قال الله تعالى في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الجمعة:٨) صدق الله العلي العظيم.
أصحاب الحسين عليه السلام والموت للحياة
قال الله تعالى في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الجمعة:٨) صدق الله العلي العظيم.
أقسام الموت:
لا يمتري أحدنا أنه سيموت، غير أنّ الموت على أقسام متعددة:
الأول: العادي الطيبعي.
ونقصد به الموت الذي لا يقترن بأمور ترفع مستوى الميت أو تحط من قدره كموت أكثر الناس.
الثاني: غير طبيعي.
يموته بعض الناس ليتسافل به أو يعلو رتبة بموته، ولا يشمل موت بعض المجرمين على الظلم، فإنه يندرج في الطبيعي بل يراد به الموت الذي يقدم عليه بعض الناس لله تعالى، أما ما يخطبه بعض الطغاة من أجل الدنيا عندما يقاوم إلى آخر نفس من حياته، ويموت متسافلاً، لأنه لا يذود عن عز، وإنما لمطامع مادية كعمر بن سعد فقد دخل الحرب من أجل أن يحصل على ملك الري، وخاطر بحياته لذلك، وسار في طريق الموت متسافلاً.
موت الرفعة
الموت للتعالي يشترك مع الموت للتسافل، كل منهما يُخطب ويُخطى لتحصيله، فموت التعالي يشتريه المرء ويخطو نحوه كالأنبياء والرسل والأوصياء والشهداء موتهم من أجل قيم ومبادئ، ولعل ما ورد في بعض الروايات ‹‹ما منا إلاّ مسموم أو مقتول››(بحار الأنوار للمجلسي ج27 ص217) يشير إلى ذلك، أي أنهم ع لا يموتون طبيعياً لكونهم يذودون عن الحق وأعداء الله تعالى يغتالونهم لذلك.
خصائص موت العلو
إنّ أكثر الناس يخاف الموت للعلو، وقلة منهم تكاملت عقولهم ووصلوا إلى مستوى يدركون به أنّ المآل إلى الموت، وإنّ المرء وإنْ عاش طويلاً فمصيره الموت، ولابد أن يستعد له، ويتأهل للتضحية والفداء عن مبادئه، ويقاوم الإغراءات ليموت للعلو، إنّ الموت للعلو تصحبه في الأعم الأغلب إغراءات كبيرة بالأموال والمناصب غير أنّ من سار في طريقه يعلم بأنّ ذلك لن يدوم، فيرجح موت الشرف والعزة ويموت ليحيى ويحيي غيره.
الموت للحياة
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }(آل عمران:169) أي أنّ من يموت في سبيل الله تعالى فهو حي عند ربه مرزوقاً، والكلام ليس في مراتبه المعنوية في عالم الآخرة، بل السير في الصراط المستقيم (العبودية لله تعالى)، ليحصل العابد على مزيد الثواب، وقد بينت ذلك الروايات موضحة أنّ المؤمن لا ينبغي أن يتمنى الموت، لأن بقاءه مصلحة لما يحصل عليه من الأجر والثواب فيتعالى معنوياً، والهدف من البقاء في الحياة الدنيا في المنظور الإسلامي هو الرقي المعنوي والأجر الكبير، وليس الاستمتاع بلذات الدنيا، لأنها فانية، ومهما طال الأمد ستتلاشى منتهية، ويدرك العاقل ذلك، نعم؛ من لا يؤمن بدين قد يصعب عليه فهم ذلك إلا أن من يؤمن بالأديان السماوية يعلم أن المآل إلى الله تعالى، والهدف من الحياة الدنيا أن نزداد قرباً منه تعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ*مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}(الذاريات:56-57) أي ليعرفون فيتكاملون.
كيف يكون الموت للحياة
الموت للحياة يحقق ما يطمح له الإنسان، ويختزل عليه المسافات الطويلة، ويرى آثاراً لموته ليست بالحسبان، وقد كان أصحاب الحسين عليه السلام كذلك، بل أنهم وصلوا إلى رتب معنوية لم يصل إليها من تقدمهم ولم يلحق بها من تأخر عنهم، وكي يتضح ذلك نشير إلى أن الإنسان إذا اشترك في سبب من الأسباب، فإن ما يترتب من مسببات تعود إلى ذلك السبب، فمن بنى مسجداً أو أوجد صدقة جارية، فكل ما يترتب من الخيرات فهو شريك فيه، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وآله: ‹‹إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به، وصدقة جارية››(مستدرك الوسائل للنوري ج12 ص230) لأنه أسهم في إيجاد خيرات، هو السبب، والخيرات مسببات ترتبت على عمله، فيعود له الخير الكبير والأجر الجزيل، من هنا نعلم السر في قوله صلى الله عليه وآله: ‹‹لضربة علي لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين››( موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج1 ص213 )، لأن كل من يدين بالإسلام مسبب عن تلكم الضربة، ولولاها لانتهى الإسلام، فضربته عليه السلام هي السبب الأساس، وجميع الطاعات يرجع فضلها إلى علي عليه السلام لأنه أنهى تلك القوة الغاشمة التي كادت أن تودي بالإسلام.
إدراك فناء الدنيا
إن أصحاب الحسين عليه السلام ضحوا بأنفسهم مدركين بأن الدنيا تتلاشى منقضية، وتنتهي فانية، ولن يبقى لها وجود بنحو كلي، وسيعود جميع الخلق إلى الله تعالى، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}(إبراهيم:48) عندئذٍ لن يبقى أحد، وسينتقل الجميع إلى الآخرة.
يعلمون بمناياهم
إن أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته تجلت لهم حقيقة الموت للحياة، وظهر ذلك في كلماتهم، فعندما استرجع الحسين عليه السلام بعد أن خفق عليه السلام وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: ‹‹"إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين" ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين فقال: مم حمدت الله واسترجعت؟ قال : يا بني إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرس وهو يقو : القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا›› (بحار الأنوار للمجلسي ج44 ص379)، إن علي الأكبر يفهم رسالة الحسين عليه السلام، فهو ابن مدرسته، ومنطق الحسين عليه السلام هو منطق الأكبر عليه السلام، فقال لأبيه:يا أبه، لا أراك الله سوءً ألسنا على الحق؟ قال : (بلى والذي إليه مرجع العباد) قال: فإننا إذن لا نبالي أن نموت محقين"، أي إن جاءنا الموت أو قدمنا إليه، لأننا محقون.
لا يكترثون بالموت
إن الأكبر عليه السلام يشرح معنيين:
الأول: أن السائر في جادة الصواب إذا وقع عليه الموت فهو في حالة مرضيّة لله تعالى، لكن الأعظم منه من يشتري الموت ويخطبه، أوقعنا على الموت؟
متى يكون الموت عزة وكرامة
أنفسنا مصطلمة للموت، وحري بنا أن نموت في سبيل الله تعالى، ‹‹فإننا إذن لا نبالي أن نموت محقين›› تعبير رائع وجميل، فقد اشترينا الموت وخطبناه لنموت بعزة وكرامة، من هنا فكل ما يترتب من آثار فالأكبر عليه السلام شريك فيها.
سر تلذذ أنصار الحسين عليه السلام بالموت
وقال بعض أصحاب الحسين عليه السلام كمسلم بن عوسجة: "أنخلي عنك ولما نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقك؟! أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً"(الإرشاد للمفيد ج2 ص92). إنهم يشرحون معادلة الموت للحياة، ويريدون أن يموتوا في سبيل الحق للذود عن الكرامة، وتحقيق أهداف إلهية، هي أهداف رسالات السماء، إن الإنسان لو مات أكثر من مرة في سبيل تلكم الأهداف لاستحق أن يبذل جهداً كبيراً ويتحمل العناء في سبيل تحقيقها، كيف وهو لا يموت إلا مرة واحدة.
تميز أصحاب الحسين عليه السلام
لقد أشارت بعض الروايات إلى أفضليتهم على الإطلاق وأن من تقدم عنهم لن يصل إلى رتبتهم، ومن تأخر عنهم لن يلحق بهم، قال عليه السلام: ‹‹أما بعد فاني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً››(بحار الأنوار للمجلسي ج44 ص392–393)، وأصحاب الإمام المهدي عليه السلام رغم ما لهم من فضل لوجود إشكاليات كبيرة في زمانهم غير أنّ الظروف مختلفة بين أصحاب الحسين عليه السلام وأصحاب الإمام المهدي عليه السلام ذلك أنهم يذودون عن مبادئ يعلمون أنه سيتحقق انتصار لها، أما أصحاب الحسين عليه السلام فهم مدافعون عن مبادئ فقط، يعلمون أنه لن يترتب على دفاعهم قيام دولة، وليس إلاّ الموت فحسب، والأمر مع أصحاب رسول الله عليه السلام وأصحاب الرسل والأنبياء والأوصياء عبر التأريخ كذلك، أي هناك احتمال للنصر لديهم، أما أصحاب الحسين عليه السلام فلا يوجد ذلك مع إغراءات كبيرة بالأموال والمناصب لكنهم آثاروا الله تعالى والدار الآخرة.
استشهاد أصحاب الحسين عليه السلام للقيم الإلهية
إنّ المنظور لأصحاب الحسين عليه السلام هو الذود عن قيم إلهية، قصدهم أن يموتوا دون الحسين عليه السلام لأنه يجسد الفضيلة والسداد، ومبادئ الرسالات السماوية، وقد جاء ذلك في
أراجيزهم وكلماتهم، قال العباس عليه السلام:
والله إن قـطعـتم يـميني إني احامي أبدا عـن ديني
وعن إمام صادق اليقـين نجل النبي الطاهـر الأمين
وحتى من دخل الإسلام تواً كبعض النصارى أراد أن يذود عن المبادئ التي يجسدها الحسين عليه السلام، واللافت في الأمر أنّ بعض من يعادي علياً والحسين عليه السلام كبعض الخوارج تأثر بالحسين عليه السلام، وعلم أنّ ما طرحه الخوارج من قولهم "لا حكم إلا لله" يتجسد في الحسين عليه السلام، فهو عليه السلام الذي يذود عن الحكم الإلهي، فقد سقطت الأقنعة، وعُلم بأنّ الأمويين يحاربون رسالات السماء، وأنّ الحسين عليه السلام يرفع مبادئ العدل والحرية وسيادة القانون والشرف والعزة، لذا تأثر بعض الخوارج به عندما انكشف القناع وتحول إلى مدافع عنه عليه السلام، بل أنّ من كان أموياً في التوجه كزهير بن القين (عثماني الهوى) تأثر بذلك، نعم؛ هناك تعدد مشارب لدى أصحاب الحسين عليه السلام لكن الجميع استشهد بعزة وشرف لذلك خلدوا.
كيف نستلهم الخلود من قضية كربلاء
إنّ جميع ما تحقق من خيرات يرتبط بثورة الحسين عليه السلام، قال بعض العلماء: "كل ما عندنا من الحسين يشير إلى هذا المعنى" ذلك أنّ تعلم مبدأ القدوة والتضحية والإيثار بهذا المستوى استلهام من مدرسة الحسين عليه السلام الثرة بالعطاء، وقد يقال إنّ الحسين عليه السلام معصوم لا يقاس به أحد، غير أنّ كلامنا في التأسي به، وقد كان في كربلاء طيف متعدد منهم من تربى عند علي عليه السلام وله تأريخ طويل كحبيب وبرير، وهما من العلماء والشخصيات المؤمنة لكن الأمر لا ينحصر بهما فهناك الخارجي والأموي والنصراني لكنهم اختزلوا المسافة، وصنعوا ملحمة خلود، ومات كل منهم لا ليحيي نفسه فقط بل لتحيى أمم متعلمة من هذه المدرسة بأنّ الإنسان بإمكانه أن يختار الحق وإنْ لم يكن من أول حياته سائراً على طريق الرشد والسداد، فيمكن لغير السوي في سلوكه أن يشتري الموت لله تعالى فيموت للذود عن المبادئ، ويختار طريق الرشد والهدى ليحلق صاعداً فيصنع ملحمة خلود وحياة للأجيال القادمة كأصحاب الحسين عليه السلام.