وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقام الزعامة الكبرى في الأمة وموضع القيادة العامة من صفوفها , وسلطته هذه مستمدة من صميم الرسالة التي يجهد لأدائها ويكدح لاعلائها . ومن صريح المبدأ الذي يعمل لنشره ويقوم على تنفيده .
من جوهر كلمة الله التي انيطت به ومن طبيعة دين الله الذي يُعنى بتبليغه يستمد الرسول زعامته المطلقة للبشر , وقيادته العامة لصفوفهم , وولايته الكبرى على أمورهم , فبيعته هي بذاتها بيعة الله الذي أهله لهذه الزعامة , واختصه بهذه الكرامة , والموفون ببيعته من الناس إنما يوفون ببيعة الله المبرمة , والناكثون منهم إنما يخيسون بعهد الله الوثيق, والله وحده ولي الجزاء الحق للناكثين والموفين:) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم , فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ( [1] .
والرسول واجب الإطاعة على الناس جميعاً , وفرض طاعته هذا بإذن الله رب الناس , ملك الناس , إله الناس :) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأذن الله( [2], وما كان الله لينتدبه لهداية الخلق ثم لا يضمن لكلمته النفوذ , ولا يعبّد طريقها إلى القلوب , وما كان الله لينيط به تقويم المجتمع , وحسم أدوائه وعلاج مشكلاته ثم لا يوليه الأمر في تدبيره , ولا يؤتيه القياد في تسييره . وما كان الرسول أن تكون طاعته بغير إذن الله وهو يحمل رسالته ويدعو إلى توحيده وينفي الانداد والأضداد معه , وما كان لذي عقل أن يصدّق قائلاً عن الله وهو يبتغي الطاعة من المخلوقين باسم سواه .
وحتى مغفرة الذنوب وهي في دين الإسلام من شؤون الله وحده , ولا إرادة لأحد من المخلوقين فيها بنقص ولا إبرام . أجل فالله وحده هو واضع الحدود والتبعات , ومالك الجزاء والعفو وعالم السر والعلانية , وقابل التوبة عن عباده , ومحصي أعمالهم والمطلع على نياتهم . وليس في دين الإسلام كراسي اعتراف ولا صكوك غفران .
أقول حتى مغفرة الذنوب , فإن لجوء المذنب إلى شفاعة الرسول , والتوسل به إلى الله في نيل الغفران ودعاء الرسول (ص) له بالتوبة , هذه الوسائل أجدى له في استيجاب المغفرة من الله وشمول الرحمة , وأدنى لقبول إنابته والعفو عن تقصيره :) ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً ( [3].
وأمر الرسول عزيمة من عزائم الله سبحانه . لا يجوز أن تخالف ، ولا موقع معها لمشاورة , ولا مساغ بعدها لتردد . ومن تطمعه نفسه بمخالفة هذه العزيمة الالهية فإنما يتعرض بصنعه هذا للمقت الكبير وللضلال المبين :) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم , ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ( [4] .
والتسليم لحكم الرسول فيما شجر بين الناس لازمة من لوازم الأيمان , بل وركيزة من ركائزه , فلا يقر الأيمان في قلب أحد ولا ترسخ قواعده ولا تقوم دعائمه بدونها . التسليم الاختياري الكامل, بحيث تتآزر النفس والفكر والضمير والارادة والظاهر والباطن على الخضوع لحكمه والاقتناع بفضله و وبحيث لا يجد المحكوم في قرارة نفسه من إصدار الحكم عليه ضيقاً , ولا في تنفيده حرجاً ولا في الانقياد لموجبه ضعة :) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم , ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً( [5] . هذا الوازع النفسي المكين المنطبع في دخيلة الإنسان وفي أعماق قلبه وروحه , الذي يحمل على التسليم لحكم الرسول في نفسه وأهله وماله وولده دون حرج ولا ضيق , هو المتم للإيمان ، وهذه الطمأنينة التامة إلى قوله حتى في مواقع الشجار ـ والشجار مظنة للتعصب خلاف الهدى ـ هي المظهر الصادق له .
والرسول إلى ذلك جميعه هو المثال الكامل للانسانية الكاملة, بأفعاله تقتدي الأمة, ومن أنواره تقتبس , وعلى هديه تسير :) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً( [6] . كل هذه لوازم لا تنفك عن طبيعة النبوة, ولا تنفصل عن حقيقة الدين, وعن نظام الدعوة إليه, مهما اتسعت أو ضاقت آفاق الدعوة، ومهما صعبت أو سهلت مهمة النبي أو الرسول, فأنبياء الله ورسله كافة يشتركون في هذه الحقوق ويتبوؤن هذه المنزلة, كل في نطاق دعوته, أما الاعتراف بنبواتهم أجمع فقد أوجبه الإسلام على البشر أجمع:) آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله , لا نفرق بين أحد من رسله و وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير( [7].
من فكرة التوحيد العامة التي قبسها الإسلام من الوحدة الكونية الكبرى . وحدة الكون في العناصر , واتساقه في الأنظمة وتجانسه في الغايات . ثم تداخل أنظمته هذا التداخل الشديد حتى لا تكاد تفترق , وترابط غاياته هذا الترابط الوثيق حتى لا تكاد تتعدد, وانسجام الموجودات فيه على التآلف , وإمداد بعضها بعضاً بالعون . ثم خضوع كل ما في الكون من القوانين لقانون , وانصياع كل ما فيه من الأشياء والحركات لإرادة .
من فكرة التوحيد العامة التي قبسها الإسلام من هذه الوحدة الكبرى نشأت فكرة المجتمع في هذا الدين , وعلى هذا الأساس البعيد الغور العميق الجذور شد أواصر الإنسان بمن حوله من أناسي , وبما أحاط به من أحياء وبما اكتنف به من أشياء . وعالج مشكلاته بما هو جزء من الكون لا ينفصل , وبما هو خاضع للطبيعة لا يستقل , ونظر في اُموره بما هو كائن يشده إلى الأرض جسد مخلوق من عناصر المادة , وتصله بالسماء نفس لها روحانية الملائكة ، وتوقره الحياة بغرائز لا يرتفع بها عن صنوف الحيوان ، وترقده الإنسانية بخصائص لا يسمو إليها شيء من الموجودات .
بهذا المنظار الدقيق الذي ينفذ إلى أعمق الأعماق في بيئة الإنسان الكونية وإلى غور الأغوار في دخيلته الذاتية يستوعب الإسلام كل خصائص هذا الكائن فحصاً. ويستقرئ كل ملابساته درساً, كي يصف له العلاج الواقي ويضع له المنهاج الراقي .
العلاج الذي يحسم عنه كل داء , والمنهاج الذي يسدده في كل مدى .
أقول : على هذه الوحدة العامة التي تربط بين أجزاء الكون وتصل بين متفرقاته وتؤلف بين غاياته بنى الإسلام جميع تشريعاته للإنسان , فأي حكم من أحكامه شرّعه للإنسان بما هو موجود مستقل فهو حكم له كذلك بما هو فرد من أفراد المجتمع , وهو حكم له بما هو مولود من مواليد الحياة , وشيء من اشياء الطبيعة, وأخيراً بما هو جزء من أجزاء الكون . وعلى هذه الركيزة وضع الإسلام فكرته في الاجتماع وأسس نظامه للمجتمع , فالبشرية بجميع أصنافها وبكل تخومها وأطرافها مجتمع واحد , متكافئة اعضاؤه في الحقوق , متعادلة في الواجبات متماثلة في الاعباء والتبعات , فلا فارق في شريعة الإسلام بين دم ودم ولا بين جنس وجنس , ولا بين لون ولون , ولا بين موطن وموطن , ولا بين زمان وزمان , ولا بين طبقة وطبقة :) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا , إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم , إنّ الله عليم خبير([8].
مجتمع واحد يشد بعضه ببعض نسب الكون قبل أي نسب ثم آصرة الطبيعة ورحم المادة ولحمة الحياة وقربى البشرية . ثم هذه الركائز العتيدة المودعة في كيانه بما هو بشر , أوفي طبيعته بما هو حيوان , هذه الركائز الاجتماعية من غرائز وعواطف وأحاسيس وأشواق , وقوى وملكات .
هذا النسب العريق العميق هو الذي يربط المجتمع الإنساني بعضه إلى بعض في نظر الإسلام . أما الضرورات التي تلحق المرء بعد وجوده وتضطره إلى الاجتماع . أما فاقة المرء إلى الالتفاف لضمان قوته وضمان كسوته وضمان حاجاته في العيش وحمايته من العدوان , أما هذه الضرورات فإنما هي مؤكدات يأتي دورها بعد إقامة البناء .
من ذكر واحد وأنثى واحدة خلق الله الناس كلهم فلا امتياز لأحد منهم على أحد , ولا فضل لقبيل على قبيل . أما تفريقهم شعوباً وقبائل فحكمته الوحيدة الفريدة هي أن يتعارفوا , وأما الميدان الوحيد للتفاضل بين الأفراد وبين الأجناس منهم فإنما هو ميدان التقوى . تقوى الله في السر والعلن والانقياد لأوامره في الظاهر والباطن. فمن شاء السبق منهم في هذا المضمار فليسبق فقد أرصد الجزاء وأُتيحت الفرص للناس أجمعين .
البشرية بجميع أصنافها وألوانها مجتمع واحد , فلا تخضع إلا لرب واحد , هو بارؤها بعد العدم , ومكثرها بعد القلة ومقويها بعد الضعف , ورافعها بعد الضعة, وهو منشؤها على الحكمة , وفاطرها على الحب , وموجهها إلى الكمال , وهاديها بعد الضلال :) إنّ هذه أُمتكم أُمة واحدة , وأنا ربكم فاعبدون( [9].
والبشرية بجميع أصنافها وألوانها مجتمع واحد فيجب أن تجتمع على عقيدة واحدة وأن تأتلف على دين واحد , هو نظامها الذي يحكم بينها الأواصر ويوزع الحقوق وينظم الحدود والذي يعدّ الفرد ويتجافى به عن الاثرة , ويهذب الأمة ويعلو بها عن النقائض :) إن الدين عند الله الإسلام , وما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ([10], ) ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين( [11].
ولا مكان في هذا المجتمع لأزيد من حكومة واحدة , ولا مساغ فيه لأكثر من حاكم عام واحد .
حكومة تتمثل فيها وحدة ذلك المجتمع المرتكزة على العقيدة .
وحاكم يتجسد فيه روح ذلك النظام المستمد من الدين .
وعقيدة التوحيد التي يعتنقها المسلم ومبدأ الوحدة الذي ينتهض عليه الإسلام يتناصران على وضع هذه النتيجة وإقامة هذه الدعامة.فلا يعترف الفرد المسلم ولا المجتمع المسلم بحكومة لغير الله الكبير المتعال الذي خضع له في العقيدة ,ودان له في العبادة ,واذعن له في السلوك أما الحكومات الأرضية فلا يخضع لها المسلم خضوعاً دينياً حتى يعترف بها دين الله بنص قاطع وتقرير صريح.
ومحال أن يعترف دين الله بحكومة لا اتنطبع بطابعه الكامل,وبحاكم لا يمثل روحه التام . محال أن يعترف دين الله بهما وأن يأمر باطاعتهما إذا لم يكونا صورة شاخصة للدين في كل سلوك ,وفي كل سمة,وفي كل سجية,حتى لا يشذان عنه في وجهه,ولايصدفان عن تعاليمه في تصرف.
والحكومة التي تتخذ هذه الصفة هي بلا ريب حكومة الله على وجه الأرض والحاكم الذي ينال هذه الكفاءة هو بلا مراء قيم الله على عباده . وطاعة المسلم لهما إنما هي طاعة لقوانين الله وحدوده وخضوعه لهما إنما هو خضوع لله فيما أمر وزجر .
محال أن يعترف دين الله بهما وأن يأمر المسلمين بطاعتهما إذا لم يكونا كذلك . فإن دين الله موحد لا يقبل التجزئة , وأحكامه متماسكة [12] لا يدخلها التبعيض واعترافاته معصومة لا تعرف المحاباة .
نعم دين الله موحد لا يقبل التجزئة , وأحكامه متماسكة لا يدخلها التبعيض , لأن الغاية التي يستهدفها هذا الدين موحدة لا تقبل الانقسام والانحلال , فنظام الحكم فيه شطر من نظام الاجتماع , وقانون السياسة جزء من قانون الخلق , ودستور المادة جانب من دستور الروح , ومبدأ الاقتصاد ناحية من تشريعات العبادة , وأنظمة الحرب فصول من أنظمة السلم , ومناهج الحياة في الدنيا هي بذاتها مناهج السعادة في الآخرة . وكل واحد من هذه القوانين المتنوعة ظل من ظلال العقيدة , ونقطة الارتكاز فيها كافة هي تلك الصلة العميقة الوثيقة التي تصل العبد بربه وتولهه بحبه , وتسلم وجهه إليه , وتعلقه بتدبيره .
فلا فصل في الإسلام لسياسة عن دين , ولا لحكومة عن عقيدة , ولا لمبدأ عن مبدأ , ولا لتشريع عن تشريع . وليس لقيصر في هذا الدين مجال لا يخضع فيه لأمر الله , وإنما هو حكم الله النافذ في كل صغير وكبير , وتشريعه المستوعب لكل بادية وخافية , وحكمته المحيطة بكل خاصة وعامة . وليس أشد خطراً في دين الله من التبعيض فيه , فيؤخذ منه ويترك كما تقترح الاهواء . إن هذا الصنع ليس تديناً بل هو تقلب مع الشهوات . والله سبحانه يحذّر منه أبلغ التحذير:
) أ فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا , ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب , وما الله بغافل عما تعلمون( [13] .
من أجل هذا التوحيد والترابط في أنظمة الدين وجب أن يكون الرسول (ص) ما دام حياً ـ هو الرأس الأعلى للحكومة المسلمة كما هو الزعيم الأعلى للدين .
ومن أجل هذا التوحيد والترابط فيها وجب أن يخلف الرسول بعد موته من يمثله تمثيلاً صادقاً في هاتين الوظيفتين .
ومبدأ العدل العام هو الآخر يسوق الباحث سوقاً إلى هذا الاستنتاج .
هذا المبدأ القويم الذي جرت عليه سنة الله في التكوين , لما وازن في المكونات بين متنوع العناصر , وواءم بين مختلف النسب . فركب في الإنسان من العناصر ما يعتدل به كيانه , ومن المقادير ما تتزن به قواه ومن الأجهزة ما ينتظم به وجوده ويُضمن به بقاؤه ثم يحفظ به نوعه :) يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . الذي خلقك فسواك فعدلك . في أي صورة ما شاء ركبك ( [14].
في كل حي وفي كل شيء ليس في الإنسان وحده هذا الاتزان الكوني الرتيب وهذا التناسق النوعي المطرد . في كل ما أظهرته يد القدرة وخطته كف الإبداع :) وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( [15].
هذا المبدأ المستقيم الذي جرت عليه سنة الله في التكوين , وجرت عليه كذلك سنته في التشريع فاعتمده الإسلام في صوغ مناهجه , وعقد به عامة أحكامه . وكان أول بروز له في هذا الدين أن جعل العدل صفة من صفات الله يعترف بها من يعترف بالإسلام ويؤمن بها من يؤمن بالقرآن .
العدل في نسقه الأعلى وفي أُفقه المحيط, بحيث لا يكدر صفاءه ظلم, ولا يحيط بتخومه حد, ولا تبلغ مداه قدرة, ولا يتناهى ببقائه أمد. هذا العدل الكامل الشامل هو صفة الله تعالى التي يدين بها الإسلام ويفتن باثباتها القرآن :) شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ([16].) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً([17].
ثم سار الإسلام والعدل يحدد به غايته ويرسي عليه قواعده وينيط به تشريعه,) لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ([18] لإقامة هذا المبدأ السوي وإشاعته بين آحاد البشر , وغرس هذه الفضيلة العامة في النفوس وطبعها في القلوب ونشرها بين الأمم وتعميمها على جميع الأجيال في مدى الأزمان , لهذه الغاية العظيمة الشامخة أرسل الله سبحانه رسله بالبينات ، وأنزل معهم الكتاب الذي لم يفرط شيئاً , والميزان الذي لا يهمل فتيلاً ولا يظلم قطميراً .
ليقوم الناس بالقسط.
ليقوم به الناس أجمعون .
هذه غاية الإسلام وهذا جوهر نظامه ولباب دعوته .
القصد والاتزان طريقة الله المثلى لما برأ المكونات وأظهر المقدرات . فلم ينقص من كائن خلطاً يفتقر إلى نظامه ولم يزد فيه عنصراً يستغني عنه تدبيره . والقصد والاتزان طريقة الله المثلى لما وضع الدين وشرع الشريعة , فلم يهمل وجهاً تستدعيه إقامة العدل , ولم يبح أمراً يضر به أو يقف في طريقه . العدل التام في جميع مناحي الإنسانية الكثيرة , وآفاقها المتباعدة .
في غرائز المرء وركائزه وعوارضه وأهدافه ونزعاته وملكاته . وفي أجهزة المجتمع واعضائه وتخومه وحدوده وعلائقه وبوائقه ورئيسه ومرؤوسه .
العدل التام الكامل في كل هذه الانحاء من الإنسانية , بحيث لا يولي كنفاً منها أكثر مما يستوجب ولا يؤتيه أقل مما يستحق .
وفي القرآن الكريم نيف وخمسون آية تنعت دين الإسلام بالاستقامة وتحدد غايته بالقسط والعدل , وفيه مئتان وأربعون آية تصف لأتباعه مغبة الظلم , وتنذر الظالمين سوء المنقلب .
والقرآن شديد اللهجة حين يذكر الظلم , رهيب الأسلوب حين يتحدث عن الظالمين, يكاد يبطش بالجناة وهو يقدم إليهم النذر , ويكاد يمسك باكظامهم وهو يوجه إليهم القوارع .
) ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون . إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء . وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب . نجب دعوتك ونتبع الرسل . أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال . وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال . وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام . يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار . ليجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب . هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب( [19] .
أقرأت هذه النذر التي تستك لها المسامع من الهول , وتنخلع لها القلوب من الوعيد؟ .
إنها من أساليب القرآن في وعيد الظالمين .
والقرآن حين يذكر هؤلاء ـ في الأكثرـ يعني بهم هذه الثلة من الناس التي تبدأ بظلم أنفسها قبل أي أحد , فتجعل على قلوبها اكنة وفي آذانها وقراً . أن تفقه معنى العدل وأن تستبين محاسنه وأن تسمع دعوة الله إليه ، ثم تندفع مع الشهوات وتتردى مع البدوات . وفي الآيات الكريمة السابقة ما يدل على هذا .
هذا هو المنهج الذي استنه الإسلام في تشريعه ولم يتنكبه قيد شعرة .
والنتيجة المحتومة لذلك أن الحكومة التي يقيمها الإسلام يجب أن تكون حكومة العدل المطلق , وأن الرئيس الذي يعترف به الإسلام لهذه الحكومة يجب أن يكون ممثل العدل الأعلى .
حكومة تطبق عدل الإسلام في قوانينه فلا تقسو حين يتسامح الإسلام , ولا تلين حين يشتد , وزعيم يمثل عدل الله في دخيلة نفسه , فلا يقف حيث يأمره الله بالانطلاق , ولا يتحرك حيث يأمره بالسكون , ولا ينحرف به هوى ولا تهوي به غفلة , ولا تؤخذ عليه نبوة .
ثم هو إلى هذه اللازمة النفيسة العاصمة لا يجهل أمراً من أوامر الله تعالى ولا حداً من حدوده , ولا حكماً من شريعته . لأنه لو صح أن يجهل شيئاً من ذلك لأمكن أن يقع فيما يخالف العدل , أو يقرّ ما يباين الحق .
والمخالفة الجاهلة أو الغافلة أمر يتسامح فيه الاسلام مع العامة من الناس , لأنه دين اليسر والسماح . أما هذه المخالفات إذا وقعت من الممثل الأعلى فلا يتغاضى عنها الإسلام , وما يكون له أن يتغاضى عنها . ذلك أنها لا تعد مخالفات فردية يحمد فيها التساهل , وإنما هي مخالفات في ذات القانون نفسه , وفي صدق تمثيله وضمان غايته فالإغضاء عنها والتسامح في أمرها تهافت لا يحتمله قانون يحترم نفسه ويحرص على بلوغ غايته .
فلا بد إذن من النظر في أمر هذه المخالفات ولا بد من العمل لها والتفادي عن الوقوع فيها .
وسبيل الله هنا أن يمد الفرد الذي يصطفيه لهذه الزعامة بقوة عاصمة تقيه المزالق, وتتعالى به عن النقائص .
بلى هذه هي الثمرة الطبيعية لذلك الاتجاه .
حكومة إلهية تتلقى الأنظمة من تشريع الله .
وخليفة معصوم يستلم أزمة الحكم بتعيين الله .
وحكومة الرسول (ص) هي النموذج الذي قدمه الإسلام من هذه الدولة , وهي الحلقة الأولى من السلسلة المثالية التي أعدها الله لهذه الغاية .
وتوالت نصوص الإسلام تعضد هذه النتيجة وتؤكدها , فالنص يتلو النص , والبرهان يقفو البرهان . وأمر الامامة أجلى من هذه النصوص الغفيرة الكثيرة لولا تدخل الاهواء .
نعم كانت حكومة الرسول (ص) نموذج الدولة الالهية في الإسلام , وليس في وسع مسلم أن يجحد هذا الوصف .
ليس في وسع مسلم أن يجحد أن الرسول (ص) ـ في حياته ـ هو الرئيس الأعلى لحكومة الإسلام , وليس في وسعه أن يجحد أن ركيزة هذه الولاية إنما هو تعيين الله وعهده .
وليس في وسعه أن يجحد أنها زعامة معصومة يسددها وحي الله من جهة ، وتحوطها عصمة الرسول من جهة أخرى .
وليس في مقدور امرئ مسلم أن يجحد شيئاً من هذا كله بعد أن نطق به القرآن وأشادت به نصوص الإسلام . والتفسير الصريح لهذا أن الحكومة الالهية أساس من أسس الإسلام بل وعقيدة من عقائده , ولا يشك في ذلك أي مسلم يحتفظ بإسلامه .
وإذن فأي مساغ لهذه الريبة التي يبديها بعض المسلمين في القول بالامامة ؟ في هذا القول الذي ينفرد به الاماميون . أي مساغ للريبة فيه بعد ثبوت كل هذا ؟
لا بد من الحكومة الالهية . هذا قدر يشترك به جميع المسلمين ويعترفون به كلهم على السواء .
وقصارى ما ينفرد به الشيعة الاماميون عن اخوانهم من سائر المسلمين : إن هذه الحكومة الالهية لا يسوغ أن ينقطع أمدها بموت الرسول (ص) بل يجب أن تخلد مع خلود الإسلام .
مع خلود الإسلام لأنها قاعدة من قواعده .
ومع بقاء المجتمع المسلم لأنها ضرورة من ضروراته .
ومع استمرار الحياة لأن الحكومة الالهية ضرورة لدين الإسلام ودين الإسلام ضرورة للحياة .
هذا ما ينفرد به الشيعة الاماميون عن اخوانهم من سائر المسلمين . فهل يصح أن يجعل مثاراً للتهم ؟ .
وما ينصع الشيعة إذا اضطرتهم طبيعة الإسلام ذاتها إلى هذه العقيدة ؟ . وما يعملون إذا قادتهم نصوص القرأن وصحاح السنة ودلائل العقل، مايعملون إذا قادتهم هذه الحجج كلها قوداً إلى هذه النتيجة ؟ .
والعصمة التي يشترطونها في إمام المسلمين , هل تخرج به عن مصاف البشر وتلحقه بعداد الآلهة كما يشتهي أن يقول المتقولون ؟ ! . هل العصمة في ذاتها جزء إلهي , حتى إذا اشترطناها في الخلافة فقد قلنا في الخليفة بالحُلول ؟ ! وهل للألوهية أجزاء لتعد العصمة واحداً من هذه الأجزاء ولتستطيع هذه القرية أن تقف على قدم ؟ ! .
أ لم تشترطها جمهرة المسلمين في رسالة الرسول ؟ .
فهلا كانت لها هذه اللازمة هناك ؟ وهلا نقدها أحد هناك بمثل هذا النقد ؟ .
العصمة شرط في رسالة الرسول لدى جمهور المسلمين , وان اختلفت فرقهم في تحديد هذا الشرط : أهو العصمة في عهد النبوة فقط أم العصمة حتى فيما قبل هذا العهد ؟ .
ثم أهو العصمة في التبليغ خاصة , أم العصمة عن كبائر الذنوب أيضاً , أم العصمة عن الزيغ في كل ما يقول وفي كل ما يعمل وفي كل ما يسر وفي كل ما يعلن ؟ .
وأخيراً أهو العصمة عن تعمد الوقوع في هذه المهاوي أم العصمة حتى عن السهو والغفلة كذلك؟.
وشيعة أهل البيت وحدهم يقولون : الشرط في رسالة الرسول وفي امامة الإمام العصمة في كل أدوار الحياة من جميع أصناف الذنوب ومن جميع أنواع النقائص, حتى من الخطأ والغفلة والسهو .
والعصمة رصيد نفساني كبير يتكون من تعادل جميع القوى النفسانية , وبلوغ كل واحدة منها أقصى درجة يمكن أن يبلغها الإنسان , ثم سيطرة القوة العقلية على جميع هذه القوى والغرائز والركائز سيطرة كاملة لا تشذ عنها في أمر ولا تستقل دونها في عمل .
هذه الحصانة الذاتية التي يرتفع بها الإنسان الأعلى عن الاتضاع في طبيعته ويمتنع بها عن الانزلاق في إرادته , ثم عن الانحرافات والالتواءات التي تترسب في منطقة اللاشعور , وتتحول ـ كما يقول العلماء النفسانيون عقداً نفسية تتحكم في دوافع المرء وفي سلوكه وفي اتجاهاته وملكاته , وتسوقه من حيث لا يزيد إلى النشوز عن الحق والشرود عن العدل .
هذه الحصانة الذاتية التي توقظ مشاعر الإنسان الكامل فلا يغفل وتعتلي بملكاته وأشواقه فلا ينزلق ولا يكبو , والتي تكفل له صحته النفسية من كل وجه , هذه هي العصمة التي يشترطها مذهب أهل البيت في الرئيس الأعلى لحكومة الإسلام .
وفي ظني أنه شرط بمنتهى الجلاء كما أنه بمنتهى الحكمة .
بمنتهى الجلاء بعد أن كشفت مدارس التحليل النفسي حقيقة هذه الرواسب , وأبانت مدى تأثيرها في سلوك الإنسان ووجهته في الحياة , وبمنتهى الجلاء بعد أن وضعت التربية النفسية الحديثة طرقها لحل هذه العقد , وللابتعاد بالنشء عن هذه الأزمات . في ظني أنه شرط بمنتهى الجلاء والوضوح بعد أن سار العلم هذا الشوط وفرغ من تقرير هذه النتائج .
من جراء هذا الضعف المتواطن في طبيعة الإنسان حين تتعرض له المغريات والمرديات .
ومن جراء هذه العقد اللاشعورية الخالفة في نفس الإنسان من صدماته في الحياة وانزلاقاته في الارادة , وترديه بسبب الجهل أو بسبب الهوى .
ومن أجل طبيعة النظام الذي أنشئت لصيانته الحكومة في الإسلام .
ومن أجل غاية هذا الدين الكبرى التي تتصل بها كل جذوره وتستقي منها كل فروعه .
ومن أجل الأدلة الكثيرة الكثيرة التي تجاوزت حدود المئات ودلت على وجوب العصمة في الامام.
من جراء هذه الأمور كلها قالت الشيعة من اتباع أهل البيت ( ع ) بوجوب العصمة في الرئيس الأعلى لحكومة الإسلام . فهل في ذلك مساغ للريبة ؟ .
ثم ماذا بعد الاستيقان بهذه المجموعة من العقائد , وبعد الأيمان الراسخ بمجملها ومفصلها , والانقياد الكامل لتوابعها ومقتضياتها ؟ .
لقد شهد البرهان لكل مقطع من مقاطعها بالصدق و وحكمت الفطرة على أكثرها بالثبوت , واستبان العقل صحة النتائج من أجل صحة الموازين . فلا شك ولا ريبة في شيء منها أبداً .
فماذا بعد ذلك ؟ وما هي النهاية الأخيرة ؟ .
لقد مات من غبر من الناس , وسيفنى الموجود منهم , وسيلحق بالقافلة من سيوجد بعد , نعم وستطوى هذي الحياة وتنطمس معالمها وتعفى آثارها , فهل هذه هي النهاية الأخيرة ؟
إذن فأين جلبة تلك الأحكام ؟ وأين قعقعة تلك الحجج ؟ .
الأحكام التي وضعها الشرع والحجج التي أقامها العقل وعضدتها الفطرة . .
إن الله حكيم . . . ولا حد لحكمته .
وإن الله عدل . . . ولا منتهى لعدله .
وان الله غني . . ولا منقطع لغناه . ولا مراء في ذلك كله . والله هو مشرّع الدين لهذا الإنسان . وفروض الدين إنما هي أوامره , ومحرمات الدين إنما هي منهياته, وحدود الدين إنما هي حرماته . ولا ريب في شيء من ذلك كله أيضاً .
فلو قدرنا أن الموت هو النهاية . هو النهاية الكبرى , التي ليست ورائها منقلب وليس بعدها مصير لخوى تشريع الله من الحكمة ولحاف عدل الله في الجزاء أو قصرت ملكته عن الوفاء .
وإذن فلا مناص من أن ننتظر وراء الموت منقلباً منقلباً آخر يوفى فيه المطيع ثواب إطاعته ويلقى المفرط جزاء تفريطه وتضييعه .
لا مناص لنا من أن ننتظر وراء الموت منقلباً يكون هو النهاية , ما دام الدين حقاً لا مراء فيه , وما دامت عقائده وهداياته صحيحة لا يسمو إليها ريب , وما دام وجود الغاية الصحيحة هو الفارق بين الفعل العابث والفعل الحكيم .
نعم . وهذا ما عرفه منكروا البعث أنفسهم , فإنهم لما أنكروا البعث أنكروا الدين ورفعوا حدوده وأبطلوا أحكامه .
وقد يقول إن الدين إنما هو شريعة شرعها الله للمجتمع الإنساني , وحكمة الله من هذه الشريعة هي إقامة المجتمع على أمتن الأسس وأحكم القواعد , ورفعه إلى أكرم مقامات الفضيلة وأكبر درجات الإنسانية , وهذه الغاية الخطيرة دنيوية خالصة يفيدها المجتمع في حياته هذه متى سار على هدى الله الذي شرع واتبع وصاياه التي أمر بها . أما من يتردى مع هواه من الأفراد فيصدف عن أحكام الله ويتبع مساخطه , أما هذا المتردي فيكفيه ببؤرته التي ينحدر إليها عقاباً وهواناً , ويبعده عن الهدف الإنساني الأعلى حرماناً .
قد يقول هذا أحد لينكر أن الجزاء ضرورة لن تتم الشريعة إلا بها , ولن تنهض الحكمة إلا عليها , ولرد هذه الشبهة يكفينا أن نتذكر أن الوجهة الاجتماعية ليست هي الناحية الوحيدة التي يستهدفها دين الإسلام , بل هي من الأهداف المهمة فيه وفي كل دين حق , ولكنها ليست كل ما هنالك , فقد عرفنا فيما تقدم كيف يتعهد الدين كل نواحي الإنسان وكيف يسع كل جهاته تقويماً وكل صلاته إحكاماً وكل صفاته إعلاءاً .
ومن ظواهر الإنسان أن آماله أوسع من حياته , وهو يعلم بذلك حق العلم حين يفكر في تسلسل آماله وتعقد أسباب الحصول عليها . ومعنى ذلك أن كثيراً من هذه الآمال سوف لا يتحقق له لا في حاضره ولا في مستقبله , وهي حقيقة يصعب على الإنسان جداً أن يذعن بها وأن يقر عليها , ونتيجة ذلك أن ينطلق في شهواته انطلاقاً قوياً لا يقبل الحدود , ليحقق لنفسه أوفر قسط يمكنه من الآمال . أن ينطلق هذه الانطلاقة الشديدة إذا هو لم يعتقد البعث ولم يخش أمامه جزاءاً ولم يحذر من ورائه رقيباً .
ومظالم العباد بعضهم بعضاً , والدماء التي يسفكها السافكون بغير حق , والحقوق التي يغتصبها الغاصبون بغير عدل , والحرمات التي ينتهكها الظالمون دون مبرر. هذه الأمور التي اهتم الشرع بها فوضع لكل حادثة منها حداً , وجعل على كل من يتعدى ذلك الحد حدً ؟ كيف تصان هذه الحدود وكيف تستوفي هذه المظالم إذا نحن لم ننتظر للعدل الأعلى يوماً , ولم نتوقع لاستيفاء التبعات موقفاً ؟ ويد العدالة في هذه الحياة الدنيا قد لا تستطيع أن تنال الظالم بشيء وقد لا تملك أن تدينه بتبعة .
وبعد فما أنكل الأفراد من عامة الناس عن إلتزام القانون والقيام بحدوده والمحافظة على تعاليمه متى علموا أن الغاية فيه إنما تخص المجتمع أو تخص النوع , ولا غاية فيه للأفراد ولا رعاية لآحادهم وما أقصر القانون في الملاحظة إذا كان يهدر الفرد إهداراً تاماً لمصلحة المجتمع أو لمصلحة النوع .
وأخيراً فما أبعد القوانين عن غاياتها إذا لم تكلأها عين حارسة على التنفيذ , وعقوبة محذورة على المخالفة , ما أبعد القوانين عن غاياتها إذا لم تكن لها تلك الرقابة الحازمة من بين يديها , وهذه القوة المرهوبة من خلفها . إن أحكامها لو لا هاتان ستنقلب نصائح خاوية , وإن حكمتها ستتحول فلسفة صامتة . وكم في العالمين من يؤمن بالمثالية لأنها مثالية , ومن يحذر الاسفاف لأنه اسفاف .
نعم لا بد لاحترام القانون من الجزاء .
ولا بد للحث على عمل الصالحات من المكافأة .
ثم لا محيص من يوم للدينونة تقاس فيه الأعمال وتنال فيه الغايات وتستوفى فيه التبعات : ) والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون( [20]
كما يحتكم الطفل الصغير في ما بيديه من اللعب , كما يقيس الأشياء ما يجهل منها بما يألف , يستحب بعض الناس أن يحتكم , ويؤثر أن يقيس !
يؤثر أن يصنع كذلك حتى في ما يهمه من الأمور , وحتى في ما ينذره من المخاطر ! .
إن هؤلاء لا زالوا أطفالا وان كبروا وشاخوا , وحلومهم وأقسيتهم لم تبرح بعد أطفال الحلوم وأطفال الأقسية .
وقد تناول هذا الفريق عقيدة البعث فيما تناوله من الأمور, فلم يبتعد عن هذه الحدود , ولم يتنكب عن هذه الخطة .
قالوا : نجد الأنام يموتون ثم لا يعودون إلى الحياة , ومن مات من الأنام رمت عظامه وتوزعت أشلاؤه . حتى تصبح العين منه أثراً , وحتى يعود الأثر عدماً .
وإذن فلا حياة بعد الموت ولا اجتماع للأجزاء بعد التفرق .
بعيد . بعيد , ومحال محال أن يحدث ذلك وأن يتحقق . لأننا لم نبصر بمثله أبداً , ولم نعهد وقوعه في سوالف القرون :) أ إذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أ إنا لمبعوثون . لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ( [21]
) وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبؤكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد . أفترى على الله كذباً أم به جنة . . .( [22] .
بعيد ومحال أن نبعث بعد الموت , وكيف حياة الأجسام وقد عادت هباءاً ؟ وكيف تأليف ذراتها وقد ذهبت في فجاج الأرض أشتاتاً ؟ ومن هذا العليم بموضع كل ذرة القدير على رد كل هباءة ,الخبير بحصة كل عضو منها عند التركيب وبمكان كل واحدة منها قبل التفرق ؟
من هذا القادر المحيط ليرد الأجزاء المتباعدة جسماً,ويعيد الجسم التالف حياً؟: ) أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ؟( [23]
ويفتنون في احتجاجهم كثيراً ويذهبون بعيداً إذ يقولون:) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين .فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين( [24] وكأنهم في قولتهم هذه يحذرون موتة ثانية فهم ينكرون من أجلها حياة ثانية!وحجتهم هذا التعجيز التافه:فأتوا بآبائنا.
أتدّعون أن الموتى ينشرون لحياة ثانية,ينشرون بعد موتتهم الأولى ؟
أتقولون هذا جادين غير هازلين ؟
إن هذه دعوى غير عسيرة البرهان . فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين .
أحيوا لنا من غير من أسلافنا لنعرف مبلغكم من الصدق .
وقد جمع القرآن كثيراً من أقاويلهم وعرض أنواعاً من حجاجهم . ولعله إنما عني بذلك ليرى الإنسان سقطته في التفكير إذا جمح به التعصب .
متى كان الألف قاعدة ثابتة تحكم بموجبها الأشياء وتناط بها صحة العقائد ؟ !
ثم متى كان الاستبعاد دليلاً على الاستحالة ؟ !
لقد كان المرء جنيناً في بطن أمه , وكان قبل ذلك نطفة وعلقة . أ فليس من المضحك أن يقول وهو في تلك الأدوار ـ ولنفرضه هناك عاقلاً له رأي وله قول ـ أ ليس من المضحك أن يقول في تلك الأدوار: ليس لي مستقبل يأتي وراء هذا الحاضر , لأني لم أجد أثراً لهذا المستقبل ؟ .
)أ يحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه( [25] بعد تمزقها بالموت وصيرورتها رميماً فهو لهذا الحسبان ينكر البعث ويحيل وجوده ويجحد توابعه ؟
إن كان هذا هو حسبانه وهذه هي تعلته فقد اخطأه الوهم وأضله التعليل .
ولم لا نجمع عظامه ؟ ولم يخال هو ذلك ؟ ولم ينكر قدرتنا عليه ؟
) بلى قادرين على أن نسوي بنانه( [26].
أرأيت البنان بدقة تركيبها وبراعة تصويرها , حتى لا تجدها في إنسان تشبهها في إنسان آخر ؟ أرأيت البنان بخطوطها ومدوراتها ومميزاتها ؟ إننا قادرون على أن نسويها بعد العدم ونضم اجزائها بعد التفرق , حتى ليست تختلف عن وجودها الأول في مادة ولا في شكل ولا في مقدار .
هكذا يجيبه القرآن على حسبانه.
إنها دعوى تقرع بدعوى.ولكن دعوى القرآن ليست مجردة عن الدليل, فلقد علم الإنسان بفطرته أنه له خالقاً سوّاه بعد العدم فلن يشك أبداً في قدرة ذلك الموجد, وليس أدل على القدرة من الإيجاد, إذن فلا مسرب لذلك الوهم إلى يقينه, وإن ذهب وهمه إلى فهو وهم زائل غير مستقر, تذهب به وبآثاره لفتة واحدة لمظاهر القدرة الموجودة, فليس وهماً ثابتاً يوجب الحيرة للإنسان, ولم يكن هو العلة المباشرة لإضلاله.
) بل يريد الإنسان ليفجر أمامه( [27] لهذه البغية ينكر الإنسان النشور وينكر الجزاء وينكر توابعهما ولوازمهما. يريد لينطلق في فجوره, ويمعن في غروره فلا يلذ له أن تقيد إرادته شريعة أو تحول دون شهواته عقيدة. يريد ليندفع مسعوراً منهوماً فلا يلقى أمامه رقيباً من دين , ولا يخشى من ورائه حسيباً من جزاء , فهو يختلق الوهم ويجحد البعث, و إذا لم يكن بعث فلا جزاء ولا حظر ولا خشية ولا رقابة. من أجل هذا القصد ينكر الإنسان النشور وما يتبع النشور ..) يسأل أيان يوم القيامة(1 .
يسأل هكذا كمن لا يعنيه من أمر القيامة شيء , وكأن مواقف هذا اليوم العظيم وشدائده إنما أُعدت لسواه , أو كأنه خرافه يسأل عنها للتندر , ويتعمد ذكرها لّلمز.
هذه خطة المرء حين تناول عقيدة البعث في التفكير.
وحين فلسف إنكاره فهل ارتفع عن هذه الخطة؟.
الواقع انه لم يستطع ذلك وأن ادعاه وأصر عليه وأمعن في إصراره.
أنكر الروح لينكر بقاءها بعد الحياة ثم عودتها إلى الجسم بعد الموت.
وأنكر اتساع العناصر الموجودة في الكون لحياة أخرى بعد انقضاء الحياة الأولى. وأحالها لأوهام دارت على لسان القديم وعدّلت في فكرة الجديد.
صنع كل هذا ليبث أن موت الإنسان هو منقلبه الأخير . ثم أخرسه أن قام العلم . العلم التجريبي الحديث يذري شبهاته واحدة واحدة .
أما بعد فإن الدلائل التي أثبتت ضرورة وجود الدين , أثبتت ضرورة النشور وضرورة الجزاء , لأن الدين لن يكون صحيحاً إذا لم تتحقق له غاية .
وان الشواهد الكثيرة التي أبانت صدق الإسلام أبانت كذلك صدق هذه الدعوى , لأنها أصل من أُصوله وركن من أعظم أركانه .
وإن الكتاب الذي دل بإعجازه على نبوة محمد (ص), وعلى صدق دعوته دل بإعجازه أيضاً على صحة هذه العقيدة لأنه أعلن بها في أكثر سوره ولمح إليها في أغلب آياته .
ويحاول بعض الكتاب أن يقلل من جدوى هذه العقيدة . عقيدة الجزاء الأخروي . يحاول أن يقلل من جدواها , ومراده بالطبع أن يتخذ من ذلك وسيلة لانكارها . يقول : (( إن الدوافع التي يستعين بها هذا الضمان أقل تأثيراً من الدوافع التي يتأثر بها السلوك من ناحية رقابة الرأي العام . لأنه يعتمد على جزاء وعقاب مؤجلين , وقد يتعرضان للشك في قيام الميزان الذي سيحاسب الناس به )) .
كذا يقول هذا الكاتب , وهو يفرض شيئاً غير ما تفرضه الأديان في عقيدة الجزاء, وغير ما يفرضه دين الإسلام منها بالخصوص .
إن الإسلام يفرضها عقيدة يقينية ثابتة راسخة لا بد من الاستيقان بها , ولا بد من الإيمان الموطد المؤكد قبل التوجه لأي عمل تأمر به الشريعة , وقبل العزيمة على أي سلوك ينصح به الدين . . عقيدة يقينية ثابتة جحودها يوجب الكفر, والامتراء بها يقتضي الخروج عن الدين واستحقاق العذاب المهين . ونصوص القرآن والسنة تتعهد تنمية هذه العقيدة وترسيخها وتوجيه المشاعر والعواطف نحوها, وهي تكرر هذا وتفتن في تكراره وفي ربط الأحاديث به عند ذكر كل حكم وعند تقديم كل إنذار. فلن يغفل المسلم أبداً ولن يشك ولن يجحد . وإذا كان العقاب مؤجلاً فإن فكرة هذا العقاب ورقابة المحاسب العظيم الذي لا يغفل لحظة , ودقة الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة . والضمير اليقظ الواعي الذي أيقظته هذه العقيدة وأرهفت حسه وأطلقت حكمه , كل هذه تراود فكرة المسلم في كل آن وتحاسب إرادته عن كل خطوة .
فمتى تكون الغفلة إذن , ومتى يكون الشك ؟ .
[1] ) الفتح: 10.
[2] ) النساء: 64.
[3] ) النساء: 63.
[4] ) الاحزاب: 36.
[5] ) النساء: 64.
[6] )الاجزاب: 21.
[7] ) البقرة:285
[8] ) الحجرات:13.
[9] ) الأنبياء:92.
[10] ) آل عمران:19.
[11] )آل عمران: 85.
[12] ) يمسك بعضها ببعض.
[13] ) البقرة: 85.
[14] ") الانفطار: 6 – 8.
[15] ) الحجر: 21.
[16] ) آل عمران:18.
[17] ) النساء: 39.
[18] ) الحديد: 25.
[19] ) ابراهيم: 42 – 52.
[20] ) الاعراف: 8- 9.
[21] ) المؤمنون:82 – 83.
[22] ) سبأ: 7- 8.
[23] ) الم السجدة: 10.
[24] ) الدخان: 35 – 36.
([25] )(4) القيامة: 3 ، 4.
[27] ) القيامة: 5 ، 6.