطير، والمعصية الكبيرة. وكما أن الكذب قد عُدّ من المفاسد الخطيرة جداً، اعتبر صدق اللهجة والاستقامة في الحديث، مهمّاً جداً، وأُثنى عليه في أخبار أهل البيت ثناءاً بليغاً. ونحن نكتفي بذكر بعضها:

محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: كـُونُوا دُعاةً لِلنّاسِ بِالخَيْرِ بِغَيْرِ ألْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الاجْتِهَادَ وَالصِّدْقَ وَالوَرَعَ (4).

وقال الصدوق رحمة الله بسنده إلى رسول الله قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسلّم: إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِني غداً وَأوْجَبَكُمْ علَّي شَفَاعَةً، أصْدَقَكُمْ لِسَاناً، وأدَّاكم لِلأمَانةِ وَأحْسَنَكُمْ خُلُقاً وَأقْرَبَكمُ ْمِنَ النَّاسِ(5)

فصل

في حقيقة الورع و مراتبه

يتحدث هذا الفصل عن الورع، وأنه قد عُدَّ من منازل السالكين والسائرين

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني،كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح 2.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح 11.

(3) وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة ح 4 ص 577.

(4) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصدق و أداء الآثار، ح 10.

(5) أمالي الشيخ الصدوق المجلس 76 ص 411 طباعة الأعلى.

[ 405 ]

إلى الله سبحانه، وعُرِّف حسب ما نقل العارف المعروف خواجة عبدالله الأنصاري"هُوَ تَوَقٍّ مُسْتَقْصىً عَلَى حَذَرٍ أَوْ تَحَرُّجٌ عَلَى تَعْظِيمٍ . وهذا التعريف يشمل كافة مراتبه، لأن للورع مراتب كثيرة: فورع العوام، الاجتناب عن الكبائر، وورع الخواصّ الابتعاد عن الشبهات خشية الوقوع في المحرمات كما أشير إليه في حديث التثليث الشريف(1). وورع أهل الزهد الاجتناب عن المباحات للابتعاد عن وزرها. وورع أهل السلوك ترك النظر إلى الدنيا لأجل الوصول إلى المقامات. وورع المجذوبين، ترك المقامات لأجل الوصول إلى باب الله، ومشاهدة جمال الله. وورع الأولياء، الاجتناب عن التوجّه إلى الغايات.

ولكل واحدة من هذه المراتب شرح لا يجدينا الإسهاب فيه. وما يجب أن نعرفه هنا هو:

أن الورع عن المحرّمات الإلهية يكون على أساس جميع الكمالات المعنوية، والمقامات الأخروية. ولا يحصل لأحد مقامُ إلا عند الورع عن محرّمات الله. وإن القلب الذي لا يتحلّى بالورع، ليصدأ، وليبلغ به الأمر إلى مستوى لا يُرجى له النجاة. إن الورع يوجب صفاء النفوس وجلائها، وأنه يكون من أهمّ المنازل لدى العوام، ويعتبر من أفضل زاد المسافر نحو الآخرة. وقد ورد في فضله حسب أحاديث أهل بيت العصمة عليهم السّلام أكثر مما يسعه هذا الكتاب. ونحن نكتفي بذكر بعض هذه الأحاديث. يرجع الباحث لأكثر من ذلك، إلى كتب الأخبار.

الكافي: بإسناده عن أبي عبد الله عليه السـّلام قالَ: أوصيكَ بِتَقْوَى اللهِ وَالْوَرَعِ وَالاجْتِهَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ اجْتِهَادٌ لاَ وَرَعَ فِيهِ (2).

وبهذا المضمون رواية أخرى أيضاً. وهذا شاهد على أن العبادات تتساقط عن الاعتبار، إذا كانت خالية من الورع. ومن المعلوم أن الغاية المنشودة من

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح9 عن أبي عبد الله في حديث قال: وإنما الأمور ثلاثة أمر بين غيّة فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان، باب الورع، ح11.

[ 505 ]

العبادات التي هي ترويض النفس، ولجمها، وقهر الملكوت للمُلك والطبيعة، لا تحصل إلاّ بواسطة الورع الشديد، والتقوى الكاملة.

ثم إن النفوس المدنسة بالمعصية، لا تقبل صورة ولا رسماً إلا بعد تنظيفها من الكدر وتطهيرها من القذارة، حتى يتمكن الرسّام من الرسم فيها. فالعبادات التي هي الصور الكمالية للنفس، لا تنفع من دون صقلها من غبار المعصية، و إنما تكون صورة من دون لبّ وظاهراً من دون روح.

وبإسناده عن يزيدَ بنِ خَليفَةَ قالَ: وَعَظَنا أبو عبد الله عليه السّلام فَأَمَرَ وَزَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالوَرَعِ فَإِنَّهُ لاَ يُنالُ مَا عِنْدَ اللهِ إلاّ بِالوَرَعِ"(1).

فبموجب هذا الحديث الشريف، أن الإنسان الذي لا ورع له، يكون محروماً من الكرامات التي وعدها الله لعباده. وهذا الحرمان من أعظم الخذلان والشقاء. وفي الوسائل مسنداً إلى الإمام الباقر عليه السّلام في حديث لاَ تُنالُ وِلاَيَتُنَا إِلاّ بِالعَمَلِ وَالوَرَعِ"(2) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق ثم (... قالَ يا عِيسى بن عَبْد اللهِ لَيْسَ مِنَّا وَلا كَرامَةُ مَنْ كانَ فِي مِصْرٍ فِيه مائَةُ ألْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَكانَ في ذَلكَ المِصْر أحَدٌ أوْرَع مِنْه) (3).

ولا بد من معرفة أن المقياس في كمال الورع على ضوء الروايات الشريفة، هو الاجتناب عن محرمات الله، وأن كل من يبتعد عن المحرمات الإلهية أكثر، يُعدّ من أروع الناس طراً. فينبغي أن لا يستغل الشيطان هذا الموضوع ـ ليس منا وفي مصر مائة ألف يوجد أحد أروع منه ـ ويعظمه، ويلقي اليأس في القلب، لأن من طبيعة هذا الملعون دفع الإنسان إلى الشقاء الأبدي من خلال اليأس، بأن يقول له في المقام مثلاً: كيف يمكن أن يكون أروع إنسان في بلد يحتضن مائة ألف أو يزيدون من الناس؟ فإن هذا من أساليب كيد هذا اللعين، ووساوس النفس الأمارة. ولكن جوابه هو أن من ابتعد عن المحرمات الإلهية يندرج في هذا الروايات،

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان، باب الورع، ح 3.

(2) و(3) وسائل الشيعة، المجلد 11، باب 21 من أبواب جهاد النفس ح17و11.

[ 506 ]

حسب ما يستفاد من الأحاديث المباركة، ويعتبر من أورع الناس.

ثم إن الابتعاد عن المحرمات الإلهية، لا يستدعي جهداً جباراً، بل الإنسان مع قليل من الترويض النفسي والعمل، يستطيع أن يترك جميع المحرمات، شريطة إرادته على أن يكون من أهل السعادة والنجاة، ومن أهل الولاية للأئمة الأطهار وكرامة الحق المتعالى. وإذا لم يكن له صبر على المعصية، بهذا المقدار، لما تحقق له البعد عن المعصية. أنه يجب أن يتمتع بقدر من الجلادة والإصرار والترويض النفسي.

تتميم

في بيان مفاسد الخيانة وحقيقة الأمانة

توجد في المقام نكتة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد أن أوصى بالورع فرع عليه قائلا(وَلا تَجْتَرِىء عَلَى خِيانَةٍ أبَدَاً) مع أن الورع يكون عن كل المحرمات، أو يكون أعم من الخيانة، وعليه لا بد من تَفسير الخيانة بمعنى أعم من التفاهم العرفي لها، حتى تتطابق مع الورع، بأن نقول إن مطلق المعصية أو اقتراف مطلق ما يمنع السير إلى الله خيانة، لأن التكاليف الإلهية أمانات للحق سبحانه كما ورد في الآية الكريمة(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(1). الخ. حيث فسـّر بعض المفسرين الأمانة بالتكاليف الإلهية، بل إن جميع الأعضاء، والجوارح والقوى، أمانات للحق المتعالى واستعمالها على خلاف رضا الحق سبحانه، خيانة، كما أن توجيه القلب إلى غير الحق يعدّ من الخيانة. بيت شعر: هذه الروح التي أعارها لي الصديق الحميم سأرجعها إليه في اليوم الذي أرى وجهه. أو أن المقصود من الخيانة نفس المعنى المتعارف، ويكون وجه التخصيص بذكرها لأجل شدة الاهتمام بالخيانة، فكأنّ الورع كل الورع هو الابتعاد عن خيانة الأمانة.

ـــــــــــــــ

(1) سورة الأحزاب، آية: 72.

[ 507 ]

ومن يرجع إلى أخبار المعصومين عليهم السّلام المأثورة في ردّ الأمانة والابتعاد عن الخيانة، لأدرك حجم اهتمام الشارع المقدس بهذا الموضوع. ويضاف إلى ذلك هو أنّ قبحها الذاتي لا يخفى على أحد. وأنه يجب إخراج الإنسان الخائن من المجتمع البشري، وإلحاقه بأرذل الشياطين. ومن المعلوم أن الإنسان الذي يشتهر بين الناس بالخيانة، تضيق عليه الحياة وتصعب، حتى في هذا العالم أيضاً.

إنّ البشر بصورة عامة يعيشون مع بعضهم البعض في ظلّ التعاون والتعاضد حياة سعيدة، ولا يمكن لأحد، الحياة بصورة منفردة، إلاّ إذا غادر المجتمع البشري والتحق بالحيوانات الوحشية. ثم إن العجلة الكبيرة التي تدور لتحريك الحياة الاجتماعية، هي اعتماد الناس بعضهم على بعض، فإذا زال الاعتماد وتلاشت الثقة، لما تمكّن الإنسان أن يعيش هنيئاً رغيداً. إن الركيزة الأساسية للاعتماد المتبادل بين الناس قائمة على الأمانة وترك الخيانة، فلا يحظى الخائن، بالاطمئنان لدى الناس ويعدّ مارقاً على المدينة وخارجاً عن العضوية للمجتمع البشري وتكون عضويته مرفوضة لدى أصحاب المدينة الفاضلة. ومن الواضح أن مثل هذا الإنسان يعيش حياة ضنك وفي صعوبة بالغة.

ونحن لأجل تتميم الفائدة، نذكر في هذا الباب بعض الأحاديث المنقولة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، إذ تكتفي بها القلوب الواعية، والأعين الباصرة.

محمّد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبدالله عليه السّلام قال: لاَ تَنْظُرُوا إلى طولِ رُكوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ فَإِنَّ ذلِكَ شَيْءٌ اعْتَادَهُ فَلَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ، وَلكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ حَدِيثِهِ وَأَدَاءِ أَمَانَتِهِ (1).

وبإسناده عن أبي كَهْمَسٍ قالَ: قُلْتُ لأبِي عَبْدُاللهِ عليه السّلام: عبَدْاللهُ بْنُ أبِي يَعْفورٍ يُقْرئُكَ السَّلاَمَ. قالَ: عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلامُ، إذا أَتَيْتَ عَبْدَاللهِ فَأَقْرِئُهُ السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ لَكَ، انْظُرْ مَا بَلَغَ بِهِ عَلِيٌّ عِنْدَ رَسولِ اللِه صلّى الله

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصدق وأداء الأمانة، ح12.

[ 508 ]

عليه وآله وَسَلم فَالْزَمْهُ، فَإِنَّ عَلِياً عليه السّلام إِنَّما بَلَغَ بِهِ عِنْدَ رَسولِ اللهِ بِصِدْق الحَديثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ"(1).

فيا عزيزي: تدبّر في هذا الحديث الشريف، وانظر إلى أن مقام صدق الحديث وأداء الأمانة دفعا بعلي بن أبي طالب عليه السّلام إلى بلوغ ذلك المقام الرفيع.

ويفهم من هذا الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ هاتين الخصلتين أكثر من غيرهما، لأن هاتين الصفتين من الصفات الكمالية لمولانا علي بن أبي طالب عليه السّلام قد بلغتا به ذلك المقام الرفيع، وإن الإمام الصادق عليه السّلام قد أبدى اهتماماً بهاتين الصفتين أكثر من كل الأفعال والأوصاف، وذكّر عليه السّلام ابن أبي يعفور الذي هو من المخلصين والمقربين له عليه السّلام بهما خاصة.

وبإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قالَ أبو ذَرٍّ رَضي اللهُ عَنْهُ ـ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلم يَقُولُ: حافَّتا الصِّراط يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّحِمُ والأمانَةُ، فَإِذَا مَرَّ الوصولُ لِلرَّحِمِ المُؤَدِّي لِلأَمَانَةِ نَفَذَ إلَى الجَنَّةِ، وَإِذَا مَرَّ الخَائِنُ لِلأَمَانَةِ القَطُوعُ لِلرَّحِمِ لَمْ يَنْفَعْهُ مَعَهُمَا عَمَلٌ وَتَكْفَأُ بِهِ الصِّراطُ فِي النّار(2).

فعلم بأن صورتي الرحم والأمانة في ذلك العالم تـقفان على طرفي الطريق، وتعينان من يصل رحمه ويؤدي أمانته، ومع تركهما لا يفيدنا أي عمل آخر وإنما بتركها يهوي الإنسان في النار.

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام:"أَدُّوا الأمانَةَ وَلَوْ إِلَى قَاتِلِ وَلَدِ الأَنْبِياءِ .

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام في وصيَّتِهِ لَهُ: اعْلَمْ أنَّ ضَارِبَ عَلِيٍّ عليه السّلام بِالسَّيْفِ وَقَاتِلَهُ لَو ائتَمَنَني وَاسْتَنْصَحَنِي وَاسْتَشَارَنِي ثُمَّ قَبِلْتُ ذلِك مِنْهُ لأَدَّيْتُ إِلَيْهِ الأَمَانَة (3).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصدق وأداء الأمانة، ح5.

(2) و(3) كتاب فروع الكافي، المجلد الخامس، باب أداء الأمانة، ح 3و 4.

[ 509 ]

ومحمّد بن عليٍّ بن الحسين بإسناده عن أبي حمزة الثماليِّ قالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ العَابِدِينَ عَليَّ بنَ الحسينِ بن أبي طالب عليه السّلام يَقُولُ لِشِيعَتِهِ: عَلَيْكُمْ بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلم بِالحَقِّ نَبِيّاً لَوْ أَنَّ قَاتِلَ أَبِي الحُسَيْنِ بْنِ عَلَيٍّ عليهما السّلام ائْتَمَنَني عَلَى السَّيْفِ الَّذِي قَتَلَهُ بِهِ لأَدَّيْتَهُ إِلَيْهِ"(1).

وبإسناده عن الصادق عليه السـّلام عن آبائه عليهم السـّلام عن النـَّبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم في حديثِ المَناهى أَنَّهُ نَهَى عَنِ الخِيَانَةِ وَقالَ: مَنْ خَانَ أَمَانَةً فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِي وَيَلْقَى اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ وَمِنَ اشْتَرَى خِيَانَةً وَهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ كَالَّذِي خَانَهَا"(2).

وتوجد بهذا المضمون أحاديث أخرى مذكورة في كتب الأخبار. ويعرف الجميع مضاعفات سخط الذات المقدس الحق وغضبه على البعد. كما أنه من المعلوم أن الشفعاء، لا يشفعون لمن هو مغضوب عليه لدى الحق سبحانه. وخاصة أن الخائن يكون خارجاً أيضاً عن أمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. ففي حديث آخر (لـَيـْسَ مِنَّا مَنْ خَانَ مُؤمِناً)(3) وفي حديث ثالث عن النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم مـَنْ خَانَ أَمَانَة فِي الدُّنيَا وَلَمْ يَرُدّها عَلَى أَهْلِهَا مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الإسلامِ وَلَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَيَهَوى بِهِ فِي شَفِير جَهَنَّم أَبَد الآبِدين (4) أعوذ بالله من هذه الخطيئة.

ومن المعلوم أن خيانة المؤمنين تعمّ الخيانة المالية والخيانات الأخرى التي هي أكبر من الخيانة المالية. فيجب على الإنسان في هذه الدنيا أن يراقب النفس الأمارة كثيراً، إذ ربما تقوم بعملية التعتيم للحقائق على الإنسان وتذليل الصعوبات وتسهيلها، مع أنها توجب الشقاء الدائم والخذلان الأبدي.

هذه هي حالة الخيانة لعباد الله، ويتبين من هنا أيضاً وضع الخائن لأمانة الحق المتعالي.

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 13، باب وجوب أداء الأمانة، من كتاب أحكام الوديعة ح 13

(2) و(3) وسائل الشيعة، المجلد 13، الباب 3 من أبواب أحكام الوديعة ح2.

(4) وسائل الشيعة، المجلد 13، الباب 3 من أبواب أحكام الوديعة ح5.

[ 510 ]

في الإشارة إلى بعض أمانات الحق سبحانه

ولا بد من معرفة أن الحق تبارك وتعالى، قد وهبنا كافة القوى والأعضاء الظاهرية والباطنية، وبسط لنا بساط الرحمة والنعمة في مملكتنا الظاهرية والباطنية، ووضعها كلها تحت قدرتنا لتسخيرها، وائتمننا عليها بلطفه ورحمته، وهي ـ هذه العطايا ـ طاهرة ونظيفة من كل القذارات الصورية والمعنوية وكذلك ما أنزل علينا من عالم الغيب كان بعيداً عن الشوائب والعناصر الغريبة، فإذا أرجعنا هذه الأمانات لدى لقائنا بالذات المقدس، من دون أن تصير ممزوجة مع عالم المادة، وقذارات المُلك والدنيا، كُنَّا أُمناء على الأمانة التي أودعت عندنا، وإن لم نحافظ على طهارة هذه الأمانات، غدونا من الخائنين والخارجين عن الإسلام الحقيقي، وملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي الحديث المشهور إن (قـَلـْبَ المُؤمن عَرْشُ الرحْمن) وفي الحديث القدسي المعروف لا يـَسُعُنِي أَرْضِي وَلا سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْديَ المُؤْمِنِ"(1). فإن قلب المؤمن عرش الحق المتعالي، وسرير سلطنته وسكنى ذاته المقدس، وإنه سبحانه صاحب هذا البيت، فالالتفات إلى غير الحق خيانة للحق، والحب لغير ذاته الأقدس ولغير أوليائه الذين يعتبر حبّهم حبّه سبحانه، خيانة لدى العرفاء.

وإن ولاية أهل بيت العصمة والطهارة، ومودّتهم، ومعرفة مرتبتهم المقدسة، أمانة من الحق سبحانه. كما ورد في الأحاديث الشريفة في تفسير الأمانة في الآية (إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرضِ)(2) بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام. كما أن غصب خلافته وولايته، خيانة لتلك الأمانة وأن رفض المتابعة للإمام علي عليه السّلام مرتبة من مراتب الخيانة. وفي الأحاديث الشريفة.

إن الشيعي هو الذي يتّبع أمير المؤمنين عليه السلام اتباعاً كاملاً وإلاّ فإن مجرد دعوى التشيع من دون الاتباع لا يكون تشيعاً.

ـــــــــــــــ

(1) إتحاف السادة المتقين، المجلد 7، ص 234.

(2) إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض

[ 511 ]

إن كثيراً من الأوهام، تعتبر من قبيل الشهوة الكاذبة يشتهي الإنسان الطعام وهو شبعان، فإذا لمسنا في قلوبنا مودّة علي عليه السّلام وأولاده الطاهرين اغتررنا بها، وحسبنا أن هذه المودة لوحدها ستبقى وتستمر من دون حاجة إلى تبعية كاملة لهم. ولكن ما هو الضمان على بقاء هذه المودة إن لم نحافظ عليها بل إن تخلّينا عن آثار الصداقة والمودة التي هي المشايعة والتبعية؟ إذ من الممكن أن الإنسان ينسى علي بن أبي طالب عليه السّلام من جراء الذهول والوحشة الحاصلتين من الضغوط الواقعة على غير المخلصين والمؤمنين. ففي الحديث(إن طائفة من أهل المعصية يتعذبون في جهنم وهم ناسون اسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وبعد انتهاء فترة العذاب وحصول الطهارة والنظافة من قذارات المعاصي يتذكّرون اسم النبي المبارك أو يلقى الاسم في قلوبهم، فيصرخون ويستغيثون قائلين وا محمداه صلى الله عليه وآله وسلم فتشملهم بعد ذلك الرحمة).

إننا نظن أن حادثة الموت وسكراته، تضاهي حوادث هذا العالم. عزيزي إنك عندما تعاني من مرض بسيط، تنسى كل علومك وثـقافاتك، فكيف بك عندما تواجه الصعاب والضغوط والمصائب والأهوال التي ترافق الموت وسكراته؟ إذا تصادق الإنسان مع الحق سبحانه، وعمل حسب متطلبات الصداقة، وتذكّر الحبيب وتبعه، كانت تلك الصداقة مع الولي المطلق، و الحبيب المطلق الذي هو الحق المتعالي محبوبةً لديه سبحانه، وملحوظة عنده تعالى. ولكنه إذا ادعى المودة ولم يعمل حسب مقتضاها بل خالفه، فمن الممكن أن الإنسان يتخلى عن تلك الصداقة مع الولي المطلق قبل رحيله من هذه الدنيا نتيجة التغييرات و التبدلات والأحداث المتقلبة في هذا في هذا العالم. بل و العياذ بالله قد يصير عدواً له سبحانه وتعالى. كما أننا شاهدنا أشخاصاً كانوا يدعون المودة و الصداقة وبعد العِشرة اللامسؤولة، و الأعمال البشعة تحوّلوا إلى أعداء وخصماء لله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السّلام. وإذا فرضنا أن هؤلاء رحلوا من هذا العالم على حب محمد وآله ، فهم على حسب الروايات الشريفة و الآيات المباركة من أهل النجاة يوم القيامة ومصيرهم السعادة، ولكنهم يكونون في معاناة لدى البرزخ

[ 512 ]

وأهوال الموت وعند لحشر ففي الحديث(إِنَّنا شُفَعاؤُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلكِنْ تَزَودُّوا لَبرْزَخِكُم)(1).

أعوذ بالله من عذاب القبر وضغطه وشدة البرزخ وعذابه، حيث لا يشابهه شيء في هذا العالم. إن الكوّة التي تفتح من جهنم على القبر، لو انفتحت على هذا العالم لهلكت كافة الموجودات. نعوذ بالله منه.

فصل

في بيان الخوف من الحق المتعالي

إعلم أن الخوف من الحق جل و علا من المنازل التي قلّما نستطيع أن نجد للعوام من الناس منزلة وفضيلة في مستوى منزلة الخوف من الحق سبحانه. وهذا الخوف مضافاً إلى أنه يكون من الكمالات المعنوية، يعتبر منشأً لكثير من الفضائل النفسية، وعاملاً هامّاً لإصلاح النفس، بل مصدر جميع الإصلاحات للنفس، ومبدأ لعلاج جميع الأمراض الروحية. ويجب على الإنسان المؤمن بالله، السالك والمهاجر إلى الله، أن يهتم كثيراً بهذه المنزلة، وأن يُقبل بوجهه أكثر فأكثر على ما يبعث الخشية من الله في القلب، ويعمّق جذوره فيه، مثل التفكر في العذاب والعقاب وشدّة أهوال الموت وبعد الموت من عالم البرزخ و القيامة، والصراط والميزان والحساب و ألوان عذاب جهنم، ومثل التذكر لعظمة الحق المتعالي وجلاله وقهره وسلطانه ومكره وسوء العاقبة و أمثال ذلك.

وحيث أننا عرضنا شرحاً مختصراً لكل هذه المراحل في هذا الكتاب، اقتصرنا هنا على ذكر بعض الأحاديث في فضيلة الخوف من الله تعالى.

محمـَّدُ بنُ يعقوبَ بإسناده عن إسحاق بنِ عمّارٍ قالَ: قالَ أبو عبد الله عليه السّلام:"يا إسْحاقُ، خَفِ اللهَ كَأّنَّكَ تَراهُ، وإِنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يَرَاكَ فَقَدْ كَفَرْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَراكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَهُ بِالمَعْصِيةِ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهوَنِ النَّاظِرينَ عَلَيْكَ"(2).

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة المجلد الرابع ص 688.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، ح 2.

[ 513 ]

واعلم أنه إذا عرف شخص كيفية تجلي الحق في المُلك والملكوت، وظهور الذات المقدس في السموات والأرضين، بواسطة المشاهدة الحضورية، أو المكاشفة القلبية، أو الإيمان الحقيقي وإذا أدرك كيفية ارتباط الحق بالخلق، والخلق بالحق على ما هي عليها، وكيفية ظهور المشيئة الإلهية في الكائنات الموجودة، وفناء هذه الموجودات في تلك الإرادة على ما هي عليها، لعرف بأن الحق المتعالي حاضر في كل مكان وحيّز ولشاهده بالعلم الحضوري في جميع الموجودات، كما يقول الإمام الصادق المصدَّق عليه السّلام "مـَا رَأَيْتُ شَيْئاً إلاّ وَرَأَيْتَ اللهَ مَعَهُ أَوْ فِيه وتنكشف عليه حقيقة كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ المتوخاة من التقريب بالنوافل. فيرى الحق حاضراً في جميع مراتب الوجود، حسب مرتبته ومقامه إما علماً أو إيماناً أو عيناً وشهوداً. ومن المعلوم، أن السالك في أي مقام كان، يراعي حضور الحق، ويمتنع عن مخالفة ذاته المقدس، لأن مراعاة الحضور والمحضر من الأمور الفطرية التي جبل عليها الإنسان، فإنه مهما كان مستهتراً ومن دون حياء، فرّق بين حضور الطرف الآخر وغيابه، خاصة إذا كان حضوراً للمنعم العظيم الكامل، لأن فطرة الإنسان تراعي حضور كل شيء بصورة مستقلة.

في بيان اختلاف الناس في مراعاة حضور الحق عز وجل

ولا بد من معرفة أن كل واحد من أهل الإيمان والسلوك والعرفان والولاية، يراعون حضور الحق سبحانه وحضرته حسب مرتبتهم التي تخصّهم، فإن المؤمنين والمتقين يراعون حضوره جلّ وعلا بامتثال الأوامر وترك النواهي. والمجذوبين بعدم الالتفات إلى الغير، والانقطاع التام الكامل عن غيره. والأولياء الكمّلين بنفي الغير وإزهاق الأنانية. وملخص الكلام أن من المقامات الشامخة لأهل المعرفة وأصحاب القلوب، مشاهدة حضور الحق المتعالي ومراعاة حضرته. كما أنّه لدى مشاهدتهم كيفية العلم الفعلي للحق سبحانه، وفناء الأشياء فيه تعالى، وحضور الموجودات لدى ساحة قدسه، ومعرفتهم بأن هذا العالم في محضر الرب المتعالي، يراعون محضره، كل حسب مقامه الذي يحظي فيه. وهذا أيضاً من الأمور الفطرية.

[ 514 ]

وأشار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المقام الأول ـ مشاهدة حضور الحق سبحانه ـ في وصيته لأمير المؤمنين عليه السّلام، هذه الوصية التي نحن بصدد شرحها. كما أشير إليه في الحديث الشريف لأسحاق بن عمار بقوله عليه السّلام " وَالثّالِثَةُ: الخَوْفُ مِنَ اللهِ عَزَّ ذِكْرُهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ .

وأشار الإمام الصادق عليه السّلام إلى المقام الثاني ـ مشاهدة كيفية العلم الفعلي سبحانه وتعالى ـ بقوله وَإِنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ . وإلى فطرية رعاية محضره سبحانه، بقوله وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاكَ.

إن للخوف مراتب حسب اختلاف مراتب أهل الإيمان والسلوك وذوي الترويض للنفس وأرباب العرفان، ويعتبر من المراتب العظيمة للخوف، الخشية من عظمة الحق وتجلّياته القهرية والجلالية. ومن الممكن أن لا نجعل هذا المقام من مراتب الخوف، كما يقول العارف المعروف في كتاب(منازل السائرين) وَلَيْسَ فِي مَقَامِ أَهْلِ الخُصوصِ وَحْشَةُ الخَوْفِ إِلاّ هَيْبَةُ الإِجْلاَلِ .

في فضل البكاء

إن للبكاء من خشية الله سبحانه فضلاً كبيراً، كما ورد في هذا الحديث (يُبْنَى لَكَ بِكُلِّ دَمْعَة ألْفَ بَيْتٍ فِي الجَنِّة).

روى الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين رضوان الله عليه بسنده المتصل إلى الإمام الصادق عليه السّلام عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي قالَ: وَمَنْ ذَرُفَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ دُمُوعِهِ قَصْرٌ فِي الجنَّةِ مُكَلَّلٌ بِالدُّرِ والجَوْهَرِ، فِيهِ مَا لاَ عَيْنٌ رَأت وَلاَ أُذْنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ(1).

وعن ثواب الأعمال بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قالَ: قالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لَيْسَ شَيْءٌ إلاّ وَلَهُ شَيْءٌ يَعْدِلُهُ إِلاّ اللهُ فَإِنَّهُ لاَ يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، وَلاَ إِلهَ

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 11، الباب 15، من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ح 1، ص 175.

[ 515 ]

إِلاَّ الله لاَ يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، وَدَمْعَةٌ مِنْ خَوْفِ اللهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِثْقَالٌ، فَإِنْ سَالَتْ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يَرْهَقْهُ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ بَعْدَهَا أَبَداً (1).

وفي عيون الأخبار عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السلام قال: قـَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلام أنَّ الرَّجُلَ لَيَكُون بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا بَيْنَ الثَّرى وَالْعَرشِ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ فَمَا هُوَ إلاَّ أَنْ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وجلَّ نَدَماً عَلَيْهَا حَتَّى يَصِيرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَقْرَبُ مِنْ جِفْنِه إلى مُقْلَتِهِ"(2).

وفي الكافي وعن أبي عبد الله عليه السّلام قال: (مـَا مـِنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَلَهُ كَيْلٌ وَوَزْنٌ إِلاَّ الدُّمُوعَ فَإِنَّ القَطْرَة تُطْفِي بِحَاراً مِنْ نَارٍ وَلَوْ أَنِّ بَاكِياً بَكَى فِي أُمَّةٍ لَرُحِمُوا)(3).

وهناك أحاديث كثيرة بهذا المضمون مأثورة عن المعصومين عليهم السلام.

في بيان وتوجيه المكافأة العظيمة على الأعمال البسيطة

يجب أن نشير إلى أن بعض أصحاب النفوس الضعيفة، غير المطمئنة تعترض على ما ورد في الأحاديث الشريفة من المكافأة العظيمة يوم القيامة على أمور جزئية بسيطة، في حين أننا غافلون عن أن شيئاً إذا كان عندنا تافهاً وبسيطاً لما كان دليلاً على أن صورته الغيبية الملكوتية أيضاً بسيطة وتافهة؛ إذ من الممكن أن يكون شيئاً متواضعاً ولكن باطنه وملكوته في منتهى الجلال والعظمة. فإن الهيكل المقدس لرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والشكل الخارجي لجسم الرسول الأكرم المعظم صلّى الله عليه وآله وسلم، من الكائنات الصغيرة في هذا العالم، ولكن روحه المقدسة كانت تحيط بالمُلك والملكوت، وكان صلّى الله عليه وآله وسلم واسطة لإيجاد السماوات و الأرضين، فالحكم على صغر الصورة الباطينة الملكوتية لشيء، يتفرّع على العلم بعالم الملكوت، وبواطن الأشياء، ولا يحقّ لأمثالنا إصدار مثل هذا الحكم. ولا بد لنا من الانتباه لكلمات علماء عالم الآخرة أي الأنبياء والأولياء عليهم السّلام والإذعان لما يقولون.

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 4، ص 588.

(2) وسائل الشيعة، المجلد 11، الباب 15، من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ح 10، ص 178.

(3) وسائل الشيعة، المجلد 11، الباب 15، من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ح 11، ص 178.

[ 516 ]

ثم إن ذلك العالم قائم على التفضّل وبسط رحمة الحق اللامتناهية، ومن المعلوم أنه لا حدود لتفضّل الحق المتعالي أنه لمن منتهى الجهل استبعاد تفضّل ذي الجود المطلق، وذي الرحمة اللامحدودة.

إن النعم التي منحها سبحانه لعباده والتي تبعث على عجز العقول عن إحصاء مفرداتها بل علي العجز عن إحصاء كلياتها، هذه النعم كانت من دون طلب واستحقاق، فما هو المانع، أن يتلطف الحق سبحانه على عباده، انطلاقاً من تفضّله البحت ومن دون أيّ سبب، أضعافاً مضاعفة من الأجر والمثوبة؟ وهل نستطيع أن نستبعد المكافأة العالية والكثيرة في عالَمٍ قد قيل فيه (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ )(1). موضوع تحت تصرّف إرادة الإنسان رغم عدم وجود حدّ محدود لمشتهيات الإنسان؟ إن الله سبحانه قد خلق عالم الآخرة وخلق إرادة الإنسان بصورة لو أراد الإنسان شيئاً لتحقق ذلك الشيء بنفس إرادته. فلا استبعاد لمكافأة كثيرة وكبيرة في ذلك العالم على أعمال بسيطة وجزئية.

عزيزي إن الأخبار والأحاديث الشريفة التي تتحدث عن مثل هذه المثوبات الكثيرة لا تتحدّد بالواحد والاثنين والعشرة حتى نستطيع أن نناقش فيها، وإنما هي فوق حدّ التواتر فإن جميع الكتب المعتبرة المعتمدة مشحونة بأمثال هذه الأحاديث، وتكون هذه الأخبار الكثيرة بمثابة ما إذا كنا قد سمعنا الحديث بآذاننا من المعصومين عليهم السّلام، ومن دون حاجة إلى التأويل والتفسير. إذن إنكار موضوع ـ المكافأة الكثيرة على العمل البسيط ـ الموافقة للنصوص المتواترة، والتي لا تصطدم أيضاً مع البراهين بل تتطابق مع سلسلة من الأدلة، إنكار ذلك يكون من جرّاء ضعف في الإيمان ومنتهى الجهالة.

يجب على الإنسان أن يكون مستسلماً لأقوال الأنبياء والأولياء عليهم السّلام ولا يوجد شيء في سبيل تكامل الإنسان، أفضل من التسليم والطاعة أمام أولياء الحق. وخاصة في الأمور التي لا مجال للعقل في التّطرق إليها ولا يوجد سبيل لإدراكها واستيعابها إلا بواسطة الوحي والرسالة. ولو أراد الإنسان أن يتطرق بعقله

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 11، الباب 15، من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ح 11، ص 178.

[ 517 ]

الصغير وأوهامه وظنونه، إلى الأمور الغيبية الأخروية، والتعبدية الشرعية، لانتهى أمره إلى إنكار الضروريّات والمسلّمات، لأنه ينجرّ من القليل إلى الكثير رويداً رويداً، ومن البسيط إلى الأعلى حتى يفضي به الأمر إلى جحود الأوليات البديهية من الدين.

لو فرضنا أن الإنسان ناقش في الأخبار وسندها ـ رغم أنه لا مجال لمثل هذه المناقشة ـ لما استطاع أن يناقش في الكتاب الكريم والقرآن السماوي المجيد حيث نجد فيه أيضاً ذكراً لأمثال هذه المثوبات، مثل قوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ )(1). وقوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)(2).

بل وحسب زعم الكاتب أن من عوامل هذا الرفض والاستبعاد للمكافأة الكبيرة على العمل الصغير، العُجب واستعظام العمل: مثلاً إذا صام شخص يوماً واحداً، أو أحيا ليلة واحدة بالعبادة، فلا يستكثر الثواب الكثير إذا سمع بأن جزاءه ثواب عظيم، ولكنه إذا عرف بأنّ هذا الثواب ثمن عمله استبعد عظمة الأجر والثواب، وبعد أن استعظم عمله ويُعجب به، يتلاشى الاستبعاد ويُصدّق الثواب العظيم ويؤمن به.

عزيزي إذا فرضنا بأننا كنا طيلة حياتنا التي نعيشها خمسين أو ستين عاماً، من الملتزمين لكل الوظائف الشرعية، ثم ارتحلنا من هذه الدنيا مع إيمان صحيح وعمل صالح وتوبة مقبولة فماذا نستحق من الجزاء لهذا القدر من الإيمان والعمل؟ مع أنّ هذا الإنسان حسب القرآن الكريم والسنة النبوية واتفاق جميع الأمم، تشمله رحمة الحق سبحانه، وتدخله الجنة الموعودة، هذه الجنة التي يخلّد الإنسان في نعمها ورفاهها، ويعيش إلى الأبد في الرحمة والروح والريحان، ولا مجال لإنكار ذلك أبداً، مع أنه إذا أردنا أن نقارن الجزاء بالعمل ـ على فرض أن يكون لعملنا مكافأة ـ لما استحق هذا القدر من الجزاء الذي يعجز العقل عن تصور كميته وكيفيته.

ـــــــــــــــ

(1) سورة القدر، آية: 3.

(2) سورة البقرة، آية: 261.

[ 518 ]

فيظهر أن القضية لا ترتبط بمقارنة المكافأة مع العمل، بل تكون منوطة بشيء آخر ـ الرحمة الواسعة الإلهية ـ وعليه لا يبقى مجال لاستبعاد هذه المكافأة العظيمة على عمل صغير ورفضها.

فصل

في بيان عدد النوافل

إن مقصود رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من قوله (أمَّا الصــَّلاةُ فالْخَمْسُونَ رَكْعَة) الموافق لسنته (الآخـِذُ بِسُنَتِي فِي صـَلاَتِي)، هو الصلوات من فرائضها ونوافلها عدا ركعتين بعد صلاة العشاء تؤديان من جلوس وتعدّان ركعة واحدة، حيث يكون مجموع عدد الركعات مع هاتين الركعتين من جلوس إحدى وخمسين ركعة. ولعل تجاهل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لذكر هذه الركعة لأجل أن خمسين ركعة هذه، مستحب مؤكد. كما تدلّ على ذلك رواية ابن أبي عمير قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام عَنْ أَفْضَلِ مَا جَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ: تَمَامُ الخَمْسِينَ"(1).

ويستفاد من بعض الروايات أنه قد جرت سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على أداء الخمسين ركعة هذه. مع أن هناك روايات أخرى تدل على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد كان يأتي بالعَتَمة ـ الركعتان من جلوس بعد صلاة العشاء ـ ولعلّ عدم ذكرها ضمن النوافل، وجعل السنّة خمسين ركعة، لأجل أن العتمة بديل عن صلاة الوتر من دون أن تكون لها استقلالية، كما تدل على ذلك رواية فضيل بن يسار، وتسمى في الرواية الشريفة بالوتر. وفي بعض الروايات أنه من صلى العتمة ومات كان من الذين ماتوا وقد أقاموا صلاة الوتر. ففي الحقيقة أن صلاة العتمة هي صلاة الوتر التي لا بد أن نؤديها فبل وقتها خشية موتنا تلك الليلة، فعندما يحلّ وقتها لا تكون تلك العتمة مُجزية عنها. وفي بعض الروايات أن العَتَمَة لم تكن من نوافل الصلوات اليومية، وإنما أضيفت حتى تكون النوافل ضعف الفرائض.

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب 13، من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح5 ص 32.

[ 519 ]

وملخص الحديث أنه لا تهاتف بين هذه الروايات، فإنه من الممكن أن تكون خمسون ركعة من أفضل السُّنن، وهاتان الركعتان من جلوس ـ العتمة ـ مستحبتان غير مؤكدتين، وإنما شرعتا لتتميم عدد الضعف، وللاحتياط في الإتيان بالعتمة قبل مفاجأته الموت بالليل قبل أن يأتي بصلاة الوتر.

وعلى أي حال هناك فضل كبير للنوافل اليومية، بل اعتبر في بعض الروايات أنّ من المعاصي ترك النافلة وفي بعض آخر أن الله سبحانه سيعذّب الإنسان على ترك السنّة. وفي بعضها تصريح بوجوب النوافل. ويكون هذا التعبير لأجل التأكيد على الإتيان بها والردع عن تركها. وينبغي على الإنسان مهما أمكن أن لا يتركها، لأن الهدف المنشود من ورائها حسب الروايات المذكورة إتمام الفرائض وقبولها. ففي بعض الأحاديث قال الصادق عليه السلام (شـِيعـَتنا أَصْحَابُ الإحْدى وَخَمْسِينَ رَكْعَة) (1) ويظهر من هذا الحديث أن الشيعة هم الذين يأتون بالإحدى وخمسين ركعة، ولم يتقصروا على الاعتقاد بها فحسب من دون أن ينجزوها. ويقابلهم أهل السنة. ويظهر ذلك من حديث علامات المؤمن عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام قَالَ: عَلاَمَاتُ الْمُؤْمِنْ خَمْس، وَعدَّ مِنها صَلاة الإحْدى وَخَمْسِين(2).

في بيان استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر

وأما السُّنة الثانية للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم فهي الصيام ثلاثة أيام في الشهر. وقد ورد في فضل ذلك ما يتجاوز أربعين رواية. وحصل خلاف لدى العلماء الإعلام حول كيفية ذلك. والذي يشتهر بينهم ويتطابق مع الأحاديث الكثيرة، وعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في نهاية عمره الشريف، وعمل أئمة الهدى، هو صوم ثلاثة أيام في الشهر الواحد هي: أول خميس من الشهر، وهو يوم عرض الأعمال. والأربعاء الأول من العشرة الثانية وهو يوم نحس مستمر، ويوم نزول العذاب. والخميس الأخير من الشهر الذي هو يوم عرض

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ص 41.

(2) وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ص 42.

الأعمال أيضاً. وفي الرواية عن أبي عبد الله عليه السّلام ... لأَنَّ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الأُمَم كَانُوا إِذَا نَزَلَ عَلَى أَحَدِهِم الْعَذَابَ، نَزَلَ فِي هذِهِ الأَيَّامِ فَصَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلم هذِهِ الأَيَّامَ لأَنَّهَا الأَيَّامَ الْمَخَوفَةِ)(1). وفي صدر هذا الحديث (وَقَالَ لِيَعْدِلَنَّ ـ صيام ثلاثة أيام في الشهر ـ صَوْمُ الدَّهْرِ). وعلّل في بعض الروايات بالآية الكريمة (مـَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا)(2).

وأما الروايات التي تخالف الأحاديث المذكورة من جهة تعيين أيام الصيام الثلاثة، فهي محمولة على مراتب الفضل. وإذا افترضنا التهافت والتعارض بين هاتين المجموعتين من الأخبار، كان الترجيح من جهات شتّى للروايات التي منها الحديث الشريف. بل نستطيع أن نقول بأنه من التعارض بين النصّ والظاهر أو بين الأظهر والظاهر، والمجموعة التي فيها الحديث المذكور نصّ وأظهر فتتقدم على المجموعة التي تقابلها وتعارضها.

وأما مرسلة الصدوق التي تقول (وَرُوِيَ عَنِ العَالَمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ خَمِيسَيْنِ يَتَّفِقَانِ فِي آخر الْعَشْرِ، فَقَالَ صُمْ الأَوَّلَ لاَ تَلْحَقَ الثَّانِيَ)(3). فلا تتنافى مع هذه الأخبار، لأن ظاهرها البلوغ إلى الثواب العاجل، إذ من المحتمل أن لا يتوفق الإنسان إلى الصيام في الخميس الثاني بسبب مفاجأته الموت. كما ورد نفس هذا المضمون في تعليل صلاة العَتَمَة. فهذه الرواية ـ مرسلة الصدوق ـ بنفسها تدل على المقصود، من أفضلية الصوم في الخميس الأخير من الشهر، ولا تمتّ إلى الأخبار المعارضة بصلة. والظاهر أن الإنسان إذا صام الخميس الأول من الشهر، وبقي على قيد الحياة حتى حلول الخميس الأخير من الشهر، فالأفضل صومه أيضاً، لنيل ثوابه، إذ أن الصوم في الخميس الأول لا يغني عنه. وما ذكره المحقق الجليل فيض الكاشاني والمحدّث العالي الشأن صاحب الحدائق عليهما الرحمة للجمع بين هاتين المجموعتين من الأحاديث فبعيد، وخاصّة كلام صاحب الحدائق رضوان الله تعالى عليه.

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 7، الباب 7 من أبواب الصوم المندوب، ح 1

(2) وسائل الشيعة، المجلد 7، الباب 7 من أبواب الصوم المندوب، ح 8.

(3) وسائل الشيعة، المجلد 7، الباب 7 من أبواب الصوم المندوب، ح4.

[ 521 ]

في بيان أفضلية الصدقة

وأما السُّنة الثالثة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فهي عبارة عن: (أَمَّا الصَّدَقَةَ فَجُهدُكَ حَتَّى تَقُولَ قَدْ أَسْرَفْتُ وَلَمْ تُسْرِف) وهي من المستحبات، التي قل أن يبلغ مثوبتها في الأجر والثواب، عمل آخر. والأخبار في التصدق حتى على من لا يوافقنا في الدين، وعلى الحيوانات البرية والبحرية، أكثر مما يتناسب مع حجم هذا الكتاب. ونحن نكتفي بذكر بعضها:

محمَّد بن يعقوب بإسناده عن عبد الله بن سنان في حديث قالَ: قَالَ أبو عبد الله عليه السّلام: لَيْسَ شَيْءٌ أَثْقَلَ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى المُؤْمِنِ، وَهِيَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ العَبْدِ (1).

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث قالَ: إنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئاً إلاّ وَلَهُ خَازِنٌ يَخْزُنُهُ إلاَّ الصَّدَقَةَ فَإِنَّ الرَّبَّ يَلِيهَا بِنَفْسِهِ؛ وَكَانَ أَبِي إِذَا تصدق بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتده منه فقبله وشمه ثم رده في يد السائل(1).

وهناك أحاديث أخرى قريبة من مضمون هذا الحديث، دالّة على عظمة شأن الصدقة وجلالة قدرها، حيث إن الله سبحانه لم يخوّل أمرها إلى شخص آخر، وإنما تولى هو بنفسه مع يد قدرته وإحاطته القيّومية، المحافظة على صورة الصدقة الغيبية الكاملة.

ثم إن التدبر في هذا الحديث الشريف وأمثاله المذكورة في الأبواب المختلفة من كتب الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين، يبعث على استكشاف التوحيد الفعلي للحق سبحانه، والتجلّي القيوميّ لدى أهل المعرفة وأصحاب القلوب ـ العرفاء ـ ويشير إلى نكتة مهمة، يجب على من يؤدي هذا الأمر المهم ـ التصدّق ـ الالتـفات إليها، وهي:

إن الإنسان عندما يتصدق بيده إذا منّ على الفقير أو أساء إليه والعياذ بالله، كانت منّته وإساءته أولاً إلى الله تعالى وثانياً إلى الفقير. كما أنه إذا خشع وتواضع وأبدى منتهى الذل والمسكنة لدى تقديم الصدقة إلى السائل المؤمن، كان خضوعه

ـــــــــــــــ

(1) فروع الكافي، المجلد، ص9.

[ 522 ]

وذله وخشوعه لله أولاً ثم للفقير المؤمن ثانياً. كما رأينا بأن عالم آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وعاشق جمال الحق المتعالي، الإمام باقر العلوم عليه السّلام (إِذَا تَصَدَّقَ بِشيءٍ وَضَعَهُ فِي يَدِ السّائِلِ ثُمَّ ارتَدَّه مِنْهُ فَقَبَّلَه وَشَمَّهُ ثُمَّ رَدّهُ فِي يَدِ السّائِلِ).

والله سبحانه وتعالى يعلم بأن مثل هذه المغازلة مع المعشوق جل وعلا إلى أي حدّ كانت تبعث على قرار نفس العاشق المجذوب، وراحة أعماق الإمام المقدسة وكانت تسبّب إخماد ذلك اللهب والضرام المتأجج في صدره صلوات الله وسلامه عليه.

ومن المؤسف جداً آلاف المرات أني قدمت إلى هذا العالم وأنا مستغرق في بحار هوى النفس، وملتصق بالأرض المادية، ومقيّد بالشهوات وأسير للبطن والفرج، وغافل عن عالم مُلك الوجود، وسكران بسكر الأنانية والذاتية، من المؤسف إني سأفارق هذا العالم، ولم أدرك شيئاً من محبّة الأولياء، ولم أفهم شيئاً أبداً من جذباتهم وجذواتهم ومنازلهم ومغازلتهم، بل كان حضوري في هذا العالم حضوراً حيوانياً، وحركاتي حركات حيوانيةً وشيطانيةً. وعليه فسيكون موتي أيضاً حيوانياً وشيطانياً. اللهم إليك المشتكى وعليك المعول.

إلهي: أنقذنا بنور هدايتك، وأيقظنا من هذا النوم العميق، وخذ بأيدينا إلى عالم الغيب والنور ودار البهجة والسرور، ومحفل الإنس، والخلوة الخاصة بك.

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السـّلام قالَ: قالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: "أرْضُ الْقِيِامَةِ نَارٌ مَا خَلاَ ظِلَّ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ صَدَقَتَهُ تُظِلُّهُ"(1) وفي الرواية عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى " أَنَا خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَلْتُ بِالأَشْيَاءِ غَيْرِي إِلاّ الصَّدَقَةَ فَإِنِّي أَقْبضُهَا بِيَدِي، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ يَتَصَدَّقَ بِشِقَّةِ التَمْرَة فَأُرَّبِّيها لَهُ كَمَا يُرَبِّي الرَجُلُ مِنْكُمْ فَصِيلَةُ وَفِلْوَهُ حَتَّى أَتْرُكَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ أُحدٍ (2).وروايات كثيرة من هذا القبيل.

ـــــــــــــــ

(1) فروع الكافي، المجلد 4، ص3.

(2) البحار المجلد 96، باب فضل الصدقة وانواعها وآدابها، ح 44، ص 127.

[ 523 ]

وورد في أحاديث كثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(الـْصـَدَقَةُ تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ)(1) وعن أبي الحسن عليه السـّلام(قَالَ:إسْتَنْزِلُوا الْرِزْقَ بِالصَّدَقَةِ)(2) وعن أبي عبدالله عليه السلام (قَالَ: حُسْنُ الصـَّدَقَةِ يَقْضِي الدَيْنَ)(3) وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم (قَالَ الْبِرُّ وَالْصَدَقَةُ يَنْفِيَانِ الفَقْرَ، وَيَزِيدَانِ فِي العُمْرِ، وَيَدْفَعَانِ سَبْعِينَ مِيتَةَ سُوءٍ)(4) وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنَّ الصَّدقةَ وصلة الرَّحمِ تُعَمِّرانِ الدِّيار وتَزيدانِ في الأَعْمارِ"(5) وعن أبي جعفر عليه السـّلام(إِنَّهُ قَالَ الْصَدَقَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ، جُزْءِ الصَّدَقَةِ فِيهِ بِعَشْرَة وَهيَ الصَّدَقَةُ عَلَى العَامَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَجُزْءُ الصَّدَقَةِ فِيهِ بِسَبْعِينَ وَهِيَ الصَدَقَةُ عَلَى ذَوِي العَاهَاتِ، وَجُزْءُ الصَّدَقَةِ فِيهِ بِسَبْعَمَائَةِ وَهِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى ذَوِي الأَرْحَامِ، وَجُزْءُ الْصَدَقَةِ بِسَبْعَةِ آلافٍ وَهِيَ الْصَدَقَةُ عَلَى العُلَمَاءِ وَجُزْءُ الصَّدَقَةِ بِسَبْعِينَ أَلْفاً وَهِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَوتى)(6) وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ الصَّدَقَة لاَ تَزِيدُ المَالَ إِلاَّ كَثْرَةً)(7). عن أبي عبد الله عليه السّلام أنه قال(إِرْغَبُوا فِي الصَّدَقَةِ وَبَكِّرُوا بِهَا، فَمَا مِنْ مُؤْمِن يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ حِينَ يُصْبحُ يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللهِ، إِلاَّ دَفَعَ اللهُ بِهَا عَنْهُ شَرَّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فِي ذلِكَ الْيَوْم أَوْ قَالَ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فِي ذلِكَ الْيَومِ)(8) وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ نَحْسُ لَيْلَتِهِ فَلْيَفْتَتِح لَيْلَتهُ بِصَدَقَةٍ، يَدْفَعُ الله عَنْهُ نَحْسَ لَيْلَتِهِ)(9) وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(إِنَّ اللهَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَدْفَعُ بِالصَّدَقَةِ الدَّاءَ و...)(10) وعن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السـّلام قال: لأَنْ أَحُجَّ حِجَّةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ رَقَبَةً وَرَقَبةً حَتَّى انْتَهى إِلى عَشْر وَمِثْلَهَا وَمِثْلَهَا حَتَّى انْتَهى إِلَى سَبْعِينَ وَلأَنْ أَعْدَل أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أَشْبعُ جُوعَتَهُم وَأَكْسُو عَوْرَتُهُمْ وَأَكُفُّ وُجُوهَهُمْ عَنِ النَّاسِ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَحُجَّ حِجَّةً وَحِجَّةً حَتَّى انْتَهى

ـــــــــــــــ

(1) و(2) فروع الكافي، المجلد 4، ص 2، ح1 و ص 10 ح 4.

(3) فروع الكافي، المجلد 4، ص 10 ح 5.

(4) البحار، المجلد 96، باب فضل الصدقة وأنواعها، ح 55، ص 130.

(5) البحار، المجلد 96، باب فضل الصد قه وأنواعها، ح17ص119.

(6) مستدرك وسائل الشيعة، المجلد 7، الباب 18 من أبواب الصدقة، ح 10 ص 196

(7) مستدرك وسائل الشيعة، المجلد 7، الباب 7 من أبواب الصدقة، ح1 ص 160

(8) مستدرك وسائل الشيعة، المجلد 7، الباب 7 من أبواب الصدقة، ح1 ص 170

(9) و(10) فروع الكافي، المجلد 4 ص 5 ـ 7.

[ 524 ]

إِلَى عَشْرٍ وَعَشْرٍ وَمِثْلَهَا وَمِثْلَهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعِين.(1).

مع أنه قد ورد في عتق الرقاب عن أبي جعفر عليه السلام انه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلم مَنْ أَعْتَقَ مُسْلِماً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عِضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنَ النَّار(2). وعن أبي عبد الله عليه السّلام أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السّلام أَعْتَقَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ كَدَّيدَهِ(3) وغير ذلك من الروايات التي يبعث عرضها على إطالة لا موجب لها.

(في بيان أمر دقيق آخر)

ونحن ننهي هذا الموضوع بذكر أمر دقيق لا بد من معرفته وهو أنه قد ورد في الآية الشريفة قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(4).

وفي الحديث عن الحسين بن علي والصادق صلوات الله عليهما أَنَّهُمَا كَانَا يَتَصَدَّقَانِ بِالسُكَّرِ وَيَقُولانِ إِنَّهُ أَحبُّ الأَشْيَاءِ إِلَيْنَا وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(5).

وفي الحديث عن أبي الطفيل قالَ: اشـْتـَرى عـَلـِيٌّ عَلَيْهِ السَّلام ثَوْباً فَأَعْجَبَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَآلِهِ وَسَلم يَقُولُ: مَنْ آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ آثَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ بِالجَنَّةِ وَمَنْ أَحَبَ شَيْئاً فَجَعَلَهُ لِلَّهِ قَالَ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ قَدْ كَانَ العِبَادُ يُكَافِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ وَأَنَا أُكَافِيكَ الْيَومَ بِالْجَنَّةِ)(6).

وروى أن أبا طلحة وهو من الأصحاب قسّم حائطاً ـ بستاناً ـ له في أقاربه عند نزول هذه الآية وكان أحب أمواله إليه فقال له رسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (بـَخٍّ بَخٍّ ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ لَكَ)(7).

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 6، الباب 2 من أبواب الصدقة، ح1 ص 260.

(2) و(3) وسائل الشيعة، المجلد 16، الباب 1 من أبواب استحباب أخبار عتق العبد ، ح 7 و 6ص 4.

(4) سورة آل عمران، آية: 92.

(5) و(6) مجمع البيان، المجلد الثاني، ص 472، طباعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.

(7) تفسير الصافي، المجلد الأول، ص 329 طباعة الأعلمي ـ بيروت.

[ 525 ]

عَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلام(إلى أن قال) فَقَالَ إِنَّ الْحَسَنَ بنَ عَلِي عَلَيْهِ السَّلامَ قَاسَمَ رَبَّهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى نَعْلاً وَعْلاً وَثَوْباً وَدِينَاراً وَدِيناراً)(1).

وفي حديث آخر عن ابن أبي نصر، قَالَ قَرَأَتُ فِي كتاب الحسن عليه السّلام إلى أبي جعفر يَا أَبَا جَعْفَرٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْمَوالِي إِذَا رَكِبْتَ أَخْرَجُوكَ مِنَ البَابِ الصَّغِيرِ وَإِنَّمَا ذلِكَ مِنْ بُخْلٍ بِهِمْ لِئَلاَّ يَنَالَ مِنْكَ أَحَدَاً خَيْراً، وَأَسَأَلُكَ بِحَقِي عَلَيْكَ لاَ يَكُنْ مَدْخَلُكَ وَمَخْرَجُكَ إِلاَّ مِنَ الْبَابِ الكَبِيرِ فَإِذَا رَكِبْتَ فَلْيَكُنْ مَعَكَ ذَهَبٌ وَفِضَّةُ ثُمَّ لاَ يَسْأَلُكَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَيْتَهُ وَمَنْ سَأَلَكَ مِنْ عُمُومَتِكَ أَنْ تُبرَّهُ فَلاَ تُعْطِهِ اقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ دِينَاراً وَالكَثيِرُ إِلَيْكَ إِنِّي إنِّما أُرِيدُ بِذلِكَ أَنْ يَرْفَعَكَ اللَّهُ فَأَنْفِقْ وَلاَ تَخْشَى مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْتَاراً(2).

ولا تتهافت هذه الروايات المذكورة مع الأحاديث التالية التي تقول (سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِاللَّهِ عليه السّلام عن قول الله عز وجل (وَأَتُوا حَقَّه يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) فَقَالَ كَانَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ الأَنْصَارِي سَمَّاهُ وَكَانَ لَهُ حَرْثٌ فَكَانَ إِذَا حَلَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيَبْقَى هُوَ وَعَيَالُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذلِكَ سَرَفاً)(3).

وعن أبي عبداللّه عليه السّلام ـ إلى أن يقول ـ فَيَكُونُ مِنَ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ يُرَدُّ دُعاؤهُمْ قُلْتُ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أَحَدُهُمْ رَجُلٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَنْفَقَهُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ أُرْزُقْنِي فَيـُقَالُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَبِيلاً إِلَى طَلَبِ الْرزْقِ)(4).

وعن أبي عبداللّه عليه السّلام (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الصدقة صدقة تكون عن فضل الكف)(5). ووجه عدم التهافت هو أن الإكثار في التصق قد لا يبلغ مرحلة التضييق على الأهل والعيال. إذ ربما اشاص يتصدقون بنصف أموالهم أو أكثر مع المحافظة على كفا أهلهم، وعدم دفعهم نحو الضيق والعسر.

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد 6، الباب 43 من أبواب الصدقة، ح 1، ص 326.

(2) وسائل الشيعة، المجلد 6، الباب 43 من أبواب الصدقة، ح 1، ص 324.

(3) وسائل الشيعة، المجلد 6، الباب 42 من أبواب الصدقة، ح 3 و 1 و4 ص 322.

(4) و(5) وسائل الشيعة، المجلد 6، الباب 42 من أبواب الصدقة، ح 3 و 1 و 4 ص 322.

[ 526 ]

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست