الدين هو المنهاج السوي لتكامل الإنسان في رشده.
هذا ما فصلناه من قبل، وأسلفنا شيئاً من أدلته.
وإذن فالدين نظام اختياري لا سبيل للجبر فيه ولا مساغ للاضطرار، لأن تكامل الإنسان في رشده اختياري لا سبيل للجبر فيه ولا مساغ للاضطرار. وإذن فالسبيل لإثبات أي دين إنما هو الاقتناع الكامل بصحة ذلك الدين، ووسائله هي بذاته وسائل الاقتناع التي يعرفها العقل ويعول عليها في الاستنتاج.
البيان المشرق الذي لا غموض في أساليبه، والبرهان الناصع الذي لا التواء في منطقه، والحكمة الرفيعة التي لا ضعف في مراميها. هذه أدوات العقل متى حاول أن يقنع أو يقتنع،
وهي بذاتها وسائل الدين في التدليل على صدقه أو على صحة عقائده، لأنه إنما يتحدث إلى العقل. والإسلام دين الفطرة القويمة السليمة أحفل الأديان بهذه الحقائق وأكثرها إشادة بها وأشدها اعتماداً عليها.
يحاول الإسلام أن يبلغ إلى كل نفس نفس فيملؤها عقيدة، وأن يتصل بكل عقل عقل فيفعمه يقيناً، وأن ينفذ إلى كل قلب قلب فيغمره إيماناً. وكيف يتسنى له أن يدرك هذه الغاية ما ل يصل إلى النفوس بجمال البيان، وإلى العقول بنصاعة الحجة، وإلى القلوب بوفرة الحكمة؟.
ويحاول الإسلام أن يوحي إلى النفس بكرامتها وهو يلقنها العقيدة، ولأن يثبت للعقل حريته وهو يرشده إلى الحجة، وأن يشعر المرء بسمو منزلته وهو يقبسه الإيمان، يريد ليفهم الإنسان أنه موفور الكرامة عزيز المكانة حر التفكير، فهذه هي الصفات التي يؤمل بصاحبها بلوغ الغاية، ويريد ليوحي إليه بذلك إيحاءً فإن الإيحاء بالصفة أبعث إلى اقتنائها، وأدعى إلى الاستمساك بها والحرص عليها.
الإنسان موفور الكرامة عزيز المكانة، ومن وفور كرامته وعزة مكانته أنه يومي إليه بذلك إيماءً ويوحي إليه إيحاءً إذا أريد إفهامه ذلك.
ويريد الإسلام أخيراً أن يغرس العقيدة في نفس الإنسان عوداً عوداً، وأن يعلل عقله من اليقين بها نهلة نهلة، وأن يثبت الإيمان بها في قلبه ركزة ركزة، فقد علم مشرع الإسلام أن التمكين في الغرس أرسى للأصل وأنمى للفرع وأجدى للثمرة.
هذه بعض مطامح الإسلام حينما يخاطب الإنسان، وهل يتحقق شيء منها بغير البيان المشرق والحجة القاطعة والحكمة الرفيعة؟.
هذه سبيل الإسلام في دعوته، وهذا نهجه الذي يتبعه إلى غاياته، وقد أمر الله رسوله أن يجهر بها ويدأب فيها ويكدح من أجلها:( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)(1) وهي كذلك سبيل من تقدم من الرسل المطهرين قبله و( هل على الرسل إلا البلاغ المبين)(2).
أما الآيات الخارقة لنواميس الكون فلا تعدو أن تكون حاجات مؤقتة قد يحدو إليها ضعف في عقول البشر عن الانتفاع بالبرهان، وقصور في مداركهم عن استجلاء الحكمة، ومن أجل ذلك كان أكثر وقوعها في الأديان الأولى وعلى أيدي الأنبياء السابقين، أيام كان المجتمع البشري في اول السلم وكان إدراكه العقلي في دور الطفولة. فهي إذن آيات تتضمن علاجاً وتدليل يحتوي على تربية.
(1) يوسف: 108.
(2) النحل: 35.
وخاصة هذا الضرب من الأدلة أنه يأخذ النفوس بالإيمان أخذاً وينتزع التصديق منها النتزاعاً قبل أن ينتشر به العقل بالمنطق السليم، وقبل أن تتذوقه الإنسانية بالبيان المركز، فهو من أجل هذه الخاصة احتجاج يشبه القسر.
ودفقة الإيمان السريعة على القلب كهجمة النور القوية على البصر لا بد من ارتباك النفس أمامها قليلاً إذا كانت النفس قوية، ولا بد من انخذالها إذا كانت ضعيفة.
وتفادياً عن عروض أمثال هذه الشوائب في هذه الأدلة، وتنزيهاً لحكمة الله سبحانه في الاستعانة بها والاستناد إليها، وتقديساً لدين الله من أن يتطرق إليه وهن أو يظن فيه جبر، تنزهاً عن هذه الظنن التي قد يتعلق بها المتعلقون أوكل الله المقدمة الأخيرة من هذه الأدلة إلى العقل... إلى العقل وحده، فهو المرجع الوحيد فيها وهو الحكم المصدق.
ذلك أن الآيات الخارقة لنواميس الكون إنما تدل بحسب دلالتها الأولى- على قدرة الله وعظيم صنعه، وأما صدق الرسول وثبوت الرسالة فإنما تدل عليهما بدلالة ثانية، وبضميمة مقدمة مطوية يستنبطها العقل الواعي ويحكم بثبوتها ويعول في الحكم عليها.
إن الخارق من صنع الله وحده يجيب به الرسول ويصدق دعواه، ومحال على الله القادر الحكيم العليم أن يصدق كذباً وأن يرشد إلى ضلال.
هكذا يتدخل العقل في أمر المعجزات، وهكذا يحكم بصدق النبوة استناداً إليها، فهو إذن برهان عقلي تكون المعجزة إحدى مقدماته.
وهذا الضرب من الآيات لا يقوى بذاته أن يبلغ الإيمان إلى القصي الذي لم يشهد، وإلى الآني الذي لم يولد، لا يستطيع أن يبلغ الإيمان إلى أحد من هؤلاء ما لم يبلغ به السماع درجة اليقين.
من أجل هذا كله كانت الأدلة الخارقة لنواميس الكون علاجات تحدد بحدود العلة، وحاجات تقدر بقدر الضرورة. ومن أجل هذا كله وجب أن يكون صدورها مسبوقاٌ بالبلاغ الكافي من الرسول وبالطلب الملح من الأمة، فهي إذن عاضدة للبرهان ومجلية للحكمة، وموجهة للفكر القاصر إلى تفهمها وتركيز الإيمان المجدي عليهما.
نعم. ومن أجل هذا كله كانت الأدلة الكبرى التي يستند إليها دين الإسلام معجزة المعجزات وخارقة الخوارق..
ليس في تدليل الإسلام على ذاته خرق لناموس من نواميس الكون، ولا تغيير لمجرى من مجاري الطبيعة. ولكن فيه بروزاً لعظمة الله في آيات كتابه، وسطوعاً لنور الله على بينات دينه، وتجلياً لحكمة الله في تعاليم رسوله.
نعم. ليس في تذليل الإسلام على ذاته خرق لناموس من نواميس الكون، ولكنه أخذ بيد المرء بما لا يجهل من معجز القول إلى ما لا ينكر من سمو المعنى.
هذا هو سر السر في إعجاز القرآن وفي آيات الإسلام الأخرى.
أما تفصيل هذا المجمل فله البحث الآتي.
قد يرتاب العلم الحديث بالخوارق فيشك فيها ثم ينكر، وقد يتردد بعض العقلاء في وجه الإعجاز بها فيمتري ثم يجحد. إلا أن هذه الريبة وهذا التردد لا يتسربان إلى معجزات الإسلام ولا يسري أثرهما إليها بوجه.
قد يرتاب العلم المادي بالخوارق لأنه يريد أن يخضع كل شيء لمختبر الكيموي أو لمبضع الجراح أو لمرقب الراصد، فإذا استعصت الخوارق على محاولاته شك في صحتها ثم جحد، وقد يتردد عاقل فيها لأنه يطمع أن يكتشف كل مبهم وأن يستبين كل سر فإذا استغلق على فهمه سر الإعجاز تردد في أمره ثم أنكر.
ألف العلم بين أشياء هذا الكون نوعاً من الترابط، وكشف ضروباً من القوانين، وشاهد وجرب واستقرأ وضبط، فدلت مشاهداته ودلت تجاريبه ودل استقراؤه وضبطه على أن الترابط محتوم وأن القوانين معلومة، فلا يجيء المسبب المعين إلا من سببه المادي وإلا عن قانونه الطبيعي المعين. السبب الذي شاهده العلم والقانون الذي عرفه وجربه.
ومضى في طريقه يفيد من هذا الترابط ويفيد من هذه القوانين، ويدأب ويكدح ليكتشف جديداً أو ليستوضح بعيداً، وما يكتشفه وما يستوضحه يرتبط بتلك الصلات أيضاً، ويدين لتلك النظم.
فمن الصعب عليه جداً أن يرى- ولو نادراً- شيئاً يشذ عن ذلك فلا يخضع للروابط ولا ينقاد للقوانين. ومن أجل ذلك ارتاب في شأن الخوارق وأنكر، وبتعبير أدنى إلى الصدق اتهم بالريبة والإنكار.
وموقف العالم هاهنا يجب أن يكون موقف الناظر المعتبر ما دام الأمر خارجاً عن حدوده، وخارجاً عن القوانين العامة المألوفة لديه، والذي عليه أن يثبت من صحة ما وقع، ثم عليه أن يفيد من هذا الاستثناء إذا كان الواقع صحيحاً.
وما هو موضع الغرابة في وقوع المعجزة ما دام كل حادث لن يحدث إلا بسبب وإلا بقدرة وإلا بحكمة؟ وما هو موضع الغرابة فيه ما دام كل حادث لا بد أن يستند إلى الله وإلى قدرته وإلى حكمته؟ والقوانين الكونية التي كشفها العلم وأفاد منها قوانين وضعها الله لتدبير الكون وربطه بأسبابه، وما وضعها سبحانه لأنه لا يستطيع سواها. وما وضعها لتتحدد بها قدرته وحكمته.
وما دام الأمر أمر حكمة وتدبير فلنقدر أن مورداً قامت فيه حكمة خاصة تقتضي فيه ما يخالف الحكمة العامة، أيستحيل أن تتعارض الحكم في الاقتضاء؟. ولنقدر كذلك أن الحكمة الخاصة التي يحتوي عليها الشيء أشد أهمية من الحكمة العامة وأجدر بالمراعاة فما يصنع الفاعل القادر الحكيم؟.
أفيضحي بهذه الجهات الخاصة استمساكاً بالقانون العام؟!.
وابن آدم مخلوق محدود النظرة، وهو يريد أن يحدد قدرة الله في فعله إذا هو لم يدرك وجهاً لذلك الفعل. وقد مضى العلم يثبت له أنه بذاته يستطيع أن يفعل الخوارق بعد أن وضع بيديه مفاتيحها، ثم هو لم يفتأ بعد ينكر ويستنكر على الله أن يأتي بالخوارق. لأنه هو لم يجد مفاتيحها!!.
أقول قد يرتاب العالم الذي لا يذعن إلا للتجربة والعاقل الذي لا يؤمن بسوى المحسوس، قد يرتاب هذان في أمر الخوارق، وقد يتأدى الشك بهما إلى الإنكار، إلا أن هذه الريبة لا تتسرب أبداً إلى معجزات الإسلام.
المعجزات التي يعتمد عليها دين الإسلام لإثبات صدقه محسوسة مسموعة لكل حس ولكل سمع فلا يرتاب فيها علم. وهي لا تنقض ناموساً من نواميس الكون ولا تغير مجرى مجاري الطبيعة فلا يمتري فيه عقل، وهي عامة شاكلة لكل عصر ولكل جيل فلا يتردد في حكمتها عاقل.
معجزات الإسلام لا تفجأ الإنسان من قبل خرق النواميس الكونية فهي ليست في الطرف الأدنى من حدود الإعجاز، بل تأتيه من جهة الكمال في هذه النواميس فهي في الطرف الأسمى من تلك الحدود.
لا أوقف قارئي طويلاً ثم لا أحيله بعيداً. فهذا القرآن معجزة الإسلام الأولى لنضعه بين أيدينا ثم لننظر أي ناموس من نواميس الكون نقض وأي مجرى من مجاري الطبيعة غيّر؟.
لم يحيي القرآن ميتاً، ولم يحول لهب النار برداً، نعم ولم يرسل طوفاناً من ماء ولا فجر ينبوعاً من حجارة صماء. لم يصنع القرآن شيئاً من هذا القبيل، ولكنه جاء بالبلاغة، والبلاغة كمال يطمح إليه الإنسان، ويتباهى بالتحليق إليه كل عربي وكل قرشي على الخصوص، والعرب وقريش أئمة البيان ولا منازع، وأمراء البلاغة ولا نكير.
هذا الشيء المحسوس المرغوب أتى به كتاب الإسلام، ثم تحدى الفرد وتحدى الأمة، وتحدى الجيل والأجيال والجن والإنس، تحدى هؤلاء جميعاً أن يأتوا بسورة من مثله.. بلى بسورة واحدة من أقصر سوره لا بأكثر!!.
وظن الإنسان من نفسه القدرة بادئ بدء فأثار التحدي لأن يساجل وحفزه الطموح لأن يقارع، ثم مد بصره نحو القمة فأخذه الدوار، ونقل قدمه إلى الغابة فملكه الرعب، وحرك لسانه للقول فعقده العي.
فتراجع مبهوراً... ثم اعترف مقهوراً!..
ومعجزات الإسلام لا تجمع الإيمان جمعاً ثم تدفقه في القلوب دفقاً كالسيل يزلزل الثوابت أن تقيسه، وكالبرق يخطف بالأبصار أن تحده ويكد النفوس أن تحققه. بل تعلن تباشير الإيمان للقلوب كما يعلن السحر تباشير الفجر للكون المظلم، ثم تبعثه كما ينبعث الفجر ضعيفاً على قوته خفياً على ظهوره.
ثم يترفع النور قليلاٌ قليلاً، ويسفر الصبح رويدا رويداً، ويشع الأفق، وتشرق الشمس، ويرتفع الضحى حتى لا يشك بصر ولا تجحد بصيرة!!.
بينات الإسلام معجزات قوية قوية تقطع العذر وتكشف السر، وبراهين قاطعة قاطعة تنير السبيل وتقيم الحجة، ففيها تبسط البرهان وعليها جلال الإعجاز!!.
هي تسير مع البرهنة في التقديم والترتيب، وتتمشى مع الفكر إلى النتيجة، وهي تستنطق الفطرة عما خبأت وتستفتي العقول عما أدركت، وتحاكم الإنسان فيما اعتقد وفيما أخذ ونبذ، وكل ذلك في طريق سافر وبمنطق وثيق، ثم هي في جميع هذا تبهر الإنسان بجمال الصوغ وتقهر بقوة الأسلوب وتمتلكه بعظمة المعنى وتقطعه عن المجاراة في كل هذه الأشواط. وقد قدمنا نماذج من هذه الحجج التي يلتقي فيها صفاء الفطرة بوثاقة البرهان وإعجاز القرآن. على أن التحدي ذاته تحكيم للعقل في شأن الإعجاز وإثبات له من طريق البرهان.
ومعجزات الإسلام عامة خالدة.
عامة كعموم الإسلام خالدة كخلوده، فباستطاعة كل جيل أن يراها. وبمقدور كل فرد أن يتبينها، وبإمكان كل ناقد أن يبلو دعوى الصدق فيها.
ذلك كله سر التفوق والعظمة في معجزات الإسلام أقول هذا ولا أنقص معجزات النبيين المطهرين كرامتها، ولا أبخسها قيمتها. ومعاذ الله أن أهدف إلى ذلك أو يفهمه أحد من حديثي أو يحاول أن يفسره به، ولكنني أقول: الفارق بين المعجزة العظمى وأخواتها من الصغار المعجزات هو الفارق بين الرسالة العظمى وأخواتها من صغار الرسالات.
معجزة كريمة أن يقف رسول على ميت في الأموات فيقيمه بأمر الله حياً من الأحياء.
ومعجزة كريمة أن يمر نبي يده على بائس قد كربته العلة وأقعدته الزمانة فيرده بإذن الله صحيحاً في الأصحاء سوياً في الأسوياء.
ومعجزة كريمة أن يضرب بعصاه الحجر القاسي فيفجره عيوناً. وأن يفلق بها البحر فيقسمه أفراقاً. كل أولئك معجزات كريمة تبدي للمرء من قصور عبرة، وتقيم عليه من قدرة خالقه حجة.
ولكن معجزة المعجزات أن يؤتى الإنسان من حيث يزعم لنفسه القدرة، وأن يمتحن من حيث يدعي لذاته الكمال، حتى إذا عجز عن المجاراة كان عجزه أوفى في الدلالة على القدرة الفائقة، وإذا قصر كان قصوره أجلى في الإبانة للكمال المطلق.
والمعجزة آية قريبة المدلول رصينة الدلالة، ولذلك فهي تقطع المعاذير من أول وهلة وتثبت الدعوة من أقرب طريق، وموضع العجب منها أنها تنهض الدلالة على مبدأ محسوس وتركز الدعوة على قاعدة ملموسة.
ولكن أعجوبة الأعاجيب أن تكون هذه الآية بمبادئها المحسوسة وبدلالتها القوية المتينة عامة يستضيء بنورها كل إنسان. وثابتة ينتفع بهداها كل جيل. وعظمة العظمات أن تكون إلى ذلك بأجمعه معجزة باهرة تغمر النفس، وبرهاناً ساطعاً ينير العقل. وحكمة بالغة تغذي الفكر.
وميزة أخرى تختص بها بينات الإسلام أنها تتصل بالدعوة اتصال الجزء بكله، أو الجسد بروحه ففي الصميم من دعوة الإسلام تقع معجزاته، ومن لباب هداياته تكون بيناته وهذا مما يتسامى به الإسلام على كل دين.
لا بد لكل دين من البيان، وبيان الإسلام معجزته الأولى.
ولا بد لكل دين من البرهان، وبرهان الإسلام معجزته الثانية.
ولا بد في تشريع كل دين من الحكمة، وحكمة الإسلام معجزاته الثالثة.
وكل واحدة من هذه المعجزات ثابتة مع الأزمان للنقد. خالدة مع الأجيال للهداية!!.
فلسان الإسلام هو الذي تحدى كل ناطق فأبكمه، وقارع كل بليغ فأفحمه، ثم لم يفتأ يقارع ويتحدى ليفهم الإنسان أن قصوره لن يزال هو قصوره الأول وأن عظمة القرآن لن تبرح هي عظمته الأولى!!.
وبرهان الإسلام هو الذي استفهم كل صورة من صور الكون، واستنطق كل مجلى من مجالي الطبيعة، واستشهد كل سر من أسرار الحياة، فأبان للناس كافة-على اختلاف عقولهم واختلاف علومهم-أن دلائل هذا الدين ملء الكون وملء الطبيعة وملء الحياة!!.
وحكمة الإسلام هي التي ثبتت للتمحيص في كل دور وأحرزت السبق في كل رهان، ثم لم يفتأ العلم يستكشف كل يوم منها جانباً خفياً ويستشرف إلى جوانب أخرى لا تزال مستورة!! وسر ذلك أن الإسلام دين الإنسانية جمعاء، وحقيق على دين الإنسانية أن تكون دلائله ومبثوثة في كل وجه، منتشرة في كل صوب، بحيث يجدها كل طالب ويستجليها كل ناظر.
والناس مختلفون في درجات أفهامهم، متفاوتون في مراتب عقولهم، ولكل صنف من الناس حظه من الإدراك وطريقته في الاقتناع، ومن مدهشات هذا الدين أنه أعد لكل صنف ما يقنعه، ولكل فهم ما يسيغه!!.
( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)(1).
أصحيح أن الناس يطلبون دليلاً واضح الدلالة يؤيد الإسلام في دعوته ويصدق رسول الإسلام في دعواه؟.
أصحيح أنهم يرومون التثبت في الدين قبل الاعتقاد والتأكد من الهدف قبل الاندفاع؟.
أصحيح أن خشية الكذب تدفعهم إلى طلب الدليل، وأن خيفة الزلل تحملهم على ترسيخ القدم؟.
حق أن يتثبت الإنسان من دينه قبل أن يعتقد، وحق كذلك أن يتثبت فيه بعد أن يعتقد، وعادل أن يطلب الإنسان ذلك ويجهد فيه ويتأكد منه، ودين الإسلام في طليعة المشجعين له على ذلك، بل وأول الناقمين عليه إذا هو لم يطلب ولم يجهد ولم يتأكد.
وإن المسألة مسألة فوز وخسران وسعادة وشقاء وهدى وضلال، وخطر المنساق فيها على غير علم لا يقل عن خطر المنحرف مع العناد أو الهاوي مع الإلحاد.
حق لهم أن يصنعوا كذلك وأن يطلبوا ويتأكدوا، ولكن ما بالهم يحاولون أن يلجوا البيت من ظهره وأن يبلغوا الشيء من أبعد سبله؟!.
(1) يوسف: 105.
يطلبون على صدق محمد في رسالته بينة تنقض النواميس وتغير المجاري، وأية مزية يمتاز بها هذا الضرب من البينات على غيره ليقترحوه على الإسلام وعلى نبي الإسلام؟.
لعلهم يظنون أن الرسول يظهر الآيات بقدرته ومن تلقاء نفسه. فهم يقترحونها عليه ليستبينوا صدقه ويمتحنوا طاقته.
إن كان هذا ظنهم فهو وهم خاطئ( إنما الآيات عند الله) (1) ( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، فإذا جاء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون)(2).
أية مزية يختص بها هذا الضرب عما سواه من الأدلة ليقترحوه على الرسول؟.
ميزته الأولى أنه يدل على قدرة الخالق بعجز المخلوق، وعلى كمال الرب بنقص المربوب، وكل ظاهرة وخافية في هذا الكون الرحيب تشاركه هذه الدلالة.
وبعد أن تقدم العلم المادي واتسعت آفاقه، وظن الإنسان من نفسه القدرة على كثير من الأمور، وتوفرت بيديه آلات التحليل والتركيب، وأحصى عناصر المركبات، وضبط مقاديرها، أتراه يستطيع أن يؤلف من هذه العناصر المتفرقة مركباً يسعد بالحياة... ولو بحياة النبات.. بهذه الحياة التي تنتمي وتثمر، وتحفظ نوعها وتستبدل فرعها؟.
لقد جرب الإنسان وجرب العلم فاستبان أنه عاجز عن ذلك، وسيتبين له أنه عاجز كلما جرب وكلما حاول.
وصدق الله العظيم حيث يقول:( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب)(3).
والميزة الاخيرة لذلك النوع من الدلالة أنه يصدق رسالة الرسول من حيث اعتضادها بالقوة الخالقة، وكل ظاهرة وخافية من هذا الكون تصدق رسول الإسلام من حيث أنها تركزدعوته وتثبت تعاليمه.
(1) الأنعام: 9.
(2) المؤمنون: 78.
(3) الحج: 73.
بلى.. الميزة الفريدة لتلك الأدلة أنها خوارق. أنها جديدة في طريقة تكوينها ... أن الإنسان لم يألفها فتبعد به الألفة عن الإلتفات إليها والتفكير فيها والإعجاب بها، وهي ميزة لها شأنها عند الرجل( البدائي) ومن يقرب منه في الطفولة العقلية.
أما الإنسان الراقي الذي يكبر فكره على العادة وتعتلي نفسه عن الألفة فإنه لا يأبه لهذه الفوارق، فكل نظرة له في آيات الكون تفيده اعتباراً جديداً.
والإنسان محتاج إلى ما يمده بالإيمان في كل لحظة وفي كل نظرة، لترقى نفسه ويعتلي إيمانه، وآيات الكون هي التي تكفل له بذك، ونظراته اليقظة الواعية هي التي تفي له بهذا الضمان.
لينظر المرء فيما حوله مما يسمع وما يبصر، وليتأمل في كل ما يحيط به مما يحس وما يعقل، في الكون الأعلى وحركاته ومداراته، وفي الكون الأدنى ومجاريه وغاياته، في الشموس البعيدة البعيدة التي لا تكشف إلا بالمراصد، وفي المنظمات الصغيرة الصغيرة التي لا تبين إلا بالمجاهر، لينظر في ذلك بعين المتدبر المتطلع الذي لم تصرفه الألفة عن استجلاء الروائع ولم تفقده لفتة الاعتبار وهزة الاستغراب، لينظر في هذا الملكوت الفسيح المديد كمن يدخله أول مرة ويرسل فيه أول نظرة، فهل يلفي إلا معجزة؟ وهل يشهد إلا آية معجزة تعي دونها القدرة المحدودة، وآية يدهش لها العقل الحصيف..
ثم لينظر في كل واحدة من هذه الأعاجيب الا يجدها دليلاً صريحاً على قدرة جبارة، وعلى علم محيط، وعلى حكمة بالغة، وعلى كمال مطلق. ثم على وحدة لا يدنسها شرك، وغنى لا تشوبه فاقة، وقوة لا ينالها ضعف؟.
وهذه بذاتها هي ركائز الإسلام الأولى وتلك هي براهينه على ثبوتها منتشرة كانتشار النور في كل وجهة، واضحة كوضوح اليقين في كل قلب. فهل يطمع طامع في تعاليم أسمى من هذه التعاليم؟ وهل يرقب أحد حججاً أسطع من هذه الحجج؟ وهل للريب ظل حول دين تلك أصوله وتلك آياته وفي رسول هذه دعواه وهذه بيناته؟.
ولكن القلوب الغلف.. ولكن النفوس المدخولة لا يطيب لها أن تؤمن، ولا يطيب لها أن تفكر، ولا يطيب لها أن تنتفع بتفكيرها لو فكرت. ذلك هو العرض الدائم لمسخ الضمائر وإظلام البصائر.
إن هذا القطيع من المخلوقات يستمرئ الجهل ويستلذ العمه، فإن عطف عليه عاطف ليدله على رشد أو ليستنقذه من هلكة صخب وأجلب كمن يقاد إلى نحر( وقالوا يا أيها الذي أنزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين، ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذن منظرين. إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين.
ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا إنما سكرت أبصارنا. بل نحن قوم مسحورون..
ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين. وحفظناها من كل شيطان رجيم. إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم. وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءّ فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين)(1).
دين الإسلام في غنى عن الإستدلال بالخوارق، فمنشآت الكون بأجمعها آيات تشهد لدعوته بالصدق ودلائل تثبت لشريعته الحكمة.
على أن البينات الكونية بادية لا تحتجب عن أحد باقية لا تنتهي في زمان، عامة لا تخص بمكان، فإذا شهدت لدين بالصدق كانت شهادتها أجدى من معجزة منقطعة المدى لا يشهدها إلا يسير من الناس، ثم لا يؤمن بها إلا النزر من هذا اليسير.
دين محمد (ص) في غنى عن الاستدلال بالخوارق فآياته منتشرة في كل صوب مستعلنة لكل طالب، ذلك أن الله الذي فرض على البشرية بأجمعها أن تتبع هدى محمد حتم على كل شيء في هذا الكون أن يدل على صدق محمد(ص).
وذلك أن الكمال الأكبر الذي يؤمه محمد في دينه ويوجه البشر نحوه في تعليمه هو مطمح كل شيء ظاهر في الوجود، وقبلة كل سر مستودع فيه.
وذلك هو سر الوحدة الكونية الجامعة التي نهج عليها محمد لما بدأ دعوة الإسلام، وعناها رب محمد لما رفع قواعد الإسلام.
وبعد فإن الاستيعاب هنا مما لا يسمعه وضع كتاب ولا يبلغه جهد كاتب، وحسبي عن التفصيل هذه الإشارة العابرة، وحسب الإسلام أن كل ضرورة تدعو إلى الدين لن تجد سداداً بغيره، وأن أي سمة تذكر للدين الحق لن تجد مصداقاً لها في سواه، حسب الإسلام أن ينهض بذاته دليلاً على ذاته. أرأيت الدعوى تقوم على نفسها دليلاً قاطعاً لا يدحض ولا يستطاع؟ غريب أن يقع هذا في النظريات المحض، وأشد غرابة منه أن يقع في مقررات الأديان.
إن دين محمد(ص) وحده هو الذي يستطيع ذلك.
دين محمد وحده هو الذي يقرر أصوله ويوضح غايته ويبين مناهجه وإرشاده فتكون له من رسوخ هذه الأصول وجلال هذه الغاية وخطر هذه المناهج وروعة هذا الإرشاد آيان بينات على صدقة لا يشك فيها عقل ولا يتمارى بها عاقل!!. وكتاب محمد وحده هو الذي يدعو
(1) الحجر: 6-12.
الناس بسورة منه فيبلغهم جميعاً، ويتحدى الناس على الإتيان بمثل هذه السورة فيعجزهم جميعاً!!.
رسوخ الأصول من هذا الدين وارتباطها مع دعوة كل ناموس من نواميس الكون ومع هداية كل سر من أسرار الطبيعة، وارتكازها على حكم الفطرة الذي لا ينقض وعلى منطق البرهان الذي لا يدحض. وسمو الغاية فيه واتساقها مع الغرض الأول من خلق الإنسان، ومع المقصد الأعلى من إيجاد الحياة، ومع الغاية العامة التي يستقبلها كل جزئي من جزئيات هذا الوجود، ويهدف إليه كل نظام من أنظمته. ودقة المناهج التي شرعها للإنسان لتبلغ به المدى، المناهج التي استخلصها من صميم مركز الإنسان في الحياة ومن مختلف منازع الحياة في الإنسان ومن الملاحظات العميقة لطباع هذا الكائن والموازنات الدقيقة بين نزعاته. ثم روعة هذا الإرشاد وهذا ما لا يفي بوصفه قلم كاتب، ولا تملك أن تصوره ريشة مبدع. هذه كلها وعلى رأسها كتاب الله الذي أخرس كل ناطق بينات محمد على صحة دينه وعلى صدق دعواه، فهل يتسرب إليها أو إلى بعضها ظل من الريب؟؟.
أما هذه المقارنات الطويلة التي يفيض فيها كتاب الإسلام المعاصرون، مقارنة الإسلام بما سواه من الملل، ومقايسة القرآن بما عداه من الكتب، فهي نمط من التدليل قد يؤثره الداعية المسلم ليستظهر به على خصيم من أشياع تلك الملل، أو ليرد به شبهة من أتباع تلك الكتب، وقد يركن إليه ليدل على عظمة صفة في الإسلام أو في القرآن بحقارة ضدها، وعلى جمال معنى فيهما بقبح نقيضه.
أما وراء هذا وذاك فهو لون باهت من الجدل.
لون باهت حائل ليس له نصوع الحجة ولا رسوخ البرهان. وما يفيد الإسلام أن يسلم من عيوب تأصلت في بعض الأديان؟ وما يجدي القرآن أن يتنزه عن نقائص توطنت في بعض الكتب؟ أفيثبت لمجرد سلامتها من تلك العلل أن الإسلام هو دين السماء الحق، وأن القرآن هو كتاب الوحي الصحيح؟.
لست أظن أحداً من الناس يتوهم ذلك.
سلامة الإسلام والقرآن من هذه العلل لا تعدو أن تكون علامات سلبية، وأداؤها إلى النتيجة المقصودة يستدعي من الكاتب أن يظهر براءة الإسلام من شتى العلل لا من عيوب هذه الأديان فقط، ويثبت نزاهة القرآن عن عامة النقائص لا عن نقائص هذه الكتب فحسب.
والكتاب المحدثون يهدفون من هذه الخطة إلى ناحية توجيهية خالصة، هي إلى الدفاع أقرب منها إلى التدليل، وهي (بالدعاية) أشبه منها بإقامة الحجة.
أخذ المفكرون من الغرب على المسيحية خللاً في المعارف ينكره العقل، والتياثاً في التشريع تجحده الطبيعة، وإسفافاً في التوجيه تأباه الضرورة. فكان من المنتظر أن تنهزم المسيحية بل تنهار أمام هذا الثالوث، فإن العقل والطبيعة والضرورة خصوم عنيدة شديدة لا يقام لها بسبيل.
وتبنت الكنيسة أفكاراً رائجة عند العامة عن الكون والفلك والأرض والطبيعة واعتبرتها أفكاراً مقدسة، وأشاعت أنها من مقررات الوحي، ومن نظريات السماء، فلا يمكن أن تكذب أبداً ولا يسوغ أن تخالف، ولا يسوغ أن تناقش.
وجاء بعض العلماء الطبيعيين والفلكيين يقولون إن هذه الأفكار معلولة، وإن التجربة تثبت غير هذا، وإن الآلة تشهد بصدق ما تقول التجربة.
وانتفضت الكنيسة لهذه الجرأة على مقررات الوحي، وانتصبت لتأديب المعتدي على نظريات السماء، وانتصب العلم وآلاته وأدواته ورجاله لعداء الكنيسة، أتنتهك حرمة العلم، وتنتهك الحرية الفكرية باسم وحي السماء. والنظريات المقدسة؟!.
وانضم العلم وانضمت الحرية الفكرية إلى المعسكر الذي يناصبها العداء، وأنصار العلم وأنصار العقل وأنصار الحرية الفكرية من الحتم أن يكثروا، ومن الحتم أن ينتصروا، وإذا كان العلم والعقل والحرية الفكرية في جانب، فلا بد وأن يكون الجهل والحمق والعبودية الفكرية في الجانب الآخر لأن تلك لا تحارب نظائرها.
ورامت الكنيسة- وكانت نافذة السطوة- أن تتلافى الأمر قبل أن يستفحل، فاتخذت من القوة إصلاحاً للخلل ومن العنف والفتك تقويماً للاضطراب، فكانت محاكم التفتيش تقضي بالموت لأضعف تهمة، وبالإحراق والتنكيل لأوهى علة.. نعم وكان التأريخ المرعب الكالح الذي تفززت منه الإنسانية، والذي أطل الدماء بلا حساب، وأودى بمئات الألوف من المفكرين والأحرار دون مبرر!!.
ومن جراء هذا وهذا كانت ثورة الغرب الكبرى التي حطمت الكنيسة وألغت المسيحية، واتهمت كل دين.
واستيقن الكتاب المسلمون أن حقوق البشرية تفرض عليهم النصيحة، وأن أمانة الحق تقتضيهم الوفاء، وأن عهد الله سبحانه يلزمهم بالتبليغ. فطفقوا يلوحون للسادرين بالأيدي ويؤمون بالأكف ويرشدون بالألسنة، ويوجهون بالأقلام إلى النبع الصافي الذي لا يرنقه كدر، والرواء الكافي الذي لا تعكره غصة، إلى العقيدة المتزنة التي توحي بها الفطرة ويعززها البرهان والتشريع الحق الذي تقرره الحكمة ويثبته العدل. إلى عقيدة الإسلام العليا وطريقته المثلى. وهذه المقارنات إحدى الصيغ التي يؤدون بها هذا النصح، ويوفون بها هذا العهد، ويبلغون بها هذه الدعوة.
أما الأمور التي أنكرها العقل والضرورة والطبيعة من تلك الديانة ومن تلك الكتب. أما المآخذ التي حكمت على المسيحية بهذه العقبى وأفضت بها إلى هذا الخسران، وأما هذه الأمور فهي كثيرة، ويكفي للدلالة عليها:
· هذا الإسفاف الزري في تفسير معنى الألوهية، وفي تصوير حقيقة الإله. فرب (العهد القديم)(1) يجهده عمل ستة أيام ويأخذ منه الإعياء حتى يكاد يتهالك في اليوم السابع ليستريح. ويختبئ عنه آدم وزوجته حواء بين شجر الجنة كيلا يراهما عاريين، فلا يعلم بهما أين ذهبا، ولا يدري لماذا اختفيا عنه، ويحذر من آدم أن يأكل من شجرة الحياة كما أكل من شجرة المعرفة فيشاركه في الخلود كما شاركه في التمييز بين الحسن والقبيح، فيطرده وزوجته من الجنة ويقيم حرساً علىالطريق الشجرة(2).
ويكثر بنو آدم- بعد حادثة الطوفان- ويجتمعون ليبينوا لهم مدينة ويقيموا لهم برجاً فيخشى رب(العهد القديم) وحدة هذا الشعب، ويحذر قوتهم وينزل إليهم ويبلبل ويبدد كلمتهم(3).
ويصطرع هو مع يعقوب بن اسحاق ليلة بطولها فلا يملك أن يظهر عليه، ويطلب الخلاص من قبضته فلا يقوى على ذلك، ويخلع الرب فخذ مصارعه يعقوب بضربة قوية ليتخلص منه فلا يجديه ذلك نفعاً، ثم لا يترك البطل يعقوب ربه حتى ينتزع البركة لنفسه منه انتزاعاً(4).
ويحاول أن ينزل ليضرب فرعون وقومه المصريين في ليلة الفصح، ولكنه يخشى أن تلتبس عليه بيوت بني إسرائيل حين يجتاز بين البيوت في تلك الليلة، فيأمرهم أن يلطخوا أبوابهم بدم الفصح ليعرف بذلك بيوتهم فلا يعمهم بضربة الهلاك(5).
ويراه موسى وهارون ومن معهما من شيوخ إسرائيل. يرون الله وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشـــــربوا(6) ثم هو يجيء ويذهب ويأكل ويشرب ويماري ويكذب ويحزن ويأسف ويخادع ويغش ويجهل ويتحير ويستشير جند السماء ويستعين بهم على
(1) العهد القديم الأسفار التي كتبت قبل المسيح- على ما يقولون- من مجموعة الكتاب المقدس والعهد الجديد الأسفار التي كتبت بعد المسيح من هذا الكتاب.
(2) 2،2 من سفر التكوين.
(3) 11: التكوين.
(4) 32: التكوين.
(5) 12: الخروج.
(6) 24: الخروج.
الإغواء (1)وو...
ورب (العهد الجديد) واحد في العقيدة ثلاثة في العدد، ولاهوت في الحقيقة ناسوت في الجسد. و( في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان)(2) و(الله ظهر في الجسد)(3) و(استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة، لأن جهالة الله أحكم من الناس)(4).
ثم هو يضعف ويتألم ويضحك ويبكي ويقتاد في البرية أربعين يوماً ليجرب من إبليس ويضطهد ويستغيث ويقهر ويغلب ويقويه الملك ويدعو ويصلي ويصلب ويدفن...
· وهذا القرف الشائن لأنبياء الله ورسله المطهرين وهذا النيل من قدسهم، فنوح يشرب الخمر ويسكر حتى يتعرى وحتى يهزأ منه ولده حام(5) وإبراهيم يدعي أن زوجته ساره أخته، يدعي ذلك ليجعلها حظية لبعض المصريين وليناله خير بسببها(6) ولوط تسقيه ابنتاه خمراً وتضطجعان معه وهو سكران لا يعي فيزني بهما(7) وهارون يصنع العجل ليعبده بنو إسرائيل ويبني مذبحاً أمام العجل. وينادي بهم(غداً حج للرب) يعني للعجل(8) وموسى يسيء الآداب مع ربه ويشك في صدق مواعيده(9) وموسى وهارون لم يؤمنا بالله(10) وعصيا قوله(11) وخاناه(12) وداود يزني بزوجة أوريا الحثي، وتحمل هذه من زناه بها، ثم يكيد زوجها ويبتغي له الغوائل حتى يسبب له القتل في إحدى المعارك، ويضم الزوجة إليه بعد أيام المناحة(13) وسليمان يخالف تعاليم الشريعة وتميل به نساؤه وراء آلهة أخرى ويبني لتلك الآلهة مرتفعات، ويعمل الشر في عيني الرب(14).
(1) 22الملوك الأول18: الأيام الثاني، أما الصفات المذكورة فيجدها القارئ منتشرة في أسفار العهدين.
(2) 1 يوحنا، ويعني بالكلمة المسيح. الأقنوم الثاني من أقانيم الذات الإلهية.
(3) 3: رسالة تيموثاوس الأولى.
(4) 1: كورنثوس الأولى، والكرازة الوعظ بالحقائق المسيحية على ما يقول الأب اليسوعي لويس معلوف في ( المنجد).
(5) 9: التكوين.
(6)12: التكوين.
(7) 19: التكوين.
(8) 32: الخروج.
(9)11: العدد.
(10) 20: العدد.
(11) 27: العدد.
(12)32: التثنية.
(13)11: صموئيل الثاني.
(14)11: الملوك الأول.
أما المسيح فإنه يكذب(1) وهو يشرب خمر(2) وأما تلاميذ المسيح فليس لهم إيمان مثل حبة خردل(3) وهم غلاظ القلوب(4) وقد وبخهم المسيح بعد قيامته من الأموات على عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم(5).
· وهذا التناقض البين في الأقوال. فالله إله واحد لا إله سواه(6) والآلهة متعددة(7)، والله لم يره أحد قط(8) وقد رآه موسى وهارون في جبل سينا ومن معهما من شيوخ إسرائيل، ورآه قبل ذلك يعقوب وجهاً لوجه وصارعه ليلة كاملة، وظهر لإبراهيم عند بلوطات ممر أو في أمكنة أخرى(9) ورآه قبل جميع هؤلاء آدم في الجنة وكانت له مع جميعهم شؤون.
وأحكام الرب حق عادلة كلها(10) وهو يحب البر والعدل (11) وهو يأخذ الأبناء بذنوب آباءهم، ويأمر بني إسرائيل أن يحرموا ( أي يبيدوا) مدن الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين ولا يستبقوا منها نسمة من البشر والبهائم(12).
وينظر يوحنا المعمدان يسوع مقبلاً فيقول: هوذا حمل الله الذي يرفع الخطيئة عن العالم (13) وتأتي يوحنا هذا وهو في السجن أنباء المسيح بعد ظهور أمره فيرسل إليه يسأله أنت هو الآتي أن ننتظر آخر؟(14).
وشريعة الله التي أنزلها على موسى والأنبياء خالدة لا ينقض منها شيء أبداً إلى أن تزول السماء والأرض(15) وهي منقوضة منسوخة كلها إلا أحكاماً يسيرة منها(16).
والرسل بعد المسيح يعلمون من آمن به من اليهود بحفظ الناموس واتباع تعاليمه، ويعلمون من آمن بالمسيح من غير اليهود بأن لا يحفظ الناموس ولا يتبع تعاليمه (17) وبولس يكون
(1) 7: يوحنا.
(2) 26،11: متى، وغير ذلك.
(3) 17: متى.
(4) 6: مرقس.
(5) 16: مرقس.
(6) 32: التثنية وقد تكرر في مواضع.
(7) المزمور10،82: يوحنا.
(8) 1: يوحنا.
(9) 18: التكوين.
(10)المزمور: 19.
(11)المزمور: 33.
(12)20: التثنية.
(13)1: يوحنا.
(14)7: لوقا، 11: متى.
(15)5: متى.
(16) 15: أعمال الرسل.
(17) 15: اعمال الرسل.
لليهود كيهودي وللذين تحت الناموس كأنه تحت الناموس وللذين بلا ناموس، يتلون هكذا مع الناس ليربحهم جميعاً(1).
وعقيدة الصلب والفداء والخطيئة الأصلية الموروثة، خطيئة أبينا الأول آدم لما أكل من الشجرة فأخرج بسببها من الجنة، الخطيئة الكبرى التي لزم إثمها ذريته أجمعين واستوجب كل فرد منهم عليها العذاب المهين، ثم الخلاص من ذلك لمن آمن منهم بألوهية المسيح وبأنه صلب ليكون فداءاً للعالمين من هذه الجريرة!. هذه العقيدة التي يقوم عليها أساس المسيحية، والتي تلزم كل فرد من البشر ذنباً لم يجنه، ثم تكفر عنه ذنبه بعقاب قد حل على غيره!. فيرتكب الخطيئة مرتكب، ويدان بها آخرون، وتحل العقوبة على ثالث غير العامل وغير المدينين!. وهذا الثالث الذي تنزل به العقوبة هو الإله ذاته أو هو ابن الإله يتجسد ويختار الصلب ليفتدي الخاطئين! ويطالب الناس أن يؤمنوا بهذه المتناقضات ليتخلصوا من الذنب وتظلهم الرحمة ويسعهم العفو، عفو الإله المصلوب عن ذنوبهم غير المكسوب! (2).
· وهذه الأنماط المضحكة من الأمثال، فالله يأمر نبيه إشعياء أن يحل المسح عن حقويه ويمشي بين الجموع عارياً حافياً وهو يقول: هكذا يسوق ملك آشور سبي مصر.. عراة حفاة ومكشوفي الأستاه خزياً لمصر(3).
ويوحي الله إلى نبيه أرميا أن يشتري إبريقاً من خزف، ويكسره أمام شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة ويقول لهم: هكذا قال رب الجنود: هكذا أكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يكسر وعاء الفخاري بحيث لا يمكن جبره(4).
ويقول الله للنبي هوشع: إذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى، لأن الأرض قد زنى تاركة الرب، وكذلك يفعل هذا النبي ما أوحي إليه(5).
ويقول له: إذهب أيضاً أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى ومحبون لأقراص الزبيب، وكذلك يفعل(6).
· وهذا القصور الواضح في الملاحظة، فاليهودية دين خاص لإسرائيل ابن الله البكر وشعبه المختار، واقرأ إذا شئت أسفار العهد القديم لترى محاباة الله لهذا الإبن المدلل وليثار مصالحه وإن يك ذلك على حساب الآخرين، واقرأ تشريعاته المختلفة التي
(1): كورنثوس الأولى.
(2): انظر ذلك في مختلف كتب العهد الجديد.
(3) 2: إشعياء.
(4) 19: ارميا.
(5) هوشع.
(6) 3: هوشع.
يؤثر فيها رضى هذا الشعب ويتملق عاطفته ويفرق فيها بينه وبين الناس الآخرين، فهي إذن عنصرية دينية لا يقرها عدل الله ولا إنصاف العقل ولا اتزان الحق. لا يقرها عدل الله الذي وزع قوانينه العادلة بين أشياء الدنيا كلها على السواء، ولا يقرها إنصاف العقل الذي لا يرى أحداً أولى بالله من أحد ولا جنساً أحق برعاية الله من جنس، ولا يقرها اتزان الحق الذي ينكر هذه الحدود ويمقت هذه الفوارق، وتعالت حكمة الله وتعالى تشريعه عن سفاسف الشهوات.
وحري بدين يختص بشعب واحد من شعوب الدنيا أن لا يتوقع من الناس الآخرين- على الأقل- تصديقاً في دعوة أو إيماناً بعقيدة أوخضوعاً لشريعة، وما يعني هؤلاء من أمره ما دام لا يعنيه أمرهم؟ وما يحدوهم إلى التفكير فيه ما داموا خارجين عن حدوده بعيدين عن رعايته؟ وبالأحرى ما داموا في نظرته نافلة من البشر لايؤبه لشأنهم، ولا ترعى حقوقهم.
والمسيحية أنفذ بصراً من أختها الكبرى في هذه الناحية، إلا إنها قد تنكرت أشد التنكير للناحية المادية في الإنسان، حتى أنها تكاد تؤمن بأن الإنسان ملاك يجب أن تبت أواصره بالأرض، روحاني يجب أن تقتلع جذوره من الطين، وأن غرائز الإنسان مخلفات من حيوانيته الأولى فيجب أن تكبت وتقهر ليسلم الإنسان لروحه و لترتقي روحه إلى مداها الأعلى.
وتجاهلت أن الإنسان كل يفسده التبعيض، بل ووحدة تبطلها التجزئة. وما حياة جسد بلا روح؟ وما جدوى روح بغير جسد؟ ما جدواها في بناء هذي الحياة وتعمير هذه الدار؟.
وما رقي روح جسدها مرهق القوى مكبوت النوازع؟.
أترى أن مثل هذه الروح تطيق حمل الأعباء، أعباء الدين الذي تمحضت له بله الحياة التي أعرضت عنها؟ فليس الدين هلوسة تعتزل في الصوامع وتبتعد عن المجامع، وليس الدين مخلوقاً مائل الشق، وليس ميزاناً شائل الكفة، ينظر في صلة المرء بآخرته ويقطع أواصره بدنياه، وما عدل دين يحيف على ناحية ليوفر على أخرى؟.
وبعد فهي دعوة إلى هدم الحياة ولا يحتملها دين يتطلب منه تنظيم الحياة، بل ولا يحتملها دين يرجا أن تطول به الحياة.
كذلك فكرت المسيحية في نظرتها إلى الإنسان وإلى مركزه من الكون، ووظيفته في الحياة. أن ينكمش في زاوية لا يتخللها نور الدنيا، ولا ينفذ إليها نسيمها، وأن يقيم فيها على حذر، وينظر إلى ما حوله بتريب!!.
وعلى هذه الأسس المنهارة بنت علاقة الفرد بالفرد وبالأسرة والمجتمع، وأعطت ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فالدين في رأيها غير عام النظرة لشؤون الدنيا، ولا تام الملاحظة في علاقات الإنسان، ومن أجل هذه التعاليم الشائهة كانت هزيمتها النكراء وكان فشلها الذريع.
( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل)(1).
في سابق هذه الآية الكريمة احتجاج قوي العارضة وإنكار شديد اللهجة على الذين زعموا أن الله هو المسيح بن مريم، وعلى الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة. وإذن فالخطاب والنداء في الآية يتوجهان إلى النصارى الذين غلوا في دينهم غير الحق فأحلوا السيد المسيح فوق رتبته من الرسالة، ومنحوه فوق منزلته من الكرامة ولا يمتنع أن يعمم الخطاب غير النصارى من أهل الكتاب فقد غلوا كذلك في دينهم، وركبوا متون الأهواء والشطط في أمر المسيح، ولعل هذا هو الوجه في نداء أهل الكتاب.
تقول الآية الكريمة أن أشياع المسيح حين يغلون في دينهم غير الحق، ويفرطون في مقام هذا الرسول الكريم من العقيدة فيزعمون وحدة اللاهوت فيه بالناسوت، أو يقولون: الرب ذات واحدة لها ثلاثة أقانيم فإنما يتبعون بذلك أهواء قوم درجوا من قبلهم على هذه الضلالة وسبقوهم بالخلود إلى هذه المزاعم.
وتقول آية كريمة اخرى:( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله أنى يؤفكون)(2) ولعل هذه أوضح من تلك في الدلالة على المعنى.
هكذا يقول قرآن محمد قبل عديد من القرون . كتاب محمد العربي الأمي الذي لم يقرأ تأريخ الرومان والبوذيين والصينيين، ولم يدرس عقائد البراهمة والفرس والمصريين، ولم يبحث في تأريخ الأديان الأولى وعلاقات بعضها ببعض، ومدى تأثير بعضها في بعض، محمد الذي درج بين عرب مكة وبدو الجزيرة الذين لا يفقهون قليلاً عن هذه الأمم ولا يعلمون شيئاً عن هذه الأديان ولا يدركون سراً من هذه العلاقات..
بلى. هكذا يقول كتاب محمد الرسول العربي(ص) قبل أن يعرف الناس تأريخ هذه الأمم وقبل أن يستبين لأحد مدى هذه العلائق.
وجاء المنقبون من مؤرخة الأديان وباحثة العلاقات ومتتبعة الآثار، جاء المنقبون من كل هؤلاء. وبعد مئات من السنين وطويل من الجهود فإذا بعقيدة التثليث صورة منقولة عن
(1) المائدة: 80.
(2) التوبة: 30.
عقيدة الرومان والبوذيين، وإذا بفكرة الأقانيم تعود إلى الفرس والهنود الأقدمين، وإذا بوحدة الأب والابن ترجع إلى مصدر برهمي قديم.
وحتى عقيدة الصلب وعقيدة الفداء فقد كانتا لأهالي( النيبال) في إلههم (أندرا) ولقدماء المصريين في مخلصهم (أوزيريس) وحتى البنوة الإلهية كانت للرومانيين في ( روملوس) حيث زعموا أن أمه ( رياسلفيا) المنذورة للعفة، ولدته من( مارس إله الحرب. وللهنود القدماء الذين يؤمنون ( بسافستري) الشمس الإله الواحد وبابنه (آني) النار الذي تجسد من (فايو) الروح الحي في بطن (مايا) العذراء. وكل هذا شهدت به آثار الأمم القديمة.
ومن يتتبع تأريخ الأديان يجد ظلالاً كثيرة من الوثنية الرومانية البرهمية والصينية، ومن الديانات القديمة الأخرى قد ارتسمت بوضوح على اليهودية والمسيحية القائمتين.
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)(1).
وهذه آية أخرى من قرآن محمد(ص) وليد مكة وربي الجزيرة وعشير العرب. فيها نبوءة صادقة بغيب مستور وفيها نبع فياض لأدلة تتناهى!!.
سنريهم آياتنا في الآفاق ... وفي أنفسهم. هذه القولة التي صدقها العلم التجريبي الحديث، وهذه الموعدة التي برت بها القدرة الفائقة المحيطة هي الأنباء بالغيب في الآية الكريمة.
سنري الناس آياتنا رأى عين حتى لا يرتاب منهم أحد وحتى يتبين لهم أنه الحق سنريهم ذلك في المستقبل الآتي فإن الآيات الوفيرة الغفيرة التي يرونها الآن بأعينهم ويدركونها بعقولهم وبصائرهم لا تساوي قطرة من المحيط الذي سيكتشفونه فيما بعد من العجائب. من عجائبنا التي ثلثناها في الآفاق أو أودعناها في الأنفس.
ولقد كان الإنسان يوم أنباه القرآن بهذا الغيب، وحين قطع الله له هذا العهد جاهلاً لا يفقه من أسرار نفسه ولا من بدائع الكون الذي يحتضنه والآفاق القريبة التي تحيط به والأخرى التي تنآى عنه، لا يفقه من ذلك إلا أموراً محدودة أدرك يسيراً منها بالحس، وعلم شيئاً منها بالفطرة، وأفاد قليلاً منها بالتجربة، وتلقن أكثرها عن أساطير القدماء وأحلام اليونان.
ثم تلت قرون وتبدلت شؤون، وإذا بالإنسان هذا يقيم المراصد العظيمة ليعلم أسرار الآفاق، ويعد الأجهزة العجيبة ليحصي حركات النجوم، ويهيء المقاييس الدقيقة ليعرف أبعاد
(1) فصلت: 53.
الكواكب، ويضع الموازين الحساسة ليقيس سرعة النور، ويبتكر الوسائل الفنية ليعين بها مدارات الأجرام في الحركة، وزنة أحجامها في الكتلة، وعدد عناصرها في التركيب، وإذا بالمراصد تبدي له من شموس الآفاق ما لا يصل نوره إلى الأرض إلا بعد ألف من ملايين السنين، بعد هذه الآماد الطويلة يقطعها النور، وقد أوضحت له مقاييسه التي ابتكرها واختبرها أن النور يقطع بسرعته في كل ثانية مائة وستة وثمانين ألف ميل.
وإذا بالإنسان يقف من نفسه موقف المتحسس المتطلع، يسبر أغوارها ويمحص طباعها، ويتتبع غرائزها، وينوع ملكاتها ويصنف أخلاقها، ويبحث عن ينبوع كل خلق، ويتقصى آثار كل نزعة، وإذا به يستحفي عن أجهزته وقواه، وعن عضله وانسجته ومصادر نشاطه وجزئيات تركيبه وتفاعلات عناصره وعن كل شيء منه، وإذا بكل ناحية من نواحي الإنسان الكثيرة لها علم يختص بدراستها، وعلماء يدأبون في حل مغلقاتها، وإذا بكل علم من هذه العلوم يطلع الإنسان على غرائب من نفسه ليست تحصى، ويبين له أسراراً من تكوينه ليست تعد!!.
وإذا بالمجهر يريه ألوفاً من الخلايا في العضو الصغير من أعضائه، وملايين من الكريات في القطرة الواحدة من دمه، وإذا بعلم وظائف الأعضاء يوضح له كيف تكدح هذه الكريات في تغذية جسمه، وكيف تتناصر في دفع العوادي عنه، وكيف تساندها الخلايا في بناء ينهدم وسد ما ينثلم!!. وإذا بالعقل يستوقفه عند كل خاصة من هذه العجائب ليجلو له حكمة جديدة او ليدله على صنع متقن!. وإذا بقرآن محمد(ص) ينبؤه بهذا التقدم قبل هذا العديد من القرون!!.
بلى. كان الإنسان يبصر بعينه المجردة فلا يرى من الأشياء إلا ظواهر، ويقيس بعقله المفرد فلا يدرك من أسرار الأمور إلا بسائط، وقد وجهه القرآن- لتثبيت عقائده- إلى الظواهر التي يحسها، وإلى البسائط التي يعقلها، فإن في ذلك دلالة وافية كافية.( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً. ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً. وهو الذي جعل الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً. وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً. وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً. وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً)(1).
هكذا يدفع القرآن بالإسنان دفعاً لينظر وليتأمل في ما حوله من مظاهر وما يبدو له من أسرار، فما خلقت هذه العجائب الكونية وما ملئت بها الآفاق والأعماق ليقلب الإنسان فيها
بصره فينال منها متعة النظر فحسب، ولكن ليفتش أسرارها ويسبر أغوارها فيفيد من ذلك علماً يكمل به نفسه ويصلح دنياه، وعقيدة يثبت بها دينه ويسعد حياته ويصلح آخرته. هكذا يدفع القرآن بالإنسان في هذه الآيات وفي نظائرها.
(1) الفرقان:45-54.
ولكنه في الآية السابقة يومئ إلى هذا العملاق الجبار الذي يخضع الطبيعة لإرادته ويسيطر على قواها بعلمه إلى الإنسان المقبل الذي يكتشف خبايا الكون بالمناظير والمجاهر، ويحلل عناصر الموجودات بالمختبرات والمعامل، إلى إنسان القرن العشرين الذي يقف على نبع النور في المواد البسيطة، ويستبطن طاقة الذرة في وحداتها الدقيقة، ويفتح الغلقات من رموز الكون، ويبرز المكنونات من أسرار الطبيعة. إلى هذا الكائن الطموح الذي يحاول أن يرقى أسباب السماء بسلم، وأن ينفذ من أقطارها بسلطان، والذي يثبت بالمشاهدة وبدقة الملاحظة أن الذرة الصغيرة تحتوي نظاماً شمسياً كاملاً دقيقاً كنظام الأفق الشمسي الكبير!!.
يجد أن في هذه الهباءة التي لا تدرك لصغرها إلا بمجهر. يجد أن فيها فلكاً صغيراً كهذا الفلك المحسوس الكبير، وأن في فلك الذرة نواة تتوسطه كما تتوسط الشمس هذه المجموعة الشمسية، وفيه ( ألكترونات) جسيمات صغار تدور حول أنفسها وحول النواة كما تدور الكواكب السيارة حول أنفسها وحول الشمس ولتلك السيارات الصغيرة في فلكها الصغير مدارات وميول محدودة مضبوطة كما للكواكب السيارة سواء بسواء. وفي الذرة قانون تجاذب يعدل تلك الحركة ويحرس نظامها كقانون التجاذب الذي يعدل الحركة في المجموعة الشمسية ويحرس نظامها. وأغراه هذا التشابه الذي ألفاه بين المنظومة الذرية والمنظومةالشمسية أن يمعن في النظر فيه وأن يتقصى حدوده ويضرب في أبعاده، فأكب يفحص ويعادل ويدقق ويضبط. فوزن نواة الذرة ووزن الذرة كلها ثم وزن الشمس ووزن المجموعة الشمسية كلها ونسب النواة إلى الذرة ونسب الشمس إلى المجموعة فوجد أن النسبة بذاتها هي النسبة، فكلا الشمسين يساوي وزنها(99،9) من وزن مجموعتها.
وضبط المسافة ما بين الألكترونات بالنسبة إلى قطر الذرة، وضبط الأبعاد ما بين الكواكب السيارة بالنسبة إلى قطر المجموعة فوجد كذلك أن النسبة بعينها هي النسبة.
وعطف إلى قوى التجاذب التي تنظم الكواكب في مواضعها من الفلك وفي حركاتها حول الشمس والأخرى التي تنظم الألكترونات في مداراتها من الذرة وفي سبحها حول النواة فرأى أن المعادلات الحسابية التي تتبعها قوى التجاذب هنا هي نفس المعادلات التي تتبعها هناك.
وجد الإنسان كل هذه المدهشات المحيرات في الذرة، أفتدري كم هو مقدار الذرة في الحجم؟.
إذا أخذنا مليمتراً واحداً فقسمناه عشرة ملايين جزءاً، فإن أحد هذه الأجزاء- على وجه التقريب- ذرة يحتوي ذلك النظام الدقيق الرتيب!!.
ونواة الذرة والبروتونات والنيوترونات التي تتقوم منها النواة، والجسيمات الأخرى (الألكترونات) التي يتم بها تركيب الذرة، وما في النواة من شحنة كهربائية موجبة تعادلها ما في (الألكترونات) من شحنة سالبة، كل أولئك أسرار خطيرة كشفها رائد العلم وأخضعتها قدرة الإنسان!!. ونواة الذرة هي مخزن طاقتها الرهيبة العجيبة التي يملك الإنسان أن يدمر بها العالم وأن يضمن له بها الخير!!.
أسمعت أغرب من هذا الاكتشاف وأعظم من هذا المكتشف؟!.
هذا هو إنسان القرن العشرين وما بعده من القرون الآتية، أفلا يستحق من هذا القرآن لفتة كريمة تميزه عمن سواه من أناسي القرون؟.
إلى هذا المخلوق العظيم يلتفت القرآن في آياته السابقة ليقول له: إن كل ما تكتشفه من سر، وكل ما تستوضحه من حكمة، وما تبينه لك الآلات من الدقائق والذرات وما يثبته لك التحليل من العناصر والقوى، وما تبديه لك المراصد من الشموس والكواكب، وما يجلوه لك العلم من الحقائق والآثار. كل هذا الذي علمته من أسرار الكون وما ستعلمه في الآتي القريب أو المستقبل البعيد كله بينات قاطعة الدلالة على موجد حي عظيم القدرة نافذ الإراد، واسع العلم دقيق الحكمة. غني بذاته عن كل شيء مهيمن بقدرته على كل شيء، لا تنفد حكمته، ولا تضعف قدرته ولا ينقطع تدبيره ولا ينتهي وجوده.
هو قبل هذه الأشياء أجمع، وهو معها أجمع، وهو بعدها أجمع.
هو قبل الأشياء لأنه خلقها، وخالق الشيء لا بد وأن يكون قبله، وهو مع الأشياء لأنه صرفها من حال إلى حال ومن صورة إلى صورة ومن زمان إلى زمان ودبرها بمقتضى الحكمة في جميع الأحوال والصور والأزمان، ومصرف الشيء ومغيره لا بد وأن يكون معه. وهو بعد الأشياء، لأن ما ليس له ابتداء لا يكون له انتهاء.
وبعد أفليس من أشد الأمور غرابة أن يقف الإنسان العالم المفكر المتبصر دون هذه النتائج المحتومة المعلومة بعد أن يغرس بيديه بدرتها الحية، ويفحص بنفسه تربتها الزكية، ويتعهد بذاته ربها الكافي، ويلحظ بعينيه نموها الكامل وإثمارها المبهج النافع؟!. أليس غريباً أن يصده الهوى عن أحلى المقدمات ويشل منه التصديق دون أصدق النتائج؟!.
أليس غريباً أن ينكر هو ويقول قد أنكر العلم، ويسفه هو ويقول قد سفه الحق؟. متى جاز في العقول أن يوجد شيء من تلقاء ذاته ليقول إنسان له شعور وله علم: إن الكون قام وحده دون موجد ودون مدبر؟!.
أم يقولون: هي الطبيعة الخالقة؟!.
ومن العجيب أن يصدر هذا القول من عاقل حصيف، إي وعينيك إنه لقول عجيب.
أليس في هذه الكشوف العلمية الدقيقة ما يحول دون هذا الإسفاف؟.
أليس في دقة الصنع ما يدل على أن الصانع حكيم؟.
أليس في هبة الحياة ما يدل على أن الواهب حي؟.
أليس في إفاضة ضروب الكمال ما يدل على أن المعطي كامل؟.
فهل هذه صفات الطبيعة وهي كما يقولون صماء بكماء؟.
عجيب جداً أن يصدر هذا القول من عاقل حصيف بعد وضوح هذه الأمور!.
وبعد فهل يستطيع هؤلاء القائلون بأن الطبيعة هي الخالقة، وأن يقيموا شاهداً واحداً من هذا الكون الفسيح الرحيب استقلت فيه الطبيعة بنفسها دون تدخل علة فاعلة مختارة؟ أن يقيموا شاهداً استقلت فيه الطبيعة فاستبدلت بنفسها قانوناً بقانون أو غيرت من تلقاء ذاتها وضعاً بوضع.
ليدلونا على شاهد واحد يشهد لها بهذا الاستقلال مهما كان صغيراً، بل ومهما كان تافهاً لنتبعهم فيما يزعمون!.
لا وربك ليس في مقدورهم ذلك، ولا في استطاعة أحد من المخلوقين سواهم، ليس في مقدورهم جميعاً وإن فحصوا جسيمات كل خلية وفجروا نويات كل ذرة..
ليس في مقدورهم ذلك لأنهم لا يملكون أن يوجدوا المعدوم أو يجدوا الممتنع.
أليس في هذا ما يدلنا على أن الطبيعة لا تملك من نفسها أن تصنع شيئاً، ولا تقدر أن تستقل في عمل، وإن كل ما هناك من خير ومن جمال ومن قوانين ثابتة وسنن دقيقة إنما هو صنع يد مدبرة وقدرة مقدرة؟!.
إن العلم لا ينكر أبداً لأنه لا يجهل حدوده، ومحال عليه أن يطلب حقائق ما وراء المادة بأدوات لا تفحص إلا المادة، ومحال عليه أن ينكر حقيقة ما لأنه لم يجدها في مرصده أو مختبره. أما العلماء فيبدو في الآونة الأخيرة أن فكرة الله بدأت تملأ عقولهم وأن الإيمان به أخذ يدب في قلوبهم، واقرأ إن شئت كتاب ( العلم يدعو للإيمان) للأستاذ(أ.كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، وكتاب ( الله يتجلى في عصر العلم) الذي ساهم في إخراجه ثلاثون رجلاً من أكابر العلماء التجريبيين، والكتابان ثروة علمية لا غناء عن الإطلاع عليهما.
واعترافاً بالحق وتقديراً للعلم أود أن أضمن كتابي أول فصل من الكتاب القيم ( الله يتجلى في عصر العلم) وكاتب هذا الفصل هوالأستاذ الدكتور(فرانك اللن) عالم الطبيعة البيولوجية، وعنوان فصله( نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد)؟ قال:
( كثير ما يقال أن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق، ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده ونشأته؟ هنالك اربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال: فأما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال، وهو يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده، وأما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم، وإما أن يكون أبدياً ليس لنشأته بداية، وإما أن يكون له خالق).
( أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهماً من الأوهام ليس له ظل من الحقيقة. وقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جينز الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي وأنه مجرد صورة في أذهاننا. وتبعاً لهذا الرأي نستطيع أن نقول أننا نعيش في عالم من الأوهام، فمثلاً هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليس إلا خيالات، وبها ركاب وهميون وتعبر أنهاراً لا وجود لها وتسير فوق جسور غير مادية...الخ، وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال).
( أما الرأي الثاني القائل أن هاذ العالم بما فيه من مادة وطاقة قد نشأ هكذا وحده من العدم. فهو لا يقل عن سابقه سخفاً وحماقة، ولا يستحق هو أيضاً أن يكون موضعاً للنظر أو المناقشة).
( والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون وذلك في عنصر واحد هو الأزلية. وإذاً فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت وإما أن ننسبهاإلى إله حي يخلق. وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الإحتمالين أكثر مما في الآخر. ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً وأنها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الإنخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت. أما الشمس المستعمرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذن حدث من الأحداث. ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه).
( إن ملائمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية. فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها. فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت الأرض ساكنة. ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير يزيد على 500ميل).
( ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يومياً إلينا منقضة بسرعة ثلاثين ميلاً في الثانية. والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات، حيث يمكن أن يتكاثف مطراً يحيي الأرض بعد موتها، والمطر مصدر الماء العذب، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة).
( ويمتاز الماء بأربع خواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات والبحيرات والأنهار. وخاصة حينما يكون الشتاء قارساً طويلاً، فالماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة، وتبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة أربعة مئوية. والثلج أقل كثافة من الماء مما يجعل الجليد المتكون في البحيرات والأنهار يطفو على سطح الماء لخفته النسبية فيهيء بذلك الفرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة. وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الأحياء التي تعيش في البحار).
( أما الأرض اليابسة فهي بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات الأرضية، فالتربة تحتوي العناصر التي يمتصها النبات ويمثلها ويحولها إلى أنواع مختلفة من الطعام يفتقر إليها الحيوان ويوجد كثير من المعادن قريباً من سطح الأرض، مما هيأ السبيل لقيام الحضارة الراهنة ونشأ كثير من الصناعات والفنون، وعلى ذلك فإن الأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة. ولا شك أن كل هذا من تيسير حكيم خبير، وليس من المعقول أن يكون مجرد مصادفة أو خبط عشواء ولقد كان إشعياء على حق عندما قال مشيراً إلى الله: (( لم يخلقها باطلاً. للسكن صورها)) ((45:18))).
( وكثيراً ما يسخر البعض من صغر حجم الأرض بالنسبة لما حولها من فراغ لا نهائي. ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر، او حتى لو أن قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت. أما لو كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت مساحة سطحها أربعة أضعاف، وأصبحت جاذبيتها للأجسام ضعف ما هي عليه، وانخفض تبعاً لذلك ارتفاع غلافها الهوائي، وزاد الضغط الجوي من كيلو جرام واحد إلى كيلو جرامين على السنتيمتر المربع، ويؤثر كل ذلك أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض، فتتسع مساحة المناطق الباردة اتساعاً كبيراً، وتنقص مساحة الأراضي الصالحة للسكنى نقصاً ذريعاً، وبذلك تعيش الجماعات الإنسانية منفصلة أو في أماكن متنائية، فتزداد العزلة بينها ويتعذر السفر والإتصال بل قد يصير من ضروب الخيال).
( ولو كانت الأرض في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها لتضاعفت جاذبيتها للأجسام التي عليها 150ضعفاً، ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي إلى أربعة أميال، ولأصبح تبخر الماء مستحيلاً ولا ارتفع الضغط الجوي إلى ما يزيد على 150 كيلو جراماً على السنتيمتر المربع ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حالياً رطلاً واحداً إلى 150رطلاً، ولتضائل حجم الإنسان حتى صار في حجم ابن عرس أو السنجاب، ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات).
( ولو أزيحت الأرض إلى ضعف بعدها الحالي عن الشمس، لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس إلى ربع كميتها الحالية، وقطعت الأرض دورتها حول الشمس في وقت أطول، وتضاعفت تبعاً لذلك طول فصل الشتاء وتجمدت الكائنات الحية على سطح الأرض. ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة امثال، وتضاعفت سرعتها المدارية حول الشمس، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي إذا كان هنالك فصول بالمرة، ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.
( وعلى ذلك فإن الأرض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس وسرعتها في مدارها تهيء للإنسان اسباب الحياة والإستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا).
( فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق فلا بد ان تكون قد نشأت عن طريق المصادفة. فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟).
( إن نظريات المصاطفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق، وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم... ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدماً كبيراً حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول إنها تحدث بالمصادفة والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى( مثل قذف الزهر في لعبة النرد). وقد صرنا بفضل هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان. ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة).
( إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية. وهي تتكون من خمسة عناصر هي: الكربون، والأيدروجين، والنيتروجين، والأوكسجين، والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في الجزيء البروتيني الواحد 40000ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92عنصراً موزعة كلها توزيعاً عشوائياً، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزيئاً من جزئيات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطاً مستمراً لكي تؤلف هذا الجزيء، ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد).
( وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعاً فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد إلا بنسبة 1 إلى 10/160، أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروباً في نفسه 160 مرة. وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصى من السنوات قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243مرة من السنين(10/243سنة)).
( إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية. فكيف تتآلف ذرات هذه الجزيئات؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة، بل تصير في بعض الأحيان سموماً. وقد حسب العالم الإنجليزي ج.ب. ليثز الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات فوجد أن عددها يبلغ الملايين(10/48). وعلىذلك فإنه من المحال عقلاً أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئاً بروتينياً واحداً).
( ولكن البروتينات ليس إلا مواد كيموية عديمة الحياة، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنهه شيئاً. إنه العقل اللانهائي، وهو الله وحده. الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته أن مثل ذلك الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقراً للحياة فبناه وصوره وأغدق عليه سر الحياة).
هكذا يبلغ العقل الحصيف غايته العظيمة إذا عرف السبيل، ولم يقف به الخور ولم تنحرف به الأهواء. وهكذا يستبين صدق قول الله في كتابه: ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها. وما ربك بغافل عما تعملون)(1).
(1)النمل: 93.