في ظلال العقيدة


أول ناحية من الإنسان يعني بها الدِّين

طبيعي أن يكون العقل أول ناحية من الإنسان تنصرف إليها عناية الدين وأحقها بالمزيد من تهذيبه، فالعقل اسمى موهبة يختص بها الإنسان وأولى ميزة يرتفع بسببها عما حوله من الكائنات.

والعقل هو المصدر الأول لأفكار الإنسان والملتقى الأعظم لتصوراته. الحق منها والباطل، المنتج منها والعقيم، الرفيع منها والوضيع.

وللعقل إشراف تام أو ناقص على صفات المرء التي يكتسبها بالتخلق، وعلى مراميه التي يندفع نحوها بالرغبة ، وعلى أعماله التي يصدرها بالإختيار.

والعقل من وجهة خاصة هو المجال الأول للدين، فقد علمنا أن الدين هو منهاج الإنسان إلى كماله الأعلى الذي يبلغه بالاختيار، والتفسير الواضح لذلك: أن الدين هو النهج القويم لتزكية العقل في ذاته وتوجيهه الى الرشد في سلوكه.

وهذا ما نهج إليه كل دين فيما نعلم، فان العقيدة من كل دين هي الاساس المتين الذي يقوم عليه هيكله، أو الدعامة المكينة التي تشد بناءه. ومن أجل ذلك وجب أن تكون العقيدة جلية لا أثر فيها للغموض. وثابتة لا مجال فيها للتزلزل، ويقينية لا ظل فيها للريب.لأن العقيدة وظيفة عقلية في مرحلتها الأولى والعقل صريح في أحكامه لا يقبل من الوظائف ما فيه غموض أو وهن أو إضطراب.

ولقد صدمت المسيحية كبرياء العقل حين دفعت إليه حزمة من العقائد لم يفقه للكثير منها مفهوماً، ولم يجد للبقية منها برهاناً، بل وأدرك أن الكثير منها متناقض الفكرة منحل القواعد. حين دفعت إليه هذه الحزمة من العقائد. ولم تجعل له حقا في نقدها، ولا خياراً في قبولها.

وأنكمش العقل لهذه الصدمة ولم يدر ماذا يقول، وما يقول وقد أبعد عن الحكم وحجر عليه القول ومنعت منه الخيرة ؟!

ولكنه بقي يتساءل: إذا كان الأمر خارجاً عن يده فلماذا يطلبون منه الإقرار ؟!

وقال رجال المسيحيه ـ يلطفون الجوف ويعللون الأمرـ: أسرار الدين لا يسمو إليها العقل، ومن الخير له أن يؤمن وإن لم يفقه، فان الدين لا يدعوه إلا إلى خير. وقال إتباع الكنيسة: الإيمان مركزه الوجدان.

وقال بعض الفلاسفة المحافظين: سبيل الإنسان إلى المعرفة اليقينية هو الحس والتجربة، وهما لا يستطيعان أن يدركا حقيقة الله ولا أسرار الدين . فموضعهما القلب وليس موضعهما العقل.

وإنكمش العقل لأنه رأى الناس يتخادعون على حسابه. وبقي يتساءل مرة إخرى: إذا كان الدين لا مكان له في العقل فبم يميز هؤلاء الخطاء في الأديان من الصواب ؟!

إن العقيدة وظيقة عقلية في مرحلتها الأولى فيجب أن تكون جلية لا أثر فيها للغموض، وثابتة لا مجال فيها للتزلزل ويقينية لا ظل فيها للريب. لأن العقل لا يقبل من الوظائف ما فيه غموض أو وهن أو إضطراب.

ومن أجل ذلك تنوع الإسلام في البرهنة على إصوله وإستحث الإنسان على التأمل فيها وشجعه على نقد حججها كي يوقن عن بصيرة ثم يعتقد عن يقين.

الدين سبيل التكامل الإختياري في نفس المرء وفي عقله، ومحال أن يبلغ بالمرء هذا المدى ما لم يكن على صلة وثيقة بنفس المرء وعقله، ومحال أن يبلغ بالمرء هذا المدى ما لم تخضع نفس المرء وعقله لأوامر الدين وإرشاداته، وما لم يكن هذا الخضوع منهما عن طواعية وإختيار. محال أن يصل الدين بالإنسان إلى تلك الغاية مالم يبلغ من نفس الإنسان ومن عقله هذا المبلغ.

وكيف يخضع هذان لأوامر الدين وهدايته إذا لم يكن الإنقياد لمشرعه والإطاعة لمبلّغه عقيدة راسخة يتفهمها العقل وتمتلئ بها النفس ؟.

هذه السبيل الطبيعية للدين متى إراد أن يسلك سلوكاً جدياً إلى الغاية.

على أن الدين في حقيقة المفهومة وفي وضعه اللازم. بل وفي مجاله اللغوي أيضاً رباط عبودية خاضعة يشد الإنسان إلى إله قادر قاهر، ورسوم ترتكز على معاني تلك العبودية وهذه الربوبية يشرعها الرب ويمتثلها العبد، وقد مرّ شرح هذا مفصلاً فليراجعه القارئ إذا شاء.

وإذن فالعقيدة هي الركيزة الاولى للدين، وحجر الزاوية من بنائه.

على أن للإسلام من وراء العقيدة مرامي بعيدة الهدف بالغة الأهمية عظيمة الجدوى.

فالعقيدة في الإسلام مفتاح لتثقيف المرء وإذكاء مواهبه وتفتيق ما في ذهنه من طاقة وإرضاء ما في نفسه من طموح، وللدفع به إلى الثقافة العالية والسمو به إلى المدنية الصحيحة.

يروم الإسلام من وراء العقيدة أن يدفع المرء ليكتشف ويوجهه ليبتكر و يستحدثه ليتقدم ويرتفع.

يريد أن يقيم العقيدة على كشوف العلم حتى لا يزيدها اطراد العلم إلا وضوحاً. وأن يربط العلم بالعقيدة حتى لا يفيده رسوخ العقيدة إلا قداسة.يريد أن يتبنى العلم من حيث أنه سند له في تمكين العقيده فلا يقولن متنطع أن الدين يناكر العلم، ثم يبارك العلم حيث أن وزر له على نيل الغاية فلا يفوهن متشدق أن العلم يصارم الدين.

الدين سبيل التكامل الاختياري في نفس المرء وعقله، ولن يتم هذا التكامل إلا بالعلم ولن يتم إلا بالتهذيب.

من ثم كانت العقيدة في دين الاسلام مفتاحاً للنظر في علوم الكون.

في علوم الكون كافة دون إستثناء ودون اختلاف. فدلالة الخليقة على الخلق، ودلالة الإبداع على حكمة المبدع ودلالة وحدة الأشياء في التصميم على وحدة المصمم، هذه الشهادات يجدها العالم في فطرة الخلية البسيطة كما يجدها في خلقة الإنسان المعقدة، ويراها في تكوين الذرة الصغيرة كما يراها في تنظيم المجرة الكبيرة.

ففي هذا الدين يجب النظر في شؤون الفلك وفي أسرار الطبيعة وفي قوانين الحياة وفي فلسفة التكوين وفي دقائق التركيب وفي خواص الأشياء وأنظمة الأحياء، وفي خصائص كل نوع وفي مميزات كل صنف وفي حكمة كل جزء وفي غاية كل موجود.

كل أولاء يجب النظر فيه لتثبيت العقيدة في دين الإسلام، والآيات الدالة على ذلك كثيرة في القرآن، وقد إطلع القارئ على عدد منها في الفصول السابقة.

هيكل العقيدة في الإسلام

العقيدة في صورتها معرفة ولا بد للمعرفة من الدليل.

وهي بعد إستكمالها إيمان ولا بد في الإيمان الرسوخ.

وهي عند إثمارها عمل ولا بد في العمل من الإخلاص.

وهذا هو هيكل العقيدة التي يبتغيها الإسلام من كل مسلم.

يريد منه أن يعرف حتى لا يساوره في معرفته ريب، و أن يؤمن حتى لا تعروه في إيمانه ذبذبة، وأن يلخص حتى لا يخامره في أعماله ولا في صفاته فسوق ولا رياء.

يريد منه أن يكون صورة ماثلة شاخصة للقوة والثبات والصدق في عرفانه و في إيمانه ثم في سلوكه وأعماله وصفاته وسماته ) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ([1]هذا التجنيد الكامل للعواطف والمشاعر والغرائز والأخلاق والسر و العلانية للإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، هذا هو الإيمان الصادق الذي يبتغيه الإسلام من أتباعه.

وأية شيمة من شيم الخير يفقدها المسلم وأية خلة من خلال السوء يداينها إذا خضع لهذه القيادة واتبع هذا الهدى، واذا كان لا يعمل إلا عن عقيدة ولا يعتقد إلا عن برهان ؟.

وخلاصتها

أما خلاصة العقيدة في دين الإسلام فهي :

[1] توحيد الله في الإلوهية والربوبية توحيداً نقياً صافياً لا شائبة فيه لشرك ولا ظل فيه لتركيب، ولا أثر الحلول أو إتحاد، عميقاً عميقاً تمتد جذوره إلى إرادة المسلم فلا يعبد إلا الله ولا يستعين إلا به، وإلى خلجات نفسه فلا يخشى أحد إلا الله ولا يضرع لكائن سواه، وإلى آمال قلبه فلا يرجو غير الله ولا يرغب إلا إليه.

أما توحيد الله في الصفات فهو شوط كبير يختص به المذهب الإثنا عشري في مضمار التوحيد، وبالأحرى هو تفسير دقيق للتوحيد الخالص الذي يجب أن يعتقده المسلم.

ومرد الفكرة إلى أمرين:

(أ‌)               أن الله وحده مطلق الكمال في كل نعت يعد ظهورا للكمال.

(ب‌)          وأنه سبحانه غني بذاته عن أي علة أو صفة هي غير ذاته.

فالله سبحانه حي بنفسه لا بعلة أو صفة غير ذاته تؤتيه الحياة، والله قادر بنفسه لا لعلة أو صفة تكسبه القدرة، وهو عالم بنفسه لا من أجل علة أو صفة تفيده العلم، وهو سميع و بصير بنفسه لا بآلة أو علة أو صفة توليه السمع.

ثم هو كامل وغني بنفسه لا بسبب علة أو صفة غير ذاته تمنحه الكمال والغنى.

فليس لله صفة تزيد على ذاته، فإن المدلول الصريح للصفات الزائدة أن الذات إستكملت بها عن نقص وإرتفعت من ضعة وأستغنت عقيب حاجة. ولا يجدي فتيلاً في رفع هذا المحاذير أن الصفات واجبة كوجوب الذات وقديمة كقدمها وإنها لم تنفصل عنها في الأزل ولن تنفصل عنها إلى الإبد. لا يجدي ذلك في رفع المحاذير بعد أن كانت غير الذات وإستكمال الذات بها لا يكون إلا عن نقص في الذات وأن لم يحصل في زمان.

ليس لله صفة بالمعنى الذي يستلزم الهبوط في الذات وإنما صفاته في الوجود عين ذاته .... عين ذاته الواحدة في الوجود المنزهة عن التركب المستجمعة للكمال ، المستأثرة بالغنى.

[2] تنزيه الله عن كل ناقصة من الصفات وعن كل شائن من الأفعال . فلا وهن ينال قدرته العامة، ولا ظلم يثلم عدله الشامل ، ولا جهل يدنس علمه المحيط ، ولا عبث يشين حكمته التامة، ولا نقص يلحق كماله المطلق.

ومن مظاهر هذه العقيدة تنزيه الله عن الجبر في الأعمال وعن الإكراه في الدين،ومن أضوائها تنزيه أنبياء الله عن كل ما يهبط بالنفوس الزكية ويتضح بالصفات الحميدة.

[3] إذا كان الدين ضرورة يلجئ إليها إنتظام الحياة ، وإذا كان واضع الدين يجب أن يكون هو واضع نظم الحياة ، وإذا كانت كرامة الإنسان وحريته توحيان اليه أن لا يخضع في الدين إلا لمن يخضع له في التكوين. إذا كان جميع هذا حقا لا مراء فيه ـ وقد علمنا من قبل أنه كذلك، وعرفنا أنه حكم البرهان وقضاء الفطرة ـ فلا بد لهذا الدين من مبلغ.

ولا بد له بعد فقد المبلّغ من الحجة الحافظ.

الدين نظام إختياري يرتكز على الإرادة ويتكئ على البرهان، فهو لذلك يفتقر إلى المبلّغ المأمون .

والدين شريعة وضعية تقوم على الموازنة و تستمد من الملابسات، فهو من أجل ذلك نصب للطوارئ وعرضة للتحريف، وهو من أجل ذلك يفتقر إلى الحافظ المأمون.

مبلغ يستوعب شريعة الله كاملة ويؤديها إلى الناس غير منقوصة.

وقيم يستودعه ذلك المبلغ أمانته ويقيمه ملجأ للأمة بعد موته.

ذلك المبلغ الذي يحمل رسالة الله في دور التأسيس هو الرسول.

وهذا القيم الذي ينوب عن الرسول في حفظ الشريعة هو الإمام .

[4] إذا كان الله سبحانه مصدر كل شيء في البدء فإن إليه مصير كل حي في النهاية، وإذا كان هو الرقيب على الأعمال في الدنيا فهو الحسيب المجازي عليها في الآخرة، وإذا كان الدين منهاجاً للإنسان لا محيد من وضعه ولا مناص من إتباعه فلا محيص من يوم يقوم المرء فيه لتصفية النتائج وإستيفاء التبعات.

وأما البعث والنشور فإن الحديث عنه أوضح من أن يسجل وابين من أن يفتقر إلى دلالة، أليس من الهزل العابث أن يقول قائل: أن فلاناً الصانع الماهر قادر على أن يعيد ما إبتكره ؟! ثم من السخف المضحك بعد ذلك أن يطلب أحد من هذا القائل بينة على صحة هذه الدعوى ؟!

أرايت بنَّاءاً يقيم عمارة عظيمة تبدو فيها براعة الفن ومهارة الصناعة وجمال الذوق، ثم يعي عن تجديدها إذا طرأ عليها طارئ ؟!. أم رايت إمرءاً ذا مسكة من شعور يكبر على هذا البناء أن يعيد عمارته بما فيها من فن وبما لها من جمال ؟!.

) أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ، وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ([2]

العقل في نظرة الإسلام

وللعقل في دين الإسلام منزلة سامية لن تبلغها أية موهبة أخرى من مواهب الإنسان، فالعقل هو المفزع في التمييز الخير والشر وتبيين الحق من الباطل، والعقل هو سر التفاضل في درجات الرجال، فهو الملاك في إستيجاب المنزلة والكرامة في الدنيا وهو المدار في إستحقاق المثوبة أو العقوبة في الأخرى، وقد قال الرسول (ص): ( إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازي بعقله)[3]وقال (ص): ( ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول إمته، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من إجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الاأباب الذين قال الله تعالى) وما يتذكر إلا أولو الألباب([4]إن الله غني متعال لا ينظر إلى العمل لكثرة ولا يرتضيه لتنسيق، بل ينظر إلى ما يوجبه ذلك العمل لنفس العامل من زكاة وما يتركه في قلبه من إشراق، وإنما يدرك ذلك بالإخلاص، وإنما يدرك ذلك بالمعرفة الكاملة الواعية، وإنما يدرك ذلك بالعقل اليقظ المستنير الذي لم يقسم الله للعباد شيئاً أفضل منه.

والألباء من الناس المتبعون رشد عقولهم السائرون على هداها المميزون بين ما يحسن من الأمور ومن الأعمال والصفات فيأخذون به. وما يقبح منها فيجتـنبونه ويأنفون منه، فإذا تعارضت الأقوال لديهم فحصوها فحص النقيد الخبير فأخذوا بأوفاها هدى وأكثرها سدادا، هؤلاء هم العباد الحريون بتوفيق الله وهداه الجديرون منه بالبشرى في الحياة الدنيا والغبطة والنعيم في الدار الآخرة، ) فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب([5] وهم الحقيقون بصفة الإنسانية في نسقها الأعلى، وهم الأحياء بمعنى الحياة المجدي ) أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ( [6]

 أما الأخرون الذين يرتكسون في حمأة الجهل إلى آذانهم وينتكسون في بؤرته على رؤوسهم، ولا يستجيبون لدعوة الحق، ولا يصيحون لنصيح العقل، أم هؤلاء فليسوا من الإنسانية في شيء وإن اشبهوا الأناسين في السمات وألحقوا بهم في العداد ) أن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ( [7]والعجماوات إنما خلقت لتأكل وتشرب وتنمو وتلد ثم لتسرج وتُركب أو تذبح وتؤكل وحواسها وغرائزها المودعة فيها تدرجها في هذا الطريق وتوفي بها على الغاية، أما إبن آدم فقد خلق لتكاليف إخرى في هذه الحياة.

والدواب البشرية تترك سبيلها الذي طرّقته لها الطبيعة وأعدتها له الحكمة، وتهرع مع البهائم زاعمة أن سبيلها هو الرشيد. نعم وتكب تهتدي بهديها وتأتي مثل أعمالها وقد عرف الإستعمار ما تنتظر هذه المخلوقات فأعد البرذعة وشحذ السكين.

أن الحواس في إبن ادم نوافذ يتصل منها نور الحياة بنور العقل، وترتبط حركات الكون بحركات الفكر، فإذا لم يؤد الانسان بحواسه هذه الوظيفة فقد سد على عقله منافذ النور وعطل حواسه عن الإنتفاع.

وما كان الإنسان ليملك أن يوصد هذه الأبواب لو أن عقله كان حر الحركة منطلق النشاط، أن تجميد الحركة فيها يعني تجميد حركة الفكر وإطفاء شعلتة وإخماد نشاطه، ثم لا معدى للخابط من أن يرد نهايته المحتومة وأن يجني ثمرته المعلومة. ) لقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون( [8] لجهنم ... للظاهرة العظمى من غضب الله .... للعاقبة السوأى التي لا عاقبة أسوأ منها .... لهذه النهاية الكالحة المرعبة المخيفة خلق هذا الهباء من الجن والانس. ولم تكن هذه عقباهم لو أنهم احسنوا الإفادة من هبات الله التي آتاهم ، فاعملوا البصيرة وإنتهجوا الحق.

وعمى البصيرة أشد وأنكى وأعظم معرة من عمى البصر ) فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ([9]. وما ضر فاقد البصر أن لا يشهد الأضواء والألوان إذا كانت له بصيرة نفاذة غلى الحقائق، جوالة في المعاني، غواصة إلى التخوم. وما ضر فاقد البصر أن لا يشهد الأضواء والألوان إذا إستطاع بفطنته أن يحلل طيف كل ضوء ويحصي إخلاط كل لون، ويستجلي خصائص كل مرتبة من الأضواء ومميزات كل فصيلة من الألوان، وما ضره أن يكون كذلك إذا كان يسدد القول فلا يخطئ ويقيم البرهان فلا يدحض ويؤسس الفكرة فلا تنقض. وهذا الانسان ليس بأعمى وإن كان فاقد البصر، فإنها لا تعمى الأبصر ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

والعقل إنما يتبوأ هذه المكانة في دين الإسلام إذا احتفظ بشؤونه بما هو عقل، ونهض بمهمته بما هو دليل مأمون، فلم تزغ به أهواء النفس، ولم تجنح به ميول الغريزة، ولم يتخبط في معارفه وأحكامه على غير علم ولا رشد ) ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدى ولا كتاب منير([10] ) ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين([11].

والإسلام يأنف للعقل أن يستبهظ تكاليف اليقين فيستريح إلى الظنون: ) وما يتبع أكثرهم إلا ظناً، إن الظن لا يُغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون ([12] ويأنف للعقل أن يصده إلف العادات أو إرث الاسلاف عن النظر الحق والفكر المستقيم، ويندد بأقوام تراكمت على بصائرخم غشاوات كثيفة من نتائج الجمود على مواريث اسلافهم وقديم عاداتهم، فمنعتهم أن يبصروا طريقهم او يبحثوا عن اعلامه:) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون([13] .

ضعة بالعقل أن يستأثر به هوى او تجمح به غريزة، وهبوط بمنزلته أن يخادعه وهم او تصرّفه عادة او يستبد به تقليد ، ومعرة شديدة أن ينقلب جهلاً أعمى ينكر ما يحس، أو صدى فارغاً يردد ما يسمع. ) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءاً ونداءاً , صم بكم عمي فهم لا يعقلون ([14] .

كل هذه مهاوي ومزالق على العقل أن يتوقاها إذا أراد أن يسمو، وعلى العاقل أن يحترس من التردي فيها اذا طمع أن يرتقي، وان يبلغ الغاية التي من اجلها خلق، ومن أجلها بدات الحياة.

ركائز العقل في حكمه

وركيزة العقل الإولى في حكمه على الحوادث واستنتاجه للحقائق هي الضرورة، هي القضايا التي يضطر الانسان بطبيعته الى الحكم بصدقها دون حاجة إلى مزيد فكر دون حاجة الى طلب دليل. وسند ه الثاني هو البرهان اليقيني القويم ، البرهان الذي يقوم على الضرورة وينتهي اليها. ومتى إعتمد العقل في أحكامه على هاتين الدعامتين استحال عليه أن تضطرب له قدم او تخف به كفه.

ومن الناس من يحصر وسائل العقل الى المعرفة بالحس والتجربة، فلا وسيلة له إلى تصور المفردات الا الحس، ولا سبيل له الى العلم باحكامها واوصافها سوى التجربة.

وهكذا انحصرت المعارف البشرية لديهم ـ لا نحصار اسبابها ـ بالمادة وما يتبع المادة.

وهكذا راموا أن يجدوا تفسير مادياً محسوساً لكل مفهوم من المفاهيم ولكل حكم من الاحكام.

وانجز المتطرفون منهم فانكروا وجود ما سوى المادة لانه لا يدرك بالحس ولا تناله التجربة.

وسواءاً اكان حصر وسائل المعرفة هو الذي ادى بهم الى انكار غير المادة ام كان انكار ما وراء المادة هو الذي انتهى بهم الى الحصر، فانه غلو لا مبرر له، وما اكثر المعاني التي يتصورها الذهن بعيدا عن الحس، وما اكثر المعاني التي يولدها مما يدركه بالحس، وما اوفر القضايا التي يحكم عليها بالثبوت او بالنفي ولا تنالها التجربة.

ومعاني ما وراء المادة لا تنالها الحواس وهؤلاء انفسهم لا يجحدون تصورها في الذهن وانما ينكرون تحققها في الوجود ، ثم هم يحكمون عليها باحكام كثيرة متنوعة لا تبلغها التجربة، وقد تحدثنا عن ذلك اكثر من مرة، وللموضوع كتب اخرى تستوفي الحديث عن هذه الاهواء.

القضايا التي يضطر الانسان بطبيعته الى الحكم بصدقها دون حاجة الى فكر ودون حاجة الى دليل، والبرهان اليقيني القائم على هذه الضروريات والمنتهي اليها ، هاتان هما ركيزتا العقل في حكمه على الحوادث واستنتاجه للحقائق.

على أن المعلومات الاولية التي يمتلكها العقل ، والبرهان الذي يستند أليه في المعرفة النظرية لا يملكان أن يبديا للعقل كل مستور وان ينيرا له كل سبيل، فمن الحقائق ما يستدق على الفطرة ولا تناله الضرورة ، واذا خفي على الفطرة والضرورة فقد خفي على البرهان ، ومن الحقائق ما يتعارض فيه الوجه ويلتبس فيه الحكم ، ومن الحقائق ما يتعرفه العقل بوجه غير صحيح، فيحكم عليه بحكم غير مطابق. فالعقل مفتقر اذن الى ركيزة ثالثة تبين له ما تعي عنه وسائله، وما ترتبك فيه موازينه، وهذه الركيزة هي وحي الله خالق الفطرة وبارئ العقل الى أنبيائه المصطفين الذين تصدقهم الفطرة ويؤمن بهم العقل : ) قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها ، وما أنا عليكم بحفيظ ([15]

التوحيد والإلحاد

في اعمق الاعماق من نفس الانسان يوجد الدليل الاول على الله ، بل والدليل الاول على توحيده وتنزيهه والحافز الذاتي للانسان على التوجه اليه.

في اعماق الاعماق من نفس هذا المخلوق المفكر، حتى لو اطبق عينيه عن عجائب الكون، وصرف فكره عن التامل فيها والتدبر في قوانينها.

في فطرته حين يدع لها الحكم ويسند اليها الرأي.

في فقره الذاتي وهو يشير الى غني مطلق يأمل منه الغنى، و في نقصه الطبيعي وهو يتوجه الى كامل اعلى يرجو منه الكمال، وفي ضعفه الشديد وهو يتعلق بقوي غالب يستمد منه القوة، وفي عجزه المتناهي وهو يلجأ الى قادر قاهر يبتغي منه القدرة والنصرة . وبكلمة جامعة في قصوره الذاتي من كل ناحية وهو يتوجه الى قوة عليا كاملة من كل ناحية ، متعالية عن الحدود، مرتفعة عن الحاجة تفض الخير وتكفي السوء.

بلى وكل إنسان له ساعات لا يخادع فيها نفسه أو هو لا يستطيع أن يخادعها ، ساعات تتعرى له فيها الحقائق فيؤمن انه لا يملك شيئاً مما في يديه، وان يك اغنى الاغنياء او اقوى الاقوياء في مقاييس الناس.

وتستلفته نِعمٌ عظيمة تحوطه من شتى نواحيه، ظاهرة وباطنة، نِعمُ لا يحصيها عدداً، ولا يملك لها وصفاً، ولا يفي بها شكراً، فيوقن بفطرته كذلك ان هذه الايادي جمعاء صنيع تلك القوة العظمى التي لجأ اليها عند ضعفه وتعلق بها عند خوفه.

ويمتد بصره الى ما يكتنفه من أحياء واشياء فتقول له بداهته : هذه آثار لها مؤثر. وتقول له فطرته: موجد هذه المكونات هو تلك القدرة الغالبة التي لا ينتهي بها حد، ولا يعجزها شيء . وهكذا يجد الانسان دليل الربوبية ودليل التوحيد مطبوعين في ركائز شعوره، فاذا ركن الى العقل الواعي ليفصل له ما اجملته الفطرة وجده يقول: خالق الكون يجب أن يكون كاملاً، لانه يهب الكمال لخلقه، وواهب الكمال لا يكون ناقصاً. وخالق الكون يجب أن يكون غير متناهي الحدود في كماله، لانه لو تناهى كماله لا فتقر الى المزيد، وهذا يعني انه مفتقر الى العلة فلا يكون إلهاً.

والنتيجة اللازمة المحتومة لذلك أن إله الكون لن يكون الا واحداً، لان الالهين والالهة الكثر لا محيد من أن يختص كل واحد منهم بحصة من الكمال لا تكون لشركائه، فان هذا هو المعنى المفهوم للتعدد. وهذا يعني أن كل واحد منهم متناهي الحدود في كماله . فلا يكون إلهاً ولا خالقاً.

فإذا رجع الى المنطق يتعرف حكمه في ذلك وجد البراهين النيرة متوفرة متضافرة عليه.

والعلم ؟ ماذا يؤمل منه أن يقول بعد أن لمس الوحدة الكونية في كل خطوة خطاها، وفي كل ظاهرة أو خفية كشفها ؟.

ماذا يؤمل من العلم أن يقول ؟. لقد اعترف بوحدة الكون، افلا تكون هذه دليلاً على وحدة المكون؟.

وهكذا تتأزر فطرة الانسان الخاصة، وفطرة الكون العامة، وفطرة كل شيء من اشيائه وكل جزء من اجزائه على اثبات هذه الحقيقة وتجليتها للفكر الواعي، حتى اذا جاء دور الدين، دور وحي الله الى انبيائه المطهرين لم يبق له في مجال هذه العقيدة غير تبيين حدودها ورسم أبعادها، وتوضيح لوازمها وآثارها. وغير هذا حفز الفطرة لتنتبه من سنة، وتوجيه العقل ليعرف طرق البرهان.

ولا ادعي عصمة الانسان في هذا المجال، وان التوفيق حلفه فيه انى سار وانى توجه، فكيف اذن ألحد من ألحد؟ وعلى م اشرك من اشرك؟. ولكنني أقول: هذا هو الطريق الاحب الذي اعده التكوين لتجلية هذه العقيدة، وهذا هو سبيلها المستقيم الذي اهتدى بإتباعه من اهتدى وضل عنه من ضل. وقد تحدثنا في اول الكتاب عن المؤثرات التي تنحرف بالفطرة، والمعوقات التي تعترض الفكر.

وفي اعمق الاعماق من تاريخ الانسان توجد آثار هذه الفطرة، وتلمح ظلال هذه الفكرة، آثار الفطرة السليمة التي ارشدت الانسان الى التوحيد، والعقل المؤمن الذي اوضح له فكرة الالوهية وان وجدت معها كذلك آثار الفطرة الملتوية. او بالاحرى اثار الانسان الذي التوى عن الفطرة، وصدق عن هداها.

وهذه حقيقة لا يمتري فيها علماء التاريخ ولا علماء الاثار. فالتوحيد الخالص والشرك الصريح والالحاد المرتاب وجدت جنبا الى حنب في جميع عصور التاريخ، وحالها في الازمان الغابرة كما هي في الازمان الحاضرة سواء بسواء. ومواقف دعاة التوحيد من المشركين والملحدين معروفة مشهورة في جميع الادوار، بل والحقيقة التي تثبتها الحجج القاطعة أن التوحيد سابق على الوثنية في النشأة.

وتتشهى فئة من الناس أن تحكم اهواءها في التاريخ لتحكم اهواءها في هذه العقيدة، ثم في فكرة الدين !!.

لنقول: ان الله وهم انتجه الخيال الاسطوري للانسان، وان الدين والنظم الاخلاقية وتعابير الشرف والاستقامة قيود صاغها السادة للعبيد!!.

تتشهى هذه الفئة أن تبتدع لعقيدة الالوهية تأريخاً لا يعرفه التأريخ.

تقول: أن هذه العقيدة نشأت عند الانسان القديم من فكرة بسيطة، من طريق تشخيص القوى الطبيعية. ثم مرت مع الازمان تنمو وتربو وتتحور وتتطور، حتى بلغت الذروة في عقيدة التوحيد . ونشأت معها كذلك فكرة الدين، وتطورت بتطورها ونضجت بنضوجها في الاديان التوحيدية. وإذن فالاله وهم اخترعه الخيال وعمل فيه التطور. والدين خرافة وضعها السادة ليقيدوا بها العبيد. وأقرا ان شئت قول (فردريك انجلز) في كتابه لودفيج فيوربارخ:

[ ولم تكن الحاجة الى العزاء الديني هي التي ادت الى نشوء الوهم الممل عن الخلود الشخصي، بل هي الحيرة القاسية التي نجمت عن الجهل العمومي المشترك بما ينبغي فعله مع هذه النفس ـ اذا ما قبلت فكرة بقائها حية ـ بعد موت الجسم وفنائه. وهكذا نشأت الالهة الاولى ايضاً بطريق تشخيص القوى الطبيعية، ثم اتخذت ـ خلال تطور الدين اللاحق ـ صورة تخرج اكثر فاكثر عن نطاق العالم الارضي الى أن ولدت هذه الالهة العديدة، وهي ذات سلطة ضيقة على درجات متفاوتة، وسلطة كل منها تحد من سلطة الالهة الاخرى ـ خلال عملية طبيعة من التجريد ـ كدت اقول من التقطير ـ اقول ولدت في عقول الناس مفهوم الاله الواحد المتفرد الذي بشرت به الاديان التوحيدية ][16].

واقرا ايضا قول فؤاد أيوب في مقدمة هذا الكتاب: [ ان الله نتاج وجدان الانسان الديني وخيالها الاسطوري، أما العكس أي أن الوجدان الديني والاسطورة نتاج الوحي الالهي فغير صحيح البتة. وان التاريخ ليثبت ذلك، فالفكرة او الصورة اللتان صنعهما المؤمن عن الله قد تبدلتا خلال مراحل المدنية الانسانية ومع تبدل مستوى تطورها الاخلاقي، هذا التطور الذي لا يزيد تانك الصورة او الفكرة عن أن يكون انعكاسا له او اسقاطا. ذلك أن الانسان يسمو بالصفات والقيم التي تدله المدنية على انها فضائل مرغوبة يستفيد النوع منها والتي لا ينجح هو الفرد الفاني الضيق الافق في الحصول عليها او تحقيقها بصورة كاملة، يسمو اذن بتلك الصفات والقيم فيضيفها على فرد إلهي متسام. وهذا يعني أن الصفات الالهية نعوت انسانية لا تخص الفرد بل تخص الجنس في المجموعه][17].

أقرات؟

هذه هي دعواهم .... وهذه هي حجتهم ...! ودليل الهراء لا يكون غير افتراء.

ويبدو أن نظرية التطور هي التي ساقتهم الى هذا الغرض ثم الى هذا الاستنتاج.

التطور قانون تخضع له كل الاشياء فلا بد أن تكون عقيدة الالوهية خاضعة له أيضاً.

وإذن ففكرة الاله قد خضعت للتطور. وإذن فقد نشات في ذهن الانسان القديم نشاة بسيطة وإذن فهي من مخترعات الانسان ومبتدعاته، وقد انشاها وطورها وفقا لدوافعه .... والماركسيون يقولون بتطور الاشياء وتطور الاراء تطبيقا لمبدا النقيض وللحركة الديالكتيكية. وقد تعرضنا من قبل لهذه الاوهام.

ويلاحظ أن انجلز في قوله المتقدم قد عجز أن ينشّىء الفكرة الالهية نشأة اقتصادية وان يجعلها انعكاس للواقع الاقتصادي على ما يراه في كل فكرة ، وان يصورها فكرة بورجوازية كما يقول في غير هذا الوضع.

ثم ماذا؟

ثم لنفرض أن فكرة الانسان عن الالوهية بدات كذلك بسيطة ثم تطورت ، فهل يدل هذا على أن الاله وهم ولا حقيقة له؟! وقد كانت للانسان في القرون الاولى فكرة ما عن الشمس والقمر والنجوم وظواهر الكون، ثم تبدلت الفكرة وتطورت حتى اخذت صورتها التجريبية في القرن العشرين، فهل يدل هذا على أن الشمس والقمر والنجوم اوهام ليست لها حقائق؟!

ولماذا نذكر الشمس والنجوم وظواهر الكون فاكثر المفاهيم التي يتصورها الانسان للاشياء تبدا هكذا بسيطة ومخطئة، ثم يمضي الانسان مع الزمان يحك ويجرب وينقد ويمتحن حتى ينتهي المفهوم الى صورته الاخيرة. وجميع المفاهيم والافكار عند هؤلاء الماركسيين خاضعة للتطور. للحركة الديالكتيكية. فهل يدل ذلك على أن الاشياء كلها اوهام وأباطيل؟.

أي منطق هذا المنطق، واي اسلوب من الاحتجاج هذا الاسلوب؟؟!.

فلنقل ـ ولا ضير ـ أن الفطرة دفعت بالانسان الى معرفة ربه، فاندفع الى ذلك منذ قرونه الاولى، ولكنه اخطأ السبيل وقصر دون الغاية، ووضع للالوهية فكرة غامضة، قبس بعض حدودها من محيطه المحدود، واكمل سائرها من فكره البسيط. ثم مضى مع الازمان يصحح أخطاءه ويبتعد في حدوده. ويعمق في تقكيره،  ويرجع الى ركائز المعرفة من نفسه والى دلائل التوحيد من سواه، حتى بلغ الغاية التي يستطيعها الانسان في هذا الميدان. وجاءت الاديان التوحيدية السماوية تبارك له جهوده وتسددد له خطواته. لنقل بهذا اذا لم يكن محيد عن تطور الفكرة، ولم يكن محيد عن تأخر التوحيد عن الشرك في النشأة.

أما الاديان. أما المناهج العملية التي تقدمها الاديان للاخلاق والتربية والسلوك والاجتماع والمعاملات فلا محيد من أن تهبط من السماء موافقة لمنزلة المجتمع من التطور، ولا محيد من أن تترتب شرائعها بحسب تلك الادوار وقد تحدثنا عن هذا في بحوثنا عن الدين في ينابيعه الاولى.

فكرة عامة وعقيدة خاصة

والتوحيد في الاسلام فكرة عامة تتمثل في عقيدة خاصة.

فكرة عامة تقوم على طي الكون كله في وحدة، وربطه كله في نسق، وتاليفه كله على غاية.

الوجود المنبسط على هذا الملكوت، المحيط بكل باد منه ومستور، الشامل لكل صغير فيه وكبير، هذا الوجود من ادناه الى اعلاه، ومن اقرب مظاهره الى ابعد تخومه كله ظل واحد لموجد واحد، والقانون العام الذي يسير عليه هذا الوجود المحيط توجيه واحد من مدبر واحد. والوجهة التي يتولى شطرها غاية واحدة لصانع مختار واحد. أما المادة فهي مظهر من مظاهر هذا الوجود، وأما الطبيعة فهي الطريقة المعينة لسير الوجود في المادة. وأما الحياة فهي مرقاة من مراقيه، وأما الانسانية فهي النموذج الاعلى من نماذجه وأما كمال الانسانية فهو القمة من التطور فيه.

فالكون والطبيعة والحياة الانسانية مجموعة واحدة نشأت من معدن واحد عن علة واحدة وعلى طريقة واحدة. ونظم الكون والطبيعة والحياة والانسانية متشابكة لا تنفصل، وغاياتها متداخلة لا تفترق.

وهذه فكرة الاسلام العامة عن التوحيد العام، واقرا ان شئت هذه الايات الكريمة: ) هو الذي أنزل من السماء ماءاً لكم منه شراب، ومنه شجر يه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب. ومن كل الثمرات. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر. والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون . وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها .وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً سبلاً لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجوم هم يهتدون ( [18].

لا اطوف بعيدا فاذكر اسرار اومأت اليها الايات ثم كشفها العلم بعد نزولها بقرون. ولكن مع الايات في دلالتها الواضحة وفي مدلولاتها القريبة.

للانسان ولمنافعه ولحاجاته هيأ الله الكون الاعلى وما يظل واعد الكون الادنى وما يحمل. هذا ما تقوله الايات الكريمة. للانسان ولمنافعه ولحاجاته التي تتطلبها حياته ويتطلبها بقاؤه. وتتطلبها سعادته وهناؤه، بل وكرامته في الدنيا وسيادته في الارض. للترفيه على الانسان في شتى نواحيه كل هذا الأعداد وكل هذا الارصاد. للانسان لينتفع به في حياته الاولى، وله لينتفع به في حياته الاخرى. ليستدل بها على صانعها وعلى وحدت وحكمته ووجوب طاعته.

من آيات الكون

وسواءاً أكان نفع البشرية غاية مقصودة من خلق الكون والطبيعة والحياة ام كان فائدة مترتبة على وجودها فان في ذلك دلالة عميقة على التعاون البالغ بين مظاهر الكون وأجزائه وعلى الاشتباك القوي بين قوانينه وغايته.

وشد العلم إزر هذه الفكرة فأبرز وجوهاً من وحدة الكون، وابدى ضروباً من اسانيد هذه الوحدة ومعززاتها، وهو لا يفتأ يكتشف ويستدل ولا يخطؤه الاكتشاف ولا التدليل.

فهذه الارض الكدرة هذه الشمس المنيرة وهذه الكواكب السيارة وما يتبعها من اقمار وما تحتوي عليه من أجرام وأجسام كلها من اصل واحد. ولقد كانت في بدء أمرها شيئاً واحداً. هكذا يقرر العلم التجريبي الحديث. وقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم: ) أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما( [19] .

وشمسنا هذه التي نعيش على ظهر كوكب صغير من كواكبها مع ما في المجرة من ألوف ملايين الشموس أمثالها، ومجرتنا هذه التي تحتل الشمس والكواكب ناحية صغيرة منها مع ما في الفضاء من ملايين المجرات أشكالها ، كل هذه العوالم الكثيرة المتباعدة في الأمكنة متحدة في المادة متسقة في النظم متفقة في الحركة [20]

والحياة الموجودة على هذا الكوكب جزء من نظام الشمس ، لانها تأنف من عناصرها وتغتذي من ثمراتها، وتتقوم بحرارتها واشعاعاتها.

والحيوان والنبات صنوان قريبان يمد احدهما الاخر بما يعوزه من العناصر ويرفده بما يفتقر اليه من الحاجات ، والطبيعة امهما الرؤوم والارض مهدهما الوثير ومعهدهما المربي وحصنهما المنيع.

ونظام البصر في عين الانسان واعداد طبقاتها وعدساتها وتحديد مجاري الضوء منها وتقدير منافذ الصورة، كل هذا امتداد لقانون الاشعة التي توجهها الشمس ويمتلئ بها الافق وتنتشر على كل مرئي وتنفذ الى كل منظور.

وذرة الرمل الصغيرة مع المنظومة الشمسية الكبيرة شيء واحد فالمعدن فيها هو المعدن والطاقة هي الطاقة والنظام هو النظام.

وهذا الملكوت الواسع بمجراته الهائلة وعوالمه الكبيرة الكثيرة وأجرامه الفخمة الضخمة وما لها من توابع وظلال ومن انظمة وحركات كلها يذعن لقانون عام واحد يقيه التصادم ويمنعه عن التخلف والاضطراب ويدفع به الى التناسق والانسجام.

من صمم هذا القانون العام الواحد ينشعب قانون كل موجود، وكل جزء من كل كائن ، وكل خلية من كل جزء وكل ذرة من كل خلية وكل نوية وجسيم من كل ذرة، والى الغاية الكبرى المحيطة ترد كل غاية جزئية لاي كائن جزئي.

وعلى هذه الفكرة الجامعة يجب أن تقوم فكرة الدين ونظرة الاجتماع وفلسفة الخلق ومنهج التربية ونظام الاقتصاد وقانون السياسة والحكم ، وعلى هذا الاساس يجب أن ترتكز كل نظرة تبحث عن الانسان الفرد او الانسان الامة، وكل تشريع يعد للانسان الفرد او للانسان الامة.

هذه الفكرة الاسلامية الجامعة عن التوحيد وهي التي اثبت العلم كل مقطع من مقاطعها ، وأكد العقل كل منحى من مناحيها.

وفي ضوء هذه الفكرة فالبشرية جماعة واحدة ذات اتجاه واحد ويتحتم أن يظللها دين واحد،  وان تذعن كذلك لحكومة واحدة يراسها امام واحد.

والمسلمون إخوة اشقاء يصل بينهم نسب البشرية ولحمة العقيدة ورحم الدين، والمسلمون اولياء على تنفيذ هذه الخطة وتحقيق هذه الفكرة، يرشدون من يجهلها بالحسنى ويقوّمون من يزيغ عنها بالحجة ويخضعون من يكيد لها بالقوة.

أما من لا يشاء أن يقتنع ولا يحاول أن يكيد فهو وان نشز عن الوحدة التي يفرضها الاسلام، وعن الفكرة الجامعة التي يحتمها قانون التكوين ، الا أن دين الاسلام يقرر له حرية المعتقد، وحرية العبادة، وحرية العمل، وحرية المعاملة، والمساوات الكاملة أمام العدل والكرامة الموفورة في الحياة وله على حكومة  الاسلامية أن تصون  له هذه الحقوق، وان تفي له بهذه الضمانات.

يقرر الاسلام له هذه الحقوق ويضمن له هذه الحريات وينجز له هذه الضمانات ما دام لا يريد به كيداً ولا يقف له في وجه.

وما دام لا يريد كيداً بالاسلام بما هو دين، ولا يبدي له خلافاً بما هو دولة ولا يتربص به الدوائر بما هو وحدة، ولا يبتغي الفتنة بأهله ولا الصد عن سبيله. فهذه جهات لا يتسامح فيها الاسلام ،ويتناقض مع نفسه لو تسامح فيها.

[1] ) الحجرات: 15.

[2] ) يس : 77 – 79 .

[3] ) الحديث 9 : كتاب العقل من اصول الكافي.

[4] ) الحديث 11 : كتاب العقل من اصول الكافي.

[5] ) الزمر : 18.

[6] ) الانعام : 122 .

[7] ) الانفال : 22 .

[8] ) الاعراف: 79.

[9] ) الحج : 46 .

[10] ) الحج : 8 .

[11] ) القصص: 50 .

[12] ) يونس: 36.

[13] ) البقرة : 170.

[14] ) البقرة : 171.

[15] ) الانعام : 104.

[16] ) لودفيج فيور بارخ ص 15.

[17] ) ص 17 نفس المصدر السابق.

[18] ) النحل : 10 -  16 .

[19] ) الأنبياء: 30.

[20] ) يقول علم الفلك الحديث: أن ارضنا هذه التي نحيا ونعيش عليها يبلغ متوسط قطرها سبعة آلاف وتسعمائة وسبعة وعشرين ميلا، وتبلغ كتلتها خمسة الاف مليون مليون طن. وهي أعداد كبيرة بل وهائلة إذا قيست إلى ما يألفه الإنسان من مسافات وأوزان.

ولكن العلم يقول ايضاً: وكتلة الأرض هذه التي قدرناها بهذا العدد الضخم لا تزيد على جزء واحد من ثلاثمائة واثنين وثلاثين الف جزء من كتلة الشمس!! فهي اذن صغيرة جدا إذا قسناها بالشمس ، وكذلك الكواكب السيارة التي تدور حول الشمس. واكبر هذه الكواكب هو المشتري ، وكتلته على ما يقولون اكبر من الأرض ثلاثمائة وسبع عشرة مرة. ولكنه على ضخامته لا يبلغ جزءاً من الف جزء من كتلة الشمس.

ويقولو علم الفلك الحديث: إن ارضنا تبعد عن الشمس بثلاثة وتسعين مليون ميل ، أي بنحو من ثمان دقائق يقطعها الضوء بسرعته العظيمة – وابعد السيارات عن الشمس هو كوكب ( بلوتو ) وقد قدروا متوسط بعده بثلاثة الاف وستمائة وسبعين مليون ميل ، أي بنحو من خمس ساعات ونصف بسرعة الضوء وهي ايعاد شاسعة سحيقة لا عهد للانسان بمثلها.

ولكن العلم يقول أيضاً: إن قرب النجوم الينا لا يصل نوره إلى الأرض إلا بعد اربع سنين ضوئية! ويقول كذلك : إن قطر مجرتنا يبلغ نحواً من مائة ألف سنة ضوئية!! فما يكون قدر مجموعتنا اذن وما قدر ابعاها وأبعاد مدتها إذا قيست بهذه المسافات الهائلة؟. اليست – كما قلنا – انما تحتل بقعة صغيرة من هذه الحدود السحيقة؟!.

وكشف العلم إن مجرتنا تحتوي على مائة ألف من ملايين النجوم من ملايين الشموس وأن بعض هذه النجوم يكبر شمسنا مئات المرات حجماً ويفوقها مئات المرات بهاءاً ولمعاناً.

وكشف إن في هذا الفضاء الرحب ألوفا من ملايين المجرة الواحدة منها على ما يناهز هذه الأعداد نجوما ، وتقول مؤلفة كتاب ( مع النجوم في تطوراتها) : " لعلها ( وتعني المجرات") تبلغ مئات الملايين " .

ووجد إن الاقمار تتحرك حول نفسها وحول كواكبها ، ووجد إن الكواكب تتحرك حول نفسها وحول الشمس ، وان الاقمار تتبعها كذلك في هذه الحركة .

ووجد إن الشمس تتحرك حول نفسها وتتحرك نحو ( النسر الواقع ) ، وان المجموعة بكواكبها واقمارها تتحرك بحركة الشمس في ذلك الاتجاه.

= ووجد إن المجرة تتحرك حول نفسها كذلك وان الشمس وتوابعها والبلايين من النجوم التي تملأ اكناف المجلاة تتحرك ايضاً بحركتها!!.

ثم وقف ليس يدري ما وراء ذلك. لعل حشد المجرات هذا الذي رآه رأي عين يؤلف مجرة للمجرات؟!.

لعل لهذا الحشد امثالا كثيرة في الكون تبلغ الملايين أو مئات الالوف من الملايين؟!

ولعل هذه الحشود ايضا تتحرك حول نفسها وحول شيء آخر؟!

وقف العلم ليس يدري ، فان المرقب الذي تمكن من صنعه إلى الان لم يتجاوز مرآته مائة بوصة أو مئتين. وما ندري ما سيثبته لنا إذا بلغت مراته المئات أو الالوف من البوصات !!.

إن العلم يسير بانتظام، ويكشف إن كل ما في الكون يسير على نظام. ويقفز العلم ويتقدم ، وينمو ويمتد، ويطرد تقدمه في كل وجه، ويطرد فوزه في كل تجربة. ويقف الإنسان الكنود الجحود. الإنسان الذي يزعم لنفسه الحصافة والذكاء مدهوشاً مذهولاً ، يسبح بحمد العلم لأنه كشف عجيبا، ولا يسبح بحمد الله لأنه خلق عظيماً!!.

يرى في الكشف ما يدل على عظمة الكاشف، ولا يجد في الخلق ما يستحق إن يدل على وجود الخالق!!.

مئات الوف من ملايين النجوم تسير في مداراتها  العظيمة وبسرعتها المدهشة ثم لا يصطدم بعضها ببعض ولا يقترب بعضها من بعض. و الوف من ملايين المجرات تتحرك طول الدهر ولا تهدا حركتها ولا تخف سرعتها ثم لا يخرج شيء منها ولا من نجومها عن سبيله ولا ينفرط عن نظامه.

يرى الإنسان ذلك كله ولا يشك فيه ، ثم لا يدله هذا القانون على واضع ولا يرشده هذا التدبير إلى مدبر!!.

انه افتئات على العقل وخروج على حكمه.