.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الباب الأول: في الطهارة والوضوء وآدابهما

الفصل الأول: في التطهيرات الثلاثة

الفصل الثاني: في الإشارة إلى مراتب الطهور

الفصل الثالث: في الآداب القلبية للسالك حينما يتوجه إلى الماء للطهارة

الفصل الرابع: في الطهور وهو إما الماء وهو الأصل في هذا الباب وإما الأرض

المقالة الثانية

في مقدمات الصلاة

وفيها

خمسة أبواب

الباب الأول

  في التطهيرات والوضوء وآدابهما

وفيه سبعة فصول

الفصل الأول

 

في التطهيرات الثلاثة

كما أشرنا سابقا أن للصلاة غير هذه الصورة لحقيقة، وغير هذا الظاهر لباطنا، فكما أن لظاهرها آدابا وشروطا صورية وكذلك لباطنها أيضا آدابك وشروطك ولا بد للسالك من مراعاتها فللطهارة الصورية آداب وشروط صورية خارج بيانها عن وظيفة هذه الأوراق، وفقهاء الجعفرية أعلى الله كلمتهم ورفع الله درجتهم قد بيّنوها. وأما الآداب الباطنية والطهور الباطني فنحن نبيّنها على نحو الاجمال.

فليعلم أنه طالما كانت حقيقة الصلاة هي العروج إلى مقام القرب والوصول إلى مقام حضور الحق جلّ وعلا فللوصول إلى المقصد الاعلى والغاية القصوى يلزم طهارات غير هذه الطهارات، وأشواك هذا الطريق وموانع هذا العروج هي قذارات لا يتمكن السالك مع اتصافه باحدى تلك القذارات من الصعود إلى هذه المرقاة والعروج بهذا المعراج وما يكون من قبيل تلك القذارت فهو موانع الصلاة ورجس الشيطان وما يكون معينا للسالك في السير، ومن آداب الحضور فهو من شروط هذه الحقيقة ويلزم للسالك إلى الله في بداية الامر رفع الموانع أولا كي يتّصف بالطهارة ويتيسّر له الطهور الذي هو من عالم النور، وما دام السالك لم يتطهّر من جميع القذارات الظاهرية والباطنية والعلنيّة والسرية لا يكون له أي حظ من المحضر والحضور.

فأول مرتبة من مراتب القذارات هي تلوّث الالات والقوى الظاهرية للنفس بلوث المعاصي وتقذرها بقذارة المعصية لوليّ النعم، وهذه هي الشبكة الصورية لابليس، وما دام الانسان مبتلى بهذه الشبكة فهو عن فيض المحضر وحصول القرب الالهي محروم ولا يظنّن أحد أنه يمكن أن يرقى إلى مقام حقيقة الانسانية من دون تطهير ظاهر مملكة الانسانية، أو انه يستطيع ان يطهّر باطن قلبه من دون تطهير ظاهره، وهذا الظّن غرور من الشيطان ومن مكائده العظيمة وذلك لان الكدورات والظلمات القلبية تزداد بالمعاصي التي هي غلبة الطبيعة على الروحانية، وما دام السالك ما افتتح المملكة الظاهرية فهو محروم بالكلية من الفتوحات الباطنية التي هي المقصد الاعلى ولا ينفتح له طريق إلى السعادة، فأحد الموانع الكبيرة لهذا السلوك هو قذارات المعاصي التي لابدّ أن تطهّر بماء التوبة النصوح الطاهر الطهور، وليعلم ان جميع القوى الظاهرية والباطنية التي أعطانا الله إياها وأنزلها من عالم الغيب هي أمانات إلهية كانت طاهرة عن جميع القذارات وكانت طاهرة مطهّرة بل كانت متنورة بنور الفطرة الالهية وبعيدة عن ظلمة تصرّف ابليس وكدورته، فلما نزلت إلى ظلمات عالم الطبيعة وامتدت يد تصرّف شيطان الواهمة ويد الخيانة الابليسية اليها خرجت عن الطهارة الاصلية والفطرة الاولية وتلوّثت بأنواع القذارات والارجاس الشيطانية. فالسالك إلى الله إذا تمسك بذيل عناية ولّي الله وأبعدها عن أن تتناولها يد الشيطان وطهّر المملكة الظاهرية وردّ الامانات الالهية كما أخذها فهو ما خان الامانة حينئذ وان صدرت منه خيانة فهو مورد للغفران والستارية فيستريح خاطره من ناحية الظاهر ويقوم بتخلية الباطن من أرجاس الاخلاق الفاسدة وهذه هي المرتبة الثانية من القذارات التي فسادها أكثر وعلاجها أصعب، وعند أصحاب الارتياض أهم لانه ما دام الخلق الباطني للنفس فاسدا والقذارات المعنوية محيطة بها لا تليق بمقام القدس وخلوة الانس بل مبدأ فساد المملكة الظاهرية للنفس هو الاخلاق الفاسدة والملكات الخبيثة لها وما دام السالك لم يبدّل بالملكات السيئة الملكات الحسنة فليس مأمونا عن شرور الاعمال. واذا وُفّق للتوبة والاستقامة عليها التي هي من المهمات لا تتيسّر له. فتطهير الظاهر ايضا متوقف على تطهير الباطن مضافا إلى أن القذارات الباطنية موجبة للحرمان من السعادة ومنشأ لجهنم الاخلاق التي هي كما يقول " أهل المعرفة " أشدّ حرّاً من جهنم الاعمال، وقد أشير كثيراً إلى هذا المعنى في أخبار أحاديث أهل بيت العصمة. فيلزم السالك إلى الله هذه الطهارة ايضا.

وبعد أن غُسل عن روح النفس التلوث بالاخلاق الفاسدة بماء العلم النافع الطاهر الطهور وبارتياض شرعي صالخ يشتغل حينئذ بتطهير القلب الذي هو أم القرى وبصلاحه تصلح المملكة وبفساده تفسد كلها. وقذارات عالم القلب مبدأ القذارات كلها وهي عبارة عن تعلّقه بغير الحق وتوجّهه إلى نفسه إلى العالم، ومنشؤها جميعا حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة وحبّ النفس الذي هو أمّ الامراض. وما دامت جذور هذه المحبة في قلب السالك لا يحصل فيها أثر من محبة الله ولا يهتدي طريقا إلى منزل المقصد والمقصود، ومادام للسالك في قلبه بقايا من هذه المحبة لم يكن سيره إلى الله بل يكون سيره إلى النفس و إلى الدنيا و إلى الشيطان، فالتطهير عن حب النفس والدنيا هو أول مرتبة تطهير السلوك إلى الله في الحقيقة لانه قبل هذا التطهير ليس السلوك سلوكا وانما يطلق السلوك والسالك على سبيل المسامحة (وقال بعض علماء الاخرة في المقام بعد ذكر بعض الآيات والروايات فتفطّن ذوو البصائر بهذه الظواهر، إن أهم الامور تطهير السرائر اذ يبعد ان يكون المراد بقوله صلى الله عليه وآله: " الطهور نصف الايمان " عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإنقائه وتخريب الباطن وإبقائه مشحونا بالاخباث والقذارات هيهات هيهات.. ثم قال: والطهارة لها أربع مراتب. المرتبة الاولى: تطهير الظاهر عن الاحداث وعن الاخباث والفضلات. المرتبة الثانية: تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام. المرتبة الثالثة: تطهير القلب عن الاخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة. المرتبة الرابعة: تطهير السرّ عما سوى الله تعالى وهي طهارة الانبياء صلوات الله عليهم والصدّيقين. والطهارة في كل مرتبة نصف العمل الذي هو فيها فان الغاية القصوى من عمل السرّ أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته ولن تحلّ معرفة الله تعالى بالحقيقة في السرّ ما لم يرتحل ما سوى الله تعالى عنه. ولذلك قال الله تعالى: " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " (الانعام 91).. لانهما لا يجتمعان في قلب واحد. " وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " (الاحزاب 4) وأما عمل القلب والغاية القصوى فيه عمارته بالاخلاق المحمودة والعقائد المشروعة، ولن يتّصف بها ما لم ينظّف من نقائضها من العقائد الفاسدة والرذائل الممقوتة، فتطهيره أحد الشطرين، وهو الشطر الاول الذي هو شرط في الثاني فكان الطهور شطر الايمان بهذا المعنى، وكذلك تطهير الجوارح عن المناهي أحد الشطرين وهو الشطر الاول الذي هو شرط في الثاني، فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الاول وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني.

فهذه مقامات الايمان ولكل مقام طبقة ولن ينال العبد الطبقة العالية الا أن يجاوز الطبقة السافلة فلا يصل إلى طهارة السر من الصفات المذمومة وعمارته بالخلق المحمود، ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ من طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات وكلما عزّ المطلوب وشرف، صعب مسلكه وطال طريقه وكثرت عقباته. فلا تظن ان هذا الامر يدرك وينال بالهوينى.

انتهى موضع الحاجة من كلامه أقول:

ومن طلب العلى سهر الليالى) ومن وراء هذا المنزل منازل البلاد السبعة لعشق العطار يظهر النموذج منها للسالك وذاك القائل رأى نفسه في أول منعطف من زقاقها (اشارة إلى الشعر المعروف للعارفي الرومي يقول فيه:

هفت شعر عشق را عطّار كَشت        ماهنوزاندرخم يك كوجه ايم

يعنى أن عطّار النيشابوري (العارف المعروف) سار ودار في المدن السبعة التي هي مدن العشق وبلاده ولكنّا مع الاسف إلى الان لم نتجاوز من منعطف زقاق واحد لتلك المدن.) ونحن وراء الاسوار والحجب الضخمة ونحسب تلك البلاد وحكامها من الاساطير.

أنا لست أركز على الشيخ العطار (هو فريد الدين محمد بن ابراهيم النيسابوري المعروف بالشيخ العطّار صاحب الاشعار والمصنّفات في التوحيد والحقايق والمعارف وله اشعار في مدح مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي ذمّ الدذيا. توفي سنة 427 (خكز) بعد عمر طويل وقيل أنّه قُتل في فتنة التتر وقبره خارج نيسابور معروف. وميثم التمّار الصحابي المعروف.) أو على ميثم التمّار ولكن لا أنكر المقامات من أصلها وأتطلب صاحبها بالقلب والروح وأرجو الفرج لهذه المحبة وأنت كن كما شئت واتصل مع من شئت:

مدّعي خواست كه آيد بتماشاكه راز

                                     دست غيب آمد وبرسينه نا محرم زد

(البيت للعارف الحافظ الشيرازي يقول:

أراد المدّعي أن يدخل منتزه السرّ فظهرت اليد الغيبية وضربت في صدر المدعي وردّه عن الورود لأنه ما كان محرماً للسرّ. فبيّن أن من شروط الدخول في حرم سرّ الله رفض الدعوى وترك الأنانية.)

ولكن لم أكن خائنا للاحباء العرفانيين في الاخوة الايمانية ولا أضيق بالنصيحة لهم التي هي من حقوق المؤمنين.

فإن أعظم القذارات المعنوية التي لا يمكن تطهيرها بسبعة أبحر وأعجزت الانبياء العظام هي قذارة الجهل المركب الذي هو منشأ الداء العضال الا وهو انكار مقامات أهل الله وأرباب المعرفة ومبدأ سوء الظنّ لاصحاب القلوب، وما دام الانسان ملوّثا بهذه القذارة لا يتقدّم خطوة إلى المعارف بل ربما تطفىء هذه الكدورة نور الفطرة الذي هو مصباح طريق الهداية وينطفئ بها نار العشق التي هي براق العروج إلى المقامات ويخلّد الانسان في أرض الطبيعة، فاللازم على الانسان أن يغسل هذه القذارات عن باطن القلب بالتفكر في حال الانبياء والاولياء الكمل صلوات الله عليهم وتذكر مقاماتهم و الاّ يقنع بالحدّ الذي هو فيه فإن الوقوف على الحدود والقناعة في المعارف، من التلبيسات العظيمة لابليس والنفس الامّارة نعوذ بالله منها، وحيث أن هذه الرسالة كتبت على وفق ذوق العامة فقد أمسكنا عن التطهيرات الثلاثة للاولياء والحمد لله. (بالاستئذان من حضرة الاستاذ أشير إلى التطهيرات الثلاثة للاولياء وأن كان لا يخلو عن التجاسر وسوء الادب عند أرباب المعنى.

فأقول: المرتبة الاولى من التطهيرات الثلاثة للاولياء تطهير الاعضاء والجوارح من الاعمال والافعال البشرية، وهذا التطهير هو نتيجة قرب النوافل كما في الحديث المتفق عليه " لا يزال يتقرّب إلي عبدي بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت أنا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ".

فالسالك الكامل الواصل اذا خرج من بيت النفس المظلم وطوى عالم النفس بالكلية واندك جبل إنّيّته وأنانيته بتجلي الانوار الربوبية وخرق الحجب النورانية والظلمانية يتجلى الحق تعالى في وجوده فيسمع بالحق ولا يسمع غير الحق ويبصر بالحق ولا يبصر سوى الحق ويبطش بالحق ولا يصدر منه الا الحق وينطق بالحق ولا ينطق الا الحق.

فإذا تمكن في هذا المقام وتقرّب إلى الله سبحانه بقدر استعداده فتحصل له المرتبة الثانية من التطهير وهو التطهير من الصفات الخلقية فالجذبات الالهية الرحمانية تجذبه ويأنس بنار العشق من جانب طور تجلّي الاسماء فتقربه من بساط الانس، فإن جذبه من جذبات الرحمان توازن عمل الثقلين كما في الحديث ويكون كالحديدة المحماة كما في الحديث أيضاً، فكلما يتكمن من القرب يتأدّب بالاداب الربوبية المستفادة من قوله صلى الله عليه وآله " أدّبني ربي فأحسن تأديبي ". فتكمل فيه الصفات والملكات الخلقية وتصل جوهرة العبودية إلى كنها وتختفي العبودية وتظهر الربوبية وتتحقق بحقيقة " وتخلّقوا بأخلاق الله ". ثم في منتهى قرب النوافل يصل إلى المرتبة الثالثة من التطهير وهي تطهير الذات وكشف سبحات الجلال ويحصل الفناء الكلّي والصعق التام والاضمحلال المطلق والتلاشي التام ويصير القلب الهيا ولاهوتيا وتتجلى حضرة اللاهوت في مراتب الباطن والظاهر فيصل على معدن العظمة ويصير روحه معلقا بعزّ القدس كما أشار عليه السلام في المناجاة الشعبانية: " الهي هب لي كمال الانقطاع اليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرنا اليك حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور وتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك ". فعند ذلك يكون وجوده حقانيا، والحق تعالى يشاهد الموجودات في مرآة وجوده، واذا كان انسانا كاملا فيوافق المشيئة المطلقة، كما ورد في زيارة الاولياء الكمّل " ارادة الربّ في مقادير أموره تهبط اليكم وتصدر من بيوتكم " وتكون روحانية عين مقام الظهور الفعلي للحق تعالى كما قال علي عليه السلام: " نحن صنائع الله والخلق بعد صنائعنا " فيه يبصر الحق تعالى وبه يسمع وبه يبطش كما في زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: " السلام على عين الله الناظرة وأذنه الواعية ويده الباسطة السلام على جنب الله الرضي ووجهه المضيء " وربما تستفاد هذه اللطيفة الربانية من حديث قرب النوافل: " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.. إلى آخره.. " فليتدبّر.. وفي دعاء رجب: " لا فرق بينك وبينها الا أنهم عبادك وخلقك ".

وليعلم أنه يمكن تطهير الفطرة بعد تلوثها. وما دام الانسان في هذه النشأة فالخروج من تصرّف الشيطان له مقدور وميسور، والورود في حزب ملائكة الله التي هي جنود رحمانية الهية له ميسّر. وحقيقة جهاد أعداء الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الخروج من تصرف جنود ابليس والورود تحت تصرّف جنود الله، فأول مرتبة الطهارة هي التسنّن بالسنن الالهية والائتمار بأوامر الحق.

والمرتبة الثانية هي التحلي بفضائل الاخلاق وفواضل الملكات. والمرتبة الثالثة هي الطهور القلبي وهو عبارة عن تسليم القلب إلى الحق تعالى، وبعد هذا التسليم يصير القلب نورانيا بل يكون القلب نفسه من عالم النور ومن درجات النور الالهي، ويسري نور القلب إلى سائر الاعضاء والجوارح والقوى الباطنية وتكون المملكة كلها نورا ونورا على نور وينتهي الامر إلى حد يكون القلب الهيا ولاهوتيا، وتتجلى حضرة اللاهوت في جميع مراتب الباطن والظاهر، وفي هذه الحال تفنى العبودية كل الفناء وتختفي، فتظهر الربوبية وتبين. ويحصل لقلب السالك في هذه الحال الطمأنينة والانس ويصير جميع العوامل محبوبا له وتحصل له الجذبات الالهية وتغفر له الخطايا والزلاّت وتستتر في ظلّ التجلّيات الحبّيّة وتحصل له بدايات الولاية ويليق بالورود على محضر الانس، وللسالك بعد هذا منازل لا يناسب هذه الاوراق ذكرها.)

الفصل الثاني

في الاشارة إلى مراتب الطهور

اعلم أن الانسان مادام في عالم الطبيعة ومنزل مادة الهيولانية فهو تحت تصرفات جنود الهية وجنود ابليسية. والجنود الالهية هي جنود الرحمة والسلامة والسعادة والنور والطهارة والكمال، وجنود ابليس مقابلاتها، وحيث أن الجهات الربوبية غالبة على الجهات الابليسية فللانسان في مبدأ الفطرة نور وسلامة وسعادة فطرية الهية كما صرّح بذلك في الاحاديث الشريفة وأشير اليه في الكتاب الشريف الالهي، وما دام الانسان في هذا العالم فهو بقدر الاختيار يستطيع أن يجعل نفسه تحت تصرّف أحد هذين الجندين، فاذا لم يكن لابليس من أول فطرة الانسان إلى آخرها تصرّف في فطرته فهو انسان الهي لاهوتي، وهو من قرنه إلى قدمه نور وطهارة وسعادة فقلبه نور الحق ولا يتوجّه لغير الحق وقواه الباطنية والظاهرية نورانية وطاهرة ولا يتصرف فيها سوى الحق وليس لابليس فيها حظ ولا لجنوده فيها تصرّف. ومثل هذا الموجود الشريف طاهر مطلقا ونور خالص وما تقدم من ذنبه وما تأخّر فهو مغفور له، وهو صاحب الفتح المطلق وواجد لمقام العصمة الكبرى بالاصالة وبقية المعصومين واجدون لذاك المقام تبعا لتلك الذات المقدسة وهو صاحب مقام الخاتمية الذي هو الكمال على الاطلاق، وحيث أن أوصياءه مشتقون من طينته ومتصلون بفطرته فهم أصحاب العصمة المطلقة بتبعه ولهم التبعية الكاملة. وأما بعض المعصومين من الانبياء والالياء عليهم السلام فليسوا أصحاب العصمة المطلقة ولم يكونوا خالين من تصرّف الشيطان، كما أن توجّه آدم عليه السلام إلى الشجرة كان من تصرفات ابليس الكبير ابليس الابالسة مع أن تلك الشجرة الجنة الالهية ومع ذلك كانت له الكثرة الاسمائية التي تنافي مقام الادمية الكاملة، وهذا أحد معاني الشجرة المنهي عنها أو أحد مراتبها و إذا تلوّث نور الفطرة بالقذارات الصورية والمعنوية فبمقدار التلوّث يبعد عن بساط القرب ويهجر من حضرة الانس حتى يصل إلى مقام ينطفئ فيه نور الفطرة بالكلّية وتصير المملكة شيطانية كلها ويكون ظاهرها وباطنها وسرّها وعلنها في تصرّف الشيطان فيكون الشيطان قلبه وسمعه وبصره ويده ورجله وتكون جميع أعماله شيطانية، واذا وصل أحد - والعياذ بالله - إلى هذا المقام فهو الشقّي المطلق ولا يرى وجه السعادة أبدا، وبين هاتين المرتبتين مقامات ومراتب لا يحصيها الا الله وكل من يكون إلى أفق النبوة أقرب فهو من أصحاب اليمين وكل من كان إلى أفق الشيطان أقرب فهو من أصحاب الشمال.

الفصل الثالث

في الآداب القلبية للسالك حينما يتوجه إلى الماء للطهارة

ونذكر في المقام الحديث الشريف لمصباح الشريعة كي يحصل للقلوب الصافية لاهل الايمان منه نورانية.

ففي مصباح الشريعة قال الامام الصادق عليه السلام: " اذا أردت الطهارة والوضوء فتقدم إلى الماء تقدمك إلى رحمة الله فإن الله قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته ودليلاً على بساط خدمته، وكما أن رحمة الله تطهّر ذنوب العباد كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء لاغير"، قال الله تعالى: " وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته وأنزلنا من السماء مـاء طهورا " (الفرقان 48). وقال الله تعالى: " وجعلنا من الماء كل شيء حيّ أفلا يؤمنون " (الأنبياء 30). فكما يحيي به كل شيء من نعيم الدنيا كذلك برحمته وفضله جعل حياة القلوب الطاعات. وتفكر في صفاء الماء ورقّته وطهارته وبركته ولطيف امتزاجه بكل شيء واستعمله في تطهير الاعضاء التي أمرك الله بتطهيرها، وات بآدابها في فرائضه وسننه فإن تحت كل واحدة منها فوائد كثيرة، فاذا استعملها بالحرمة انفجرت لك عيون فوائده عن قريب ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالاشياء يؤدي كل شيء حقّه ولا يتغير معناه معتبرا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله مثل المؤمن المخلص الخالص كمثل الماء، ولتكن صفوتك مع الله تعالى في جميع طاعتك كصفوة الماء حين أنزله من السماء وسمّاه طهورا وطهّر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء ".

وفي هذا الحديث لطائف ودقائق وإشارات وحقائق تحيي قلوب أهل المعرفة وتعطي الارواح الصافية لاصحاب القلوب حياة جديدة. ففي هذا الحديث شبه الماء بل أوله إلى رحمة الحق فمن نكات هذا التشبيه أو التأويل أن الماء أحد المظاهر العظيمة لرحمة الحق التي أنزلها في عالم الطبيعة وجعلها سببا لحياة الموجودات بل أهل المعرفة يعبّرون بالماء عن الرحمة الواسعة الالهية التي نزلت من السماء رفيعة الدرجات لحضرة الاسماء والصفات فأحيا بها أراضي التعيّنات للاعيان. وحيث أن تجلّي الرحمة الواسعة الاهية في الماء الملكي الظاهري أكثر من سائر الموجودات الدنيوية جعله الله تعالى لتطهير القذارات الصورية بل ماء الرحمة للحق تعالى اذا نزل وظهر في كل نشأة من نشآت الوجود وفي كل مشهد من مشاهد الغيب والشهود يطهّر ذنوب عباد الله وفقا لتلك النشأة وبما يناسب ذلك العالم.

فماء الرحمة النازل من سماء الاحدية تطهر ذنوب غيبة تعينات الاعيان، وبماء الرحمة الواسعة النازلة من سماء الواحدية تطهر ذنوب عدمية الماهيات الخارجية في كل مرتبة من مراتب الوجود طبقا لتلك المرتبة، وفي مراتب نشآت الانسانية ايضا لماء الرحمة ظهورات مختلفة كما أنه بالماء النازل من حضرة الذات بالتعينات الجمعية البرزخية تطهر ذنوب سر الوجود " وجودك ذنب لا يقاس به ذنب " وبالماء النازل من حضرات الاسماء والصفات وحضرة التجلي الفعلي تطهر رؤية الصفة والفعل وبالماء النازل من سماء الحضرة الحكم العدل تطهر القذارات الخلقية الباطنية، وبالماء النازل من سماء الحضرة الحكم العدل تطهر القذارات الخلقية الباطنية، وبالماء النازل من سماء الغفارية تطهر ذنوب العباد، وبالماء النازل من سماء الملكوت تطهر القذارات الصورية، فعلم أن الحق تعالى جعل الماء مفتاح قربه ودليل بساط رحمته ثم يعين عليه السلام في الحديث الشريف وظيفة أخرى ويفتح طريقا آخر لاهل السلوك والمراقبة.

يقول عليه السلام: " تفكَّرْ في صفاء الماء ورقته وطهره وبركته ولطيف امتزاجه بكل شيء واستعمله في تطهير الاعظاء التي أمرك الله بتطهيرها وائت بآدابها في فرائضه وسننه فإن تحت كل واحدة منها فوائد كثيرة فاذا استعملتها بالحرمة انفجرت لـك عيون فوائـده عن قريب ".

اشار عليه السلام في هذا الحديث الشريف إلى مراتب الطهارة بالطريق الكلية وبيّن أربع مراتب كليّة احدها ما ذكر في الحديث الشريف إلى حد الذي ذكرناه وهو تطهير الاعضاء، وأشار عليه السلام إلى أنّ أهل المراقبة والسلوك إلى الله يلزم الاّ يتوقّفوا عند صور الاشياء وظواهرها بل لابدّ أن يجعلوا الظاهر مرآة للباطن ويستكشفوا من الصور الحقائق ولا يقنعوا بالتطهير الصوري فإن القناعة بالتطهير الصوري فخّ ابليس فينتقلوا من صفاء الماء إلى تصفية الاعضاء ويصفونها بأداء الفرائض والسنن الالهية ويرققون الاعضاء برقة الفرائض والسنن ويخرجونها من غلظة التعصي ويسرون الطهور والبركة في جميع الاعضاء ويدركون من لطف امتزاج الماء بالاشياء كيفية امتزاج القوى الملكوتية الالهية بعالم الطبيعة ولا يدعون القذارات الطبيعية تؤثّر فيها فاذا تلبست أعضاؤهم بالسنن والفرائض الالهية وآدابها تظهر فوائدها الباطنية بالتدريج وتنفجر عيون الاسرار الالهية وتنكشف لهم لمحة من أسرار العبادة والطهارة.

ولما فرغ عليه السلام من بيان المرتبة الاولى من الطهارة وكيفية تحصيلها شرع في بيان الوظيفة الثانية وقال: ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالاشياء يؤدي كل شيء حقه ولا يتغّير عن معناه معتبرا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله " مثل المؤمن المخلص (الخالص) كمثل الماء " فبيّن عليه السلام في الحكم الاول ما يربط بتعامل الانسان السالك مع قواه الداخلية وأعضائه، والحكم الثاني الذي هو في هذه الفقرة من الحديث الشريف يرتبط بتعامل الانسان مع خلق الله وهذا هو حكم جامع يبيّن كيفية معاشرة السالك للمخلوق ويستفاد منه ضمنا حقيقة الخلوة وهي أن السالك إلى الله في نفس الحال الذي يعاشر كل طائفة من الناس بالمعروف ويرد الحقوق الخلقية ويراود كل أحد ويعامله بطور يناسب حاله فهو في الوقت نفسه لا يتجاوز عن الحقوق الالهية ولا يترك المعنى من نفسه وهو العبادة والعبودية والتوجّه إلى الحق وفي نفس الحال التي يكون فيها في الكثرة يكون في الخلوة وقلبه الذي هو منزل المحبوب خاليا من الاغيار وفارغا من كل صورة ومثال. (أقول: وقد أشير إلى هذا المعنى في كثير من الاحاديث، ففي نهج البلاغة لعلي عليه السلام في خطبته المعروفة التي يصف فيها المتقين قال (ع): " ان كان من الغافلين كتب الذاكرين وان كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين " وفي الكافي الشريف روايات متقاربة المضمون: ان الله سبحانه أوحى لموسى بن عمران: " يابن عمران لاتدع ذكري على كل حال". وقال الصادق عليه السلام: قال الله تعالى " يابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي ". إلى أن قال " اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك ". وقال " ما من عبد يذكر الله في ملأ من الناس الا ذكره الله في ملأ من الملائكة " وأيضا في الكافي الشريف عن الصادق عليه السلام قال: " الذاكر لله عز وجل في الغافلين كالمقاتل في المحاربين الغازين".)

ثم ذكر عليه السلام الحكم الثالث وهو كيفية تعامل السالك مع الحق تعالى، يقول: " ولتكن صفوتك مع الله في جميع طاعتك كصفوة الماء حين أنزله من السناء وسمّاه طهورا " يعني يلزم للسالك إلى الله أن يكون خالصا من تصرف الطبيعة ولا يكون لكدورتها وظلمتها طريق إلى قلبه، وتكون جميع عباداته خالية عن جميع الشرك الظاهري والباطني، وكما أن الماء في وقت نزوله من السماء طاهر وطهور وما امتدّت اليه يد تصرف القذارات كذلك قلب السالك الذي نزل من سماء عالم غيب الملكوت طاهراً ومنزّهاً لا يتركه يقع تحت تصرّف الشيطان والطبيعة ويتلوث بالقذارات.

وبعد هذا بين عليه السلام الحكم الاخير وهو وظيفة لأهل الرياضة والسلوك ويقول: " وطهّر قلبك بالتقوى واليقين عند تطهير جوارحك بالماء " وفي هذا إشارة إلى مقامين شامخين لأهل المعرفة. الأول: التقوى وكماله ترك غير الحق. والثاني: اليقين وكماله مشاهدة حضور المحبوب.

الفصل الرابع

 في الطهور وهو اما الماء وهو الاصل في هذا الباب واما الارض

(قال العارف السعيد القاضي سعيد القمّي ((*- هو محمد بن مفيد القُمّي العالم الفاضل الحكيم المتشرع العارف الربّاني والمحقّق الصمداني من أعاظم علماء الحكمة والادب والحديث. انتهى اليه منصب القضاء في بلده قم.

كان من تلامذة المحقق الفيض الكاشاني والمولى عبد اللازّاق الاهيجي له مصنفات فائقة منها شرحه على كتاب توحيد الصدوق في مجلّدات والاربعينيّات وغير ذلك. وأشهر مصنفاته شرحه على التوحيد وهو مشتمل على الفوائد الكثيرة فلنذكر فائدة مختصرة منها:

روى الصدوق عن أبي عبدالله عليه السلام قال لمّا امر الله عز وجل ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ببنيان البيت وتمّ بناؤه أمره ان يصعد ركنا ينادي في الناس الا هلمّ الحجّ فلو نادى هلمّوا إلى الحج لم يحجّ إلا من كان يومئذ انسيّا مخلوقا ولكن نادى هلمّ الحجّ فلبّى الناس في أصلاب الرجال لبيك داعي الله لبيك داعي الله فمن لبىّ عشرا حجّ عشرا ومن لبّى خمسا حج خمسا ومن لبّى اكثر فبعدد ذلك ومن لبى واحدا حجّ واحدا ومن لم يلبّ لم يحج.

قال القاضي سعيد في معنى الخبر: عندي ان الوجه فيه ان استعمال هلم لمجرّد الامر وطلب الحضور مع تجريد من خصوصية المخاطب بالافراد والتذكير والتأنيث، والمعنى ليكن اتيان بالحجّ وليصدر قصد إلى البيت ممّن يأتي منه هذا القصد من أفراد البشر وهذا إنّما يصحّح في صيغة المفرد حيث لم يكن فيه علامة الزيادة لاجل التأنيث والتثنية والجمع بخلاف صيغة الجمع فان الزيادة فيه مانعة عن ذلك كما لا يخفى على المتدرّب في العلوم (انتهى).)) وهو (أي الطهور) امّا الماء الذي هو سرّ الحياة التي هي العلم ومشاهدة الحيّ القيّوم، قال الله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به " (الفرقان 48 و 49). وقال جل وعلا: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان " (الانفال 11) وأما التراب الذي هو أصل نشأة الانسان قال عزّ من قائل " منها خلقناكم " (طه 55). وقال جلّ جلاله: " فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا " (النساء 43) وذلك لتتفكر في ذاتك لتعرف من أوجدك ومم أوجدك ولم أوجدك، فتخضع له وترفع التكبّر من رأسك لان التراب هو الاصيل في الذلّة والمسكنة.

ثم اعلم ان ماء الغيث لطيف في غاية الصفا وله مزاج واحدا ولا يمازجه شيء في الخارج فهو في الباطن العلم اللدني الذي له طعم واحد اذ الانبياء والاولياء كلهم على قول متحد وان اختلفت المشارب والمناهل فليكن معتمدك في طهورك الظاهري والباطني هذا الماء، وأما ماء العيون والآبار فهو مختلف الطعم بحسب تلك البقعة والأرض التي خرج منها وامتزج بتربتها فهو العلم المستفاد من الافكار الصحيحة التي لاتخلو من شائبة التغيّر بحسب مزاج المتفكر لانه ينظر في مواد محسوسة تقوم عليها البراهين، فاختر لنفسك أي الماءين يقرب من ذوقك ويناسب مشربك.. (انتهى).

وكأنّ الامام أطال الله بقاه ينظر إلى كلام هذا العارف في هذا المبحث ولكن شتّان ما بين الكلامين، فتأمّل تعرف.)

إعلم أن للانسان السالك في الوصول إلى المقصد الأعلى ومقام القرب الربوبي طريقين على نحو كلي أحدهما وله مقام الكلّية والأصالة وهو السير إلى الله بالتوجّه إلى مقام الرحمة المطلقة وخصوصا الرحمة الرحيمية وهي رحمة توصل كل موجود إلى كماله اللائق به، ومن شعب الرحمة الرحيمية ومظاهرها بعث الانبياء والرسل صلوات الله عليهم الذين هم هداة السبل والمساعدون للمتأخرين عن السير، بل ان دار التحقق في نظر أهل المعرفة وأصحاب القلوب هي صورة الرحمة الالهية، والخلائق دائما مستغرقون في بحار رحمة الحق تعالى ولكنهم لا يستفيدون منها.

فهذا الكتاب العظيم الإلهي الذي نزل من عالم الغيب الإلهي والقرب الربوبي، ولأجل استفادتنا نحن المهجورين وخلاصنا نحن المسجونين في سجن الطبيعة والمغلولين في سلاسل أهواء النفس والآمال وقد صار في صورة اللفظ والكلام هو أحد مظاهر العظيمة للرحمة المطلقة الإلهية، وما استفدنا نحن الصم العمي منه بشيء ولا نستفيد. وان الرسول الخاتم والوليّ المطلق الأكرم الذي شرّفنا وقد من محضر القدس ومحفل القرب والانس الإلهي إلى هذا المنزل منزل الغربة والوحشة وابتلي بمعاشرة أمثال أبي جهل وشرّ منه مراودته وان أنين ليغان على قلبي منه صلى الله عليه وآله قد أحرق قلوب أهل المعرفة والولاية ويحرقها الان أيضا هو الرحمة الواسعة والكرامة المطلقة الالهية التي كان قدومها في هذه الدويرة للرحمة على الموجودات وعلى سكنة العالم الاسفل الادنى واخراجهم من هذه الدار دار الغربة والوحشة، فهو صلى الله عليه وآله كالحمامة المطوقة التي تلقي نفسها إلى الفخ لتنجي رفقاءها منه.

 فلابد للسالك إلى الله أن يرى التطهير بماء الرحمة صورة لاستفادته من الرحمة الالهية النازلة، وما دامت الاستفادة له ميسورة، لابد أن يقوم بأمرها واذا قصرت يده عنها بسبب القصور الذاتي أو تقصيره وبسبب فقد ماء الرحمة لم يكن له بدّ من التوجّه بذلّه ومسكنته وفقره وفاقته، فاذا جعل ذلّة عبوديته نصب عينيه وتوجّه باضطراره الذاتي وفقره الذاتي وإمكانه الذاتي وخرج من التعزز والغرور وحب النفس ينفتح له باب آخر من الرحمة وتبدل بأرض الطبيعة أرض الرحمة البيضاء ويصير التراب أحد الطهورين ويصير موردا لترحم الحق تعالى وتلطفه، وكلما قوي هذا النظر في الانسان أي النظر إلى ذلّة نفسه يكون موردا للرحمة أكثر. وأما اذا أراد الانسان أن يسلك هذا الطريق بقدم الاعتماد على النفس وعلى عمله فهو هالك لامحالة لانه من الممكن الا يؤخذ بيده فمثله كالطفل الذي يتجاسر على المشي ويغتر بقدمه، ويعتمد على قوته، فمثل هذا الطفل لا يكون موردا لعناية أبيه ويكله الاب إلى نفسه وأما إذا عرض اضطراره وعجزه على جناب الأب الشفيق وخرج عن الاعتماد على نفسه وعلى قوّته بالكلّية فيصير حينئذ موردا لعناية الاب ويأخذ الاب بيده بل يأخذه في حضنه ويمشي به بقدمه فالاحرى بالسالك إلى الله ان يكسر رجل سلوكه وان يستدعي البراءة من الاعتماد على نفسه وارتياضه وعمله بالكلّية وينفى عن نفسه وقدرته وقوّته، ويجعل فناءه واضطراره دائما نصب عينيه حتى يقع دائما موردا للعناية، فربما يسلك حينئذ طريقا يطول سيره مئة سنة في ليلة واحدة بالجذبة الربوبية , وحينما يفنى عن نفسه وقوته وقدرته ويقول في محضر القدس الربوبي بلسان باطنه وحاله بالعجز والافتقار: " أمّن يجيب المضّطر اذا دعـاه ويكشف السوء ". (النمل - 61)

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست