وقالوا: الدين يؤدي إلى الكبت وإلى ازدواج الشخصية.
فمن دأب الغرائز المودعة في الإنسان أنها تهوى الإنطلاق، ومن دأب الدين أنه يكافح هذه النوازع، والمتدين من بني الإنسان قد يقوى فيه عنصر الدين، فيعمل على قمع الغرائز وقهر ميولها وخنق رغباتها، وهذا هو الكبت المؤدي إلى القلق وإلى الصراع النفسي الدائب، وإلى العقد النفسية الشديدة.
فإن الغرائز لن تفتأ تتحرك لتنطلق، والدين يوالي عليها ضرباته لترتد، ويستمر الصراع ويشتد الضغط ويربو أثره. وترد الرغبات والانفعالات مكبوتة إلى أعماق النفس، وتتحول في منطقة اللاشعور عقداً لا تحل واضطرابات لا تقاسى.
وقد تقوى دفعة الغرائز فينطلق المرء انطلاق المنهوم وراء شهواته، وينكمش عامل الدين في زاوية من زوايا النفس، يتحفز ليثور، ثم ينظر إلى الأمر الواقع فيخضع، والمرء بين العاملين المتناحرين قد يستولي عليه الشعور بالخطيئة فييأس ثم ينغمس وقد يغلب عليه الرجاء، فيلبي غريزته بالعمل، ويقنع تدينه بالأمل ويتقمص في ذاته الواحدة شخصيتين مؤمنة راجية. فاسقة غاوية.
وقد يحار ويرتبك ويشذ ويشرد. وعلى أي حال فالواقع يعمل عمله، والإنسانية تهوى وتتحطم والدين يشكو ويتبرم.
أسمعت؟ ولعله أنفذ سهم ظن الناقدون أن العلم يسدده إلى مقاتل الدين.
وأنه لسهم نافذ قاتل، ولا مهرب عنه أبداً لدين يحمل الحملة الشعواء على واقع الحياة، ولا مهرب عنه أبداً لدين ينكر الضرورات الأولية في الإنسان فيقمعها أو يحاول قمعها.
وإن ديناً هذه صفته ليستوجب ذلك وأكثر منه. ليستوجب الحرب من العلم، والحرب من الطبيعة، وأول من يحاربه الله الذي جعل هذه الغرائز في تركيب الإنسان، وأمده بها، فما أودعها في كيانه سدى، وما ركبها فيه لتكبت وتظلم ويتقرب إليه تعالى بكبتها وظلمها!.
ومحال على الله أن ينقض ما يعمل بما يقول، ومحال على حكمته أن يشرع ما لا يستطاع، نعم وكل ذلك سديد لا مرية فيه. ولكن أي صلة لذلك بالدين الحق؟.
بدين يقدر هذه الضرورات حق قدرها ويفي بها حق وفائها.
دين الإسلام يعترف بضرورات الحياة وبضرورات الإنسان، ولا ينكرها ولا يتنكر لها، ويرى من الحق أن تغاث لهفتها وأن تجاب. وقد يجهد من الظلم المحرم أن لا تغاث ولا تجاب.
بلى. وقد يرتفع بالاستجابة المشروعة العادلة فيجعلها عبادة توجب القرب من الله وتسبب المثوبة لديه. ولتفصيل هذا بحث آخر من حلقات الكتاب.
دين الإسلام يعترف بهذا كله والمسلم يدين الله به ويستعين الله على أدائه. ولكن الإسلام يعلم حق العلم أن غرائز هذا المخلوق البشري كثيرة، وأن رغباته وأشواقه أكثر. وأن شؤونه واتجاهاته في الحياة وفي لوازم الحياة أربى من هذه الكثرات بكثير. ويعلم حق العلم أن نشاط المرء وطاقته الحيوية لن تفي بهذه النواحي كافة ما لم توزع توزيعاً عادلاً لا حيف فيه ولا عدوان.
وقد أثبت العلم التجريبي أن النشوز في بعض غرائز الإنسان أو في بعض رغباته لا يكون إلا على حساب بعضها الآخر، فإذا استهلكت بعض نواحيه مزيداً من الطاقة فلا بد وأن يضعف نشاطه في ناحية توازيها. وإذا مالت الكفة بشأن من شؤونه فلا بد وأن تخف الثانية بشأن يعادله!.
لقد عرف الإسلام ذلك جيداً وأثبته العلم وحققته التجربة ولم يعد مجالاً للشك.
وإذن فلا معدل عن التحديد، ولا معدل عن النظر في مقدار ما يجب، وفي مقدار ما ينفق.
إنها طاقة الحياة فلا معنى للتسامح في إنفاقها، وإنها حقوق تتكافأ وتتقابل بين الغرائز والجهات الكثيرة فلا معنى للتساهل في حدودها.
وضبط الغريزة وتحديد مطاليبها غير كبحها وإبادة ميولها.
والطب الذي يعرف جوعة المعدة إلى الطعام ويعرف كذلك فاقة الجسد إليه يكون كابتاً لهذه الضرورة إذا حدد للممعود أكله ومأكله. والقانون الذي يعترف بالطاقة الجنسية ويعلم بإلحاحها الشديد على الإنسان لا يعد كابتاً لهذه الغريزة إذا حرم تصريفها بطريق غير قانوني أو بغير رضى من الطرفين على أقل تقدير.
لا كبت في الإسلام ولا انطلاق. بل موازنة ومعادلة.
موازنة في النشاط الحيوي المبذول، ومعادلة بين الحاجات المقتضية.
أما أن يتمرد مسلم أو مسلمون! على نظم دينهم فيصابوا بالكبت، أو ينالوا مغبة الانطلاق فهذا وزر لا يحمله منصف على الدين.
الدين ضرورة تقتضيها كل خافية من خفايا الإنسان وكل ظاهرة من ظواهره..
والدين نظام تشير إلى الحاجة إليه كل ذرة من ذرات هذا الملكوت وكل حركة من حركاته.
هذا ما فصلنا مجمله في البحوث السابقة وأقمنا على ثبوته وجوهاً من البرهان.
وإذا كان من الأديان ما هو حق يجب الخضوع له، ومنها ما هو باطل يلزم التجنب عنه، فلا بد للدين الحق من شيات يمتاز بها عن الدين الباطل، ليرفض الإنسان ما يرفض منها عن علم، ويقبل ما يتقبله منها عن هدى. وقد أفدنا من بحوثنا الماضية عدداً من هذه المميزات، وعلينا أن نرجع إليها إذا أردنا التمييز. فقد عرفنا أن الدين الحق ما نفذ إلى أعمق دخيلة من دخائل النفس، وأبعد غور من أغوار القلب، وأدق مسرب من مسارب الروح، فأقام العدل في جميع هذه الأنحاء، وأشاع التوازن بين عامة هذه الأصقاع، فلم يغفل غريزة من رشده ولم يهمل خليقة من تهذيبه، ثم لم يخالف حكم الطبيعة الحكيمة التي ركبت هذه الأشياء في الإنسان، فلم يحف على جهة منها في حكم، ولم يتحيز لناحية منها في تشريع.
وعرفنا أن الدين الحق ما وهب الضمير الإنساني بصيرة نفاذة إلى الحقائق، وطاقة مطبوعة على الخير، وزوده بالأقيسة العادلة والموازين المعصومة ثم بسط سلطان هذا الضمير على إرادة الفرد، ومد رقابته إلى أعمال الغير مداً رفيقاً يحقق به معنى التعاون على البر والتواصي بالحق، ولا يمس به كرامة الاختيار.
وعرفنا أن الدين الحق ما كان للمجتمع البشري روحاً حياً يكون وحدته، ونظاماً ثابتاً يشد علائقه ويضبط حدوده، وعقلاً مرشداً يدبر حركاته ويوجهه في أعماله، ثم قوة وازعة تتولى صون العلائق فيه وتنفيذ الحقوق..
وعرفنا ان الدين الحق ما شمل الإنسانية بجميع حدودها وتخومها، وبكل عناصرها وظلالها، فلم يختص بعنصر منها دون عنصر، ولم يميز فريقاً منها عن فريق.
بهذه الألوان الثابتة نملك أن نتعرف على الدين الصحيح متى أردنا ذلك، وعلى هذه الموازين نستطيع أن نعرض الأديان المختلفة إذا أردنا إحقاق الحق منها وتزييف الزائف. أما أدلة هذه الفتاوى فقد تقدم البعض الكافي منها في الفصول السابقة.
ولا أغلو فأزعم أن كل واحدة من هذه الخصائص سمة مستقلة تكفي بمفردها للتعريف بالدين الصحيح. لا أقول هذا، فإن تعيين الدين الحق لا يكفي له وجود خاصة واحدة من خصائصه مهما كانت الخاصة مهمة فيه.
والشيء الذي لا ريب فيه أن فقد أية سمة من هذه السمات في دين من الأديان حجة قاطعة على قصور ذلك الدين، وأن اجتماعها مكتملة فيه بينة على أنه دين الإنسانية الحق وسبيلها القاصد إلى وجهة الكمال ودليلها المأمون إلىاستقامة الفطرة.
وإذا كان الدين هو المنهاج الصحيح لرقي الإنساني إلى كماله الاختياري المنشوود فمن الحتم أن تجتمع فيه هذه الخلال.
من الحتم أن ينفذ إلى أدق خفية من خفايا المرء وإلى أوضح ظاهرة من ظواهره، إلى جميع خصائصه فرداً وإلى عامة علاقاته مجتمعاً، ثم إلى المجتمع البشري في كل أجزائه ومقوماته وفي كل أعماله وغاياته، إلى صلة الإنسان بالحياة التي تعمه وبالكون الذي يضمه وبالمكون الذي يدبره.
كل هذه ميادين لنشاط المرء في فكره ونشاطه في عمله، وكلها مؤثرات عميقة التأثير في نشاطه في عمله فمن الضروري للدين أن يتصل بها كافة متى أردا أن يقدم لإنسان المنهاج التام لكماله التام.
أما طبيعة التشريع في الدين الحق فيجب أن تكون مرتكزة على الملاحظات العميقة لكل هذه الأنحاء والموازنات الدقيقة بين مقتضياتها.
إذن ففي ضوء هذه المميزات لابد لنا أن نستعرض الإسلام إذا أردنا أن نبحث عن صحته، أو أردنا أن نخوض في أسراره.
البشرية نوع واحد.
فالكمال الأعلى الذي تبتغيه كمال واحد.
والسبيل الذي تتجه فيه إلى ذلك المقصد سبيل واحد، ولا مرية في شيء من ذلك.
البشر نوع واحد، هذه هي المقدمة الأولى التي يقوم عليها الاستنتاج، وهي بديهية الثبوت، وهل يدخل في روع عاقل أن البشر أكثر من نوع واحد؟.
فالغاية القصوى التي يؤمها هذا النوع غاية واحدة. وهذه هي النتيجة الأولى، والمقدمة الثانية، وهي واضحة ثابتة كوضوح المقدمة الأولى وثبوتها، فإن السنة المتبعة في هذا الكون وفي جميع ذراته، وفي جميع بسائطه ومركباته أن لكل نوع واحد منها غاية واحدة، وليس بمقدرة الإنسان أن يشذ عنها، لأنه لا يملك أن يشذ عن نواميس الكون.
فالقانون الذي يصل البشر بغايته قانون واحد، وهذه هي النتيجة الثانية، وهي واضحة أيضاً
وثابتة بعد وضوح المقدمات وثبوتها فإن المبدأ الواحد والنهاية الواحدة لن يصل بينهما أكثر من خط مستقيم واحد.
والبشرية مجتمع واحد فهو بحاجة إلى نظام اجتماعي واحد.
ويهدمه ويصدع وحدته أن يكون له أكثر من ذلك.
والركائز الحقيقية لهذا المجتمع واحدة فلا يشتق منها أكثر من قانون واحد.
هذه الفكرة المستندة إلى هذه اليقينيات هي فكرة الإسلام عن الدين وقد جرى عليها في جميع أشواطه، وباستطاعة الباحث أن يقرأها صريحة في كثير من نصوصه، فقد جرى عليها لما هتف بالإنسانية جمعاء بكل شعوبها وأجناسها ليجمعها على الصراط الواحد المستقيم:( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه. ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)(1). ولما أنذر العالمين أجمعين بالخسران إذا هم ابتغوا غير دين الله منهجاً واتبعوا غير وحيه دليلاً:( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(2) بلى. ومن يتنكب سبيل السعادة فلا بد وأن ينتهي إلى الشقاء ولا بد وأن يشعر بالخسران في نهاية المطاف.
وأديان السماء كافة- في رأي الإسلام- دين إلهي واحد وضع بوضع الشريعة الأولى واكتمل باكتمال الشريعة الأخيرة، ولم يختلف إلا بما تفرضه سنة التطور، ولم يتبدل إلا بما يقتضيه سير الحكمة وحاجة المجتمع. فدين الله هذا الذي أرسل به رسوله الأكبر هو بذاته دين الله الذي أوصى به أنبياءه السالفين، وفرض على الناس أن يقيموه ونهاهم أن يتفرقوا فيه( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه)(3).
والرسل المطهرون من مبدأهم إلى ختامهم إنما يدعون إلى اعتناق ملة واحدة لا تشعب فيها وإلى عبادة رب واحد لا شريك معه: ( ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)(4).
وقد جرى الإسلام على هذه الفكرة لما لازم بين أديان السماء في العقيدة وربط ما بينها في الإيمان، فالمؤمن لن يكون مؤمناً حقاً حتى يصدق بكل من بعث الله من نبي وبكل ما أنزل إلى الأنبياء من كتاب وبكل ما أوحى إليهم من شريعة:( ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل. ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه
(1) الأنعام: 153.
(2) آل عمران: 85.
(3) الشورى: 13.
(4) المؤمنون: 52،51.
ورسله واليوم الآخر قد ضل ضلالاً بعيداً)(1) ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)(2).
وقد جرى عليها أيضاً لما سبر الإنسان من أضعف مشاعره إلى أقوى صلاته، ومن أدنى خواطره إلى أبعد غاياته، ثم وازن بين غرائزه القوية والضعيفة حين تتصادم، وبين غاياته القريبة والبعيدة حين تتقابل، وحين صعد نظرته في الإنسان إلى حدوده العليا ثم صوبها إلى حدوده السفلى، ليجمع كل هذه المجاري في مجرى ويؤلف جميع هذه المختلفات في وحدة، على هذه الفكرة جرى الإسلام حين صنع ذلك ليعد للإنسان نظامه الواحد الذي لا اختلاف معه، القيم الذي لا التواء به، السمح الذي لا حرج فيه، العام ما وجد فرد من أبناء الإنسان، الخالد ما بقيت حياة على ظهر هذا الكوكب. أما دلائل هذه الدعوى فيجدها الباحث في كل حكم من أحكام الإسلام وفي كل هداية من هدايات القرآن. وسنتعرض لبعضها في الكتاب إذا أمدنا الله منه بالتوفيق.
على أن الفكرة المتقدمة لا اختصاص لها بدين الإسلام ، ولا يدعي الإسلام أنه يختص بها دون ما سواه من الأديان، فهي فكرة رسالات الله عامة، وقد رأينا الإسلام كيف يقرر هذه الوحدة بين أديان السماء وكيف يقيم على هذه الوحدة ربطاً وثيقاً في عقيدة اتباعه، رأيناه كيف يجعل منها سلسلة واحدة موصولة الحلقات متماسكة الأجزاء فالسابق منها مهاد للاحق، والأخير امتداد للأول.
والتفسير المفهوم لهذا الترابط هو أن الأديان في رأيه تنفجر من ينبوع واحد ثم تسير في مجرى واحد إلى مصب واحد. نعم وما بشارة أوائل النبيين وأواخرهم ولا تصديق أواخرهم لأوائلهم إلا تثبيت لهذه الفكرة وسير مع مقتضاها.
ذلك أن الإيمان ببعض رسالات المرسلين وإغفال سائرها أو الجحود به معناه الأول اقتطاع الجزء عن كله، ومعناه الأخير عدم الإيمان بذلك الجزء ايضاً، لأن الجزء لا يستقيم ولا يؤدي وظيفته مبتوراً، فلا محيد من تصديق النبيين بعضهم بعضاً تمكيناً للغاية وتوجيهاً للإنسانية.
وإذن فالإسلام يجد أن شرائع السماء تتحد معه في القاعدة المتقدمة وتتحد معه كذلك في كل سمة يمتاز بها الدين الحق.
على أننا نلاحظ ما يخالف ذلك في الأديان الموجودة المنسوبة إلى السماء، وهذا إنما يدل على تحريف ماسخ يبعد هذه الأديان عن الصور الحقيقية لشرائع الله الأولى، أما الفكرة المتقدمة نفسها فلا ريب فيها بعد أن مكن لها البرهان وعززها اليقين.
(1) النساء: 136.
(2) البقرة: 136.
واعتراف الإسلام بأديان السماء الصحيحة لا يعني اعترافه بهذه الصورة الشائهة الممسوخة التي لا تجتمع وإياها في الفكرة ولا تتفق معها في الخطة، وقد لا تتحد معها بغير الاسم.. وللبحث صلة تأتي إنشاء الله تعالى في فصل قريب.
( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم، لعلكم تشكرون)(1).
بهذه الآية الكريمة الحكيمة يوضح الله غايته من تشريع الدين ورفع قواعده.
ليطهر الناس المؤمنين به المتبعين لأحكامه، وليتم نعمته عليهم، هذه الغاية التي ابتغاها رب الناس للناس من تشريع دينه ووضع أحكامه.
تطهير وإنقاء. ثم تزكية وإعلاء.
إنه هدف مزدوج على ما يبدو، وكل شيء يرام أن يؤخذ به إلى غاية فلا بد من إعداده لها ولابد من تصفيته من أضدادها. والنفس البشرية جهاز كالأجهزة لا يجدي نفعاً ما لم تنظف أعجاله ومحركاته عما يعلق بها من أدران، وعما يقر في خزانات من رواسب، ولا يجدي نفعاً ما لم يحسن مديره كيف يوجهه إلى العمل المطلوب وكيف يستخدمه للإنتاج الحسن الكثير.
تطهير وإنقاء، هذا هو المأرب الأول الذي يعمل له الدين.
اجل. فاللنفوس من أهوائها ومطامعها معوقات تصدها عن الخير، وعليها من سواها مؤثرات تصرفها عن الاستكمال، وللنعم أضداد من صفات الإنسان تمنعها عن التحقق. ولها حواجز من ملابسات الإنسان تعتاقها عن التمام. ولا مناص من اجتثاث هذه الآفات، وإقصاء هذه الغرائب إذا لم يكن مناص من بلوغ الغاية. والمعوقات المذكورة تتمثل في كل عمل محظور نهى عنه دين الله، وفي كل صفة ذميمة منعت منها إرشاداته. وفي كل غاية وضيعة حرمت السعي إليها تعاليمه.
ثم تزكية وإعلاء، وهذا هو المأرب الثاني من مآرب الدين، وهو كذلك دور إتمام النعمة على حد تعبير الآية الكريمة، وبهذا تتم الغاية التي أرادها الله يوم وضع العقيدة وشرع الشريعة.
(1) المائدة: 7.
وواجب الدين في الدورين المذكورين أن يعد الذرائع المبلغة إلى المدى، وأن يوجه النفوس بصفاتها وبأعمالها إلى الهدف، ثم عليه غير ذلك أن يلون الغايات المتفرقة حتى يرجعها إلى غاية، وأن يضم المسببات المختلفة حتى يجمعها في مسبب هو الغاية الكبرى للدين والكمال الأقصى للبشر والنعمة العظمى لجاعل الدين وخالق البشر.
على الدين أن يهيء الوسائل المبلغة وأن يمهد السبل المستقيمة، وأن يتيح الفرص الكافية، وأن يقيم الدلائل الواضحة، وأن ينشر الدعوة الحكيمة. أما الاستجابة للدعوة وسلوك السبيل واغتنام الفرصة، أما ذلك فهو من شؤون المرء ذاته. فليس من خليقة الدين أن يكره، وليس من حكمة الله أن يضطر، وليس من كرامة الإنسان أن يجبر.
الإنسان ذاته هو الذي يتحكم في عقبى أمره فيحرز لنفسه الفوز أو يكتب عليها الخسار.
والهدفان المذكوران مترتبان في طبيعتهما، فما يكون لنفس أن ترقى وأن تستكمل وهي لا تزال ملوثة السر قذرة العلانية، وما يكون لنفس مثقلة بالجرائر مرتكسة في الخبائث أن ترتفع إلى منازل الكرامة.
وطبيعي أن تنقى الأرض وأن تستأصل ما في تربتها من جرثومة أو آفة قبل أن تبذر فيها أول حبة أو تغرس فيها أول نبتة.
وآفات النفوس ومعوقاتها عن طلب الخير- كما قلنا من قبل- تفوت الحصر وتمتنع على الحاصر، وهي كذلك غير محدودة الوقت ولا محدودة الأثر. ومقتضى ذلك أن يستمر التطهير ما دامت مظنة للتلوث وما دامت مظنة للإنتكاس.
من أجل ذلك كانت مهمة الدين مركبة أو مزدوجة طوال الحياة.
ومن هنا كانت عنايته بطب الوقاية تضاهي عنايته بطب العلاج.
ومن هنا كانت محرماته تربو على واجباته، وكانت تحذيراته أشد تغليظاً من ترغيباته.
ومن أجل ذلك أيضاً وثق الإسلام ما بين غايتين في الأسباب ولازم ما بينهما في التحقق حتى أصبحت أسباب التطهير بذواتها أسباباً للترقية ووسائل الترقية بأنفسها وسائل للتطهير، فقد قال مثلاً في الكتاب الكريم:( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً)(1). وقال): وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)(2).
(1) النساء: 30.
(2) هود: 115.
يصنع الدين ذلك لأنه يرى أن افراد الغايتين في المنهاج تضييع للزمن وتفريط بالفرصة. وقد ينتهي بالإنسان إلى الحرمان من الغاية، ولأن التكامل الاختياري في مدرجة الرشد كالتكامل الطبيعي في سائر القوى الطبيعية كلاهما نمو متصل مطرد لا مجال فيه لوقفه ولا مساغ لإبطاء.
وبعد ففي الآية الكريمة إيحاءات يجمل بنا أن نقف على قليل منها.
يريد ليطهركم. وليتم نعمته عليكم، لهذه الغاية شرع الله الدين ووضع أسسه واقام بناءه، ليتم نعمته عليكم، وإن النعم موجودة موفورة على الإنسان منذ يوم خلق، إلا أنها لا تستتم حلقاتها إلا بالدين، ولا تبلغ تلك الحلقات غايتها المرجوة المحمودة ولا تؤتي ثمراتها الزكية الطيبة إلا باتباعه.
هذا ما توحي به الآية أفليس الواقع كذلك؟.
ومن البين أن أسبق النعم على المرء هي نعمة الوجود، وأن جميع النعم الأخرى متفرعة على هذه في التكوين، ومن البين كذلك أن نعمة الوجود لن تصل إلى تمامها إلا يوم يصل الموجود إلى ذروة كماله.
وماذا في الإنسان غير وجوده ( إذا صح منا هذا التعبير)؟.
ماذا فيه غير كيانه المادي الخاص، وغير الحياة التي تعمر الكيان، والعقل الذي يدبر سلوك الحياة؟.
فيه أجزاء مادية داخلية وخارجية يتألف منها الجسد، وفيه قوى وطاقات آلية وإرادية يبرز فيها نشاط الحياة، وفيه أشواق وغرائز تشير إلى ضرورات ذلك الجسد وفاقات تلك الحياة. وفيه أشياء كثيرة وعجيبة تدهش العقل وتحير اللب.
فيه هذه المجموعة الكبيرة من الأشياء المختلفة التي يقوم بها كيانه وتستقيم بها حياته، وكل واحد من أشياء هذه المجموعة نعمة كبيرة على الإنسان لا صلاح له بدونها، ولو أنها فقدت أو نقصت منه لتعذرت عليه حياته أو لتنغصت عليه معيشته واضطربت أحواله.
فإذا استعرضنا هذه المجموعة واستقرأنا ما فيها من أجزاء ومظاهر وخصائص وجدناها مليئة بالحوافز والاستعدادات. والاستعدادات للتكامل الإنساني والحوافز على طلبه والحصول عليه.
وحتى نمو الإنسان الطبيعي والأجهزة الكثيرة التي تعمل له، والطاقات الكبيرة التي تنفق فيه إنما هي إعدادات لتلك الغاية.
فإذا كان الدين هو المنهاج الذي ينال الإنسان به رشده ويستكمل به غايته فهو دون شك متم هذه النعم لأنها لن تستكمل فعليتها إلا يوم اتباعه.
الدين متم هذه النعم بمعنى أن تشريعه يضم نعمة كبيرة إلى أعدادها الكثيرة.
الدين متم هذه النعم بمعنى أنه السبيل الذي تبلغ به نهايتها.
وبعد أن يستحق الدين هذه الصفة، وبعد أن يكون بحق هو المتم لنعمة الله على عبده، فلا محيد من أن يكون تشريع الدين حقاً لله وحده، ولا مساغ لأن يدان فيه لأحد سواه. هذا ما تحوى به الآية أيضاً.أفليس الحق هو ذلك؟.
الله وحده مفيض نعمة الوجود في ابتدائها ولا شريك له في ذلك ولا ظهير له عليه، أفلا يكون من حقه وحده أن يكون مصدر هذه النعمة في استكمالها وأن لا يكون له فيها شريك ولا ظهير؟ والله وحده هو الذي استودع الإنسان نزعة التكامل ومكن له في طبيعته وأعد له قواه ومشاعره، أفليس من حقه وحده كذلك أن يسن له المنهج الذي يتكامل فيه وأن يهديه سبيله ويقيم له دليله.
الدين حق خالص لله فلا يؤخذ إلا منه.
والكمال البشري غاية الله من تكوين الإنسان فلا يرجع في رسم حدوده ولا في تعيين سبيله إلى أحد سواه. هذا ما توحي به الآية الكريمة وهذا ما يجب أن يكون، ألم نقدم جميع هذا مبسوطاً بدلائله؟.
ولست أريد الاستقصاء ففي الآية لفتات أخرى حول الدين وحول الإنسان، وفي القرآن الكريم إيضاحات أخرى لهذه المضامين وفيه آيات جمة تصف الدين بأنه تطهير وتزكية وبأنه إتمام للنعمة وشفاء لما في الصدور.
ينظر العقل المستنير في أي شيء يلقاه من أشياء هذا الكون، فيرى وجود ذلك الشيء متوقفاً على غيره، فإذا نظر إلى ذلك الشيء الثاني وجده كالأول حادثاً معلولاً لشيء ثالث، فإذا ارتقى مع سلسلة الأسباب وجد الحكم مطرداً في كل حلقة منها، وهكذا في كل شيء وفي كل سبب، وكل ذلك محسوس متيقن.
وهكذا يثبت لدى العقل من هذا الاستقراء الشامل، حكم متيقن شامل هو ( أن كل موجود حادث ليفتقر إلى سبب موجد)، وهذا الحكم الاستقرائي المطرد هو قانون السببية أو قانون العلية.
على أن هذا القانون أبين لدى العقل من أن يستعين عليه باستقراء بل وأظهر من أن يفتقر في إثباته إلى برهان، إنه من بدائة الفطرة فلا يرتاب فيه أحد، حتى الأطفال لأول عهدهم بالإدراك.
يسمع الطفل صوتاً فلا يرتاب في أن له مصدراً، ويمد عينيه إلى جهة الصوت يفتش عن مصدره، وينفتح الباب فلا يتردد في أن له فاتحاً. ويظل طامح البصر إليه يبحث عن فاتحه، ويتمادى به الفضول فيسأل عن مبعث ما يراه من حركة، وعن سبب ما يحس به من أمر، وقد تحدثنا عن هذا فيما تقدم.
وكل إنسان ذي شعور يفتح عينيه على هذه الحياة يتسائل في نفسه عن سرها وعن بداءة تكوينها وعن سببها الذي أوجدها يوم كانت، وعن أمور كثيرة تتعلق بها ويمعن في تفكيره، ويطلب من نفسه أو من غيره أجوبة لهذه المسائل ويسميها مشكلة الكون ومشكلة الحياة ثم إما يؤمن بالسبب الأعلى لهذه الكون وإما يلحد، فما الذي يحدوه إلى التساؤل وإلى التعميق في الطلب؟.
إن فراغ النفس من بذور الفكرة وجذورها معناه الغفلة عنها وليس معناه الالتفات إليها ثم الشك في تحققها والنتيجة لذلك أن يصبح الناس غافلين عنها إلا أن يثيرها لهم مثير.
ما الذي يحدو بالمرء إلى التساؤل ثم الإلحاح فيه لولا قانون السببية الذي يحسه بفطرته؟.
نعم. ذلك القانون الفطري هو البذرة الأولى للفكرة، ثم إما تؤكده للإنسان نظرة تفصيلية في مشاهد الكون فيؤمن، وإما يعارضه هوى مخالف في النفس فيلحد.
وحلق العلم وتوالت كشوفه وتتابعت خطواته، في الطبيعة، وفي الفلك وفي الأرض. وفي المعادن. وفي الجماد. وفي النبات. وفي الحياة. وفي الأحياء. وفي الإنسان وفي مختلف جهات الإنسان، وفي عناصر هذه المركبات، وفي طاقاتها، وفي الدقائق التي تأتلف منها العناصر. والوحدات التي تتكون منها الطاقات. وفي كل ما تناله التجربة وتبلغه الآلة.
وكشف قوانين تدبر هذه المكونات وقوانين تشد بعضها ببعض. وقوانين تحفظ علاقات بعضها ببعض، وما هذه الخطوات وما هذه الكشوف إلا اطراد لقانون السببية أو اطراد لقانون الغائية.
وكم أنبتت المشاهدة العلمية أثراً، فقال العلم: لابد هنا من سبب لأن الفرض لا يتم بدونه، ووقفت المشاهدة ووقفت الآلة لأنهما لا يملكان أن يقولا شيئاً، وأصر العلم على قوله، ومر زمان والعلم يقول، والمشاهدة لا تقول. ثم ثبت ذلك للعلم، وثبت للتجربة وثبت للمشاهدة وما قصة اكتشاف الكوكبين (نبتون) و (بلوتو) والسيارات الصغرى الواقعة بين المريخ والمشتري، ما قصص هذه الاكتشافات الفلكية من العلم ببعيد.
وجاء قوم فأنكروا قانون السببية وأنكروا شهادة الفطرة وأنكروا شهادة الاستقراء. أنكروا جميع ذلك لينكروا نتيجة واحدة من نتائجه. هي دلالة هذا الصنع العظيم على صانع أنكروا كل ذلك ثم وقفوا عند شهادة العلم لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا فيه ما قالوا في سواه.
وأخيراً ألجأهم الموقف أن يعترفوا بقانون السببية في جزئيات الكون، في مجالات العلم التجريبي فقط، فيما تستطيع أن تكشفه الآلة ويناله الاختبار. أما الطبيعة ذاتها، وأما المادة التي يقوم بها بناء هذا الكون فلا يجب أن يكون لهما سبب لماذا؟.
لأن السبب الذي يتحدث عنه الأهليون لا يناله الحس، ولا تبلغه الآلة ولا تدركه التجربة، أما إئتلاف المادة وٌيام المكونات فمنشؤه المصادفة.
وليتهم يستطيعون أن يقيموا دليلاً واحداً محسوساً على هذا الاستثناء الغريب، وأقول محسوساً لأنهم لا يدينون بغير الحس على ما يقولون.
وبعد فما أعتى القوانين العقلية على الاستثناء وما أكثر الحقائق التي تستعصي على التجربة، أما المصادفة والاتفاق والتعاليل المضحكة التي ينحدر إليها تفكير الإنسان في هذه المجالات فلها بحوث أخرى من غير هذا الكتاب.
( قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء)(1).
وهذا نهج آخر من التدليل يسلكه القرآن الكريم ليوحد الأرباب في رب ثم ليحصر الأديان في دين.
وكلمة الربوبية في لغة العرب تدل على مزيج من معاني العظمة والرفعة، ففيها معنى السيادة وفيها معنى المالكية وفيها معنى الرعاية والتربية الحكيمة.
والتربية حين يطلقونها يريدون منها تنشئة الكائن وتغذية جسمه وروحه وتنمية مداركه ومواهبه، وتعهده بالتهذيب والتقويم حتى ينمو ويستكمل، وحتى ينال غايته المرجوة من النمو والاستكمال. وإذن فكلمة الرب في الآية تدل على معنى التدبير الحكيم للمربوب بإيتائه النظام التام لكماله التام.
(1) الأنعام: 164.
وشيء آخر وضعته الآية الكريمة موضع التسليم، فلا ينبغي أن يثار حوله جدل، ولا ينبغي أن يسمو إليه ارتياب، فإن العقول أسمى خطراً من أن تمتري في حق أو تجادل في برهان. ذلك الشيء الذي لا ريب فيه أبداً هو أن الله رب كل شيء، فهل فيه مرية؟.
إن هذه حقيقة الحقائق، ودلائلها ملء الكون وملء الأمكان وبعدد ما في هذا الملكوت من ذرة وما فيه من طاقة وما فيه من قانون.
ما في هذا العالم الرحب إلا أثر، والأثر لن يحدث ابداً دون محدث ولن يستقيم دون مقيم، وما في هذا العالم إلا مقدر تستعلن فيه الحكمة، وتستبين فيه القدرة، ثم لا يزايله أثر التدبير والتقدير ما أطرد له البقاء، وما اقتضى له الإبداع.
أفما ترشد هذه الخليقة إلى خالق ثم هذا التدبير إلى مدبر، وهذا الإتقان إلى حكمة، وهذه الدقة إلى علم؟؟.
ثم ألا يدرك أي عاقل متبصر أن للكون وحدة شاملة كاملة في نظمه وفي حركاته وفي مجاريه وفي غاياته؟.
وأخيراً – وقد أتاح العلم للإنسان أن يبصر اشد من بصره، وأن يحس أبعد من إحساسه – فقد وجد أن الوحده الكونية حتى في الذرة التي يتألف منها بناء الكون، وفي النظام الذي يحتويه تركيب الذرة، وفي الطاقة التي يتقوم بها ذلك النظام، والتجاذب الذي يتم به تأليف الكون وتستقيم حركاته وتترابط أجرامه، ثم في هذا التناسق المدهش بين أجزاء هذه المجموعة، الحي منها والجامد، المتحرك منها والساكن، التناسق الذي يكشف عن قانون واحد عام يدبر مجموعة القوانين.
أفليست هذه الوحده المتكاملة دليلاً على وحدة في قوة الإيجاد والتدبير.
أوليس هذا الطابع الواحد الموجود في عامة الأشياء رمزاً إلى صانع واحد؟
والآية الكريمة بعد هذه التوطئة وهذا التوضيح تقول: إذا كان الله هو المدبر لكل شيء في الكون المربي له في كل دور القيوم عليه في كل آن، وإذا كان تدبيره للموجودات كلها على وفق أنظمة دقيقة لا تخطئ، وعلى نهج حكمة صالحة لا تضل، إذا كان الأمر كذلك فلماذا يحاول الإنسان وحده أن يشذ فيبتغي له رباً آخر لم يعهد له الحكمة ومدبراً لا يأمن عليه الضلال؟
أليست التربية في الدين فرعاً من مطلق التربية وإذا كانت كذلك أفلا تكون حقاً خالصاً لله رب كل شيء؟.
أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء؟ هذا تساؤل يتوجه به القرآن إلى العقل المفكر ليوحي إليه أن كل ما سوى الله خاضع ومربوب فلا يصح أن يكون رباً ومدبراً. وإلى المنطق الحر ليعرفه أن إنقياد المرء في الدين لا يسوغ لغير العلة التي يخضع لها في التكوين. وإلى الفطرة الواعية ليقول لها: أن الكون بجملته يجري على سنن واحد ولا يملك الإنسان أن يشذ عن قاعدة الكون: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والارض طوعاً وكرهاَ وإليه يرجعون)(1).
(قل أرأيتكم أن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين . بل اياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)(2) وفي هذه الآية الكريمة يلتفت القرآن لفتته الحازمة إلى هذه النزعة المستكنة في أعماق الإنسان، نزعة التعلق بغيب مجهول، والتوجه إلى قوة مسيطرة عليا يستمد منها التدبير ويسند إليها التقدير.
هذه النزعة القوية التي عصفت بالإنسان منذ عصوره القديمة فلم يستطع إلا أن يتوجه، ولم يملك إلا أن يستجيب، وإن قصر به التفكير فلم يحسن الإستجابة وزاغ به الخيال فلم يفلح في التصوير.
قصر به التفكير فكانت استجابتة عبودية عمياء، وزاغ به التصور فكانت آلهته حجارة صماء.
إلى هذه النزعة القوية الخفيةالتي قال كثير من علماء النفس وكثير من علماء الاجتماع وكثير من مؤرخي الأيان: إنها غريزة من غرائز النفس، وقد دللنا على صحة قولهم هذا في بحث سابق.
إلى هذه الغريزة المؤمنة يلتفت القرآن في هذه الاية ليدل الإنسان على ركيزة الدين من نفسه، وعلى برهان الربوبية من فطرته!!.
يطلب المشركون من الرسول(ص) آية تثبت لهم صدقه في دعوى الرسالة، فبم يجيبهم الرسول على طلبهم هذا!.
وما أعدله طلباً وما أحقهم به لوكانوا يرومون منه تركيز العقيدة وتعزيز الإيمان، وما كان الرسول (ص) ليترك الآية التي تثبت لهم صدقه حتى يطلبوها، فإنه ما أرسل إلا للبلاغ وإلا لإقامة الحجة، ولقد أقام لهم من قبل هذا صنوف البينات وأبان لهم ضروب الحجج وقرعت أسماعهم آيات الكتاب، وهل فوق ذلك من مطمع؟( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون)(3) (الله نزل أحسن الحديث كتاباً
(1) آل عمران: 83.
(2) الأنعام: 41،40.
(3) العنكبوت: 51.
متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)(1).
إنهم يطلبون من الرسول آية تثبت صدقة بعد كل هذه البينات وبعد كل هذه الدلائل فما معنى ذلك؟ وبم يجيبهم الرسول على طلبهم هذا؟ وأنهم لا يسألونه برهاناً، يرشد العقل، ولا يطلبون منه بينة تركز الإيمان، ولو كانت هذه طلبتهم لكانت لهم فيما أبداه بلغة. بل يحتكمون عليه نزول آية تخرق النواميس وتعجل لهم العقوبة! فبماذا يجيبهم رسول الرحمة على هذا الاقتراح الغريب؟.
سنقول: إن الإسلام في غنى عن اللجوء إلى الخوارق، فما في الكون إلا آية تدل على صدق رسول الإسلام. وما في الكون إلا معجزة تؤيد له دعوته، وسنقول أيضاً: من طبيعة الآيات التي تخرق النواميس إنها تأخذ النفوس بالإيمان أخذاً ودين محمد ينشد الإيمان الحر المكين القائم على الحجة، المرتكز على الاقتناع، الإيمان الحر الذي ينشر به العقل وتمتلئ به النفس.
ولكن ما يصنع لهؤلاء؟ إنهم يطلبون منه آية من هذا النوع الذي يخرق النواميس. وخرق النواميس الكونية ليس أمراً تافهاً ليجاب إليه كل من يتشهاه.
إن الله وضع القوانين الكونية وفقاً لحكمة لا تحيد ولا تضعف، وأطلق حكمها في الأشياء بإرادته وعلمه، ولن يبطل الله قوانينه ولن يخلف حكمته ما لم تعارضها حكمة خاصة هي أجدر منها بأن تراعى وأحرى بأن تطبق، وليس منها البتة هذه الإقتراحات البليدة التي يتنهاها العابثون.
وخرق النواميس آية حاسمة لا نظرة معها ولا مهلة، فإما الإيمان بعدها وإما الدمار.
ذلك أن المصر على الكفر بعد هذه الآيات مصر على عناد، وقلبه قلب موبوء لا يرجى صلاحه ولا تؤمن عدواه، ومن الخير للمجتمع أن يحسم منه هذا العضو.
ولكن ما يصنع الرسول لهؤلاء، إنهم طلبوا منه ذلك، وأصروا عليه إلا أن يكون:(وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه؟....)(2) هذا هو سياق الآية الكريمة.
وها هنا، وفي معرض اقتراحهم الغريب، وفي مجال طلبهم نزول آية تحيق بهم يلتفت القرآن لفتته الحكيمة فيصور لهم دهشتهم في موقفهم الذي يطلبون ويخلص من ذلك إلى الدليل الفطري الذي يؤثر، إلى الدليل الذي لا يرتاب فيه إنسان ولا يغيب عن وجدان.
أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله؟.
(1) الزمر: 23.
(2) الأنعام:37.
بهذه الجملة القصيرة ينقلهم إلى الوقف المرعب، وإنها لجملة تحضر في القلب الواعي كل ما للفزع والرعب من حدود.
أتاكم عذاب الله. والإضافة وحدها تجهر بما لهذا العذاب المطل من نكال وبطش، إنه العذاب الساحق الماحق،... إنه عذاب الله وكفى... عذاب الله المقتدر المنتقم الذي لا يقاوم غضبه كما لا تحد رحمته. نعم. وكفى. ذعراً وكفى هؤلاء أن يكون الموقف مما تحتجب فيه رحمة الله ويضيق واسع حلمه ويوصد باب عفوه!!.
ولا يخفف من الرعب أنه فرض اقتضاء عرض الحديث، ولا يهون من شدته أنه تقديم استدعته إقامة الدليل، لأنه عذاب الله لا يأمنه مستطيل عليه بشرك أو متمرد على ربوبيته بجحود.
ها قد وقع الأمر، وحقت الكلمة. وأنزلت الآية. وتدلى العذاب.
ها قد وقع الأمر. وأخذتكم الصيحة بغتة، وانقطع رجاؤكم من النجاة، وانبتت آمالكم من المجير، ويئست عقولكم من الحيلة وعجزت قواكم عن المكافحة.
ها قد حل ما تستعجلون، وحاق بكم ما كنتم به تستهزؤون.
وإذا كنتم لا تزالون في فسحة فهبوا الأمر كذلك. هبوا العذاب قد حل فأدهشكم هوله، وأخذتكم غاشيته. أو هبوا قد أتتكم الساعة، ألكم من الساعة مهرب؟ هبوا أنها قد دنت وتفاقمت خطوبها ووقعتم في مضائقها.
أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله أحداً تدعون لكشف هذه الشدائد وتفريج هذه الغمم؟.
ألستم في هذه المضائق تفزعون إلى قوة قادرة قاهرة توقنون أنها تسيطر على هذا الملكوت وتهيمن على تدبيره وتنتهي إليها سلسلة أسبابه؟ أليست الفطرة تفزع بكم خاشعين إلى هذا الموجود الأعلى تجأرون إليه بالدعاء، وتنزلون به الرجاء؟.
ألستم تشعرون بسبب متين يشدكم إلى أعلى إذا تقطعت بكم الأسباب، وبسند قوي يثبت رجاءكم إذا انهارت منكم الآمال؟ أليس هذا هو حكم الفطرة ساعة تستقل بالحكم؟ والفطرة تستعلن أحكامها في أمثال هذه الآزق(1).
(1) وقد ورد في الأثر الشريف أن رجلاً قال للإمام الصادق عليه السلام يابن رسول الله(ص) دلني على الله فقد أكثر على المجادلون وحيروني، فقال له يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال نعم. قال فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك. قال نعم. قال فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال نعم.قال عليه السلام فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجى وعلى الإغاثة حيث لا مغيث.
( الباب الرابع من كتاب معاني الأخبار للشيخ الصدوق القمي ره).
فلماذا ترشدكم الفطرة ثم تضلكم الفكرة؟!.
هذه القوة العظمى التي تؤمن بها الفطرة وتتجه إليها الغريزة حتى عند أبعد الناس عن الحضارة، وأقربهم إلى حياة الغابة، هذه القوة هي الإله الحق، وتشريعه العادل لتدبير الإنسان هو الدين الصواب، والاعتراف به والانقياد لشريعته هو الإيمان الصحيح، وهذه الأمور البدهية الناصعة هي ما يدعو إليه محمد(ص) في دينه، فهل في صدقه ريب لمرتاب؟.
ولأمر ما أودعت هذه الركيزة في أعماق الإنسان. إنها أودعت فيه لتحفزه على التوجه إلى الله ولتدفع به إلى التفكير فيه، فما يكون له بعد أن يغفل وما يكون له أن يغضي، وما يكون له أن يعتذر، وكيف يغفل وكيف يغضي ومبدأ الفكرة (الإلهية) مطوي بين جوانحه، ودليلها القوي البسيط مطبوع في قرارة نفسه، ولولا هذا الباعث الذاتي إلى التوجه والطلب لأمكنت له الغفلة ولصح منه العذر، ولكنها حكمة الخلق تمهد لحكمة الدين.
هكذا يستبطن الإسلام خفي الغرائز وكامن النزعات ليفهم الإنسان كيف يستخلص عقيدته من صريح الفطرة، ثم يبني عمله على خالص العقيدة.
مالي ولهذا النوع من الحديث يستدرجني إليه من حيث لا أدري، ويصرف قلمي نحوه من حيث لا أعلم؟ وقد أوعدت القارئ العزيز أن لا أتبسط. فلأعد إلى نواحي الإسلام الأخرى، أما هذا البحث فأرجو أن يكون موضوعاً لحديث خاص عن ( التوحيد في القرآن) أقدمه للقراء إذا أمدني الله سبحانه بالمعونة والتوفيق.