.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

المصباح الثاني: في ذكر نبذة من آداب القراءة في خصوص الصلاة

الفصل الأول: في آداب القراءة في العلوم في الصلاة خاصة

الفصل الثاني: في بعض آداب الاستعاذة

 

المصباح الثاني

في ذكر نبذة من آداب القراءة في خصوص الصلاة

وفيه

سبعة فصول

الفصل الاول

في آداب القراءة في الصلاة خاصة

  اعلم أن للقراءة في هذا السفر الروحاني والمعراج الالهي مراتب ومدارج نكتفي ببعضها حسب ما يناسب هذه الرسالة:

المرتبة الاولى: الا يشتغل القارئ الا بتجويد القراءة وتحسين العبارة، ويكون همّه التلفّظ بهذه الكلمات فقط وتصحيح مخارج الحروف حتى يأتي بتكليف ويسقط عنه أمر، ومعلوم أن التكاليف لهذه الاشخاص موجبة للكلفة والمشقة وقلوبهم منها منضجرة وبواطنهم عنها منحرفة وليس لهم حظ من العبادة الا أنهم ليسوا معاقبين بعقاب تاركها الا ان يتفضّل عليهم من خزائن الغيب ويقعوا موردا للاحسان والانعام بمجرد لقلة اللسان، ويتّفق لهذه الطائفة أحيانا أن ألسنتهم مشغولة بذكر الحق وقلوبهم عنه عارية وبرئية ومتعلقة بالكثرات الدنيوية والمشاغل الملكية، وهذه الطائفة داخلة في الصلاة بحسب الصورة ولكنهم بحسب الباطن والحقيقة مشغولون بالدنيا ومآربها والشهوات الدنيوية، ويتفق أحيانا أن قلوبهم أيضا مشغولة بالتفكر في تصحيح صورة الصلاة. ففي هذه الصورة قد دخلوا في صورة الصلاة بحسب القلب واللسان، وهذه الصورة منهم مقبولة ومرضية.

المرتبة الثانية: هم الذين لا يقتنعون بهذا الحد بل يرون الصلاة وسيلة لتذكر الحق ويعدّون القراءة تحميدا وثناء على الحق، ولهذه الطائفة مراتب كثيرة يطول ذكرها ولعله أشير إلى هذه الطائفة في الحديث الشريف القدسي " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي فاذا قال بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي واذا قال الحمد لله يقول الله حمدني عبدي وأثنى علي وهو معنى سمع الله لمن حمده. و اذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظّمني عبدي، واذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجّدني عبدي، وفي رواية فوّض إليّ عبدي واذا قال ايّاك نعبد وإياك نستعين يقول الله هذا بيني وبين عبدي، واذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ". وحيث أن الصلاة قد قسمت بحسب هذا الحديث الشريف بين الحق والعبد فلا بدّ للعبد أن يقوم بحق المولى إلى حيث حقّه ويقوم بأدب العبودية الذي ذكره في هذا الحديث حتى يعمل الحق تعالى شأنه معه باللطائف الربوبية كما يقول تعالى " أوفوا بعهدي أوف بعهدكم " (البقرة - 40).

والحق تعالى قد أقام آداب العبودية في القراءة على أربعة اركان:

الركن الأول: التذكر، ولا بد أن يحصل في بسم الله الرحمن الرحيم وينظر العبد السالك إلى جميع دار التحقق بالنظر الاسمى الذي هو الفناء في المسمّى ويعوّد القلب أن يكون طالباّ للحقّ ومحبّا للحق في جميع ذرّات الممكنات وفطرة تعلّم الاسماء التي فطر بها في مخمّر ذاته المشار اليها في قوله تعالى: " وعلّم آدم الاسماء كلّها " (البقرة - 31) لا بدّ وأن تصل من حضرة اسم الله الأعظم إلى مرتبة الفعلية والظهور بمقتضى جامعية نشأة الظهور، ويحصل هذا المقام من الخلوة مع الحق وشدّة التذكر والتفكر في الشؤون الالهية حتى ينتهي إلى حدّ يكون قلب العبد حقانيا ولا يكون في جميع زوايا قلبه اسم سوى الحق. وهذه مرتبة من الفناء في الالوهية، والقلوب المنكوسة القاسية للجاحدين لا تستطيع انكارها بهذا البيان الذي بيّنّاه الا أن يكون جحوده جحودا ابليسيا، فإن تلك القلوب والعياذ بالله متنفّرة بالطبع عن اسم الحق وذكره وتنقبض اذا جرى حرف من المعارف الالهية أو ذكر من أسماء الله ولا يفتحون بصيرتهم الا إلى الشهوات البطنية والفرجية، وفي هذه الطائفة أفراد لا يعتقدون للانبياء والأولياء عليهم السلام أيضا سوى المقامات الجسمانية والجنة الجسمانية التي يُقضى فيها الوطر الحيواني، ويحسبون عظمة المقامات الاخروية كالعظمة الدنيوية بسعة الجنات والانهار الجارية وكثرة الحور والغلمان والقصور، واذا سمعوا كلاما عن العشق والمحبة والجذبة الالهية فيحملون على صاحبه بالالفاظ الركيكة والكلمات القبيحة، فكأن هذا الكلام سبّ لهم فيجبرونه، هؤلاء مأمورون من قبل الشيطان قد قعدوا على الصراط المستقيم الالهي بمقتضى: " ولاقعدنّ لهم صراطك المستقيم " (الأعراف - 16).

ولا يتركون أحدا يحصل له الانس مع الهه ويخلص من ظلمات التعلّق بالشهوات الحيوانية التي منها التعلّق بالحور والقصور.

ومن الممكن أن يستشهد هؤلاء بشواهد من أدعية الانبياء وأهل بيت العصمة عليهم السلام بأنهم ايضا كانوا يطلبون الحور والقصور وهذا من قصور هذه الطائفة حيث أنهم لم يفرقوا بين حبّ كرامة الله حيث يكون النظر فيه إلى كرامة المحبوب واعطائه الذي هو علامة المحبة والعناية وبين حب الحور والقصور وأمثالها استقلالا، الذي هو في خميرة الشهوة الحيوانية، فحب كرامة الله هو حب الله ويسري إلى الكرامة والعناية بالتبع (عاشقهم برهمه عالم كه همه عالم ازاواست) (مصراع بيت للشاعر المعروف السعدي الشيرازي يقول: أنا للعالم عاشق حيث منه الكون أجمع).

وما حب الديار شغفن قلبي            ولكن حب من من سكن الديارا

والا فما لعليّ والحور والقصور؟ وأي تناسب بينه وبين الاهواء النفسانية والشهوات الحيوانية؟ من كانت عبادته عبادة الاحرار فلا يكون جزاؤه جزاء التجار.. قد اُرخي عنان القلم وبعدت عن المطلب، وبالجملة من عوّد نفسه على قراءة الآيات والاسماء الالهية من كتاب التكوين والتدوين الالهي يصوّر قلبه بالتدريج على الصورة الذكرية والآيتية ويتحقق باطن الذات بذكر الله واسم الله وآيات الله كما فسر وطبّق الذكر بالرسول الاكرم وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وآلهما والاسماء الحسنى بأئمة الهدى وكذلك فسّرت وطبّقت آيات الله عليهم، صلوات الله عليهم، فهم الآيات الالهية واسماء الله الحسنى وذكر الله الأكبر ومقام الذكر من المقامات العالية الجليلة لا يسع في مجال البيان وحيطة التقرير والتحرير، وتكفي لاهل المعرفة والجذبة الالهية وأصحاب المحبة والعشق الآية الشريفة الالهية " فاذكروني أذكركم " (البقرة - 152). وقال الله تعالى لموسى " يا موسى أنا جليس من ذكرني ".. وفي رواية الكافي قال رسول الله صلى الله عليه وآله " من اكثر ذكر الله أحبه الله " وفي الوسائل باسناده إلى الصادق عليه السلام قال: قال الله عزّ وجلّ " يابن آدم اذكرني في نفسك اذكرك في نفسي، يابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء يابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك ". وقال: " ما من عبد ذكر الله في ملأ من الناس الا ذكره الله في ملأ من الملائكة ".

الركن الثاني: التحميد وهو في قول المصلّي الحمد لله رب العالمين.

اعلم ان المصلّي اذا تحقق بمقام الذكر ورأى جميع ذرّات الكائنات وعوالي الموجودات ودوانيها أسماء إلهية وأخرج عن قلبه جهة الاستقلال ونظر إلى الموجودات عوالم الغيب والشهود بعين الاستظلال تحصل له مرتبة التحميد ويعترف قلبه ان جميع المحامد من مختصات الذات الاحدية وليست لسائر الموجودات فيها شركة لأنه ليس لها كمال من عند أنفسها حتى يقع الحمد والثناء لها، ويأتي البيان التفصيلي لهذه اللطيفة الالهية في تفسير هذه السورة المباركة ان شاء الله.

الركن الثالث: هو التعظيم، وهو يحصل في الرحمن الرحيم:

إن العبد السالك إلى الله اذا حصر المحمدة في ركن التحميد على الحق تعالى وسلب الكمال والتحميد عن الكثرات الوجودية يقرب من أفق الوحدة وتعمي بالتدريج عينه الرائية للكثرة وتتجلى لقلبه الصورة الرحمانية التي هي بسط الوجود والصورة الرحيمية التي هي بسط كمال الوجود. ويصف الحق بالاسمين المحيطين الجامعين المضمحلة فيهما الكثرات فيحصل للقلب بواسطة التجلي الكمالي الهيبة الحاصلة من الجمال بتنزل عظمة الحق في قلبه، واذا تمكنت هذه الحالة في قلبه ينتقل إلى الركن الرابع.

الركن الرابع: الذي هو مقام التقديس الذي هو حقيقة التمجيد. وبعبارة أخرى تفويض الامر إلى الله، وهو عبارة عن رؤية مقام مالكية الحق وقاهريته وزوال غبار الكثرة وانكسار أصنام كعبة القلب، وظهور مالِكيّة بيت القلب والتصرف فيه بلا مزاحمة الشيطان، ويصل في هذه الحالة إلى مقام الخلوة. ولا يمكن بين العبد والحق حجاب وتقع اياك نعبد واياك نستعين في تلك الخلوة الخاصة ومجمع الانس، ولهذا قال: هذا بيني وبين عبدي واذا اشتملته العناية الازلية وأفاق يسأله الاستقامة في هذا المقام والتمكين في حضرته بقوله اهدنا الصراط المستقيم، ولهذا فسّر اهدنا بألزمنا وأدّبنا وثبّتنا وهذا لاولئك الذين خرجوا من الحجاب ووصلوا إلى المطلوب الازلي. وأما أمثالنا نحن أهل الحجاب لا بد وأن نسأل الهداية من الحق تعالى بمعناها المعروف، ولعلّه تأتي بقية من هذا في تفسير السورة المباركة الحمد، ان شاء الله تعالى.

تكميل: يظهر من الحديث الشريف أن الصلاة كلها قسمت بين الحق والعبد وقد ذكر الحمد من باب النموذج والمثل فبناء على هذا نقول: ان التكبيرات الصلاتية أعمّ من الافتتاحية وغيرها التي تقال في خلال انقلاب الاحوال الصلاتية كلها حظ الربوبية قسمة الذات المقدسة، فإن قام العبد السالك إلى الله بهذه الوظيفة العبودية وأدّى حق الربوبية بمقدار ما في وسعه فيؤدي الحق تعالى أيضا بألطافه الخاصة الازلية حق العبد وهو فتح باب المراودة والمكاشفة، كما اشار اليه في الحديث الشريف في مصباح الشريعة حيث يقول: " فاذا كبّرت فاستصغر ما بين العلى والثرى دون كبريائه ". إلى أن قال: " فاعتبر انت قلبك حين صلاتك فإن كنت تجد حلاوتها وفي نفسك سرورها وبهجتها وقلبك مسرورا بمناجاته ملتذا بمخاطباته فاعلم أنه قد صدّقك في تكبيرك، والا فقد عرفت من سلب لذة المناجاة وحرمان حلاوة العبادة انه دليل على تكذيب الله لك وطردك عن بابه.

وعلى هذا المقياس ففي كل حال من الاحوال الصلاتية وكل فعل من افعالها حق تعالى لابد للعبد من القيام به وهو آداب العبودية في ذلك المنزل وللعبد حظ ونصيب يعطيه الحق باللطف الخفي والرحمة الجلية بعد قيام العبد بآداب العبودية، واذا رأي نفسه فيب هذه المقامات الالهية محروما فيعلم أنه لم يقم بآداب العبودية وعلامة ذلك للمتوسطين ان لا تذوّق ذائقة القلب لذة المناجاة وحلاوة العبادات ويحرم عن البهجة والسرور والانقطاع إلى الحق.

والعبادة التي خلت عن اللذة والحلاوة عبادة بلا روح ولا يستفيد القلب منها.

فيا أيها العزيز آنس قلبك بآداب العبودية وأذق ذائقة الروح حلاوة الذكر، وهذه اللطيفة الالهية تحصل في بدء الامر بشدة التذكر والانس بذكر الحق، ولكن في حال الذكر لا يكون القلب ميّتا ولا تستولي عليه الغفلة، فاذا آنست قلبك بالتذكر فتشملك العنايات الازلية بالتدريج ويفتح على قلبك أبواب الملكوت وعلامة ذلك التجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل حلول الفوت.

اللهم أعطنا نصيباً من لذة مناجاتك وحلاوة مخاطباتك واجعلنا في زمرة الذاكرين والمنقطعين إلى عزّ قدسك، وهب لقلوبنا الميّتة حياة دائمة واقطعها عمّن سواك ووجهها اليك انك ولي الفضل والانعام.

 

الفصل الثاني  

في بعض آداب الاستعاذة

قال تعالى: " فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون انما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون " (النحل 98 - 99 - 100).

من الآداب المهمة للقراءة وخصوصا القراءة في الصلاة التي هي السفر الروحاني إلى الله والمعراج الحقيقي ومرقاة وصول اهل الله، الاستعاذة من الشيطان الرجيم الذي هو شوكة طريق المعرفة ومانع السير والسلوك إلى الله، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوله في السورة المباركة الاعراف حيث قال: " فبما أغويتني لاقعدنّ لهم صراطك المستقيم " (الأعراف - 16)، فإنه حلف ان يسد الطريق على أولاد آدم ويمنعهم عنه ففي الصلاة التي هي الصرلط المستقيم الانساني ومعراج الوصول إلى الله لا يتحقق الوصول من دون الاستعاذة من هذا القاطع للطريق، ولا يحصل الامان من شره من دون الاستعاذة إلى حصن الالوهية الحصين، ولا تتحقق هذه الاستعاذة بلقلقة اللسان والصورة بلا روح والدنيا بلا آخرة كما هو مشهود في أشخاص قالوا بهذا القول منذ أربعين أو خمسين سنة وما نجوا من شرّ هذا القاطع للطريق ويتبعون الشيطان في الاخلاق والاعمال بل في العقائد القلبية، ولو كنا مستعيذين من شرّ هذا الخبيث بالذات المقدسة للحق تعالى وهو الفيّاض المطلق وصاحب الرحمة الواسعة والقدرة الكاملة والعلم المحيط والكرم البسيط لاعاذنا الله ولصلح ايماننا وأخلاقنا وأعمالنا. فلا بدّ أن نفهم بأن التأخّر عن هذا السير الملكوتي والسلوك الالهي مهما كان فهو بواسطة إغواء الشيطان والوقوع تحت السلطنة الشيطانية من قصور أنفسنا أو من تقصيرنا حيث لم نقم بآدابه المعنوية وشرائطه القلبية، كما أن عدم نيلنا في جميع الاذكار والاوراد والعبادات نتائجها الروحية والآثار الظاهرية والباطنية فهو من أجل هذه الدقيقة، ويستفاد من الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة للمعصومين عليهم السلام آداب كثيرة وتعدادها يحتاج إلى الفحص الكامل واطالة الكلام ونحن نكتفي بذكر بعضها، فمن مهمّات آداب الاستعاذة الخلوص كما نقله سبحانه عن الشيطان انه قال: " فبعـزّتك لاغوينّهـم أجمعين الا عبـادك منهـم المخلصيـن " (ص - 82 - 83) وهذا الاخلاص كما يظهر من الكريمة الشريفة أعلى من الاخلاص العملي وأعم من العمل الجوانحي أو العمل الجوارحي لأن المخلص بصيغة المفعول، ولو كان المنظور هو الاخلاص العملي لكان التعبير بصيغة الفاعل، فالمقصود من هذا الاخلاص هو خلوص الهوية الانسانية بجميع شؤونها الغيبية والظاهرية والاخلاص العملي من رشحاته، وهذه الحقيقة واللطيفة الالهية وان كانت لا تحصل للعامة في ابتداء السلوك الا بالرياضات العملية الشديدة وخصوصا الرياضيات القلبية التي هي أصلها كما أشير اليه في الحديث المشهور: " من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه " فمن أخلص أربعين صباحا (بمقدار تخمير طينة آدم، وكان أربعين صباحا، والربط بينهما معلوم عند أهل المعرفة وأصحاب القلوب) نفسه لله وأخلص أعماله القلبية والقالبية للحق تعالى ويكون قلبه الهيا ولا ينفجر من القلب الالهي سوى عيون الحكمة، فيكون لسانه الذي هو أكبر ترجمان للقلب ناطقا بالحكمة.

ففي أول الامر يكون اخلاص العمل موجبا لخلوص القلب فاذا صار القلب خالصا تظهر على مرآة القلب أنوار الجلال والجمال التي أودعت بالتخمير الالهي من طبنة آدم وتتجلى وتسري من باطن القلب إلى ظاهر ملك البدن.

وبالجملة، الخلوص الذي يوجب الخروج من تحت السلطنة الشيطانية هو خلوص هوية الروح وباطن القلب لله تعالى، و إلى هذا الخلوص يشير أمير المؤمنين سلام الله عليه في المناجاة الشعبانية: إلهي هب لي كمال الانقطاع اليك.. فاذا وصل القلب إلى هذه المرتبة من الاخلاص ينقطع بالكلية عما سوى الله ولا يتطرق في مملكة وجوده غير طريق الحق ويقبله الحق تعالى في معاذه ويقع في الحصن الحصين للالوهية، كما قال تعالى في الحديث القدسي: كلمة لا اله الا الله حصني فمن دخل في حصني أمن من عذابي.. وللدخول في حصن لا اله الا الله مراتب كما أن للامن من العذاب ايضا مراتب، فمن وقع بباطنه وظاهره وقلبه وقالبه في حصن الحق وصار في معاذه فقد أمن من جميع مراتب العذاب، وأعلى مراتبها عذاب الاحتجاب عن جمال الحق والفراق عن وصال المحبوب جلّ جلاله فمن حصل له هذا المقام فهو عبد الله على الحقيقة ويقع تحت قباب الربوبية ويكون الحق تعالى متصرفا في مملكته ويخرج عن تحت ولاية الطاغوت. وهذا المقام من أعز مقامات الاولياء وأخص مدارج الاصفياء وليس لسائر الناس منه حظ، بل لعل القلوب القاسية للجاحدين والنفوس الصلبة للمجادلين البعيدة عن هذه المرحلة بمراحل تنكر هذه المقامات، ويحسبون الكلام في أطرافها باطل بل ينسبون والعياذ بالله هذه الامور التي هي قرّة عين الاولياء والكتاب والسنة مشحونة بها إلى المنسوجات للصوفية والاراجيف للحشوية.

ونحن ايضا ان تذكرنا هذه المقامات التي هي في الحقيقة مقام الكمّل فليس من جهة أن لنا فيها حظا أو أن نمدّ اليها عين الطمع، بل من جهة أننا لا نجوّز انكار المقامات ونرى ذكر الاولياء ومقاماتهم دخيلا في تصفية القلوب وتخليصها وتعميرها لأن ذكر الخير بالنسبة إلى اصحاب الولاية والمعرفة يوجب المحبة والتواصل والتناسب، وهذا التناسب يوجب التجاذب وهذا يسبّب التشافع الذي ظاهره الاخراج من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية والعلم وباطنه الظهور بالشفاعة في العالم الاخرة لأن شفاعة الشافعين لا تكون من دون تناسب وتجاذب باطني ولا تكون عن جزاف وباطل.

وبالجملة، التخليص بهذه المرتبة الكاملة وان كان لا يتيسّر لغير الكمّل من الاولياء والاصفياء عليهم الصلاة والسلام بل المقام الكامل لهذه المرتبة من مختصات النبي الخاتم والقلب الخالص النوراني الاحدي الاحمدي الجمعي المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم بالاصالة وللكمّل والخلّص من أهل بيته بالتبعية، ولكن لا يجوز للمؤمنين والمخلصين أيضا أن يغضّوا النظر عن جميع مراتبه ويقنعوا بالاخلاص الصوري العملي والخلوص الظاهري الفقهي لأن الوقوف في المنازل من الاعمال والافكار العبقرية لإبليس، فهو قاعد على سبيل الانسان والانسانية ويمنعه بأيه وسيلة كانت عن العروج إلى الكمالات والوصول إلى المدارج فلا بدّ من علوّ الهمة وتقوية الارادة، فلعل هذا النور الالهي واللطيفة الربانية تسري من الصورة إلى الباطن ومن الملك إلى الملكوت والانسان اذا نال أي مرتية من الاخلاص يكون بمقدارها في لواذ الحق وتتحقق الاستعاذة وتقصر يد تصرّف العغريت الخبيث والشيطان عن الانسان، فأنت اذا أخلصت الصورة الملكية الانسانية لله وجهلت الجيوش الظاهرة الدنيوية للنفس التي هي عبارة عن القوى المتشتتة في ملك البدن في ملاذ الحق وطهّرت الاقاليم السبعة الارضية أي البصر والسمع واللسان والبطن والفرج واليد والرجل من قذارات المعاصي وجعلتها تحت تصرّف ملائكة الله الجيوش الالهية فتصير بالتدريج هذه الاقاليم حقانية وتتصرّف بتصرف الحق إلى أن يكون هو نفسه ايضا من ملائكة الله أو مثل ملائكة الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فتحصل المرتبة الاولى من الاستعاذة ويرحل الشيطان وجيوشه عن المملكة ويتوجّهون إلى الباطن ويهجمون على القوى الملكوتية النفسانية، فمن هذه الجهة يصير أمر السالك أصعب وسلوكه أدق ولا بد له أن يكون قدم سيره أقوى ومراقبته أكمل ويستعيذ بالله المتعال من المهالك النفسانية من العجب والرياء والكبر والخيلاء وغيرها، ويشتغل بالتدريج بتصفية الباطن عن الكدورات المعنوية والقذارات الباطنية، ومن مهمات هذا المقام بل جميع المقامات، ومن مهمّات السلوك وأركان العروج التوجّه التام إلى التوحيد الحق الفعلي وتذكير القلب بهذه اللطيفة الالهية والمائدة السماوية، واذاقة القلب حقيقة مالكية الحق تعالى للسموات والارض والباطن والظاهر والملك والملكوت حتى يرتاض القلب بالتوحيد في الالهية ونفي الشريك في التصرف ويخمّر بالتخمير الالهي ويربّي بتربية التوحيدي، فلا يرى القلب ولا يعلم في هذه الحالة مفزعا ولا ملجأ ولا ملاذا ولا معينا سوى الحق، ويستعيذ بالحق ومقام الالوهية بالطوع والحقيقة، وما لم يقطع القلب عن تصرّف سائر الخلق ولم يغمض عين الطمع عن الموجودات لا يلوذ بالله على الحقيقة وتكون دعواه كاذبة وينسلك في مسلك أهل المعرفة في زمرة المنافقين وينسب إلى الخدعة والتغرير وفي هذا الوادي المهيب والبحر العميق الخطير استفادة التوحيدات الثلاثة استفادة علمية من نفخة حكيم رباني أو عارف نوراني يعين باطن القلب اعانة لائقة، ولكن شرط هذه الاستفادة أن يشتغل بها بنظر الآية والعلامة والسير والسلوك إلى الله ولا تكون نفس هذه الاستفادة شوكا للطريق وحجابا لرؤية جمال المحبوب كما لقّب رسول الله صلى الله عليه وآله هذا العلم في الحديث الشريف للكافي: " أية محكمة ".

وبالجملة، اذا استحكم في القلب أصل التوحيد الفعلي للحق وسقي بماء العلم التوأم بالعمل اللطيف الذي يقرع باب القلب تكون نتيجته تذكر مقام الالوهية ويصفى القلب بالتدريج للتجلي الفعلي للحق. فاذا خلت الدار من الغدّار والعش من الغش يتصرف في البيت صاحبه وتأخذ يد ولاية الحق القوى الملكوتية والملكية من ملكوت الباطن والقلب إلى الملك وظاهر البدن تحت تصرفه وحكومته وترتحل الشياطين أجمع من هذه المرحلة أيضا وترجع المملكة الباطنية إلى استقلاله الذي هو عين الاستظلال للحق، وهذه المرتبة الثانية (من اللطيفة الربانية للاستعاذة). وبعد هذا المقام هو استعاذة الروح واستعاذة السر وسائر مراتب الاستعاذة لا تناسب هذه الاوراق، وهذا المقدار ايضا ظهر في صورة الترقيم من طغيان القلم أو من جراء قلم المولى جلّ وعلا وإليه المفزع.

ومن الآداب والشرائط الاستعاذة التي أشير اليها في الآية الشريفة التي ذكرناها في أول الفصل الايمان وهو غير العلم، حتى العلم الذي حصل بالبرهان الحكمي، فإن الشيطان مع أن له العلم بالمبدأ والمعاد بنصّ القرآن محسوب في زمرة الكفّار، فلو كان الايمان عبارة عن هذا العلم البرهاني يلزم أن يكون الواجدون لهذا العلم بعيدين عن تصرّف الشيطان ويتلألأ فيهم نور هداية القرآن، مع أننا نرى أن هذه الاثار لا تحصل بالايمان البرهاني فإن اردنا أن نخرج من تصرّف الشيطان ونقع تحت عوذة الحق لابد وأن نوصل الحقائق الايمانية إلى القلب بالارتياض القلبي الشديد ودوام التوجّه أو كثرته وشدّة المراودة والخلوة فاذا صار القلب إلهياً يخلو من تصرّف الشيطان كما قال الله تعالى: " الله وليّ الذين آمنو يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة - 257). فالمؤمنون الذين يتصرف ويتولىّ الحق تعالى في ظاهرهم وباطنهم وسرّهم وعلانيتهم خالصون من تصرّفات الشيطان وداخلون في سلطان الرحمن، ويخرجهم من جميع مراتب الظلمات إلى النور المطلق فينتقلون من ظلمة المعصية والطغيان ومن ظلمة كدورات الاخلاق الرذيلة وظلمة الجهل والكفر والشرك ورؤية النفس وحب النفس والعجب إلى نور الطاعة والعبادة وأنوار الاخلاق الفاضلة ونور العلم وكمال الايمان والتوحيد ورؤية الله وطلب الله وحب الله.

كما أن من آداب الاستعاذة التوكل، وهو ايضا من شعب الايمان ومن الانوار الحقيقية للّطيفة الايمانية وهو تفويض الامور إلى الحق الذي يحصل من ايمان القلب بالتوحيد الفعلي وتفصيله خارج عن نطاق هذه الاوراق.

فاذا لم ير العبد السالك مفزعا وملاذا غير الحق تعالى وعلم أن التصرّف في الامور منحصر في الذات المقدسة تحصل في القلب حالة الانقطاع والتوكل وتصير استعاذته حقيقية، فاذا لجأ بالحقيقة إلى حصن الربوبية والالوهية الحصين فيأخذه لا محالة في كنف ظلّه ورحمته الكريمة انه ذو فضل عظيم.

تتميم ونتيجة: قد علم من مطالب الفصل السابق ان حقيقة الاستعاذة عبارة عن حالة وكيفية نفسانية تحصل من العلم الكامل البرهاني بمقام التوحيد الحق الفعلي والايمان به بمعنى أنه بعدما فهم من طريق العقل المنور بالبرهان المتين الحكمي والشواهد النقلية المستفادة من النصوص القرآنية واشارات الكتاب الالهي والاحاديث الشريفة وبدائعها ان السلطنة الايجادية والاستقلال في التأثير بل أصل التأثير منحصرة بالذات الالهية المقدسة وليس لسائر الموجودات فيها شركة، كما قرّر في محله لابد له من تنبيه القلب بها وأن يكتب بقلم العقل على لوحة القلب حقيقة لا اله الا الله ولا مؤثّر في الوجود الا الله فاذا آمن القلب بهذه اللطيفة الايمانية والحقيقة البرهانية تحصل حالة انقطاع والتجاء. واذا وجد الشيطان قاطع طريق الانسانية والعدو القوى لنفسه تحصل له حالة الاضطرار وهذه الحالة القلبية هي حقيقة الاستعاذة، وحيث أن اللسان ترجمان القلب يظهر بلسانه تلك الحالة القلبية مع كمال الاضطرار والاحتياج ويقول على الحقيقة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واذا لم يكن في القلب اثر من هذه الحقائق ويكون المتصرف في القلب وسائر المملكة الوجودية هو الشيطان وتكون استعاذته ايضا بتصرف الشيطان وتدبيره، وفي التلفّظ يقول بالاستعاذة بالله من الشيطان ولكن في الحقيقة حيث أن التصرف شيطاني تقع الاستعاذة بالشيطان من الله تعالى وتحقق نفس الاستعاذة عكس المطلوب ويستهزئ الشيطان بقائلها وتتبين نتيجة هذه السخرية بعد كشف الغطاء وانطواء حجاب الطبيعة ومثل هذا الشخص الذي استعاذته لفظية فقط كمثل من يريد أن يستعيذ من شرّ العدوّ الجرّار إلى حصن منيع ولكن يمشي هو نفسه نحو العدوّ ويولّي الوجه عن الحصن ويقول لفظاّ إنّي أعوذ من شرّ هذا العدو بهذا الحصن. هذا الشخص مضافا إلى أنه يبتلي بشر العدو يكون سخرية له ايضا.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست