وعقيدة التوحيد عميقة الاثر ضاربة الجذور في خلق المسلم وفي بناء شخصيته وتقويم طباعة وتزكية اعماله.
فهي تطوي جميع آماله في امل ، وتوحد كل صلاته في صلة، وتؤلف عامة اهدافه في هدف، فآمال المسلم الحق وروابطه وغاياته كلها محصورة في الله ربه الذي يخلص له في السر ويعبده في العلانية ويدعوه لكل نازلة ويلجأ اليه عند كل مهمة، في الله الذي بيده مساك الموت والحياة، وبتدبيره ملاك القبض والبسط ، وبأمره تقدير النفع والضر. في الله الذي يأمله الامل فلا يخيب ويلجأ اليه اللاجى فلا يذل، ويتوجه اليه القاصد فلا يشقى.
تتوحد امال المسلم كلها في امل ، وتنطوي صلاته بأجمعها في صلة، وتندمج غاياته بأسرها في غاية ، ثم يشع امله ذلك الواحد على كل امل له في الحياة فيزدهر، وتمتد تلك كل صلة له في الدنيا فتزكو. وتتصل غايته بكل غاية له في الكون فتعظم.
يوقن المسلم بان الله وحده المعبود الحق ، وان بيده وحده مقاليد الامور، واليه وحده مصائر الاشياء فهو الاله الذي لا يُعبد غيره والرب الذي لا يملك التدبير سواه وهو الملك الفرد فلا ترجى الا رحمته، ولا تخشى الا نقمته. ولذلك فالمسلم لا يضرع ولا يتصنع لكائن سوى الله ولا يستعين ولا يرجو موجودا غيره، ولا يحابي ولا يتملق ولا ينافق ولا يرائي.
ولم يفعل ذلك وهو يعلم أن من سوى الله عبد خاضع لن يملك لنفسه نفعا ، ولن يدفع عنها ضراً، عبد خاضع خاشع رضي العبودية ام أباها؟ فالمسلم رفيع النفس, عزيز الجانب ، خفيف المؤنة ، صريح الكلمة.
ويوقن المسلم بان لك ما في الكون من القوى وكل ما يبد المخلوقين كافة من الحلول فهو في قبضة الله وتحت سلطانه، ينفذ فيه حكمة وتتصرف فيه إرادته. والله مقدر الاجال ومسبب الاسباب ، ثم لن تستطيع اية قوة في العالم نقض ما أبرم او تأخير ما قدم. ولذلك فالمسلم لا يرهب الا الله. ولا يحذر الا بطشه ولا يخشى الا غضبه.
وكيف يخاف احد غير الله وهو يعلم انه ضعيف الحلول الا حين ينتصر بالله ، واهن الكيد الا حين يستعين به، معدوم القوة الا حين يلتجئ اليه؟ فالمسلم ثابت العزيمة قوي النفس بعيد الهمة.
ويوقن المسلم بان كل ما في السماوات وما في الارض من متحرك وساكن ، ومن صغير وكبير ، ومن حي وجامد وكل ما بيد الانسان من مال وثروة وما يعتز به من مجد وسطوة فهو ملك خالص لله الغني الذي لا منتهى لغناه ، الوهاب الذي لا حصر لجوده، القادر الذي لا حد لسلطانه ولا امد لقدرته، ولذلك فالمسلم لا يزدهي بثروة ولا يستطيع بقوة ولا يحسد على نعمة، ولا ييأس من رحمة، ثم هو لا يظلم ولا يحيف ولا يتكبر.
ولم يصنع ذلك وهو يعلم أن كل ما في يده او في يد غيره فهو لله الجواد الذي لا يبخل، العدل الذي لا يظلم، العزيز الذي يهب النعمة انى شاء بقدرته، ويسلبها انى شاء بحكمته؟ فالمسلم عف الضمير، نقي السر طاهر العلانية، موصل الامل بالله شديد الثقة بتدبيره.
وهذه الدرجة من التوكل لن تقعد بالمسلم عن خوض غمار الحياة ، ولن تقصر به في شيء من مجالاتها . فقد ألهمته الفطرة السليمة إن لكل امر مدخلاً، وقد لقنه الاسلام لكل شيء سبباً، ولا عذر له من أن يلتمس رزق الله من سبله التي يسرها ومن موارده التي قدرها ، ولكن المسلم من اجل هذا اليقين الذي يفعم قلبه ويملأ جوانحه ـ هادئ النفس حين يعمل، قوي الطمأنينة حين يكسب ، ثابت الجنان حين يخفق ، متزن المشاعر والاعمال حين يستغني وحين يفتقر وهو من اجل هذا اليقين الذي يفعم قلبه ويملأ جوانحه معافى من العقد التي تخشو نفوس الاخرين والاضطرابات التي تظلم آفاقهم وتسعر حياتهم .
والمسلم يرجو من كسبه سد العوز في دنياه ونيل المثوبة في آخرته فقد علم من بدائة دينه ان الكسب الحلال الطيب قربة كبيرة يتعبد بفعلها الى ربه، ويتطلب بها رضا ويبتغي بها الزلفة لديه. فهو يسعى في الحياة باملين ويكدح بحافزين، ولذلك فهو اقوى جلدا وارهف عزيمة وادنى الى الفلاح وارجى للغاية من الكادحين الاخرين.
والمسلم يعلم ان في الفقر مهانة لا تتفق وعز الاسلام، وضعة لا تنسجم والكرامة التي يبتغيها للمسلم، وضعفاً لا يقوم للوظائف التي ينبطها به، فهو يكافح هذا الخصم ما وجد الى كفاحه سبيلاً. وهو كذلك يتقرب الى الله بمناجزته ويستمد منه العون عليه ويتبع هداه في خوض غمارها.
ويوقن المسلم بأن الله مطلع فلا تخفى عليه خاطرة نفس، عليم فلا تغيب عنه خالجة قلب، محيط فلا يضل عنه مثقال حبة ولا مقدار ذرة ، ثم هو حاكم لا يجوز عدله ظلم، جبار لا يقوم لغضبه شيء، قاهر لا يفوت قدرته حي، ولذلك فالمسلم لا يعصي الله في سر ولا يتعرض لمقته في علانية، ولا يتباطأ عن حق ولا يتسامح في حد.
وانى يجرؤوا على شيء من ذلك وهو يعلم ان الله شديد الاخذ على الجريمة ،أليم البطش على انتهاك الحدود ، فالمسلم مأمون العثار صادق اللهجة زكي الروح، محمود السلوك.
ويوقن المسلم بأن الله الذي فرض عليه الايمان وحببه اليه وزينة في قلبه قد ربط بينه وبين سائر المؤمنين بالأخوة ، وسوّى بينه وبين عامة البشر في الحقوق وأوجب عليه النصرة لكل مسلم اذا ظلم، وفرض عليه النصيحة لكل بشر اذا جهل والهداية لكل جاهل اذا ضل. ولذلك فالمسلم نزيه الطوية عن الحقد رفيع الهمة عن الخداع مجبول الطبيعة على الاحسان. والمسلم عون الله للضعيف ، ودعوة الله الى الخير، وقّيم الله على إقامة الحق وإفشاء العدل وإنارة السبيل وإيضاح الدليل.
ويوقن المسلم بأنه حين يؤمن بالله ويحكم صلته به وحين يمتلئ بهذا الايمان عقله ونفسه وقلبه وجوارحه فإنما يصل عقله ونفسه وقلبه وجوارحه بالقوة التي لن تضعف , وبالعظمة التي لن ترام والعزة التي لن تظام , والقدرة التي لن يمتنع منها شيء وبالنور الذي لن يطفأ , والعلم الذي لن يجهل . ولذلك فالمسلم لا يعرف الجبن في موقف ولا يناله الخوف من حادث ولا يدركه الصغار في مقام , ولا يقيم على ضيم ولا يخلد إلى مهانة , والمسلم مشرق الروح نير العقل والقلب , يستمد صنوف كماله من اعماق نفسه . من صلته الوثقى التي ملأت آفاقه وملأت حياته . من هذا السلك الذي يشده بمصدر كل كمال وينبوع كل خير وجمال . من صلته العظمى بربه .
كذا تنفذ أشعة التوحيد في اعماق الفرد المسلم وتضيء آفاقه وتوقظ ضميره وتبني شخصيته , وتوجه إرادته ومشاعره وتحكم أشواقه ورغباته . فلا يعثر ولا يتردد, ولا ينكب عن سبيل الهدى ولا ينكفىء دون الغاية , ولا يتهرب من واقع , ولا يلتوي في قصد .
ثم تنفذ في أعماق المجتمع المسلم وتطهر صلاته وتضبط حدوده , فلا بخس لحق ولا خسر لميزان ولا أثرة ولا تحاسد ولا تباغي ولا نفاق ولا مداهنة , ولا إغضاء على ظلم , ولا حيف في حكم ولا استبداد من راع ولا التواء من رعية .
إن الإسلام بشرائعه ومعارفه وهداياته وآدابه ومفصلات نظمه ومبسطات مناهجه يتجمع وينطوي وتتداخل حدوده , وتندمج تعاليمه ,حتى يكون وحدة لا تعدد فيها من وجه , هي عقيدة التوحيد التي يدين بها المسلم لبارئه , ويخضع من أجلها لقوله .
فالإسلام هو التوحيد مجلو القسمات مبين الظِلال والسمات.
والتوحيد هو الإسلام مجمل التفاصيل مطوي الحدود , متجمع الطاقة .
وهذه هي الحقيقة الرائعة التي قررها داعية الإسلام الأول لما قال كلمته الأولى : ) قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ( , لما ضمن للناس الفلاح أن يقولوا هذه الكلمة ويؤمنوا بهذه العقيدة .
* * *
اما تنزيه الله عما لا يليق بجلاله من الصفات، وتقديسه عما ينافي حكمته من الافعال.
اما هذه العقيده فهي من شعب التوحيد الخالص والغني الذاتي المطلق.
فما كان للعقل المستنير أن يؤمن بان الله وحده واهب كل كمال في هذا الوجود ومصدر كل غنى ومؤتي كل رحمة، ثم يرتاب بعد ذلك او يزعم أن هذا الوهاب ليس جامعا لصنوف الكمال، او ليس متفرداً بضروب الغنى. وما كان للعقل أن يقول بهذا بعد أن آمن بذلك فان من بدائة الاشياء إن من لا يملك شيئاً لا يعطيه.
وما كان للعقل المستنير أن يعترف بان الله وحده واهب الكمال لكل كامل ومانع الرفعة لكل رفيع ومؤتي العظمة لكل عظيم، ثم يبتغي بعد ذلك أن يجد لله شبيهاً من خلقه ومضارعاً له في نعوته. ما كان للعقل أن يبتغي هذا بعد أن اعترف بذلك فما شباهة مفتقر في وجوده محدود في كماله بغنى غير متناه ولا محدود؟
وما كان للعقل المستنير أن يقول: بارئ الكون مستغن بذاته عن كل شيء، ثم يقول بعد ذلك وله صفات هي غير ذاته يستجمع بها ضروب الكمال. وما كان للعقل أن يقول بهذا متى ايقن بذلك لانه تناقض صريح سواء أكانت الصفات التي يعنيها قديمة ام حادثة، وسواء أكانت واجبة ام ممكنة، مادامت زائدة على ذاته.(على حد تعبير علماء الكلام ) وما دامت تعني أن الذات استكملت بها من نقص وافادت بها من عُدم.
وما كان للعقل المستنير أن يقول: واجب الوجود واحد يستحيل عليه أن يتعدد، احد يمتنع عليه أن يتركب. ثم يقول : ولبارئ الكون صفات غير ذاته هي كذلك واجبة الوجود. وما كان للعقل أن يقول بهذا متى اعترف بذلك. فان وحدة واجب الوجود تمنع أن يكون متعددا، وبساطته تحيل أن يكون مركباً. أما اذا ادعى أن الصفات ممكنة فانه يكون اشد احالة واوضح منعا.
وما كان للعقل المستنير أن يقول: مبدع العالم حكيم لا منتهى لحكمته وغني لا حد لغناه، ثم يقول : وهو الذي يقتاد العباد الى عمل الطاعة اذ يطيعون، ويقتسرهم على ارتكاب المعصية اذ يعصون. يفعل ذلك بهم ثم يأخذهم بتبعات اعمالهم وينزل بهم العقوبات على مخالفاتهم. ما كان للعقل أن يقول بهذا متى اقر بذلك لانه تناقض بينّ.
والبحث عن حقائق صفات الله سبحانه كالبحث عن كنه ذاته كلاهما مما يستعصي على العقل أن يخوض فيه، فان للعقل آفاقاً محدودة من المعرفة ليس في طرقه أن يجوزها، ولمعرفته وسائل معينة ليس في مكنته أن يتعداها.
ولن تزال امام الانسان أعداد هائلة من المحسوسات لم يستكنه حقائقها بعد ولعله لن يستطيع ذلك أبدا.
ما حقيقة هذه الحياة التي ينعم بها الاحياء؟.
وما كنه هذا الوجود الذي تستبين به الاشياء؟.
بل وما جوهر هذا العقل الذي يطمع أن يكتشف؟.
وما هذه النفس التي ترغب أن تكتمل؟.
هذه أمور قريبة قريبة جداً من الإنسان. إلا أنها بعيدة بعيدة جداً عن إدراكه فكلها ألغاز لم يكتشفها العقل بعد ولعله لن يستطيع كشفها ابداً.
وإذا أعيى على العقل أن يستجلي هذه الحقائق ـ على أنها قريبة منه بل ومندمجة في حدوده فكيف يطمع أن يدرك حقيقة واجب الوجود أو أن يحيط بكنه صفاته؟.
إنها محاولة مستحيلة ما في ذلك شك.
ولكننا إذا أحلنا هذا على العقل الإنساني لأنه لا يملك الوسائل التي تبلغه إليه، أفنحيل عليه كذلك أن يدرك أن الواحد لا يمكن أن يكون متعدداً، وأن البسيط لا يسوغ أن يكون مركباً، وأن الكامل لا يجوز أن يكون ناقصاً، وأن الإله الحكيم العادل لا يعقل أن يكون ظالماً ؟. أنحيل عليه أن يدرك أن الموجود إذا وجبت له صفة معينة امتنع عليه أن يتصف بضدها ؟.
إن هذه إمور تدخل في حدود البداهة فليست تخفى على عقل ولا يسعه أن يرتاب في واحد منها، وهي بذاتها عين النتائج التي تحدثنا عنها.
بارئ الكون غني بذاته عن كل شيء ، ولا حد ولا أمد لغناه، فكل ما يغمر جهات العوالم من خير وبركة، وما يملأ رحال الأفق من عناصر وقوى ، وما يزخر به واسع الفضاء من أفلاك وأجرام، وما يزحم مناكب الأرض من حي وجامد، وما يسد فروجها من معادن وخزائن فهو فيض من غناه وبسط من جوده، ثم لو قدرنا الفناء على جميع هذه المكونات لم ينقص من غنائه مثقال ذرة، ولو أضيفت إليها أضعافها وأضعافِ أضعافها لم يزد ذلك في ملكوته قيد شعرة: ) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز([1] أجل . كل ما يزخر به هذا الملكوت العظيم فهو في قبضته، وفناؤه وبقاؤه بمشيئته، فهل هذا هو معنى غناه الذاتي ؟
قد يكون هذا مظهراً من مظاهر الغنى الإلهي، ولكنه لا يصلح أن يكون تفسيراً له.
وبارئ الكون يمنح الوجود والحياة، والقوة والسعة، والكمال والدعة، والرفعة والسيادة، والهناء والغبطة، وما يصبو إليه الإنسان في وجوده وما يتطلبه لبقائه وما يكدح للسيطرة عليه لسعادته، وما يفتقر إليه غير الإنسان من الأحياء والأشياء، لا لنفع يرتجعه من هذه المنح، ولا لجزاء يأمله كفاء هذه الهبات، وإنما هو محض الإحسان وسجية التفضل، وهو يفرض على الخلق أن يؤمنوا به ويكلفهم بأن يطيعوه ويلزمهم بأن يتبعوا دينه ويستمسكوا بشريعته لا لمنزلة يرجوها من إيمانهم، ولا لرغبة يبلغها في عبادتهم، وإنما هي دلالة لهم على وظيفة العبودية وأخذ بأيديهم الى منهج السعادة، ثم لو كفر هؤلاء العبيد كلهم بنعمته وجحدوا بربوبيته لم تتضع بذلك له منزلة ولم يتخلخل له سلطان ) إن تكفروا فإن الله عني عنكم، ولا يرضى لعباده الكبر وإن تشكروا يرضه لكم([2]. فهل هذا هو معنى غناه الذاتي ؟
بارئ الكون غني في وجوده وفي كل نعت من نعوت كماله عن العلة، وغني في صنعه وفي كل مجلى من مجالي قدرته عن الظهير، وغني في تدبيره وفي كل ظاهرة من ظواهر حكمته عن المشير، ثم هو متنزه في ذاته وفي كل شأن من شؤون عظمته عن الحاجة، ومترفع في غناه وفي كل معنى من معاني جلالته عن التحديد.
وإذا تنزه عن الافتقار والحد والتعليل في كل معنى من معاني الكمال فهوعن العبث والظلم أشد تنزهاً واعظم تعالياً.
هذا هو المعنى الظاهر للغنى الالهي او هو اللازم القريب من لوازمه.
فإذا أيقن المسلم لربه بهذا الغنى وإذا آمن له بهذا التنزيه، فهل يستطيع أن يؤمن أيضاً بأنه يستكمل بصفته أو يمتدح بعبث أو يستطيل بظلم ؟.
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وتعالى المسلم أن يدين لربه بهذه العقيدة.
وتعالت عقيدة التوحيد في الاسلام عن مثل هذا الاسفاف وهذا الالتواء.
وفكرة الجبر نكسة عقلية ركبها الإنسان ليحمل عليها أوزاره ويبرر بها إسفافه، ثم حمل العقل عليها حملاً، وكلفه بقبولها تكليفاً، وقد كان الفكر سخيفاً جداً لما حاول أن يضيفها إلى جدول أعماله.
وتمادت النكسة بالإنسان واستبد به الوهم ففسر بالفكرة آيات من الكتاب.. من القرآن !. وأوّل بها أحاديث من السنة... من سنة الرسول !. ووضعها في قائمة العقائد... عقائد الاسلام. وضمها إلى بحوث التوحيد، وجعلها من توابع عموم القدرة !!.
صنع المرء كل هذا ليرتكب ثم لا يلقى حسيباً من الناس على ارتكابه، وقد تم له العمل ونجحت بيديه الخدعة حتى على الضمير الأدبي ذاته، فلم ينصح ولم يؤنب!!.
على م يؤخذ المرء إذا كان مسيّراً في ما يعمل، مقسوراً على ما يأتي وما يذر؟
لا.. ليس على المرء من حرج في ما يكسبه من أعمال ... وإنما اللوم على الأقدار، إذا لم يكن بد من اللوم..
على الاقدار الغالبة فهي التي شاءت أن يكون الذي كان..
وما شءت لا حيلة لأحل منه ولا قبل لأحد بتغييره..
وما على السيف الصارم من ملامة إذا أعمله فاتك في ظلم أو مؤمن في جهاد؟
ليس على الانسان من حرج في ما يفعل وما يدع، إنما هي أعمال القدرة المقدرة والإرادة المسيرة.
أما عقاب ذلك الإنسان على ما وقع له من الاعمال فهو لله...
لله الفعال لما يشاء.
وما على الله سبحانه من غضاضة في أن يعاقب المجرم، وإن يك مجبوراً في عصيانه...
نعم . وإن كان القاسر له على عمل المعصية هو الله...
لأن الله نافذ الإرادة لا يسأل عما يفعل.
بل وما على الله ضير، وما في عمله من قبح إذا شاء أن يعذب المطيع ويثيب العاصي. اذا شاء أن يعذب ذلك وإن يك أسبق من إطاعه.
ويثيب هذا و إن يك أعتى من تمرد عليه.. يعذب ذلك على إطاعته.. نعم ويثيب هذا على عصيانه.
إنهما عبدان مملوكان خاضعان، وكل ما ينزله بهما سيدهما فهو حق، وكل ما يصنعه لهما فهو عدل. ولا خيرة لأحد معه ولا أمر.
أما العقل فما شأنه وذلك ؟
وما شأنه والتدخل في شؤون الله والحكمم عليه في أعماله؟.
أيجرؤ إنسان أو عقل إنسان أن يحكم بوجوب شيء على الله أو بامتناعه عليه؟.
إن الحسن والقبح مردّهما لله وحده ، فما أراده سبحانه فهو الحسن، وما مقته فهو القبح، وليس للعقل أن يحكم فيهما بشيء !!.
منكرات من العمل تبررها منكرات من القول، ونكسة في الروح تجر إلى نكسة في التفكير، وسقطة في السلوك تؤدي إلى سقطة في العقيدة. ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
والله سبحانه يبرأ من عقيدة الجبر في صريح كتابه، فالكفر والإيمان مردهما إلى مشيئة الإنسان ذاته، ولا أثر فيهما لجبر أو اضطرار: ) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر([3].
والله عادل قائم بالقسط في الدنيا والاخرة، لا يحيف في قضاء ، ولا يجور في جزاء وهو متفضل على عباده يقبل اليسير ويثيب عليه بالاجر الكبير:) إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً([4]
ويوم الجزاء يوفى كل عامل من الناس ما كسبت يداه، فلا يظلم في حساب ، ولا يبخس في أجر:) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين( [5].
والذين يتعلقون بالمقادير يلقون عليها تبعاتهم، ويبررون بها سقطاتهم إنما يخلقون إفكاً ويستمسكون بوهم:) وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، قل ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ( [6]
الله لا يرضى لعباده الكفر في العقيدة، ولا يأمر بالفحشاء من الفعل، ولا يحب الجهر بالسوء من القول ، والله حكيم عليم لا ينقض ما يقول بما يعمل ، فلماذ يحاول الإنسان الظلوم الكنود أن يرمي أثقاله على المقادير ويلتمس بها المعاذير ؟.
ومن الغريب أن القائل بمبدأ الجبر لا يعترف به في خصومات الناس معه، وتجاوزهم على حقوقه، ولا يجنح إليه في تعليل أعمالهم، ولا يميل إليه في توجيه عدوانهم.
بل ويتنكر لمن يعتذر عنهم بالقدر، ويهزأ برأيه، ويسخر من قول !!.
ولا يعترف به في ذنوب خدمه ومرؤوسيه. ولا يعلل به مخالفاتهم ولا يراه عذراً لأخطائهم ، ولو اعتذر به أحدهم لأوسعه تأنيباً!!. وإنما يتعلق به في تهوين خطاياه وتبرير آثامه ، وفي محاولة التخلص من تبعاتها وجرائرها!!. في تعدي حدود ربه وانتهاك محارمه والزيغ عن هداه، في هذا فقط يعترف بالقدر ويقول بالجبر.
وفي القران الكريم أن الجبر فكرة تلقفها الإنسان منذ القديم فاحتج بها مشركون على شركهم واعتذر بها أفاكون عن إفكهم: ) وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شيء، كذلك فعل الذين من قبلهم ، فهل على الرسل الا البلاغ المبين([7] وفي آية كريمة أخرى:) سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء، كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ، قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أن تتبعون إلا الظن وان انتم الا تخرصون([8] .
وفي القرآن الكريم أن أول متهم للعدل الالهي بالحيف هو ابليس الرجيم ، فقد عصى أمر الله بالسجود لآدم واحتج لهذه المخالفة بأن الله خلقه من نار وليس من الحق أن تخضع النار للطين.
كبر على المرء أن يقر على نفسه بالظلم فاستساغ أن ينسب الظلم الى الله ، وعظم عليه أن يحكم عليها بالعبث فقال: العبث في المقادير، ومن الغريب بعد هذا كله أن يعد الجبر عقيدة من عقائد الدين، ودعامة من دعائم الإيمان، يدين بها لخالقه ويفسر بها عموم قدرته.
يقول : الله عام القدرة على كل شيء، نافذ المشيئة في كل كائن.
فلا يسوغ أن يكون الانسان مختاراً في أعماله، لأنه لو كان مختاراً في اصدار عمل لاصبح شريكاً لله في الايجاد !!
اسمعت....؟
هكذا يحتجون...
ولماذا يكون الانسان شريكا لله في الايجاد اذا كان مختاراً في العمل؟
ألانه صار سبباً في وجود الشيء ؟ إذن فلماذا لا تكون الاسباب الطبيعية شريكة لله في الإيجاد كذلك؟
أفينكرون سببيتها لوجود الشيء؟
فقد سماه الله في القرآن اسباباً، وهي بعد ليست موضعاً للتشكيك.
أم يستسهلون الأمر لأنها غير مختارة؟
الله قادر . وعام القدرة على كل شيء ، ولا جدال في ذلك من مسلم.
ولكنه الى جانب قدرته العامة عادل بلا حيف وعام العدل في كل تقدير وحكيم بلا عبث وعام الحكمة في كل صنع وليس معنى عموم قدرته ونفوذه مشيئته أن نعرّي إرادته عن الحكمة أو نتهمها بالظلم أو نسمها بالجهل.
أما المعادلة بين هذه الصفات الكريمة فستؤدي بالبداهة إلى أنه: ( لا جبر ولا تفويض ، ولكن منزلة بين منزلتين) كما يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع).
فقد شاءت الحكمة أن تجهز هذا الكائن برغبات تثيرها خصائص العمل وبعقل يوازن به بين الرغبات ، وبإرادة يصمم بها على الرغبة المختارة، وبقوة عاملة يحقق بها الفعل المراد، وبدين يصون الرغبة والعقل والارادة والقوة العاملة أن يشذ شيء منها عن القصد وأن يزيغ عن الهدى.
فالمرء يفعل ما يفعل ويترك ما يترك مختاراً في فعله وتركه، مختاراً في رغبته وتصميمه، مختاراً في موازنته وترجيحه ، ولا قسر عليه في شيء من ذلك.
أما امداده بالركائز التي يطمح بها ويرغب ، بالقوة التي يصمم به ويختار ، وبالعقل الذي يزن به ويقارن ، وبالضمير الذي يسترشد به ويرتدع وبالدين الذي يصلح به ويستقيم، أما تزويده باجهزة الاختيار القريب منها والبعيد، وبأدوات التصميم الاولى منها والاخيرة، ثم إبقاء هذه الأجهزة وهذه الأدوات مضمونة التأثير الى فرصة الاختيار موفورة الأعداد الى حين التصميم نافذة الفعل الى وقت العمل أما جميع هذا فهو من الله .... من الله وحده.
* * *
قد يطبق مغفل عينيه ثم يعتقد أنه اعمى ، لانه لا يشهد النور.
وقد يسد اذنيه ثم يستيقن أنه أصم ، لانه لا يسمع القول.
نعم وقد يتخيل مصاب ( بالهستيريا ) انه تحول (مركبة) معدة للنقل ، او حماراً مهيئاً للركوب والحمل، وقديماً جيء الى الشيخ ابن سينا برجل يدعيّ أنه إنقلب بقرة، والى طبيب آخر برجل يزعم انه يلد فيراناً.
أما أن يعمد إنسان يعترف الناس له بالعقل ويدعي هو نفسه العلم فيعمل عملاً بملء شعوره وملء رغبته وملء إرادته، ثم يفكر بعد ذلك ويطيل التفكير: أهو مختار في عمله ذلك أم هو مجبور؟!.
أما أن يدير المفتاح بكفه عامداً فيفتح الباب، ثم يتساءل جاداً: أي الالتين اشد اقتساراً، المفتاح لما استدار بكفه ام هو لما ادار المفتاح؟! أما هذا النمط من التفكير فهو خروج عن مألوف العقل، وانكار لاوليات الفطرة، ثم هو تشويه لوجه الحق وتيسير لارتكاب الرذيلة. واية قوة في العالم تستطيع أن تقف في وجه المرء متى اعتقد انه مقسور على ما يعمل مجبور على ما يترك؟.
اية قوة تملك أن تقف قي وجهه اذا اعتقد أن الخير والشر عند الله سواء بسواء، كلاهما مجبور عليه من الله. وكلاهما مجهول الجزاء لديه.. يثيبه عليهما اذا شاء ويعاقبه عليهما اذا احب...؟
يثيبه عليهما كلهما اذا شاء حتى على فعل الشر، ويعاقبه عليهما كليهما اذا اراد حتى على عمل الخير!.
لا .. ليس في الدنيا كلها قوة تطيق أن تردع الانسان عن غيه اذا هو اعتقد ذلك.
والدين وقوانين الخلق. وشرائع التربية . وانظمة المجتمعات. اية جدوى من هذه كلها للانسان اذا كان آلة صماء بكماء لا تعمل إلا بقاسر ولا تتحرك دون محرك؟.
واي حكمة في أوامر الله ونواهيه وهو يشرع ما لا يستطاع ويأمر بما لا يمتثل؟ ان الدين في طبيعته دربة وامتحان.
دربة للعقل على التفكير السليم ودربة للارادة على العمل الرضي ودربة للنفس على الصفات الفضلى. وامتحان لها كافة فيما يلقيه عليها من دروس، وما يلقنها اياه من هداية. وكيف يتلقى المرء هذه الدربة، وكيف يجوز هذا الامتحان اذا كان أشل الارادة اجب الاختيار؟!.
وانظمة الاخلاق وقوانين الاجتماع ومواضعات العرف وتشريعات الامم انما هي حوافز للمرء على التوجه الى الخير الاعلى من وجهة، وزواجر لإرادته عن الاندفاعات المردية من جهة أخرى. وبين أن هذه النتائج لن تكون ممكنة الا حيث يكون الانسان حراً في الرغبة حراً في التصميم.
غريب أن يتساءل امرؤ أهو مختار في فعله ام مجبور؟ لانه يتغاضى بذلك عن بديهة ويرتاب في محسوس، وأشد غرابة من ذلك أن يلتمس دليلا على اختياره اذا قيل له انك مختار، ويتكلف اقامة الحجة على جبره اذا اعتقد انه مجبور، اليس الاثبات والنفي والجرح والتعديل والقبول والرد انواعاً من عمل الانسان تقتضي تصميماً وتقتضي ترجيحاً وتقتضي هدماً وبناءاً ؟ وكيف يملك أن يستقل فيها اذا لم يكن مستقلاً في الارادة مختاراً في الافعال ؟!.
الحق أن الانسان ينسى حديث الجبر وهو يقيم الادلة لاثبات مبدأ الجبر ويعترف بالاختيار وهو يوصد باب الاختيار، والحق أن فكرة الجبر لا تستطيع أن تقف على قدم مهما نضر لها الخيال من صورة، ومهما زوّق لها البيان من صيغة، ومهما ابتكر لها الانسان من فلسفة، والحق أن مذهب الجبر وهم سخيف المعنى ضعيف المبنى وان اتخذه بعض متصوفة الاسلام عقيدة ثابتة وعدّه بعض متكلمة الاسلام مشكلة عويصة.
والحق أن شريعة الجبر توجب سد كل معرفة وبطلان كل عقيدة وهدم كل ثقافة، ذلك أن المعارف والعقائد والثقافات على تنوعها تستدعي استقلالاً في العقل يملك به المرء أن يوازن، وحرية في الارادة يستطيع بسببها أن يختار، واذا ثبت فان ذلك جميعه ليس بمستطاع.
واثر هذه الفكرة شديد في اضعاف ارادة المرء، ودك شخصيته وهدم معنوياته، وأي عمل حازم يؤمل صدوره من فرد هذه عقيدته، واي تقدم في ميادين الحياة يرجى لمجتمع هذه خطة أفراده؟؟
وحاول الانسان الحديث أن يثبت الجبر من طريق العلم !!.
حاول ذلك ليفلت من قيود الخلق ومن قيود الدين !!.
ليكن حراً طليقاً يختار ما يشتهي ويأتي ما يختار؟!.
قال بالجبر من طريق العلم، وسماها بالجبرية الذاتية ليفرق بينها وبين الجبرية الالهية، لأن الجبر في رأيه هذا آت من عامل ذاتي قائم في اعماق الانسان ، وليس مسبباً عن ارادة جبارة خارجة عنه مسيطرة عليه.
قال بالوراثة. ومعنى الوراثة عنده اسلاف الانسان ـ والحيوان منها بالطبع ـ تخطط له مصيره ومستقبله، وترسم له منهاجه في حياته واتجاهاته في سلوكه، وتقدر له كل صفة من صفاته في كل منحى من مناحيه ، في جسمه ونفسه ، وعقله وخلقه . وتنشىء طباعه وغرائزه وقواه وعواطفه وميوله ونزعاته وانفعالاته وتوجه كل شيء منه وجهته التي تقتضيها ثم لا تستطيع أية وسيلة من وسائل التربية الاخرى له صرفاً، ولا تملك له تغييراً.
أن الشخص يرث من أسلافه سواد البشرة او بياضها، وطول القامة او قصرها، وكبر حجم الرأس او صغره، واستطالة شكله او استدارته، وزرقة العينين او سوادهما، ولون الشعر وتقاطيع الوجه وأشكال الاعضاء، ولا حيلة له ولا لاحد سواه في استبدال شيء من ذلك ولا تحويره ولا قدرة للبيئة ولا للعوالم الاخرى على صرف ذلك الانسان الى وجه غير ذلك الوجه، وايتائه صفة غير تلك الصفة.
ويرث من اسلافه قوة في بعض حواسه، ومتانة في تركيب جسمه، وحصانة فيه عن بعض الادواء واستعداد لقبول بعضها ويرث من احدهم شذوذاً في طبع، وتشويها في طرف، وزيادة ونقصاً في عضو ولا خيرة له في قبول ذلك ورفضه، ولا تجديه عناية مرب ولا توجيه مرشد.
وكذلك يرث خصائص في تلافيف مخه وتكوين عصبه وتراكيب انسجته، وجزئيات دمه، وافرازات غدده، تحدد ذكاءه وتكيف احساسه وتنشئ مواهبه وتوجه إرادته في سلوكه وتخلق صفاته وملكاته، ولا ينتظر أن تكون له او لأحد سواه يد في ذلك ولا طاقة على تهذيبه، ولا سلطان على النقص منه او الزيادة فيه.
هكذا يفسر هو معنى الوراثة، ويهوّل امرها ويبعد بحدودها، ويحملها اعباءاً كبيرة تضيق بها وتضعف عنها. ويدعي أن العلم يضع لها هذا التفسير ويقيم لها هذه الحدود ويحملها هذه الاعباء ؟!.
وهذه نتيجة لا يذهب اليها عالم طبيعي وهو يعني ما يقول.
لا يقولها عالم درس اسرار الطبيعة وسبر قوانينها وخبر طرائقها.
ان الانسان كائن له ارادة، وارادته لا تتواجه الا بعد شعور وموازنة وترجيح وتصميم، وليس من خلق الطبيعة أن تؤتيه هذا الجهاز الكامل وهو غير مضطر اليه، وبالاحرى وهو غير قادر على إعماله، فقد قالوا: إن حاجة الكائن هي التي تلد فيه العضو او الجهاز الذي يبلغ به تلك الحاجة، وقالوا: اذا بطلت الحاجة الى جزء من اجزاء الكائن أعدمت الطبيعة منه ذلك الجزء , ومعنى ذلك أن الطبيعة حكيمة مقتصدة لا تؤتي الكائن من الاعضاء والاجزاء الا ما يوائم به بيئته ويدرك به ضرورته.
وقوانين الوراثة التي اقرها العالم واحلها في الحقائق الثابتة لا تفضي الى هذه النتيجة، واثر البيئة والتربية الحازمة الرشيدة في توجيه موروثات الكائن مما لا سبيل الى انكاره. في توجيه موروثات الكائن وان كان نباتاً او حيواناً بله الانسان العاقل ذا الارادة والشعور.
بلى حتى النبات. وهو المسرح لتجارب ( يوحنا مندل ) مقرر قوانين الوراثة ومكتشف جيناتها، وعوامل الوراثة فيه من اعتى العوامل على التقويم وأنآها عن التربية المقصودة، من حيث أن النبات لا شعور له ولا ارادة، وحتى اوصاف الانسان التي يبدو أنها لازمة ولا مدخل فيها للتربية كلون البشرة ومقدار القامة وحجم الرأس، اقول حتى هذه الانواع من عوامل الوراثة فإنها وان استعصت على التربية الا أن اثر البيئة في إنمائها واضح.
ومواريث الكائن ليست سوى استعدادات قوية او ضعيفة لاوصاف في الاسلاف اصلية او طارئة والخصائص التي تحدّث عنها هؤلاء القائلون، وقالوا انها توجه سلوك الانسان وتقتاد إرادته وتخلق صفاته لا تثمر سوى هذه الاستعدادات الجسمية او النفسية او العقلية.
وهذه الاستعدادات الموروثة قد تفتقر من نموها وقيامها صفات كاملة ناضجة الى تدخل البيئة وحدها فلا مكان معها لتربية، ولا مجال بعدها لتهذيب ولا تغيير. ومن هذه العوامل التي تقتضي لون البشرة وتقاطيع الوجه ولون الشعر واشكال الاعضاء.
وقد تفتقر في فعليتها الى عوامل اخرى، وهذه هي التي تتدخل فيها التربية المقصودة، والتي يمكن في نتائجها المحو والاثبات، ومن هذا النوع الاستعدادات الجسمية لقبول بعض الأمراض، فإن الطب الحديث يملك أن يقف منها مواقف حاسمة.
ومن هذا النوع الاستعداد لضعف في البنية، فان الرياضة البدنية الصحيحة تستطيع أن تتفادى منه ومن اعراضه وعقابيله.
ومن هذا النوع ايضاً مبادئ الاخلاق واتجاهات السلوك التي يرثها عن اسلافه فإن التربية الصالحة والارادة الحازمة تملكان أن تضعا لها حدوداً وان تفرضا عليها رقابة وتجعلا عليها تبعات.
والعدل في الاسلام اصل ومبدأ ومنهاج. وغاية.
فالعدل اساس من اسس الدين واصل من اصوله حين نصف به خالق الكون عز اسمه.
ويراد من عدل الله سبحانه أنه لا يهمل فعلاً تحتمه المصلحة، ولا يصدر قبيحاً تمنعه الحكمة، لا يصنع شيئأ من هذا، ولا يغفل شيئاً من ذلك، لأنهما لا يكونان الا الحاجة تضطر الفاعل الى المخالفة وقد تنزه الباري عن الحاجة لغناه. او الجهل من الفاعل بصلاح الشيء وفساده وقد تعالى الله عن ذلك لعلمه، او لعبث يريده بذلك الفعل دون جهل منه ولا حاجة، وقد تعالى الله عن ذلك لحكمته: ) ما خلفنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا أن كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإنه هو زاهق ولكم الويل مما تصفون([9].
وعن القول بعدل الله سبحانه ينشأ القول بعصمة أنبيائه واوصيائه، وهي إحدى عقائد الاسلام الاخرى. والعصمة اعلى درجات العدل في الانسان واقوى مراتب الاستمساك بالدين.
واذا كان النبي والوصي من بعده هو الممثل الاعلى للدين في الامة والقيم الاكبر على اقامة العدل فيها فيجب أن يكون اشد الناس تمسكاً بمبادئ الدين واقواهم انطباعاً بملكات العدل.
ومحال على الله الحكيم العدل المقتدر أن يأتمن على شريعته رجالاً لا يأمن الناس على أحاديثهم الكذب ولا على أعمالهم الفسق ولا على نصيحتهم الخيانة، محال أن يقع منه ذلك لأنه قبح تحظره الحكمة أو جهل يمنعه العلم أو اضطرار تأباه القدرة.
والعدل مبدأ ومنهاج حين نصف به دين الاسلام ذاته.
ويقصد بعدل الاسلام انه قيم ليس فيه ميل ولا اضطراب، قسط ليس به سرف ولا تقصير، وأنه عام الملاحظة لنواحي الانسان دقيق الموازنة بين اطواره وأحواله، فيفي لكل منحى من نواحيه بما يستحق، ويشرع لكل حال من احواله ما يقتضي ولا يخيف على جهة بالتشريع لأخرى، ولا يؤثر ناحية على حساب ناحية: ) ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر يعظكم لعلكم تذكرون ( [10].
والعدل هو الغاية من تشريع الدين حين نصف به الانسان الفرد أو نصف به الانسان الأمة.
العدل هو الإستقامة، والاستقامة هي الكمال. والكمال هو الغاية.
فإيجاد الانسان العادل وإقامة المجتمع العادل هي غاية الله من الاسلام حين وضع أول حجر من هيكله ورفع أول قاعدة من قواعده. ومن أجل هذه الغاية وضع كل حجر منه وأقام كل قاعدة، ومن أجل هذه الغاية أتم البناء وثبّت الدعائم. وبهذه الغاية الشاملة يرتبط كل جذر من جذور الدين وعليها يتفرع كل غصن من أغصانه ومنها تبدو وتنضج كل ثمرة من ثمراته:) لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( [11].
والعدل في الاسلام سلسلة متراصفة الاجزاء مترابطة الحلقات. فمن العدل في العقيدة الى العدل في المنهاج الى العدل الهدف، ومن الاتزان في السلوك الى الاتزان في المعاملة الى الاتزان في الخلق، ومن النَصَف بين الغرائز الى النَصَف بين الافراد الى النَصَف بين الامم، ومن القسط في القول الى القسط في الحكم الى القسط في الميزان، ومن الاستقامة في النفس الى الاستقامة مع الغير . ومن العدل في الفرد الخاص الى العدل في المجتمع العام، ومن التساوي في الحقوق الى التساوي في الطبقات. ومن العدل في ميادين العمل في الدنيا الى العدل في موازين الجزاء في الاخرة، كل هذه مجالات لنشاط الدين، وكل هذه مجالي للعدل المتكامل الذي يستهدفه دين الاسلام.
وكل هذه مظاهر لعدل الله الكامل الشامل تدل على مراشد دينه كما تدل على مناهج قوانينه.
فالمؤمن حق الإيمان من يقوم لله بالقسط، ومن يكون رقيباً لله على نفسه وعلى خاصته في ذلك قبل أن يكون شهيداً له على من سواهم، ومن لا يشذ به الهوى ولا تميل به الأغراض عن منهاج العدل في جميع ذلك. اما من يلوى او يعرض فإن الله خبير بالخائنين في عهودهم ، ونقمته مرصودة لهم جزاء وفاقاً لخيانتهم:) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً( [12].
والمؤمن حق الإيمان من يتصل عدل اللسان منه بعدل اليد والقلب، فلا ينطق لسانه إلا بصواباً ولا يحكم إلا عدلاً ولا تعمل جوارحه الا حقاً ولا يعزم قلبه الا خيراً:) وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا( [13].
والمؤمن ولي المؤمن في إقامة العدل في خاصته وعامته، يرشده إذا جهل ويقوّمه اذا زاغ ويشده اذا ضعف وينهض بمعونته اذا اعيى:) والعصر أن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( [14].
ومن أجل هذه النزعة الشديدة الى العدل وهذا الولوع الاسلامي بإقامته فكل عمل يؤدي الى الخير ويوافق الشريعة فإن القرآن الكريم يسميه عدلا، فيقول مثلاً في وصف يوم الجزاء والتحذير من شدائده: ) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون([15]. ويقول أيضاً:)وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت، ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها( [16].
والعدل فريضة محتومة تجب رعايتها والمحافظة عليها من جميع افراد المسلمين، حتى مع الكفار الذين لا يدينون دين الحق اذا لم يقاتلوا المسلمين ولم يضطهدوهم ولم يفـتنوهم في دنياهم ولم يلبسوا عليهم دينهم. حتى مع هؤلاء يجب على المسلمين القسط في المعاملة، والمساواة في حقوق الانسانية بل ويسمو الاسلام على ذلك الى البر بهم والاحسان الى ضعفائهم:) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ان الله يحب المقسطين( [17].
والحقد والشنآن كذلك لا يسوّغان لأحد من اتباع هذا الدين أن يرتكب مع مناوئيه ما يخالف عدل الاسلام، وأن ينحدر الى شهوة الانتقام وبؤرة التشفي فإن المسلم أزكى من ذلك نفساً وأطهر قلباً: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، إعلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون( [18].
والحقد و الشنآن ذاتهما موضوعان لنظرة العدل في الاسلام، فلا يحقد المؤمن إلا في الحق ولا يبغض الا في الله. وطبيعي ان يتحدد هذا الحقد وهذا البغض بمقدار ما يقتضيه الحق وما يأمر به الله، وطبيعي أن تنحصر بوادرهما ونتائجهما في ضمن هذه الحدود. ومشأنأة أحد للمسلمين لا تعني أن الشانئ مجانب للحق في جميع احواله، وواجب المؤمن هو مراعاة الحق انّى كان وأين وجد.
واذا قعد الضعف الانساني بأحد عن هذه الغاية ومالت به الاغراض عن الله في كراهته وحقده، فلا ينتظر من دين الله إن يميل عن الحق لميل احد اتباعه، على انه لا يهتم بحقوق المناوئين قدر اهتمامه بما تتركه رعاية هذه الحقوق من زكاة في نفوس المسلمين وتهذيب لطباعهم وجلاء لايمانهم.
وحتى الحروب المقدسة التي يشنها الإسلام على اعدائه ليس معناها سقوط أحكام العدل مع هولاء المحاربين واستباحة العدوان عليهم.
إن الإسلام انما يكافح الجور في شتى مظاهره وفي شتى أسبابه، فلا يعقل إن يحييه وهو يبتغي إبادته. وان الإسلام انما يدعو الكافرين به إلى إقامة العدل فلا يعقل إن يسقط معهم أحكام العدل، والمتحتم على الفرد المسلم في هذه الحروب أن يكون صورة حيّة لعدل الإسلام ، وبرهاناً شاخصاً على صدق دعوته: ) وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ([19] بلى إن الله لا يحب المعتدين حتى في هذه الظروف الحرجة التي يجد فيها الناس مساغاً للاعتداء.
إن الحروب التي يشنها الإسلام حروب عادلة، لا لان الإسلام يبتغي من إثارتها اقرار العدل وتعميم مناهجه وتيسير سبله فحسب، بل لانها عادلة في جميع ملامحها، مقسطة في جميع أوضاعها.
هي طلقة المحيا بالايمان مشرقة الاسارير بالعدل حتى في أشد مواقفها محنة وامض ساعاتها بلاءاً، وهي بذاتها تهدي المستبصر بعقله إذا رام الهدى كما تقوّم المعوج بطبعه إذا آثر الزيغ.
والخروج على العدل في المجتمع الإسلامي والاستخفاف بالأمن فيه جريمة كبرى في موازين هذا الدين، ومرتكبها محارب لله ولرسوله مستوجب لامض أنواع التأديب: ) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم([20].
فإذا كانت المخالفة من طائفة ذات منعة وقوة فإن الإسلام يشن عليها حرباً مؤدبة حتى يفيء الباغي ويستقيم المعوج) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا أن الله يحب المقسطين([21]
وإذا كان العدل هو الاستقامة والاتزان في الخلائق. والاخذ بما يصح من الامور والنبذ لما لا يصلح منها والمحافظة على ما يجب من قوانين والاحتراس عن الخلاف عليها فإن العدل دين كل شيء وشريعة كل كائن:) وان من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم( [22]
أما العدل في الاخرة فانه الحافز الاعظم على الاستقامة في الدنيا. والجزء المتم لمنهاج العدل في الدين:)ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين( [23]
على هذا السنن المستقيم العادل اسس دين الإسلام يوم اسس، وانزل كتاب الإسلام يوم انزل:)الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان([24] وعلى هذا السنن المستقيم العادل توالت أحكام هذا الدين وتتابعت اصوله وفروعه وأنزلت تعاليمه وآدابه:)وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون([25] وعلى هذا السنن المستقيم العادل أتم دين الله آخر نص من نصوصه، وختم وحي الله آخر آية من آياته:)وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم( [26].
الدين ضرورة يقتضيها تنظيم الكون، وتنظيم الحياة، وتنظيم سلوك الإنسان الفرد وسلوك الإنسان الأمة، وتنظيم علائقه بعضه ببعض وفرده بالمجتمع، وتوثيق روابطه بالكون، وتوثيق صلته العظمى برب الكون.
والدين نظام اختياري لا سبيل فيه للجبر ولا مساغ للاضطرار، لانه توجيه للعقل وتقويم للارادة وتهذيب للضمير، وأخذ بيد الإنسان في سلوكه الاختياري إلى كماله الأعلى الاختياري. وقد قدمنا تفصيل هذا وأقمنا على ثبوت وجوهاً من البرهان.
ومتى استبان ذلك للعقل وعلم به حق العلم فقد اتضح له دون مرية إن بعث الانبياء ضرورة لابد منها كذلك.
ضرورة تقتضيها جميع النواحي المذكورة، من حيث انه ضرورة يقتضيها وجود الدين وتبليغ أحكامه.
الدين عقيدة للايمان تستتبع شريعة للعمل، وجليّ أن كل واحدة من هاتين اختيارية تعتمد على الموازنة والترجيح وامعان الفكر في التصويب أو التخطئة وليست سنة طبيعية لها في مجال التكوين مجرى معين لا تعدوه وغاية محدودة لا تنحرف عنها. والدين وضع الهي لا مدخل للبشر في تشريعه، وليس في طاقة أي منهم إن يكون له مدخل فيه وجميع هذا قد تقدم الحديث فيه مبسوطاً مشروحاً.
وإذا فلا محيد عن النبوة إذا لم يكن محيد عن الدين.
لان مصدر التشريع في الدين هو الله. وليس بمقدور الناس إن يتفهموا دينهم عن الله سبحانه مباشرة دون وسيط.
والرسالة في صفتها الأولى سفارة عن الله تعالى تقوم بشرح العقيدة وإبلاغ الشريعة، وإيضاح الحجة ، والرسول في مهمته الثانية داعية إلى الله يبين للناس رسوم الحق ومعالم الباطل. وينير لبصارهم محاسن الهدى ومقابح الضلال، وقول الرسول سند لثبوت كل رسم من رسوم الدين وكل بند من بنود الشريعة وكل وكل علم من أعلام الحق، والرسول هو النموذج الأعلى الذي اعده الله للناس ليصوغوا انفسهم على مثاله، باقواله يهتدون وبأعماله يقتدون: ) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. وداعياً إلى الله باذنه وسراجاً منيراً ([27].
كل هذه تدلنا على إن بعث الرسل ضرورة لا غناء للبشر عنها: لان الدين ضرورة لا غناء للبشر عنها.
وكل هذه تدلنا على إن عصمة الرسول واجبة. لان اهداف الرسالة لا تتم بدونها.
عصمة الرسول في التبليغ لأنه سند للشريعة.
وعصمته في السلوك والصفات لأنه المثال الأعلى للأمة.
وعصمته في كل قول وفي كل عمل. لان دليل الصدق لا يكون كاذباً وقيم العدل لا يكون ظالماً، وبرهان الصواب لا يكون ضالاً.
هذه حقائق لن يرتاب العقل المستنير في واحدة منها إذا هو استوضح معنى الرسالة في الدين، واستبان مقام الرسول من الشريعة واستجلى موضوع قيادته للأمة.
ولن يرتاب العقل المستنير في واحدة منها إذا علم أن الرسالة سفارة يقيم الله بها حجة، وينيط بسلوكها نظاماً ويمهد بها إلى غاية. هي غاية الله سبحانه من تكوين هذا الوجود وايجاد هذا الكائن.
ولن يرتاب العقل المستنير في واحدة منها إذا ايقن إن الرسول لازم التصديق في كل قول، واجب الإطاعة في كل حكم، مفروض الاجلال والتوقير على كل حالة. وما كان الله ليحتم تصديقه على الناس إذا كان لا يمتنع على قول الكذب، وما كان ليوجب طاعته عليهم إذا كان لا يستحيل على عمله الخطأ، وما كان ليفرض إجلاله وتوقيره في كل حالة إذا كان غير مأمون الخيانة غير مأمون العثار.
لن يرتاب العقل المستنير في وجوب عصمة الأنبياء إذا هو استوضح هذه المعاني. أما ما يوهم خلاف هذه العقيدة من النقول فلا مناص من تاويله.
لا مناص من تأويله إذا اتسع لفظة للتأويل، ولا مناص من طرحه إذا لم يتسع لذلك. وأقول:
لا مناص من طرحه إذا لم يتسع لفظه للتأويل ، لان النقل حين ذاك يكون مقطوع الكذب وأية قيمة للدليل إذا كانت هذه صفته ؟.
هبة فوق الهبات تُمدّ بها عبقرية فوق العبقريات.
هذه النبوة في افقها الرحب وفي نعتها الشامل الذي تشترك به عامة الأنبياء، و تذعن لطاعته أصناف البشر.
ليست خُلُقاً يتوصل إلى تهذيبه بالمجاهدة، وليست مكاشفة يتذرع إلى اكتسابها بالتبتل، ولا مرتبة نفسية أخرى يتدرج إلى الحصول عليها بالرياضة.
ليست النبوة شيئاً من هذه الفضائل لتخضع للاختيار وتنال بالاجتهاد، ولكنها هبة من هبات الله سبحانه، وهبات الله لا تكل جزافاً دون وزن، ولا تفاض على احد دون استحقاق. بل لا بد من عبقرية فريدة تتسع لهذه الهبة الفريدة.
عبقرية تحسن قيادة الأمم المختلفة في العوائد، والأفراد المتباينة في الطبائع، والعقول المتباعدة في الإدراك. عبقرية هي الفرد الاتم الاسمى في كل مجالات العبقرية، بحيث يتفيأ ظلالها كل عبقري، ويقبس من صلاحها كل مصلح، ويستضيء بهديها كل هاد، ويستكمل من عرفانها كل عارف.
هذه العبقرية الفريدة في الناس هي وحدها التي تقدر إن تنهض لله بالشرط حين يحملها عبء هذا الميثاق، ويستودعها سر هذه الهبة، ويمنحها شارة هذه الزعامة. وهي وحدها التي تطيق إن تستقبل وحي الله كاملاً غير منقوص، ثم تؤديه إلى كل فرد من عباد الله كاملاً غير منقوص. وهي وحدها التي تحسن إن توجه هداية الله إلى خلقه توجيهاً مشعاً بالنور وافياً بالحاجة.
مشعاً فلا يطغى على البصائر لتعقيد، ولا تزاور عنه العقول لوهن، ولا تتجافى عنه لتهافت. وافياً فلا تزيد يلحقه بالفضول، ولا قصر يقعد به دون المقصود، ولا غموض يسف به عن الحكمة وينقطع به دون النتيجة.
توجيهاً يوائم عظمة الحق في تشريعه، وعظمة الدين في مناهجه، وعظمة الإنسان في غايته، بحيث تصطلح العقول المتباينة على اكباره، وتجتمع على الافادة منه، فيأخذ كل عقل منه ما يحتمل، كالغيث يأخذ كل موضع منه بمقدار ما يتسع وتمتص كل نبتة منه بمقدار ما ترتوي، وكالكهرباء يقبس كل مصباح منه قدر ما يطيق، ويفيد كل جهاز منه قدر ما يبتغي.
هذا العقل الفريد الذي يمد العقول كلها فلا تنكر، ويأخذ بأعضادها فلا تقصر، وهذه الروح الذي يوجه الأرواح كما يشاء ويتصرف في ملكاتها كيفما يريد، وهذه النفس التي تزكو بزكاتها النفوس، والقلب الذي تصفو بصفائه القلوب. وأخيرا هذه الإنسانية المشعة في جميع مناحيها، الرشيدة من كل جهاتها، هي التي تستحق إن يضع الله بيديها زمام البشر، وان ينيط بها سبب هدايتهم، ويجعلها منار رشدهم.
وظن العابثون من قريش الطامعون بما يستحيل أن يكون، ظن هؤلاء إن النبوة حظ يجب إن يسقط على مقدار سعة الأشداق واندحاق البطون، فمدوا أعناقهم بالرجاء. وقبضوا اكفهم على الأمل. وما دام محمد الفقير اليتيم أصبح نبياً يسدده الوحي وتلوى بطاعته الرقاب، فان كل كبير من كبراء قريش يجب إن يكون نبياً كذلك، يهبط عليه الوحي وتعنوا له الرقاب. ولم لا ينالون هذا الحظ وهم أوفر من محمد مالاً واجهر منه صوتاً واكبر منه سناً واربى منه عدداً ؟. وحتى قال مسرف من هؤلاء العابثين: زاحمنا بني عبد مناف في الشرق، حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا إن يأتينا وحي كما يأتيه.
وفي رد هذه الأنفاس ولقمع هذا التطاول أنزل الله سبحانه هذه الآية الكريمة من الوحي الكريم: ) وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ، الله أعلم حيث يجعل رسالته، سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ([28].
الله هو فاطر الناس ومغرّز غرائزهم، وعالم سرهم. و علانياتهم، واصطفاؤه بعضهم على بعض لا يجزي على هذه المقاييس التي لا تسن ولا تتبع إلا في المجتمع الوضيع الرقيع، بل يستند لما للفرد في ذاته من موجبات الأهلية، ولما له في سماته من مقتضيات التقديم.
أما هؤلاء المستكبرون على الحق المتطاولون لما لا يستحقون فسينالون جزاء استكبارهم وعقبى تطاولهم وجحودهم.
وطبيعي أن تكوين المجتمع العادل وغرس الفضيلة الجامعة .
المجتمع الذي يجمع صنوف العدل . والفضيلة التي تنتظم أشتات الفضائل .
طبيعي أن بلوغ هاتين الغايتين يتوقف في درجة الأولى على التربية الصالحة والتوجيه العملي الرشيد . فاجتثاث الخلق السيء من أعماق الفرد واستئصال العادات الرديئة من اطواء المجتمع , ثم استبدال الفاسد منهما بالصحيح والقبيح بالحسن , والارتفاع بالفرد وبالأمة في مدارج العدل ومناهج الاستقامة إلى حيث العدل الأعلى الأقصى الذي ابتغاه الدين , والاستقامة التامة التي استهدفتها مناهجه. هذه عملية شاقة تفتقر إلى تربية جد طويلة وعناية جد حكيمة, وإلى كثير من الجهد وطويل من المصابرة يبذلهما المربي لإنجاح هذه المهمة .
إنها خلق نفوس وترميم جيل , والخلق والإنشاء لا يكفي لها قول مجرد وان يكن القائل أفصح خلق وأبلغ مفوّه .
وطبيعي كذلك أن الأسوة الحسنة بالمربي والقدوة الصالحة بأفعاله وصفاته هي السبب الأقوى في التربية المجدية والعامل الأعظم في نجاحها فالتأسي بالعظماء في الصفات والإقتداء بهم في المظاهر والأعمال إحدى النزعات الأصيلة في نفس الإنسان ، المنطبعة فيها منذ نعومة أظفاره .
من أجل هذا كانت بعثة الرسول وكانت عصمته من متسمات رسالة الدين ومن الضمانات اللازمة لتحقيق غايته . ومن أجل هذا كانت بعثة الرسول وكانت عصمته من ضرورات الإنسان الفرد . ومن ضرورات الإنسان الأمة للإرتفاع بهما إلى هدف الإنسانية الأقصى . ومن أجل هذا كانت مهمة الرسالة مزدوجة فهي بلاغ مبين لتعاليم الدين وشرح واف لأهدافه من جهة، وهي تربية لنفوس الأمة وتزكية وتطهير لقلوبهم وأرواحهم من جهة أخرى :) لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين( [29].
ومن أجل هذا بذاته كانت الإمامة التي تعهد بها النبوة , وكانت عصمة الإمام الذي يوصي إليه النبي (ص) من متممات رسالة الدين كذلك , ومن الضمانات اللازمة لتحقيق غايته .
هذا التمثيل الصادق لأدوار الرسول (ص) بعد لحوقه بالرفيق الأعلى , وهذا الامتداد الوضعي في عمر النبوة بعد انتهاء أمدها الطبيعي بموته , هذان أمران لا مندوحة عنهما للدين إذا لم يكن بد من اتمام رسالته ومن ضمان غايته . فإن تكوين المجتمع العادل وغرس الفضيلة الجامعة لا يكفي لهما تربية جماعة من الناس , بل ولا جيل كامل من أجيالهم , مهما تكن التربية رشيدة , ومهما يكن المربي حكيماً . فمن شأن المجتمع أن يتجدد ويتسع , ومن دأب نفوس الأفراد أن تتردى وتنزلق , وغرائز الناس هي الغرائز في نزقها وجماحها . وعوائق الفطرة عن الاستقامة هي العوائق في شدتها ووفرتها . وأهواء القلوب هي الأهواء في مداخلها ومخارجها . وكل هذه معاثر ومزالق تدفع بالنفوس إلى التردي وتحمل المجتمع على الانتكاس , وهما لذلك ولسواه ما يزالان مفتقرين إلى التربية الطويلة والمصابرة الحكيمة , وما يزالان مفتقرين إلى القدوة الصالحة والمثال الأعلى . ما يزالان مفتقرين إلى عقل يمد العقول بالهداية ونفس تمد النفوس بالزكاة وقلب يمد القلوب بالطهر . ما يزالان مفتقرين إلى الإنسانية المشعة بالهدى , المنيرة بالحق , المشرقة بالعدل .
فلا معدل عن إمامة تحمل أعباء النبوة وتمثلها في مهمتها حق التمثيل .
ولا معدل عن إمام تتم به على المؤمنين المنة , وتكمل لهم النعمة .
[1] ) فاطر : 15- 17.
[2] ) الزمر: 7.
[3] ) الكهف: 29.
[4] ) النساء: 40.
[5] ) الأنبياء: 47.
[6] ) الأعراف: 27.
[7] ) النحل: 35.
[8] ) الانعام: 149.
[9] ) الأنبياء: 16- 18.
[10] ) النحل: 89 – 90.
[11] ) الحديد: 25.
[12] ) النساء: 135.
[13] ) الانعام: 152.
[14] ) سورة العصر.
[15] ) البقرة : 48.
[16] ) الانعام : 70.
[17] ) الممتحنة: 8.
[18] ) المائدة:8.
[19] ) البقرة : 190.
[20] ) المائدة: 36.
[21] ) الحجرات: 9.
[22]) الحجر: 21.
[23] ) الأنبياء: 47.
[24] ) الشورى:17.
[25] ) الانعام:126.
[26] ) الانعام 116.
[27] ) الاحزاب: 45- 46.
[28] ) الانعام: 124.
[29] ) آل عمران: 164.