.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

 
 
 

الحَديث السَادِس وَالعشرون

"طالب العلم"

[ 443 ]

بالسَّنَد المتّصل إلى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكلينيِّ، عن محمّد بن الحسن وعليِّ بن محمّد، عن سهل بن زياد ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، جميعاً عن جعفر بن محمَّد الأشعريِّ، عن عبد الله بن ميمون القدّاح، وعليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن القدّاح، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ سَلَكَ طَريقاً يَطْلُبُ فيهِ عِلْماً سَلَكَ اللهُ بِهِ طَريقاً إلَى الْجَنَّةِ، وَإنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَها لِطالِبِ الْعِلْمِ رِضاً بِهِ، وَإنَّه يَسْتَغْفِرُ لِطالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السماءِ وَمَنْ فِي الأرضِ حَتَّى الحوتُ في الْبَحْرِ. وَفَضْلُ الْعالِمِ عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلى سائِرِ النُّجومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبياءِ، وَإنَّ الأنْبياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهماً وَلِكْن وَرَّثوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أخَذَ مِنْهُ أخَذَ بِحَظٍّ وافرٍ"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، ح1.

[ 444 ]

الشرح:

إعلم أن ألفاظ هذه الرواية لا تحتاج إلى الشرح، ولكننا نشرح هذه الصفات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضل طالب العلم والعلماء، ضمن فصول. وعلى الله التكلان:

فصل

في بيان أن من سلك طريق العلم جعله الحق المتعالي

من السالكين لطريق الجنة

لابد من معرفة أن العلوم بصورة كلية تنقسم إلى قسمين:

أحدهما: العلوم الدنيوية التي هدفها الوصول إلى المآرب الدنيوية. على أساس أن النية قد تكون الأنانية وقد تكون إلهية.

والآخر: العلوم الأخروية التي يقصد منها البلوغ إلى المقامات والدرجات الملكوتية والوصول إلى المراتب الأخروية. وقد تقدمت منّا الإشارة إلى أن الفرق بين القسمين يكون على أساس النية والقصد غالباً، وإن كانت هذه العلوم في نفسها تنقسم إلى نوعين. ويكون المقصود من هذا العلم في هذا الحديث حسب الآثار المذكورة لطلب العلم وللعلماء في هذه الرواية، هو النوع الثاني علم الآخرة. وهذا واضح.

وتقدم منا أيضاً الحديث بأن جميع العلوم الأخروية لا تخرج عن إطار الحالات الثلاثة

[ 445 ]

وهي أنها: أما من قبيل العلم بالله والمعارف الإلهية، أو من قبيل علم تهذيب النفس والسلوك إلى الله، أو من قبيل علم الآداب وسنن العبودية. ونقول هنا بأن تعمير نشأة الآخرة يرتبط بهذه الأمور الثلاثة. وعليه تكون الجنة أيضاً منقسمة إلى جنات ثلاثة:

أحدها جنة الذات وهي التي تكون غاية العلم بالله والمعارف الإلهية. وثانيها جنة الصفات وهي نتيجة تهذيب النفس وترويض الروح. وثالثها جنّة الأعمال وهي صورة أداء العبودية وآثارها، وهذه الجنات لا تكون معمورة ومشيّدة.

وكما أن أرض جنة الأعمال قاع ـ مسطّحة ومستوية ـ فكذلك أراضي النفس في بدء الأمر مستوية ولا شيء فيها. ويكون عمرانـها تابع لعمران النفس.

وإذا لم يُعمّر مقام الغيب للنفس بالمعارف الإلهية، والجذبات الغيبية الذاتية، لم تحصل للإنسان جَنَّة الذاتَ وَاللِّقاءِ. وإن لم يهذّب الباطن، ولم يتحلّ الداخل، ولم تقوّ الإرادة والعزم ولم يكن القلب محل تجلٍّ للأسماء والصفات، لم تكن جَنَّةُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفات التي هي الجنّة المتوسطة، للإنسان. وإن لم ينهض الإنسان بالعبودية، ولم تتطابق أعماله وأفعاله وحركاته وسكناته مع أحكام الشريعة، لم يحصل على جَنَّةِ الأَعْمال التي (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ)(1).

وبناءاً على هذه المقدمة الموافقة للبراهين الفلسفية، وذوق أهل العرفان، وأخبار الأنبياء والأولياء عليهم السلام، والمستفادة من القرآن الإلهي الكريم، يتبين أن العلوم في أي مستوى كانت: سواء كان علم المعارف أو غيره فهي السبيل للوصول إلى الجنة التي تتناسب مع ذلك العلم، وسالك سبيل كل علمٍ، سالك لطريق من طرق الجنة.

 وقد ذكرنا سابقاً بأن العلوم بصورة عامة، طريق إلى العمل، حتى علوم المعارف إلاّ أن الأعمال التي تنجم من علم المعارف، هي أعمال قلبية، وجذبات باطنية، وتكون نتيجة تلك الأعمال والجذبات وصورها الباطنية، صورة جنة الذات

ـــــــــــــــ

(1) سورة الزخرف، آية: 71.

[ 446 ]

واللقاء. إذن: سلوك طريق العلم، سلوك طريق الجنة ـ العلم طريق إلى الجنة ـ ، وطريق الطريق، طريق أيضاً.

[نكتة مهمة]

والسر في قوله عليه السّلام:سلك الله به إلى الجنَّة حيث نسب إلى العبد، السلوك العلمي ـ من سلك طريقاً يطلب فيه علماً ـ والى ذاته المقدس الحق، السلوك إلى الجنة ـ سلك الله به إلى الجنة ـ لأجل أنه في مقام الكثرة رجّح طلب العبد العلم، وفي مقام الرجوع إلى الوحدة، رجّح طرف الحق. ولولا هذا التوجيه، لاستطعنا من جهة أن نقول: يُنتسب أيضاً إلى العبد السلوك إلى الجنة (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا)(1). (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)(2). كما نستطيع من جهة أخرى أن ننسب السلوك إلى العلم أيضا، إلى الذات المقدس وأنه من تأييده وتوفيقاته. (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(3).

ولمحقق الفلاسفة، وفخر الطائفة الحقة صدر المتألـهين ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في هذا المقام شرح يبتنى على ذلك، وهو أن نفس إدراك الملائم والمنافر، جنة ونار، وأن العلوم مما يلائم النفس، والجهل مما تنفر منه.

وهذا الرأي مخالف لنظريته، المذكورة في الكتب الحكيمة عند ردّه على الشيخ الغزالي، حيث يذهب ـ الشيخ الغزالي ـ إلى أن الجنة والنار، عبارة عن اللذات والآلام الحاصلة في النفس، ويجحد وجودهما ـ الجنة والنار ـ الخارجيين، حسب ما ينقل عنه. وهذا المذهب، مضافاً إلى أنه مخالف لبرهان الحكماء، مغاير لأخبار الأنبياء، والكتب السماوية، وضرورة الأديان بأسرها. فنهض ـ صدر المتألـهين ـ الفيلسوف العظيم الشأن، للإجابة عليه، وإبطال تصوره، ولكنه ـ صدر المتألـهين ـ قد ذكر في المقام ما يضاهي المنقول عن الشيخ الغزالي، رغم رفضه وإنكاره لمسلك الغزالي. وعلى أي حال هذا الكلام ـ مذهب صدر

ـــــــــــــــ

(1) سورة الكهف، آية: 42.

(2) سورة الزلزلة، آية: 7 و8.

(3) سورة النساء، آية: 78.

[ 447 ]

المتألهين ـ ليس بصحيح عندي ولكن لا يتناسب مع حجم الكتاب عرض أكثر من هذا المقدار من البحث.

فصل

في بيان أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم حتى يطأ عليها

إعلم أن ملائكة الله على أصناف وأنواع كثيرة كلهم جنود الحق المتعالي، ولا يعلمهم أحد إلا الذات المقدس علاّم الغيوب (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ)(1).

صنف منهم ملائكة مهيّمون ـ عاشقون ـ مجذوبون، لا يلتفتون نـهائياً إلى عالم الوجود، ولا يعرفون بأن الله قد خلق عالماً أم لا، وإنما هم مستغرقون في جمال الحق وجلاله، ومنصهرون في كبرياء ذاته المقدس. ويقال بأن كلمة(ن) المباركة في الآية الشريفة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)(2). إشارة إلى هذا الصنف من الملائكة.

وصنف آخر منهم، ملائكة مقربون ومن سكان الجبروت الأعلى، وهم أنواع كثيرون ولكل منهم شأن وتدبير في العالم لا يكون لغيرهم من الملائكة.

وطائفة ثالثة ملائكة عالم الملكوت الأعلى والجنات العُليا، على مختلف أصنافهم وتشتت أنواعهم.

وطائفة رابعة ملائكة عالم البرزخ والمثال.

وطائفة خامسة الملائكة الموكّلون على عالم المُلك والطبيعة، حيث يتولّى كل منهم أمراً ويدبّر شأناً، وهذا القسم من الملائكة المدبرين في عالم الملك، غير الملائكة الموجودين في عالم المثال والبرزخ. كما هو مقرر في محلّه، ومُستفاداً من الأخبار أيضاً.

ولابد من معرفة أنه لا توجد أجنحة وريش وأعضاء أخرى للملائكة بجميع أصنافها، فإن الملائكة المهيمنين حتى سكان الملكوت الأعلى منزهون

ـــــــــــــــ

(1) سورة المدثر، آية: 31.

(2) سورة القلم، آية: 1.

[ 448 ]

ومبرأون من هذه الأعضاء والأجزاء المقدارية، ومجردون من المادة ولوازمها ومقدارها وعوارضها. وأما ملائكة عالم المثال والموجودات الملكوتية البرزخية، فمن المحتمل أن تكون في هذه الطائفة من الملائكة، جوارح وأعضاء وأجنحة ورياش وغيرها، ولمّا كانوا من عالم المثال والبرزخ، وكان لهذا العالم كميّة وكيفية، كان لهذه الطائفة قدر خاص، وجوارح مخصوصة وإن قوله تعالى: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا)(1). (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)(2). يرتبط بـهذه الطائفة من الملائكة. ولكن للملائكة المقربين والقاطنين في الجبروت الأعلى، الإحاطة الوجودية القيّومية، فهم يستطيعون، أن يتمثلوا في كل واحد من العوالم بهيئة وصورة تتناسب مع ذلك العالم. كما أن جبرائيل الأمين، الذي هو من المقربين للساحة المقدسة، وحامل الوحي الإلهي، ومن أعلى مراتب موجودات سُكّان الجبروت، كما يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في المثال المقيد دائماً، وفي المثال المطلق، مرتين، وفي عالم المُلك حيناً، وفي عالم المُلك في صورة دحية الكلبي رضيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان أجمل الناس.

ولابد من معرفة التمثّل الملكي للملائكة، لا يكون مثيل الموجودات المُلكية، كي يراها كل سليم الحس والبصر، بل الجانب الملكوتي للملائكة يغلب الجانب المُلكي. ولهذا لا يراهم الناس مع أبصارهم المُلكية، بل رأى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرائيل وهو في صورة دحية الكلبي، بعد تأييد من الحق المتعالي، وأشار من خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هذا المنطلق أن طلبة العلم والمعارف، والمتوجهين إلى الحق والحقيقة، والسالكين لسبيل رضا الله من الأبناء الروحانيين لآدم صفي الله عليه السلام الذين يكونون مسجوداً للملائكة ومطاعاً لتمام دائرة الوجود، هؤلاء يكونون محل عناية ملائكة الله، ورعايتهم وتأييدهم وإنّ مثل هذا المُلكي الذي تحوّل إلى وجودي ملكوتي، وهذا الأرضي الذي أصبح سماوياً قد وطأت أقدامهم، أجنحة

ـــــــــــــــ

(1) سورة الصافات، آية: 1.

(2) سورة فاطر، آية: 1.

[ 449 ]

الملائكة، فإذا انفتحت عين بصيرته الملكوتية والمثالية لرأى بأنه مستقر على أجنحة الملائكة، وإنه يطوي المسافات بفضل تـأييداتـهم.

هذا بالنسبة إلى الذين ـ الأبناء الروحانيون لآدم عليه السلام ـ هاجروا من المُلك إلى الملكوت، وإن كانوا لا يزالوا في الطريق.

وأما الذين، لا يزالون يعيشون في عالم الملك، ولم يطرقوا عالم الملكوت، فمن الممكن أن يكونوا محل تأييد ولطف الملكوتيين، حيث يفترشون أجنحتهم تواضعاً لهم وابتهاجاً بهم وبأعمالهم. كما أشير إلى ذلك في هذا الحديث الشريف وفي حديث(غوالي اللئالئ). عن المقدار ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "سَـمِعْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: إن الْمَلائِكَة لَتَضَعُ أَجْنِحَتَها لِطالِبِ الْعِلْمِ حَتى يَطَأ عَلَيْها رِضاً بِهِ"(1)

فـعلم أن الخطوة الأولى إلى الله وإلى مرضاته، وضع الأقدام على أكتاف الملائكة، والجلوس على أجنحتهم، ويكون هذا الفرش وهذا الافتراش موجودين حتى نهاية مراتب الدراسة، وحصول العلم والمعارف، ولكن الدرجات تختلف، والملائكة المؤيدين لـهذا السالك في سبيل العلم يتبدلون، حسب تبدل المراتب، ويصل مستوى السالك إلى مرحلة، يرفع قدمه من على رأس الملائكة المقربين، ويجتاز عوالماً، ويطوي مراتباً، لا يستطيع أن يدنو منها الملائكة المقربون، بل يبدي جبرائيل أمين الوحي عجزه عن الوصول إلى تلك الدرجات حيث يقول (لَوْ دَنَوْتُ أنْـمُلَةً لاحْتَرَقْتُ)(2) .

فلمّا لم يكن هذا الكلام معارضاً للبرهان، بل يوافقه، فلا داعي إلى تأويله ـ إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ـ ، كما صنع الفيلسوف العظيم، صدر المتألـهين، مع أنه اعترف وأثبت ملائكة عالم المثال، والتمثلات المُلكية والمَلكوتية للملائكة، في كتبه الفلسفية والعملية، مع بيان أنيق يختص به

ـــــــــــــــ

(1) غوالي الئالئ، المجلد الأول، ص106.

(2) بحار الأنوار، المجلد الثامن عشر، ص382.

[ 450 ]

فصل

في بيان أنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض

إعلم أنه قد تقرر في محلّه أن حقيقة الوجود، عين جميع الكمالات والأسماء والصفات، كما أن الوجود الخالص الـمحض عين الكمال الـمحض الخالص. ولهذا حيث أن الحق المتعالي جل شأنه يكون وجوداً صرفاً، فهو كمال صرف، وأنه سبحانه عين جـميع الأسماء والصفات الجمالية والجلالية. وفي الحديث: "عِلْمٌ كُلُّهُ، قُدْرَةٌ كُلُّهُ".

وقد ثبت بالبرهان أن حقيقة الوجود، في المرايا ـ العالَمْ ـ عين جميع الكمالات، وإنه لا يمكن البتة تجريد الكمالات من الوجود، لكنّ ظهور الكمالات، يكون بقدر سعة وضيق الوجود، وصفاء وكدورة المرآة. ولهذا تكون كافّة الكائنات الوجودية، آيات ذاته تعالى ومرآة أسمائه وصفاته. وهذا الموضوع رغم أنه مبرهن عليه، بل قلّما تجد مسألة فلسفية تبلغ مستوى الموضوع المبحوث عنه هنا في الإحكام والقوة، وإتقان الدليل. فهو مطابق لمشاهدات أصحاب الشهود، ومذاق أرباب المعرفة، وموافق مع الآيات الكريمة، وأخبار أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام. كما أشار كتاب الله سبحانه في عدة مواضع، إلى تسبيح الموجودات بأسرها: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)(1)، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(2).

ومن الواضح جدّاً أن التسبيح والتقديس والثناء، يتطلّب العلم والمعرفة لمقام الذات المقدس ـ للحق جل شأنه ـ ، ومن دون العلم والمعرفة لا يمكن التسبيح والتقديس و التحميد.

وقد تولّت الأحاديث بيان هذا الموضوع الشريف بكل صراحة ووضوح لا يقبل أي توجيه وتأويل. ولكن ذوي الحجاب والمحجوبين من المعارف الإلـهية، من أهل الفلسفة التقليدية وذوي الجدل، قد أوّلوا كلام الله، تأويلاً باهتاً، فمضافاً إلى أنه

ـــــــــــــــ

(1) سورة الجمعة، آية: 1.

(2) سورة الإسراء، آية: 44.

[ 451 ]

مخالف لظاهر الآيات الكريمة ونصوص القرآن الكريم، يكون حديثهم بعض الموارد، مثل قصة تكلم النمل في سورة النمل المباركة، مخالفاً للنصوص الكثيرة الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ومخالفاً لبراهين الحكمة القومية أيضاً. ولا يتناسب ذكر البراهين مع مقدماتـها وحجم هذا الكتاب المختصر.

فتسبيح الموجودات للحق المتعالي يكون عن وعي وشعور. وفي الحديث عن الباقر عليه السلام قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي كُنْتُ أنظُرُ إلى الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَأَنَا أرْعاها ـ ولَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إلاّ وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ ـ فَكُنْتُ أنْظُرُ إلَيْها [قَبْلَ النُّبُوَّة] وَهِيَ متمكّنة في الْمَكْينةِ ما حَوْلَـها شَيْءٌ يُهيِّجُها حَتّى تَذْعَرَ فَتَطير، فَأقُولُ: ما هذا؟ وَأعْجَبُ حَتَّى جاءني جَبْرَئيلُ فَقال: إنَّ الْكَافِرَ يُضْرَبُ ضَرْبَةً ما خَلَقَ اللهُ شَيْئاً إلاّ سَمِعَها وَيَذْعَرُ لَها إلاَّ الثَّـقَلَيْنِ(1).

ويقول أهل المعرفة أن الإنسان أكثر الموجودات بُعداً وحجاباً عن الملكوت ما دام هو مُنهمك بعالم المُلك وشؤونه، لأن اشتغاله أكثر من الكل وأقوى، فيكون احتجابه أكثر من الجميع، وحرمانه عن الوصول إلى عالم الملكوت أعظم.

وأيضاً لأن كافة الموجودات ذات وجهة ملكوتية يكتسبون بها الحياة والعلم والشؤون الحياتية (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(2). وهذا دليل آخر لتحقق العلم والحياة في الموجودات بأسرها.

وبعد أن عُلم أن لجميع الموجودات علماً ومعرفة، وأنـها ذات وجهة ملكوتية، ولكن الإنسان بما أنه من جهة ليس في مرتبتها، بل أرفعها وأسماها وبما أنه محجوب من جهة أخرى عن عالم الملكوت، لا يحصل له العلم بحياة الموجودات وشؤونـها، بعد هذا الكلام لا مانع من القول باستغفار كل ما في السماء والأرض للإنسان السالك لطريق العلم، المتوجه إلى الحق المتعالي، الذي هو زبدة عالم الوجود، وولي النعمة لعالم لعالم التحقق، وطلب الكائنات من مقام غفارية الذات المقدس الحق جل وعلا، مع ألسنتهم المقالية، ولهجتهم الصريحة الملكوتية، التي تسمعها الآذان الملكوتية الصاغية، أن يغرق في بحار غفرانه هذا

ـــــــــــــــ

(1) فروع الكافي، المجد 3، ص 233.

(2) سورة الأنعام، آية: 75.

[ 452 ]

النتاج الكامل المُلكي، الذي هو مفخرة الطبيعة، وأن يستر عيوبه جميعاً.

كما أنه لا مانع من احتمال آخر وهو أن الكائنات الأخرى تعلم، بأن الوصول إلى مقام فناء ذات الإنسان المقدس، والغرق في بحر الكمال، لا يتيسر إلا بتبع ذات الإنسان المقدس الكامل العالم بالله، العارف للمعارف الإلهية، الجامع للعلم والعمل ـ كما هو مقرر في محلّه ـ فمن هذه الجهة يسألون الحق سبحانه، الكمال الإنساني، الذي يحصل بالغرق في بحر غفارية الحق، حتى ينالوا بواسطته كمالاتـهم اللائقة بهم ـ والله العالم.

فصل

في بيان أن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر

وهي ليالي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر

إعلم أن حقيقة العلم والإيـمان الذي يتقوّم بالعلم، عبارة عن النور، وهذا الموضوع مضافاً إلى أنه مطابق مع البرهان والعرفان، موافق لنصوص وأخبار أهل العصمة والطهارة عليهم السلام أيضاً. لأن حقيقة النور التي هي عبارة عن الظاهر والمكشوف بالذات، المظهر والكاشف للغير، ثابتة للعلم وصادقة عليه، بل صدق هذه الحقيقة على العلم يكون حقيقياً، وعلى الأنوار الحسية، مجازياً، لأن النور الحسي، لا ظهور ذاتي له في الحقيقة وإنه من تعيّنات ـ مصاديق ـ تلك الحقيقة، وتكون لها الماهية، وأما حقيقة العلم، فهي عين الوجود ذاتاً، وغيره مفهوماً، فهو في حاقّ الحقيقة، وعالم الخارج موافق للوجود ومتحد معه، وتكون حقيقة الوجود عين النور، وعين العلم (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض)(1).ِ فالعلم عين النور. وقد عبّر في الآيات الشريفة عن الإيمان والعلم بالنور(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(2).

وقد فسر(النور) حسب تفسير أهل بيت العصمة عليهم السلام في آية النور المباركة بالعلم، فَعَنْ الصادِق ـ عليه السلام ـ : "اللهُ نورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ" قال:

ـــــــــــــــ

(1) و(2) سورة النور، آية: 35 و40.

[ 453 ]

كَذلِكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَثَلُ نورِهِ قالَ: مُحَمَّدٌ صلَى الله عليه وآله وسلم كَمِشْكوةِ قالَ: صَدْرُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلم فيها مِصْباحٌ قالَ فيهِ نورُ الْعِلْم يَعْني النُّبُوَّةَ الْمِصْبَاحُ في زُجاجَةٍ قالَ: عِلْمُ رَسولِ الله صَدَرَ إلى قَلْبِ عَلِيٍّ ـ الحديث(1)

وَعَنْ الباقِر عليه السّلام أنَّهُ يَقولُ: أنَا هادِي السَّماواتِ والأرْضِ، مَثَلُ الْعِلْمِ الَّذِي أُعْطيتُهُ ـ وَهُوَ النّورُ الّذي يُهْتَدَى بِهِ ـ مِثْلُ الْمِشْكوةِ فيهَا الْمِصْبَاحُ، فَالْمِشْكوةُ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلم، وَالْمِصْباحُ نُورُهُ الَّذي فيهِ الْعِلْمُ"(2).

وفي رواية قال: "فَالْمُؤْمِنُ يَنْقَلِبُ في خَمْسَةٍ مِنَ النَّورِ: مَدْخَلُهُ نورٌ، وَمَخْرَجُهُ نورٌ، وَعِلْمُهُ نورٌ، وَكَلامُهُ نورٌ، وَمَصيرُهُ إلى الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نورٌ"(3).

وورد في الحديث المعروف: "الْعِلْمُ نورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في قَلْبِ مَنْ يَشاءُ".(4).

ولـهذا النور مراتب، حسب مراتب إيـمان وعلم ذوي النور.

ولابد من معرفة أن هذا النور الحقيقي الموجود في قلوب أهل الإيمان والعلم، لمّا كان من أنوار عالم الآخرة، ينير في عالم الآخرة حسب فعالية النفس بالنور الحسّي. وحيث أن هذا النور هو الذي ينير الصراط، يكون نور طائفة مثل نور الشمس وأخرى مثل نور القمر حتى ينتهي الأمر إلى نور يضيء أمام قدميه فقط.

وعندما علمنا بأن العلم نور وظهور، حقيقة من دون شائبة مجاز، لابد وأن نعرف بأننا نحن المساكين الذين ما دمنا نعيش في حجب ظلمات الطبيعة، وفي الليل المظلم من عالم المُلك، نكون محجوبين عن العلم: الشمس الحقيقية، والنور المتزايد للعلم والوعي، ونتصور بأن هذه الكلمات مبتنية على المثال والمجاز و الاستعارة والتخمين والتعبير.

نعم، لمّا كنا في سُبات في هذه الحياة المستعارة، وكان سكر الطبيعة

ـــــــــــــــ

(1) توحيد الصدوق، ص175.

(2) تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 105.

(3) تفسير البرهان، المجلد 3: ص 135.

(4) بحار الأنوار، المجلد الأول، ص225.

[ 454 ]

يداعب رأسنا ولم نفرق بين الحقيقة والمجاز، يترائى أمام رؤيتنا المجازية النور المجازي لأنه في الحقيقة تترائى في عالم المجاز، الحقيقة، مجازاً."النّاسُ نِيامٌ فَإِذا ماتُوا انْتَبَهُوا".

وعندما نفتح أعيننا، نرى العالم نيّراً بمثل ما نرى الشمس والقمر نيرين، فبنوره في هذا العالم، تُضاء القلوب المظلمة، وتُحيي أموات الجهل، وفي ذلك العالم أيضاً نوره يحيط ويشفع، من خلال إحاطته النورية، المقتبسين من مشكاة علمه والمرتبطين بساحة قدسه.

ولابد وأن نعرف بأن العبادة لا تتحقق من دون علم أيضاً، ومن هنا يكون للعابد نور مخصوص به، بل إن نفس الإيمان وعبادة الحق المتعالي من سنخ النور ولكن نور العابد، يضيء لنفسه، وينير تحت أقدامه، ولا ينير للآخرين ولهذا يكون مثلهم مثل النجوم ليلة البدر، حيث تختفي أنوارها أمام نور القمر ليلة البدر، وإنما تضيء لنفسها من دون أن تنفع الآخرين وتسطع لهم. فمثل العابد أمام العالم، لا يكون مثل النجمة في الليل المظلم حتى ينير قدراً من المساحة المحيطة بالنجمة وإنما يضيء بمثل إضاءة النجمة ليلة البدر حيث تكون ظاهرة وغير مظهرة لشيءٍ آخر.

قال صدر المتألهين قدس سره(أن المقصود من العالم في هذا الحديث الشريف غير العالم الرباني ممّن يكون علمه لَدُنيّاً وحاصلاً بواسطة الموهبة الإلهية كما هو شأن علم الأنبياء والأولياء عليهم السلام، ويدل على ما ندعيه تمثيله بالقمر إذ لو كان المقصود من العلم، اللدني منه، لكان من الجدير به أن يمثل بالشمس لأن نورها بإفاضة من الحق المتعال من دون واسطة شيء آخر من نوعه أو جنسه) انتهى كلامه رفع مقامه.

فصل

في بيان أن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام

هذه الوراثة روحانية، وولادة العلماء من الأنبياء ولادة ملكوتية، والإنسان كما يكون حسب نشأته المُلكية والجسمية، وليد المُلك والطبيعة فبعد تربية الأنبياء

[ 455 ]

للإنسان، وحصول مقام القلب له، تكون له ولادة ملكوتية. وكما أن منشأ تلك الولادة المادية، الأب الجسماني، يكون منشأ هذه الولادة الأنبياء عليهم السلام، فيكونوا الآباء الروحانيين، وتكون الوراثة، وراثة روحانية باطنية، والولادة ولادة ثانوية ملكوتية. وتكون التربية والتعليم بعد الأنبياء من شؤون العلماء، الورثة الحقيقيين للأنبياء. إن الأنبياء عليهم السلام حسب هذا المقام الروحاني لا يملكون درهماً ولا ديناراً ولا يلتفتون إلى عالم المُلك والشؤون المُلكية فتَرِكَتُهم حسب هذا المقام الروحاني، لا يكون شيئاً آخر عدا العلم والمعارف وإن كان حسب ولادتـهم ـ الأنبياء ـ المُلكية والشؤون الدنيوية يحتوون على كل الحيثيات البشرية (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(1). وورثتُهم حسب هذا المقام ـ الحيثيات البشرية ـ لا يكونون العلماء، بل أولادهم الجسمانيون الذين يرثون حسب هذا المقام الدرهم والدينار.

وهذه الرواية الشريفة ظاهرة بل صريحة على الوراثة الروحانية كما ذكرناها. ويكون مقصود الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث المنسوب إليه (نَحْنُ مَعاشِرُ الأنْبِياءِ لا نُوَرِّثُ)(1). على فرض صحة صدوره عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ما يرتبط بشأن النبوة والوراثة الروحانية حيث لا يورثون مالاً ولا منالاً، بل يورثون العلم. كما هو واضح. والسّلام.

ـــــــــــــــ

(1) سورة الكهف،آية: 110.

(2) مسند أحمد، ج2، ص463.

[ 456 ]

الحَديث السَابع وَالعشرون

(حضور القلب)

[ 457 ]

بالسَّند المتّصل إلى الشيخ الأجلّ والثّقة الجليل محمّد بن يعقوب الكلينيِّ ـ رضوان الله عليه ـ عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمدَ بن محمّد، عن ابن محبـوب، عَنْ عمر بنِ يزيدَ، عن أبي عبد الله قال: "فِي التَّوراةِ مَكْتوبٌ يَا بْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعبَاَدتِي أملأُ قَلْبَكَ غِنىً، وَلاَ أكِلُكَ إلى طَلَبكَ، وَعَلَيَّ أَنْ أَسُدَّ فَاقَتَكَ وَأمْلأَ قَلْبَكَ خَوْفاً منِّي. وَإِنْ لا تَفَرَّغْ لِعِبادَتِي أَمْلأ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لا أسُدُّ فَاقَتَكَ وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ" (1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، ح1.

[ 458 ]

الشرح:

(تفرّغ لكذا) على وزن تفعّل بمعنى أنفق وقته جميعاً ولم يبق شيء حتى ينشغل بشيء آخر. وتفرغ القلب للعباده، معناه إخلاؤه من الانتباه لأي شيء آخر حتى ينشغل بالعبادة خاصة.

وَمَلأ الإناءَ ماءً وَمِنَ الماءِ وَبِالمَاءِ: وَضَعَ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَأخُذُهُ. وَأكِلُ صيغة مُتَكَلِّم مِنْ يَكِلُ وَكَلَ إِلَيْهِ الأَمْرَ أي سَلَّمَهُ وَفَوَّضَهُ وَتَرَكَهُ إلَيْهِ وَاكتَفى بِهِ. أسُـدُّ صيغة متكلمٍ أيضاً مِنْ سَدَّ يَسُدُّ سَدّاً ومِنْ بَابِ نَصَرَ نَقيضُ الفَتْحِ. الفاقة أي الحاجة والفقر. واملأ قلبك خوفاً مني، الظاهر أنه ـ أَمْلأُ ـ صيغة متكلم لوحده. ويستبعد أن تكون صيغة أمر معطوفة على أول الكلام. ونحن سنذكر ما يتناسب من الشرح والبيان حول هذا الحديث الشريف من فصول ان شاء الله.

فصل

(كيفية حصول التفرغ للعبادة)

اعلم أن التفرغ للعبادة يحصل من تكريس الوقت والقلب بها. وهذا من الأمور المهمة في باب العبادات. فإن حضور القلب من دون تفريغه وتكريس الوقت له غير ميسور، والعبادة من دون حضور القلب، غير مجدية. وما يبعث على حضور القلب، أمران: أحدهما: تفريغ القلب والوقت للعبادة. ثانيهما: إفهام القلب أهمية العبادة. والمقصود من تفريغ الوقت هو أن الإنسان يخصّص في كل

[ 459 ]

يوم وليلة وقتاً للعبادة ويوطّن نفسه على العبادة في ذلك الوقت، رافضاً الانشغال في ذلك الوقت بأي عمل آخر.

إن الإنسان إذا اقتنع بأن العبادة من الأمور الهامّة، وأنها أكثر أهميه بالنسبة إلى الأمور الأخرى، بل لا مجال للمقارنة بين العبادة والأمور الثانية الأخرى، لحافظ على أوقات العبادة وخصص لها وقتاً.

ونحن بعد هذه اللمحة الخاطفة من أهمية العبادة، نشرح نبذة من أهميتها. وعلى أي حال لابد للإنسان المتعبد، أن يوظف وقتاً للعبادة. وان يحافظ على أوقات الصلاة التي هم أهمّ العبادات وأن يؤديها في وقت الفضيلة، ولا يختار لنفسه في تلك الأوقات عملاً آخر. وكما أنه يخصص وقتاً لكسب المال والجاه والدراسة والبحث، كذلك لابد أيضاً من تخصيص وقت للعبادات، حتى يكون خاليا من أي عمل آخر، ويتيسّر له حضور القلب الذي هو بمثابة اللبّ والجوهر. ولكن إذا فرضنا بأن شخصاً مثلي تكلّف من أداء صلاته، ورأى بأن العبادة من الأمور الزائدة، لأجّل صلاته إلى آخر الوقت، ولآتى بها بكل فتور ونقص، لما يرى حين التهيؤ لأداء الصلاة، أن هناك أموراً أخرى في نظره أهمّ منها، وأنها تتزاحم مع هذه الأمور الهامة، فيفضّل غير الصلاة عليها. ومن المعلوم أن مثل هذه العبادة لا نورانية لها، بل تكون مثار سخط الهي، وأنه مستخف بالصلاة ومتهاون في أمرها. أعوذ بالله من الإستخفاف بالصلاة وعدم الاكتراث بها.

وإن هذا الكتاب، لا يسع عرض الأخبار المأثورة في المستخفين بالصلاة. ولكننا سنذكر بعضها للاتعاظ والاعتبار:

عن محمّد بن يعقوب بإسنادِه عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: "لاَ تَتَهَاوَنْ بِصَلاَتِكَ فَإِنَ النَّبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم قالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَيْسَ مِنِّي مَنِ اسْتَخَفَّ بِصَلاَتِهِ، لَيْسَ مِنِّي مَنْ شَرِبَ مُسْكراً، لاَ يَرِدُ عَليَّ الحَوْضَ لا وَاللهِ"(1).

وبإسنادِهِ عن أبي بصيرٍ قالَ: قالَ أبو الحسن الأوَّل عليه السلام: "لَمّا حَضَرَتْ أبِيَ الوَفَاةُ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ لاَ يَنالُ شَفَاعَتَنَا مَنِ اسْتَخَفَّ بالصَّلاَةِ"(2).

ـــــــــــــــ

(1) و(2) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص 269 ـ 270.

[ 460 ]

والأخبار كثيرة في المقام، ويكفي هذان الحديثان لمن يريد أن يعتبر ويتعظ. ويعلم الله وحده حجم المصيبة العظمى الناشئة من الانقطاع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، و الخروج من تحت ظل حمايته كما ورد في الحديثين الشريفين ! كما أن الله يعلم مستوى الخذلان، عندما يُمنى الإنسان بالحرمان من شفاعة رسول الله وأهل بيته العظام !

لا تظن بأن أحدا يرى رحمة الحق سبحانه، ووجه الجنة، من دون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحمايته ورعايته ! والآن أنتبه إلى أن تقديم أي عمل بسيط، بل المصلحة الموهومة على الصلاة التي هي قرّة عين الرسول صلّى الله عليه وآلة وسلم، والوسيلة الرفيعة لنزول رحمة الحق، وأن إهمالها وتأخيرها إلى نهاية وقتها من دون مسوّغ، وعدم المحافظة على حدودها، أليست هذه الأمور من التهاون والاستخفاف بالصلاة؟ فإن كان هذا من التهاون في الصلاة، فاعلم، حسب شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة الأئمة الأطهار عليهم السلام، أنك قد خرجت عن ولايتهم، ولا تنالك شفاعتهم.

إنتبه، إذا أردت شفاعتهم، ورغبت في أن تكون من أُمّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، اهتم بهذه الوديعة الإلهية، وعظّم من أمرها، وإلاّ فأنت تواجه العقاب و العاقبة السيئة. إن الله تعالى وأولياءه في غنى عن أعمالي وأعمالك، فيُخشى أنك إذا لم تهتم بها، أدى إلى تركها وينتهي الأمر إلى جحودها فتصير من الأشقياء المؤبدين والهالكين الدائمين.

والأهم من تفريغ الوقت، تفريغ القلب، بل إن تفريغ الوقت، مقدمة لتفريغ القلب أيضاً، وذلك أن الإنسان لدى اشتغاله بالعبادة، يجرد نفسه من هموم الدنيا وأعمالها، وينقذ قلبه من الأوهام المتشتتة، والأمور المختلفة، ويفرغ فؤاده نهائياً، ويخلّصه مرة واحدة للتوجه إلى العبادة والمناجاة مع الحق المتعالي. ولو لم يفرغ القلب من هذه الأمور، لما حصل لقلبه ولعبادته التفرغ. ولكن شقائنا في أننا نترك كل أفكارنا المتشتتة، وأوهامنا المختلفة إلى وقت العبادة، وعندما نكبّر تكبيرة إحرام الصلاة، فكأننا فتحنا باب المتجر، أو دفتر الحساب، أو كتاب الدرس، ونرسل قلبنا للانصراف إلى أمور أخرى، ونغفل كلياً عن العمل العبادي، وعندما

[ 461 ]

ننتبه للعبادة نجد أنفسنا في نهاية الصلاة !.

وفي الحقيقة إنه لمن الفضيحة أمر هذه العبادة، ومما يبعث على الخجل أمر هذه المناجاة.

عزيزي: اجعل مناجاتك مع الحق سبحانه بمثابة التحدث مع إنسان بسيط من هؤلاء الناس؛ فكيف انك إذا تكلمت مع صديق، بل مع شخص غريب انصرف قلبك عن غيره، وتوجّهت بكل وجودك نحوه، أثناء التكلم معه، فلماذا إذا تكلمت وناجيت ولي النعم، ورب العالمين، غفلت عنه وانصرفت إلى غيره؟ هل إن العباد يُقدَّرون أكثر من الذات المقدس للحق؟ أو أن التكلم مع العباد أغلى من المناجاة مع قاضي الحاجات؟

نعم أنا وأنت، لا نعرف ما هي المناجاة مع الحق سبحانه؟ إننا نرى التكاليف الإلهية كلفة، وفرضاً علينا، ومن الواضح أنه متى ما أصبح شيء ما حملاً ثقيلاً على الإنسان وعلى شؤون حياته، لما أعتبر عنده ذلك الشيء ذا بال وأهميه. إنه لا بد من إصلاح الينبوع، والعثور على الإيمان بالله، وبكلمات أنبيائه حتى يتم إصلاح الأمور. ان كل تعاستنا من ضعف الإيمان ووهن اليقين. إن إيمان السيد ابن طاووس رضي الله عنه، يدفعه للاحتفال بيوم بلوغه، لأن الحق المتعال قد رخّص له بالمناجاة، وزيّنه بزينة التكليف والخطاب. فلاحظ بكل دقه أيّ قلب هذا الذي يحمل هذا القدر الكبير من النور والصفاء. إذا لم يكن عمل هذا السيد الجليل حجة لك، فعمل سيد الموحدين وأولاده المعصومين حجة عليك، فتأمل في حياتهم وكيفية عباداتهم ومناجاتهم، حيث كان لون وجه بعضهم يتغير لدى حلول وقت الصلاة، وتضطرب فرائصه خشية أن يخطأ في الواجب الإلهي، رغم أنهم كانوا معصومين.

اشتهر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن سهماً قد أصاب قدمه المبارك، فلم يستطع أن يتحمّل ألم انتزاعه من رجله، فقام وصلى وفي أثناء اشتغاله بالصلاة، انتزع السهم ولم ينتبه أصلاً.

عزيزي: إن هذا الموضوع ـ عدم إدراك الألم حين التوجه إلى شيء ـ ليس من الأمور الممتنعة، فإن له أمثلة كثيرة في الأمور العادية من حياة الناس. إن

[ 462 ]

الإنسان عند هيجان الغضب أو المحبة، يغفل عن كل شيء. قال أحد أصدقائنا الموثوقين(عندما اصطدمت مع جمع من الأوباش في مدينة أصفهان، تصورت في أثناء المعركة وضربهم لي بأنهم يضربونني بأيديهم ولم أفهم أكثر من ذلك، وبعد أن وضعت المعركة أوزارها، علمت بأنهم قد طعنوني بالسكين طعنات، وطرحوني في فراش المرض لأيام) ووجه ذلك معلوم أيضاً، فإن النفس عندما تلتفت بصورة تامّة إلى شيء تغفل عن مُلك البدن، وتتوقف القوى الحسيه عن العمل وتتحّول الهموم إلى همّ واحد. إننا نشعر بأنفسنا حين السجال في الكلام والجدال في البحث ـ نعوذ بالله ـ بالغفلة عما يحدث في المجلس. ومع الأسف إننا نتوجه نحو كل شيء توجهاً تاماً، الا نحو عبادة الله، ولهذا نستبعد مثل هذا التوجه الكامل في العبادة نحو الله سبحانه.

وعلى أي حال إن تفريغ القلب من غير الحق يعدّ من الأمور المهمة، التي يجب على الإنسان أن يحققها مهما كلف الثمن، والسبيل إلى تحصيله ميسور وسهل‏، فمع قدر قليل من الانتباه والمراقبة نستطيع أن ننجزه ونحققه.

يجب على الإنسان الذي يريد السلوك إلى الله من إمساك الخيال فترة من الزمان، وإلجامه عندما يريد أن يتحول من غصن إلى غصن آخر ـ ويتشتت ـ وبعد مضي فترة من المراقبة، يُدَجَّن الخيال ويهدأ وتزول عنه حالة التشتت ويصير الخير من عادته ـ والخير عادة ـ فينصرف فارغ البال إلى التوجه نحو الحق والعبادة.

والأهم من كل ذلك والذي يجب أن نجعل الأمور الأخرى مقدمة له، هو حضور القلب الذي هو روح العبادة، والذي ترتبط به حقيقة العبادة، ومن دونه لا يكون له أهمية، ولا تقع مقبولة في ساحة المتعالي، كما ورد في الروايات الشريفة:

في الكافي: بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنَّهُما قالا: "إنّما لَكَ مِنْ صَلاَتِكَ مَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَإِنْ أَوْهَمَها كُلَّها أوْ غَفَلَ عَنْ آدَابِهَا لُفَّتْ فَضُرِبَ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا"(1).

ـــــــــــــــ

(1) فروع الكافي، المجلد الثالث، ص 363.

[ 463 ]

وَرَوَى الشَّيخُ الأقدم محمّدُ بنُ الحسن ـ رضوان الله عليه ـ في التَّهذيب باسناده عن الثُّماليِّ قالَ: "رَأيْتُ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ عليهما السلام يُصَلِّي فَسَقَطَ رِداؤُهُ عَنْ مَنْكِبهِ فَلَمْ يُسَوِّهِ حَتّى فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ. قَالَ: فَسَألْتُهُ عَنْ ذلِكَ، فَقالَ: وَيْحَكَ أَتَدْرِي بَيْنَ يَدَيْ مَنْ كُنْتُ؟ إِنَّ العَبْدَ لاَ يُقْبَلُ مِنُهُ صَلاَةٌ إلاّ مَا أقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا. فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَلَكْنَا. قَالَ: كَلاَ، إِنَّ اللهَ مُتَمِّمٌ ذلِكَ لِلْمُؤمِنينَ بالنَّوافِلِ"(1).

وعن الخصال: بإسناده عن عليّ عليه السلام في حديث الأربعمائة قالَ: "لا يَقومَنَّ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ مُتَكَاسِلاً وَلاَ نَاعِساً، وَلاَ يُفَكِّرَنَّ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ مَنْ صَلاَتِهِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا بَقَلْبِهِ".(2).

والأخبار في هذا المضمار كثيرة. وهكذا بالنسبة إلى فضيلة توجه القلب. ونحن نذكر بعضها في المقام ونكتفي به، فإنه كاف لمن أراد أن يعتبر ويتعظ.

عن محمّد بن عليّ بن الحسين صدوقِ الطائفة بإسناده عن عبدالله بن أبي يَعْفورٍ قالَ: قال أبو عبد الله عليه السلام: "يا عَبْدَ اللهِ إذا صَلَّيْتَ فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ يَخافُ أَنْ لاَ يَعُودَ إلَيْهَا أبَداً، ثُمَّ اصْرِفْ بِبَصَرِكَ إِلَى مَوْضِعِ سُجودِكَ، فَلَو تَعْلَمُ مَنْ عَنْ يَمِينكَ وَشِمالِكَ لأَحْسَنْتَ صَلاَتَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَرَاكَ وَلاَ تَرَاهُ"(3).

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنَّهُ قالَ: "لأُحِبُّ لِلرَّجُلِ المُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَة فَرِيضَةٍ أَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ وَلاَ يَشْغُلَ قَلْبَهُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، فَلَيْس مِنْ عَبْدٍ يُقْبلُ بِقَلْبِهِ فِي صَلاَتِهِ إِلَى اللهِ تَعالى إلاّ أَقْبَلَ اللهُ إلَيه بِوَجْهِهِ وَأَقْبَلَ بِقُلوبِ المُؤمِنينَ إلَيْهِ بِالمَحَبَّةِ بَعْدِ حُبِّ اللهِ إيَاهُ"(4).

انتبه ما أعظم هذا الخبر الباعث على الفرح والسرور، الذي يخبر به الصادق من آل محمد عليهم السلام المؤمنين، ومع الأسف إننا نحن المساكين المحجوبين عن المعرفة، المحرومين من التوجه إلى الحق المتعالي، لا نعرف شيئاً عن صداقة ذاته المقدس لنا وإقباله علينا ونقيس الصداقة مع الحق على الصداقة مع العباد. إن أهل المعرفة يقولون بأن الحق المتعالي يرفع الحجب لمحبوبه، ويعلم الله ما في

ـــــــــــــــ

(1) و(2) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثالث من أبواب أفعال الصلاة، ح 6 و ح 4.

(3) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني من أبواب أفعال الصلاة، ح5.

(4) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني من أبواب أفعال الصلاة، ح6

[ 464 ]

هذا الرفع للحجب من الكرامات ! إنه غاية آمال الأولياء، وأقصى أُمنياتهم هو رفع هذه الحجب.

إن أمير المؤمنين عليه السّلام وأولاده المعصومين يسألون الله سبحانه في المناجاة الشعبانية قائلين:

"إلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إلَيْكَ، وَأَنْرَ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِياءِ نَظَرهَا إلَيْكَ، حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلُوبِ حُجَبَ النُّورِ، فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَتَصيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعزِّ قُدْسِكَ"(1).

إلهي أيَّة بصيرة هذه البصيرة القلبية النورانية التي سألها أولياؤك، ورجوك أن يصلوا إليك بها؟

إلهي ما هذه الحجب النورانية التي يتداول ذكرها على ألسنة أئمتنا المعصومين عليهم السلام؟. إلهي ما هو معدن العظمة والجلال وعز القدس والكمال، الذي يكون منتهى طلب هؤلاء الكبار، ونحن منه محرومون حتى عن استيعابه العلمي فكيف بتذوقه وشهوده؟ إلهي نحن عبادك المسودة وجوههم والمظلمة أيامهم، لا نعرف شيئاً عدا طعامنا وشرابنا وراحتنا وبغضنا وشهوتنا، ولا نفكر يوماً في معرفة هذه الأمور، فانظر إلينا بلطفك، وأيقظنا من سُباتنا وأزل عنا هذا السُكر الذي قد غشينا.

وعلى أية حال يكفي لأهل المعرفة هذا الحديث الواحد، حتى ينفقوا جل عمرهم، لتحصيل الحب الإلهي، ويتمتعوا بالإقبال على الله. ولكن أمثال الذين لا يكونون جياد هذه الساحة وفرسان هذا الميدان نتشبث بأحاديث أخرى:

عن ثواب الأعمال: بِإِسناده عَمَّن سمع أبا عبدالله عليه السلام يَقولُ: "مَنْ صَلّى رَكْعَتَيْنِ يَعْلَمُ مَا يَقولُ فِيهِما، انْصَرَفَ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ ذَنْبٌ إلاّ غَفَرَ لَهُ" (2). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "رَكْعَتانِ خَفيفَتانِ في تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيامِ لَيْلَة" (3).

ـــــــــــــــ

(1) مفاتيح الجنان، المناجات الشعبانية.

(2) و(3) وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني والثالث من أبواب أفعال الصلاة، ح7 و ح5.

[ 465 ]

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية