.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 
 

الحديث السَابع عشَر

"التوبة"

[ 303 ]

بالسَّنَدِ المُتَّصِلِ إِلَى الإِمَامِ الأقْدَمِ حُجَّة الفِرْقَةِ وَرَئِيسِ الأُمَّةِ، مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِي ـ رضي الله عنه ـ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام يَقُولُ:" إِذَا تَابَ العَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ اللهُ فَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فَقُلْتُ: وَكَيْفَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يُنْسى مَلَكَيْهِ مَا كَتَبَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوب، ثُمَّ يُوحى إِلَى جَوَارِحِهِ: اكْتُمِي عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ وَ يُوحي إِلى بِقَاعِ الأَرْضِ: اكْتُمِي عَلَيْهِ مَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَيْكِ مِنَ الذُّنُوبِ. فَيَلْقَى الله حِيْنَ يَلْقَاهُ وَ لَيْسَ شَيْءٌ يَشْهَدُ عَلَيِْه بِشَيْءٍ مٍنَ الذُّنُوبِ ).(1)

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب التوبة، ح 1.

[ 304 ]

الشرح:

اعلم أن التوبة من المنازل المهمة الصعبة. و هي عبارة عن الرجوع من عالم المادة إلى روحانية النفس، بعد أن حُجبت هذه الروحانية و نور الفطرة، بغشاوات ظلمانية من جراء الذنوب و المعاصي.

وتفصيل هذا الإجمال بإيجاز هو: أن النفس في بدء فطرتها خالية من كل أنواع الكمال و الجمال و النور و البهجة، كما أنها تكون خالية أيضاً من أضداد هذه الصفات ـ المذكورة الأربعة ـ فكأنّ النفس صفحة نقية من كل رسم و نقش، لا توجد فيها الكمالات الروحية و لا تتصف بالنعوت المضادة لها. ولكن قد أودع فيها نور الاستعداد والأهلية لنيل أي مقام رفيع أو وضيع، وأنشأت فطرتها على الاستقامة، وعجنت طينتها بالأنوار الذاتية. وعندما تجترح سيئة، تحصل في القلب ظلمة و سواد. و كلما ازدادت المعاصي تضاعفت الظلمة و السواد، إلى أن يغشى الظلام و السواد القلب كله، وينطفئ نور الفطرة و يبلغ مرتبة الشقاء الأبدي. فإذا انتبه الإنسان قبل أن يستوعب الظلام القلب كله، ثم اجتاز منزل اليقظة و دخل على منزل التوبة و استوفى حظوظ هذا المنزل حسب الشرائط التي سنأتي على ذكرها إجمالاً في هذه الصفحات، زالت الحالات الظلمانية والكدورات الطبيعية و عاد إلى الحالة الفطرية النورية الأصيلة والروحانية الذاتية و كأنّها تنقلب ـ النفس ـ إلى صفحة خالية من جميع الكمالات و أضدادها. كما ورد في الحديث الشريف المشهور "التـَّائـِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، كتاب الإيمان و الكفر، باب التوبة، ج 10.

[ 305 ]

فتبين أن حقيقة التوبة هي الرجوع من عالم الطبيعة وآثارها ومضاعفاتها إلى عالم الروحانية والفطرة. كما أن حقيقة الإنابة رجوع من الفطرة و الروحانية إلى الله و السفر والهجرة من بيت النفس نحو بيت القصيد. فمنزل التوبة سابق ومقدم على منزل الإنابة، ولا يناسب تفصيل ذلك في هذا المقال.

فصل

نقطة هامة

على سالك طريق الهداية والنجاة، الانتباه إلى نقطة هامة: هي أن التوفيق إلى التوبة الصحيحة الكاملة مع توفير شرائطها ـ التي سنذكرها ـ من الأمور الصعبة، وقليلاً ما يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذا المقصد. بل إن اقتراف الذنوب وخاصة المعاصي الكبيرة يجعلان الإنسان غافلاً عن ذكر التوبة نهائياً. وإذا ما أثمرت وقويت شجرة المعاصي في مزرعة قلب الإنسان وتحكّمت جذورها، ستكون لها نتائج وخيمة: منها حثّ الإنسان على الانصراف كلياً عن التفكير في التوبة، وإذا تذكرها أحياناً تكاسل في إجرائها وأجّلها وقال:"اليوم أو غداً و هذا الشهر أو الشهر المقبل، و يخاطب نفسه قائلاً إنني أتوب آخر العمر وأيام الشيخوخة توبة صحيحة". وإنه يغفل عن أن هذا مكر مع الله (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(1). فلا يتوقع الإنسان أنه بعد أن تقوى جذور الذنوب في نفسه، يستطيع أن يتوب أو يقوم بتوفير شروط التوبة. إن أفضل أيام التوبة و ربيعها هي فترة أيام الشباب. لأن الذنوب أقل و شوائب القلب و ظلمات الباطل أخف، و شروط التوبة أسهل و أيسر. و قد يكثر في سن الشيخوخة حرص الإنسان وطمعه و حبه للمال و يزداد طول أمله و قد أثبتت التجربة ذلك.

والحديث النبوي الشريف أفضل شاهد على هذه المقولة. وإذا افترضنا أن الإنسان يستطيع القيام بهذا العمل ( التوبة ) في سنّ الشيخوخة. فما هو الضمان للوصول إلى سن الشيخوخة وعدم إدراكه الأجل المحتوم أيام الشباب على حين غرّة، وهو مشغول بارتكاب الذنوب والعصيان؟ إن انخفاض عدد المسنين، دليل

ـــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران، آية: 54.

[ 306 ]

على أن الموت أقرب إلى الشباب منه إلى الشيخ. إننا في المدينة التي يبلغ تعدادها على خمسين ألف نسمة لم نجد خمسين شيخاً يناهز عمر كل منهم ثمانين عاماً!.

فيا أيها العزيز كن على حذر من مكائد الشيطان ولا تمكر على الله ولا تحتال عليه بأن تقول أعيش خمسين عاماً أو أكثر مع الأهواء، ثم استغفر ربي لدى الموت وأستدرك الماضي، لأن هذه أفكار واهية.

إذا سمعت أو علمت من الحديث الشريف أن الله سبحانه وتعالى قد تفضّل على هذه الأمة بتقبل توبتهم قبل مشاهدة آثار الموت أو عند الموت فذلك صحيح، ولكن هيهات أن تتحقق التوبة من الإنسان في ذلك الوقت.

هل تظن أن التوبة مجرد كلام يقال؟ إن القيام بالتوبة لعمل شاق. إن الرجوع إلى الله والعزم على عدم العودة إلى الذنب يحتاج رياضة علمية وعملية، إذ نادراً ما يحدث للإنسان أن يفكر لوحده بالتوبة أو يتوفق إليها أو يتوفق إلى توفير شرائط صحة التوبة وقبولها أو إلى توفير شرائط كمالها. إذ من الممكن أن يدركه الموت قبل التفكير في التوبة أو إنجازها وينقله من هذه النشأة مع المعاصي التي تنوء بالإنسان ومع ظلمات الذنوب اللامتناهية وفي ذلك الوقت يعلم الله وحده المصائب والمحن التي سوف يواجهها!.

ليس من السهل أن يتدارك الإنسان في العالم الآخر معاصيه، فإذا كان من أهل النجاة وممّن عاقبة أمره سعيدة: إذ لابد من متاعب و ضغوطات و نيراناً حتى يصبح الإنسان أهلاً لرحمة أرحم الراحمين.

إذاً أيها العزيز! عجّل في شدّ حيازيمك، وأحكام عزيمتك وقوّتك الحاسمة وأنت في أيام الشباب أو على قيد الحياة في هذه الدنيا وتب إلى الله، ولا تسمح لهذه الفرصة التي أنعم الله بها عليك أن تخرج من يدك، ولا تعبأ بتسويف الشيطان ومكائد النفس الأمارة.

نقطة هامة

ويجب الانتباه إلى نقطة هامّة أخرى: هي أن الشخص التائب بعد توبته لا يستعيد الصفاء الداخلي الروحاني و النور الخالص الفكري السابق كما أنك لو

[ 307 ]

[308] سوّدت صفحة بيضاء ثم حاولت أن تعالج السواد وتزيله عنها لم تعد الصفحة إلى حالتها الأولى من البياض الناصع. وكذلك الإناء المكسور إذا أصلحناه فمن الصعب أن يعود إلى حالته السابقة. إنه لبون شاسع بين خليل يكون مخلصاً مع الإنسان طوال العمر، وصديق يخونك ثم يعتذر عن تقصيره.

فضلاً عن أن قليلاً ما ترى شخصاً يستطيع القيام بوظائف التوبة بشكل صحيح.

إذاً، يجب على الإنسان أن يتجنب ما أمكن ارتكاب المعاصي والذنوب، لأن إصلاح النفس بعد إفسادها من الأعمال الشاقة. وإذا تورط لا سمح الله في مصيبة وجب عليه بشكل عاجل أن يفكر في العلاج لأن إصلاح الفساد القليل يتم أسرع وبكيفية أحسن.

أيها العزيز! لا تمر على هذا المقام من دون مبالاة ولا اهتمام. فكّر في حالك وعاقبة أمرك، وراجع كتاب الله وأحاديث خاتم الأنبياء وأئمة الهدى ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ وكلمات علماء الأمة وأحكام العقل الوجدانية. افتح على نفسك هذا الباب الذي يعدّ مفتاح الأبواب الأخرى، وادخل في هذا المقام الذي يعتبر من أهمّ المنازل الإنسانية، بالنسبة إلينا وكن مهتماً فيه وواظب عليه وأطلب من الله عز وجل التوفيق في الوصول إلى المطلوب، واستعن بروحانية الرسول الأكرم وأئمة الهدى ـ سلام الله عليهم ـ والتجئ إلى ولي الأمر وناموس الدهر إمام العصر عجل الله فرجه ـ وبالطبع إنه ينجّي الضعفاء والعجزة ويعين المحتاجين.

فصل

في أركان التوبة

اعلم أن للتوبة الكاملة أركاناً وشروطاً. ولولا تحققها لما تحققت التوبة الصحيحة. ونحن نذكر الأركان وشرائطها الهامّة:

إن من أهم الشروط الذي يعتبر ركناً ركيناً للتوبة هو الندامة على الذنوب والتقصير في أداء التكاليف الشرعية. ومنها: العزم على عدم العودة إلى الذنوب

[ 308 ]

نهائياً. وفي الحقيقة أن هذين الأمرين يحققان حقيقة التوبة ويعتبران من مقوماتها الذاتية. والعمدة في هذا الباب تحصيل هذا المقام وإنجاز هذه الحقيقة على نحو يتذكر الإنسان تأثير معاصيه في روحه وعواقبها في عالم البرزخ ويوم القيامة كما هو مقرر في المعقول والمنقول ومبرهن عليه لدى أهل العلم والمعرفة، ومأثور في أخبار أهل بيت العصمة ـ عليهم السلام ـ من أن للمعاصي في عالم البرزخ والقيامة صوراً تتناسب معها وهذه الصور في ذلك العالم تكون ذات حياة وإرادة حيث تعذّب الإنسان المذنب وتسئ إليه عن شعور وإرادة. وإن نار جهنم أيضاً تحرق الإنسان عن إرادة ووعي لأن تلك النشأة نشأة الحياة.

ففي ذلك العالم صوراً تحشر معنا من جراء أعمالنا الحسنة أو القبيحة. وقد ورد في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة صراحة وتلويحاً ذكرٌ لهذا الموضوع.

ويتطابق مع مسلك الحكماء الإشراقيين، وذوق أهل السلوك ومشاهدات أصحاب العرفان. وكذلك تترك كل معصية في الروح أثراً عُبّر عنه في الأحاديث الشريفة بالنقطة السوداء وهي ظلام ظهر في القلب و الروح ثم تتوسع هذه النقطة حتى تسوق الإنسان إلى الكفر و الزندقة و الشقاوة الأبدية . وقد فصّلنا ذلك في الفصول السابقة. فالإنسان العاقل لو انتبه لهذه المعاني واعتنى بكلام الأنبياء و الأولياء ـ عليهم السلام ـ والعرفاء والحكماء والعلماء ـ رضوان الله عليهم ـ بقدر اعتنائه بقول طبيب معالج، لابتعد لا محالة عن المعاصي ولم يقترب منها أبداً. و إذا ابتلي بالمعصية لا سمح الله أبدى بسرعة تبرمه و انزعاجه منها و ندم عليها و ظهرت صورة ندمه في قلبه و تكون نتيجة هذه الندامة عظيمة جداً، و آثارها حسنة و كثيرة ثم يحصل من جراء ندمه العزم على ترك المعصية و ترك مخالفة رب العالمين. و عندما يتوفر هذان الركنان ـ الندم على اقتراف المعصية و العزم على عدم العودة إليها ـ يتيسّر أمر سالك طريق الآخرة، و تغمره التوفيقات الإلهية ليصبح حسب النص القرآني (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(1). وهذه (2) الرواية الشريفة، محبوباً لله تعالى إذا كان مخلصاً في توبته. إنه يجب على الإنسان

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، آية: 222.

(2) الحديث السابع عشر المذكور لدى أول هذا البحث (التوبة).

[ 309 ]

بالرياضة العلمية و العملية و بالتفكر و التدبر اللائق أن يسعى في سبيل تحقيق التوبة ويجب عليه أن يفهم بأن المحبوبية عند الله لا تقدّر في حساب. و الله يعلم بأن صورة حب الحق في تلك العوالم من أي نوع من الأنوار المعنوية والتجلّيات الكاملة تكون؟ وإن الله سبحانه كيف يتعامل مع محبوبه؟ أيها الإنسان كم أنت ظلوم و جهول؟! ولا تقدّر نعم وليّ النعم. إنك تعصي و تعادي سنين و سنين وليّ نعمك الذي وفّر لك كل وسائل الرفاه والراحة من دون أن تعود منها عليه ـ و العياذ بالله ـ بجدوى و فائدة، و طيلة هذه الفترة قد هَتكت حرمته و طَغيت عليه و لم تخجل منه أبداً و لكنك إذا ندمت على ما فعلت و رجعت إليه، أحبك الله وجعلك محبوباً له (إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ) فما هذه الرحمة الواسعة و النعم الوافرة؟.

إلهي! نحن عاجزون عن شكر آلائك، وأَلْسِنَةُ البشر وجميع الأحياء في هذا الكون مصابة باللكنة ـ تجاه الحمد و الثناء عليك ـ و لا يسعنا إلا أن ننكـّس رؤوسنا ونعتذر لك لعدم حيائنا منك. مَنْ نحن حتى نستحق رحمتك؟ ولكنّ سعة رحمتك و شمول نعمتك أوسع من تقديرنا لها "أَنْتَ كَما أَثْنَيْتَ عـَلَى نَفسك"(1).

وأيضاً، يجب على الإنسان أن يقوي في قلبه صورة الندامة كي يحترق القلب إن شاء الله تعالى. و ذلك بأن يفكّر في الآثار الموحشة للمعاصي وعواقبها. ويعمل على تقوية الندامة في قلبه و يضرم النار في قلبه على غرار (نَارُ اللهِ المُوقَدة) ويحرق قلبه في نار الندامة حتى تحترق مع نار الندامة جميع المعاصي و تزول الكدورة عن القلب وصدئه. و ليعلم أنه إذا لم يضرم بنفسه هذه النار ـ الندامة ـ و لم يفتح في وجهه باب جهنم هذه التي تكون بذاتها الباب الرئيسي لأبواب الجنة، فعندما ينتقل من هذا العالم تهيأت له لا محالة في ذلك العالم نار عاتية، وتفتح في وجهه أبواب جهنم و توصد في وجهه أبواب الجنة و الرحمة.

إلهي ألهمنا صدراً محترقاً واقذف في قلوبنا جذوة من نار الندامة و احرقه مع هذه النار "الندامة" الدنيوية، وأزل عن قلوبنا الكدر والغبرة، واخرجنا من هذا العالم من دون مضاعفات المعاصي إنك ولي النعم و على كل شيء قدير.

ـــــــــــــــ

(1) راجع معجم الأحاديث النبوية ج 1، ص 304.

[ 310 ]

فصل

في شروط التوبة

ذكرنا في الفصل السابق أركان التوبة. وسوف نذكر شروط قبولها وشروط كمالها مرتباً. ثم أن عمدة شروط القبول أمران كما أن عمدة شروط الكمال أمران أيضاً.

ونحن نذكر في هذا الفصل الكلام الشريف لمولى الموالي الذي هو في الواقع من جوامع الكلام، ومن كلام الملوك وملوك الكلام.

رُوِيَ فِي نَهْجِ البَلاَغَةِ أَنَّ قَائِلاً قَالَ بِحَضْرَتِهِ عَلَيه السَّلام: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، فَقَالَ لَهُ: "ثَكِلَتْك أُمُّكَ أَتَدْرِي مَا الاستغفارُ؟ إنَّ الاسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ العِليِّينَ وَهُوَ اسمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى. الثَّانِي العَزْمُ عَلَى تَرْكِ العَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً. والثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى المَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَي اللهَ سُبْحَانَهُ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ. الرَّابعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا. والخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُدِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حَتّى تُلْصِقَ الجِلْدَ بِالعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ. والسّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ المَعْصِيَةِ فَعِنْدَ ذلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ". (1).

يشتمل هذا الحديث الشريف على ركنين من أركان التوبة هما: الندامة والعزم على العودة وعلى شرطين مهمين للقبول: هما إرجاع حقوق المخلوق لأهلها ورد حقوق الخالق لله سبحانه. ولا تقبل التوبة من الإنسان بقوله أستغفر الله. إن على الإنسان التائب أن يردَّ كل ما أخذه من الناس من دون حق إلى أصحابه وإذا وجد حقوقاً أخرى للناس في ذمته واستطاع أن يؤديها إلى أصحابها أو يطلب السماح منهم، يجب أن لا يتوان في ذلك. وأن يقضي كل الفرائض الإلهية أو يؤديها. وإذا تعذر عليه إنجاز ذلك أدّى المقدار الميسور منه. وليعلم أن لكل هذه الحقوق أصحاب سيطالبونه بها في النشأة الأخرى بأشق الأحوال وليس له في ذلك العالم وسيلة لأداء هذه الحقوق، إلا أن يتحمل ذنوب الآخرين، ويدفع إليهم

ـــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، قصار الحكم، الرقم 417، (الشيخ صبحي الصالح ).

[ 311 ]

أعماله الحسنة فيصير حينذاك عاجزاً وشقياً ولا يملك طريقاً للخلاص وملجأ للاستخلاص. أيها العزيز إياك أن تسمح للشيطان والنفس الأمارة بالبهيمة عليك والوسوسة في قلبك فيصوران لك العملية جسيمة وشاقة ويصرفانك عن التوبة. اعلم بأن إنجاز الشيء القليل من هذه الأمور يكون أفضل. ولا تيأس من رحمة الله ولطفه، حتى وإن كانت عليك صلاة كثيرة وصيام غير قليل، وكفارات عديـدة، وحقوق إلهية كثيرة، وذنوب متراكمة، وحقوق الناس لا تعدّ، والخطايا لا تحصى.

لأن الحق المتعالي يسهّل عليك الطريق عندما تقوم بخطوات حسب قدرتك في اتجاهه، ويهديك سبيل النجاة. واعلم بأنّ اليأس من رحمة الحق من أعظم الذنوب، ولا أظن أن هناك ذنباً أسوأ وأشدّ تأثيراً في النفس من القنوط من رحمة الله. فإنّ الظلام الدامس إذا غشي قلب الإنسان اليائس من الرحمة الإلهية، لما أمكن إصلاحه، ولتحوَّل إلى طاغية، لا يوجد سبيل للهيمنة عليه. فإيّاك أن تغفل من رحمة الحق عزّ وجلّ، وإيّاك أن تستعظم الذنوب وتبعاتها. إن رحمة الحق سبحانه أعظم وأوسع من كل شيء. نصف بيت شعر:

"إن عطاء الحق غير مشروط بقابليّة المعطى إليه"

ماذا كانت في بدء الأمر؟ كنت في غياهب العدم ولا توجد فيك القابلية والأهليّـة، ولكن الحق جلّ وعلا، قد وهبك نعمة الوجود وكمالاته وبسط مائدة النعم اللامحدودة، والرحمة اللامتناهية، وسخر لك كافة الموجودات، من دون استحقاق واستعداد ومن دون سؤال ودعاء مسبق.

ثم إنك في هذا اليوم لا يكون وضعك أسوأ، من اليوم الذي كنت فيه عدماً صرفاً، ولا شيئاً بحتاً. إن الله قد وعد بالرحمة والمغفرة. تقدم إلى الأمام خطوة واحدة، باتجاه عتبة قدسه. فإنه سيأخذ بيدك مهما كلّف الأمر. إنك إن لم تستطع أن تؤدي حقوقه، فهو سيتنازل عنها. وإن لم تستطع أن تدفع حقوق الناس، فإنه سيجبرها.

هل سمعت قصة الشاب الذي كان ينبش القبور في عهد الرسول صلّى الله عليه وأله وسلم ؟

[ 312 ]

أيها العزيز إنّ طريق الحق سهل بسيط، ولكنّه يحتاج إلى انتباه يسير، فيجب العمل، لأن التباطئ والتسويف، ومضاعفة المعاصي في كل يوم، تبعث على صعوبة الأمر، وأمّا الإقبال على العمل، والعزم على إصلاح السلوك والنفس، فيقرّب الطريق ويسهّل العمل.

جرّبه، واعمل في الاتجاه المذكور، فإذا حصلت على النتيجة تبين لك صحة الموضوع. وان لم تصل إلى النتيجة المتوخاة فإن طريق الفساد مفتوح ويد المذنب طويلة. وأما الأمران الآخران ـ الخامس والسادس المذكوران في الرواية المنقولة عن نهج البلاغة المتقدمة ـ اللذان ذكرهما الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فهما من شروط كمال التوبة، والتوبة الكاملة، لأن التوبة لا تتحقق ولا تقبل من دونهما ليست بكاملة.

اعلم أن لكل منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف حسب اختلاف حالات قلوبهم. وإن التائب إذا أراد البلوغ إلى مرتبة الكمال، فلا بد من تدارك ما تركه، وتدارك الحظوظ أيضاً، يعني لا بد من تدارك اللذائذ النفسانية التي لحقت به أيام الآثام والمعاصي وذلك بالسعي لمحو كل الآثار الجسمية والروحية التي حصلت في مملكة جسمه ونفسه من جراء الذنوب حتى تعود النفس مصقولة كما كانت في بدء الأمر، وتعود الفطرة إلى روحانيتها الأصلية. وتحصل له الطهارة الكاملة.

لقد علمت بأن لكل معصية ومتعة انعكاس وأثر في الروح، كما قد يحصل أثر من بعض الذنوب واللذائذ في الجسم، فلا بد للتـائب أن ينتـفض ويستأصل تلك الآثار ويقوم بالرياضة البدنية والروحية حتى تزول منهما كل تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام، كما أمرنا الإمام علي عليه الصلاة والسلام.

فعن طريق ممارسة الرياضة الجسمية من الإمساك عن أكل المقويات والمنشطات والصيام المستحب أو الواجب إذا كان في ذمته صيام واجب، يذيب اللحوم التي نشأت على جسمه من الحرام والمعصية أو أيام الخطايا والآثام.

وعن طريق الرياضة الروحية من العبادات والمناسك يتدارك اللذائذ الطبيعية، لأن صورة المتع الطبيعية لا تزال ماثلة في ذائقة النفس، وما دامت عالقة

[ 313 ]

بها فإن النفس ترغب إليها، ويعشقها القلب ويُخشى من لحظة طغيان النفس وتمرّدها على صاحبها ـ والعياذ بالله ـ . فلا بد على السالك لسبيل الآخرة والتائب عن المعاصي أن يُذيق الروح ألم الرياضة الروحية ومشقّة العبادة. فإذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة من العبادة. وإذا عاش يوماً واحداً مع اللذائذ الطبيعية تداركه بالصوم والمستحبات المناسبة حتى تطهر النفس من كل آثار المعاصي وتبعاته التي هي عبارة عن تعلق حب الدنيا بالنفس و رسوخه فيها، وتتطهر من كل ذلك.

نعم تكون التوبة في الصورة أكمل، ويعود النور إلى فطرة النفس، ولا بد في غضون اشتغاله بهذه الأمور التـفكر والتدبر في نتائج المعاصي وشدّة بأس الحق المتعالي ودقة ميزان الأعمال وشدّة عذاب عالم البرزخ والقيامة. وليعلم وليلقّن النفس والقلب، بأن كل ذلك نتاج وصور هذه الأعمال القبيحة والمخالفة مع مالك الملوك. ونأمل بعد هذا العلم والتمعن أن تنفر النفس عن المعاصي، وترتدع بشكل كامل ونهائي، وينتهي بالتوبة إلى النتيجة المطلوبة، وتتم توبته وتكمل.

فهذان المقامان من المتممات والمكملات لمنزل التوبة. والإنسان في بدء الأمر عندما يريد أن يدخل مقام التوبة ويتوب إلى الله لا يظن بأن المطلوب منه المرتبة الأخيرة من التوبة حتى يجد الطريق صعباً وعملية التوبة شاقة فينصرف عنها ويتركها.

إن كل مقدار يساعد عليه حال السالك، في سلوكه لطريق الآخرة، يكون مطلوباً ومرغوباً فيه، وعندما تطأ قدماه الطريق ييسّر الله تعالى له الطريق. فلابد أن لا تمنع صعوبة الطريق، الإنسان عن الهدف الأصيل، لأنه مهمّ جداً وعظيم جداً. وإذا انتبهنا إلى جلال الهدف وعظمته، تذلَّلت جميع الصعاب من أجله. وأي شيء أعظم من النجاة الأبدية والروح والريحان الدائميان؟ وأي بلاء أعظم من الهلاك الدائمي والشقاء السرمدي؟ ومع ترك التوبة والتسويف والتأجيل قد يبلغ الإنسان إلى الشقاء الأبدي والعذاب الخالد والهلاك الدائم. وعند الورود على مقام التوبة قد يتحول الإنسان إلى سعيد مطلق، ومحبوب للحق سبحانه. فإذا كان الهدف جليلاً على هذا المستوى، فلا بأس من المعاناة والآلام لأيام يسيرة.

واعلم أن الدخول في مقام التوبة بالمقدار الممكن والميسور مهما كان قليلاً

[ 314 ]

فهو مجد وناجع. قارن أمور الآخرة بالأمور الدنيوية فإن العقلاء إذا لم يستطيعوا أن يحققوا مبتغاهم الأعلى والأرفع، لم يتركوا الهدف الأقل، وإذا لم يستطيعوا من تحصيل الهدف الكامل المنشود فإنهم لم يغضوا الطرف عن المطلوب الناقص.

وأنت أيضاً إذا لم تستطع أن تحقق التوبة الكاملة، فلا تعدل عن التوبة ولا تعرض عنها وحاول أن تحققها بالمستوى المستطاع والممكن.

فصـل

في نتيجة الاستغفار

من الأمور الهامة التي لا بد للتائب أن يقدم عليها، اللجوء إلى مقام غفارية الله تعالى وتحصيل حالة الاستغفار، والطلب من الحق جل جلاله ومن مقام غفارية ذاته المقدس بلسان مقاله وحاله وفي السرّ والعلن وفي الخلوات. الطلب منه بكل مذلة ومسكنه وتضرع وبكاء بأن يستر عليه ذنوبه وانعكاساته. نعم إن مقام الغفارية والستارية للذات المقدس يستدعي ستر العيوب وغفران تبعات الذنوب، لأن الصور الملكوتية للأعمال بمثابة وليد الإنسان، بل ألصق من ذلك. وإن حقيقة التوبة وكلمات الاستغفار بمثابة اللعان ونفي الولد.

إن الحق تبارك وتعالى بسبب غفّاريته وستّاريته يقطع الصلة بين وليد الإنسان ـ الصور الملكوتية للأعمال المحرمة ـ والإنسان، بواسطة لعان المستغفر. ويحجب عن تلك المعصية كل الكائنات التي اطّلعت على أحوال الإنسان من الملائكة، وكُتّاب صحائف الجرائم، والزمان والمكان وأعضاء نفس الإنسان وجوارحه، وينسيهم جميعاً تلك المعصية. كما أشير إليه في الحديث الشريف حيث يقول"يُنْسِي مَلَكَيْه مَا كَتَبَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوب"ومن المحتمل أن يكون المقصود وحيه تعالى للأعضاء والجوارح وبقاع الأرض، بكتمان المعاصي الوارد في الحديث الشريف هو إنساء المعاصي. كما يحتمل أن يكون المقصود من وحيه، الأمر بعدم الإدلاء بالشهادة. ويمكن أن يكون المقصود رفع الآثار التي تركتها المعاصي على الأعضاء والتي بها تتم الشهادة التكوينية.

[ 315 ]

كما أنه لو لم يتب لأمكن أن يشهد كل عضو بلسان مقاله أو حاله على أفعاله الأثيمة.

وعلى أيّ حال كما أن مقام الغفّارية والستّارية اقتضى الآن ونحن في هذا العالم أن لا تشهد أعضائنا وجوارحنا ضدنا وأن يستر الزمان والمكان أفعالنا المشينة، كذلك يقتضي ستر أعمالنا في العوالم الأخرى، عندما نتوب توبة صحيحة ونستغفر استغفاراً خالصاً ونرحل من هذا العالم، أو أن الناس يحجبون عن أعمالنا. ولعل مقتضى كرامة الحق ـ جل جلاله ـ هو الثاني حتى لا يكون الإنسان التائب مطأْطأَ رأسه ومفضوحاً أمام الآخرين والله العالم.

فصل

في تفسير التوبة النصوح

أعلم أن هناك تفسيرات مختلفة في بيان المقصود من التوبة النصوح. ومن المناسب أن نذكرها هنا بصورة مجملة. ونحن نكتفي بنقل كلام المحقق الجليل الشيخ البهائي قدس الله نفسه.

نقل المحدث الخبير المجلسي ـ رحمة الله ـ (1) عن الشيخ البهائي أنه قال:

"ثم اعلم أن المفسرين اختلفوا في تفسير التوبة النصوح على أقوال:

منها: أن المراد توبة تـنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها أو ينصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبداً.

ومنها أن النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم عسل نصوح إذا كان خالصاً من الشمع، بأن يندم على الذنوب لقبحها، وكونها خلاف رضى الله تعالى لا لخوف النار مثلاً.

وحكم المحقق الطوسي في التجريد"بأن الندم من الذنوب للخوف من النار، ليس بتوبة"ومنها أن النصوح من النصاحة وهي الخياطة لأنها تنصح من

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ـ المجلد 16 ص 17 ـ الطباعة الحديثة.

[ 316 ]

الدين ما مزقته الذنوب أو يجمع بين التائب وبين أوليائه وأحبائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب.

ومنها أن النصوح وصف للتائب وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي أي توبة تنصحون بها أنفسكم بأن تأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية. ويكون ذلك بذوب النفوس بالحسرات ومحو ظلمات القبائح بنور الأعمال الحسنة.

تكميل

في بيان أن جميع الموجودات ذات علم وحياة

اعلم أن للتوبة حقائق ولطائف وأسرار، ولكل واحد من أهل السلوك إلى الله توبة خاصة تتناسب مع مقامه. وحيث أن لا حظّ ولا نصيب لنا في تلم المقامات، فلا يناسب شرحها والإسهاب فيها في هذا الكتاب. والأفضل أن ننهي الحديث بذكر فائدة دقـيقة تستكشف من الحديث الشريف ـ المذكور في أول فصل التوبة ـ وتتـفق مع ظاهر الكتاب الكريم والأحاديث الكثيرة المأثورة في الأبواب المتـفرقة.

وتلك الفائدة هي أن لكل واحد من الموجودات علم وحياة ومعرفة، بل أن جميع الموجودات تحظى بالمعرفة لمقام الحق المقدس جل وعلا. فإن الوحي إلى الأعضاء والجوارح وبقاع الأرض، بالكتمان، وإطاعتها للأمر الإلهي، وتسبيح الموجودات بأسرها الذي نص عليه القرآن الكريم(1). وأوردته الأحاديث الشريفة كثيراً، كل ذلك دليل على علم وشعور وحياة الموجودات، بل دليل على الارتباط الخاص بين الخالق والمخلوق، لا يطلع عليه أحد إلا ذاته المقدس جل وعلا ومن ارتضى من عباده.

وهذه الفائدة الدقيقة إحدى المعارف التي لمّح إليها القرآن الكريم وأحاديث الأئمة المعصومين، وتتطابق مع برهان الفلاسفة الإشراقيين وذوق أهل العرفان ومشاهدات أصحاب السلوك والرياضة الروحانية.

ـــــــــــــــ

(1) (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(الجمعة1).

[ 317 ]

وقد ثبت في أبحاث ما وراء الطبيعة من الفلسفة أن حقيقة الوجود عين الكمالات والأسماء والصفات، وعندما يظهر في كل مرتبة ـ من مراتب الوجود ـ الوجود، ويتجلى في مرآة للأعين، يكون ظهوره مع جميع الشؤون والكمالات ـ لأن الوجود عين هذه الكمالات السبعة ـ من الحياة والعلم وبقيّة الأمهات السبعة (1) ولكل من مراحل تجلي حقيقة الوجود ومراتب تنزلات نور الجمال الكامل للمعبود تعالى شأنه، ارتباط خاص مع مقام الأحدية، ومعرفة كامنة خفية مع مقام الربوبية. كما تقول الآية الكريمة (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)(2). وقالوا إنّ ( هو ) إشارة إلى مقام غيب الهوية. و(آخِذٌ بِالنَّاصيةِ) هو الربط الأصيل الغيبي السرّي الوجودي الذي لا مجال لأحد في معرفته.

ـــــــــــــــ

(1) القدرة، الإرادة، الرحمانيه، الرحيميه، القيوم ( المترجم ).

(2) سورة هود، آية: 56.

[ 318 ]

الحَديث الثَامِن عشرَ

" الذَّكر"

[ 319 ]

بالسَّنَدِ المُتَّصِلِ إلى فَخْرِ الطّائِفَةِ وَذُخْرِها مُحَمَّــدِ بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْني ـ رضوان الله عليه ـ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عيسى، عَنِ ابْـنِ مَحْبُوب، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنان، عَنْ أبي حَمْـزَةَ الثُمالِي، عَنْ أَبي جَعْفَرَ عليه السَّلام قالَ:"مَكْتُوبٌ فِي التَّوراةِ الَّتي لَمْ تُغَيَّر أَنَّ مُوسى عليه السَّلام سَأَل رَبَّهُ فَقـالَ: يا رَبِّ أَقَريبٌ أنْتَ مِنّي فَأُناجيك، أمْ بَعيدٌ فَأُناديكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَـيْهِ: يا مُوسى أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي. فَقالَ مُوسى: فَمَنْ في سِتْرِك يَوْمَ لا سِتْرَ إِلاّ سِتْرُكَ. فَقالَ: الَّذينَ يَذْكُرُونَني فَأَذْكُرُهُمْ وَيَتحابُّــونَ فِيَّ فَأُحِبُّهُمْ فَاؤُلئِكَ الَّذينَ إِذا أرَدْتُ أنْ أُصيبَ أهْلَ الأرْضِ بِسُوءٍ ذَكَرْتُــهُمْ فَدَفَعْتُ عَنْهُمْ بِهِم"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد كتاب الثاني، الدعاء، باب ما يجب من ذكر الله في كل مجلس، ح4.

[ 320 ]

الشرح:

يفهم من هذا الحديث الشريف بأن التوراة الرائجة بين اليهود محرّفة ومزورة. وإن محتوى التوراة الصحيحة يتواجد عند أهل البيت ـ عليهم السلام ـ . ويعرف أيضاً من منطويات التوراة والإنجيل المتداولين ـ لتدني مستواهما على جميع الأصعدة ـ إنهما ليسا بحديث إنسان عادي، بل إنه حديث ينسجم مع أوهام بعض أهل الشهوات وذوي الأهواء النفسية.

يقول المحدث المحقق المرحوم المجلسي:"كان الغرض من السؤال عن آداب الدعاء مع علمه بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد بالعلم والقدرة والعِليّة أي تحب أن أناجيك كما يناجى القريب أو أناديك كما ينادى البعيد؟ وبعبارة أخرى إذا نظرت إليك فأنت أقرب من كل قريب، وإذا نظرت إلى نفسي أجدني في غاية البعد عنك فلا أدري في دعائي أنظر إلى حالي أو إلى حالك؟.

ويحتمل أن يكون السؤال للغير أو من قبلهم كسؤال الرواية"(1) انتهى كلامه.

في الإحاطة القيوميّة لله تعالى

من المحتمل أن النبي موسى عليه السلام ـ في الحديث المذكور ـ يعرض عجزه عن كيفية دعائه لله تعالى فيقول: إلـهي أنت منزّه من الاتصاف بالقرب والبعد

ـــــــــــــــ

(1) مرآة العقول، المجلد 12، ص122.

[ 321 ]

حتى أدعوك دعاء من يكون دانياً أو قاصياً، فأنا متردّد في أمري ولا أجد دعاءاً يليق بعظمتك وجلالك. فاسمح لي أن أناديك، وعلّمني كيفية ندائك واهدني إلى ما يتناسب ومقام قدسك في هذا المجال.

فأتي الجواب من مصدر الجلال والعزّة: بأنني حاضر حضور القيومية في جميع النشآت وأن هذه العوالم بأسرها حاضرة لديّ. أنا جليس من يذكرني ونديم من يتحدث معي.

وبالطبع أن ذاته المقدس لا يتصف بالقرب والبعد وأنّ له إحاطة قيوميّة، وسعة وجوديّة تعمّ جميع دائرة الوجود وكافة سلسلة الموجودات.

وما ورد في الآيات الشريفة من الكتاب الإلهي الكريم من توصيف الحق المتعالي بالقرب مثل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (1) وقوله ـ عـزّ من قائل ـ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(2). وغيرها من الآيات فمن باب المجاز والاستعارة. لأن ساحته المقدسة تتنزه عن القرب والبعد الحسيان والمعنويان. إذ يستلزم ذاك ـ القرب والبعد الحسيان والمعنويان ـ نوع من التحديد والتشبيه، والحق المتعالي منزّه عن ذلك، بل إن حضور قاطبة الموجودات أمام وجوده المقدس، حضور تعلّقي، وإحاطة ذاته المتعالية لكل دقائق الكائنات وسلسلة الموجودات، إحاطة قيّوميّة وهذا الحضور وهذه الإحاطة يختلفان عن الحضور الحسي والمعنوي وعن الإحاطة الظاهريّة والباطنيّة.

ويستفاد من هذا الحديث وبعض الأحاديث الأخرى رجحان الذكر ـ ذكر الله ـ الخفيّ، واستحباب الذكر السرّي والقلبي، كما يقول الله سبحانه أيضاً في الآية المباركة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)(3).

وجاء في الحديث الشريف أنه لا يعلم أحدٌ ثواب ذكر الله سبحانه، إلاّ الله تعالى لعظمته وكِبَره. وقد يكون الإجهار في الذكر وإظهاره راجحاً في بعض

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، آية: 168.

(2) سورة ق، آية: 16.

(3) سورة الاعراف، آية: 205.

[ 322 ]

الحالات والمقامات ولدي طُروّ بعض العناوين، مثل الذكر لدي أهل الغفلة لكي ينتبهوا.

ففي الحديث الشريف من الكافي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام الذَّاكِرِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الغَافِلِينَ، كَالمُقَاتِلُ فِي المُحَارِبِينَ(1).

ونقل عن عدة الداعي للشيخ ابن فهد:"قالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم: مَنْ ذَكَرَ اللهَ فِي السُّوقِ مُخْلِصاً عِنْدَ غَفْلَةِ النَّاسِ وَشُغْلِهِمْ بِما فِيهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ ألْفَ حَسَنَةٍ وَغَفَر اللهُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مَغْفِرَةً لَمْ تَخْطُرْ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ"(2).

وكذلك يستحب الإجهار بالذكر في أذان الأعلام والخطبة وغيرها.

فصل

( خصائص ذكر الله تعالى )

يستفاد من هذا الحديث الشريف، أن لذكر الله والتحابّ بين الأشخاص في سبيل الله، خصائص: إحداها ـ وهي الأهم ـ أن ذكر العبد لله، يبعث على ذكر الله لعبـده، كما نطقت بهذا المضمون أحاديث أخرى أيضاً. ويقابل هذا الذكر النسيان، قد قال سبحانه وتعالى عن الناسي في القرآن (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)(3).

فكما أن نسيان الآيات والعمى الباطني عن رؤية مظاهر جمال الحق وجلاله يسبب عمىً في العالم الآخر، يكون التذكّر للآيات والأسماء والصفات وتذكّر الحق سبحانه وجماله وجلاله باعثاً على حِدّة في البصيرة، وإزاحة للحجب، بقدر قوة التذكر ونورانيته.

هذا وأن تذكر آيات الحق سبحانه، وصيرورته ـ هذا التذكر ـ ملكة ـ راسخة ـ في الإنسان يجعل لبصيرته قوّة، فيرى من خلال الآيات، جمال الحق.

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ذكر اللّه عز وجل في الغافلين، ح1.

(2) عدة الداعي، ص242.

(3) سورة طه، آية 126.

[ 323 ]

وأن تذكّر الأسماء والصفات يبعث على مشاهدة الحقّ في تجـلّيات أسمائه وصفاته. وأن تذكر الذات عـزّ شأنه من دون حجاب الآيات والأسماء والصفات، يوجب رفع الحجب بأسرها ومشاهدة الحبيب من دون غشاء وحجاب.

ويعتبر هذا ـ التفسير ـ واحداً من التوجيهات والتفسيرات للفتوحات الثلاثة التي هي قرة عين العرفاء والأولياء وهي:

الفتح القريب. الفتح المبين. الفتح المطلق. الذي هو فتح الفتوح.

وكما أن التذكّرات الثلاثة ـ المذكورة ـ تزيل الحجب الثلاثة، وكذلك التحابب بين الناس في الله سبب لمحبة الله، وتكون نتيجته رفع الحجب حسب ما يقوله العرفاء الشامخون.

ومن الواضح أن للتحابب بين الناس مراتب ودرجات، كما أن للحبّ في الله من جهة الخلوص والخلوِّ من الشوائب مراتب كثيرة ودرجاتٍ عديدةٍ أيضاً، والحب الخالص التام هو الحب المحض الفارغ من شوب كثرات الأسماء والصفات، وهو الموجب لحصول الحب التام. والمحبوب المطلق في الشريعة العشاق، لا يكون محجوباً عن الوصال، ولا يبقى بينه وبين محبوبه حجاباً.

وبهذا البيان نستطيع أن نوفّق بين سؤالي النبي موسى عليه السلام، لأنه ـ عليه السلام ـ عندما سمع من حضرته تعالى بأنه ـ عزّ وجل ـ جليس من ذكره، وسمع من محبوبه، أُمنّيته من الوعد بالوصال والوصول إلى الجمال، أراد أن يستقصي أهل الوصال حتى ينهض بالمسئوليــة مع كافـــة الشؤون المتوجبة عليه، فقال:"فـَمـَنْ في سِتْرِكَ يَوْمَ لا سِتْرَ إِلاّ سِتْرُكَ لِي؟ وَمَنْ يَكُونُ فِي سِتْرِكَ، بَعْدَ إَنّ تَخَلَّصَ مِنَ التَعَلُّــقِ بِغيْرِكَ، وَحَطَّمَ قُيُودَ الحُجَبِ، وَوَصَلَ إِلَى جَمَالِكَ الجَمِيلِ؟"فقال هم طائفتان: الذين يذكرونني ابتداءاً، والذين يتحابّون لأجلي حيث يكون تذكراً في مظهر جمالي التام، الذي هو الإنسان. إنهما ـ طائفتان ـ في مأمني وجلسائي وأنا جليسهم.

فتبين أن لهذين الطائفتين خصلة واحدة عظيمة، ولها نتاج عظيم آخر، إذ أنهم يذكرون الله فينقلبوا ـ بذكرهم له ـ محبوبين للحق المتعالي ونتيجته أنهم يستقّرون

[ 324 ]

في ستره سبحانه وملجأه يوم لا ستر فيه، ويختلي بهم الحق عز وجل في المحلّ الأرفع.

ومن خصال هاتين الطائفتين أن الله سبحانه يرفع لكرامتهم، العذاب عن عباده بمعنى أنه ما دامت الطائفتان تعيشان بين العباد، لا يُنزل الله سبحانه العذاب على الناس.

فصل

في الفرق بين مقام التفكر والتذكر

اعلم أن التذكّر من نتائج التفكّر، ولهذا يعتبرون مقام التفكر مقدماً على مقام التذكر. يقول العارف عبد الله الأنصاري"التـَّذَكُّر فَــوْقَ التَّفَكُرِ، فَإِنَّ التَّفَكُّر طَلَبٌ وَالتَّـذَكُّر وُجُودٌ" إذ أن التفكر طلب للمحبوب والتذكر حصول للمطلوب. فما دام الإنسان يطلب ويبحث يكون محجوباً عن مطلوبه وعندما يصل إلى محبوبة يتحرّر من عناء البحث والتفتيش.

إن قوّة التذكّر وكماله، يرتبطان بقوة التفكر وكماله. والتفكر الذي يفضي إلى التذكر التام للمعبود، لا يساوي الأعمال الأخرى ولا يقاس في الفضيلة بها. ففي الأحاديث الشريفة أن تفكّر ساعة أفضل من عبادة سنة واحدة أو ستين عاماً أو سبعين عاماً. ومن الواضح أن الغاية من العبادات وثمرتها المهمة، حصول المعرفة والتذكر للمعبود الحق. وستُحصل على هذه الخاصيّة من التفكّر الصحيح، أحسن من الحصول عليها عن طريق العبادة.

إذ لعلّ تفكر ساعة واحدة، يفتح أبواباً من المعارف على السالك، لا تفتحها عبادة سبعين سنة، أو إن في تفكر ساعة واحدة تذكّر للإنسان بحبيبه سبحانه، ما لا يحصل من المشاق والمساعي المجهدة فترة سنين عديدة مثل هذا التذكّر.

واعلم أيها العزيز أن تذكر الحبيب، والتفكر فيه دائماً، يثمر نتائج كثيرة لكافة الطبقات.

أما الكُمّلون والأولياء والعرفاء فإن تذكر الحبيب في نفسه، غاية آمالهم وفي

[ 325 ]

ظلّه يبلغون جمال حبيبهم. هَنِيئاً لَهُمْ.

وأما عموم الناس والمتوسطين منهم، فهو أفضل مصلح للأخلاق والسلوك وللظاهر والباطن.

إذا عاش الإنسان مع الحق سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وكافة المستجدات، وشاهد نفسه أمام الذات المقدس عزّ شأنه، لأحجم عن الأمور التي تسخط الله، وردع نفسه عن الطغيان. إن المشاكل والمصائب المنبثقة من النفس الأمارة والشيطان الرجيم قد نشأت عن الغفلة عن ذكر الحق وعذابه وعقابه. إن الغفلة عن الحق تضاعف كدورة القلب، وتمكّن النفس والشيطان من التحكّم في الإنسان وتسبّب زيادة المفاسد على مرّ الأيام.

وأن التذكر للحق جلّ شأنه يبعث على صفاء النفس وصقلها، ويجعلها مظهراً للمحبوب ويوجب صفاء الروح ونقائها، ويحرّر الإنسان من أغلال الأسـر، ويُخرج حب الدنيا الذي هو رأس الخطايا ومصدر السيئات من القلب، ويجعل الهموم هماً واحداً، والقلب نظيفاً وطاهراً لورود صاحبه ـ الحق جلّ وعلا ـ .

فيا أيها العزيز مهما تتحمل من الصعاب في سبيل الذكر والتذكر للحبيب ـ الحق سبحانه ـ كان ذلك قليلاً. روّض قلبك على التذكر للمحبوب، لعل الله يجعل صورة القلب، صورة لذكر الحق، وكلمة لا إله إلا الله الطيبة، الصورة النهائية والكمال الأقصى للنفس، فإنه لا زاد أفضل منه للسلوك إلى الله، ولا مصلح أحسن منه لعيوب النفس، ولا رفيق أجدى منه في المعارف الإلهية.

فإذا كنت طالباً للكمالات الصورية والمعنوية، وسالكاً لطريق الآخرة ومهاجراً ومسافراً إلى الله، اجعل قلبك معتاداً على تذكّر المحبوب، واعجن قلبك مع ذكر الحق تبارك وتعالى.

فصل

في بيان أن الذكر التام هو الذكر البالغ إلى كل أطراف المملكة

ـ جسـم الإنسـان ـ

إن ذكر الحق والتذكر لذاته المقدس من صفات القلب،وإن القلب إذا تذكر

[ 326 ]

ترتبت عليه ـ القلب ـ جميع الفوائد المذكورة للذكر، ولكن الأفضل أن يعقب الذكر القلبي، الذكر اللساني. وإن أفضل وأكمل مراتب الذكر كافّة هو الذكر الساري في نشآت مراتب الإنسانية، والجاري على ظاهر الإنسان وباطنه، سرّه وعلنه.

فيكون الحق سبحانه مشهوداً في سرّ الوجود، وتكون الصورة الباطنية للقلب والروح، صورة تذكر المحبوب. ويطغى على الأعمال القلبية والقالبية ـ الظاهريـة ـ التذكر لله سبحانه. وتنفتح الأقاليم السبع الظاهرية، والممالك الباطنية، على ذكر الحق، وتتسخّر لتذكر الجميل المطلق. بل لو أن حقيقة الذكر تحوّلت إلى صورة باطنية للقلب، وانفتحت مملكة القلب على يديه ـ الذكر ـ لجرى حكمه في كل الممالك والأقاليم ـ القوى الجسمية الظاهرية والباطنية ـ ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل، وأفعال كل القوى والجوارح مع ذكر الحق. ولم تقم ـ القوى الظاهرية والباطنية في جسم الإنسان ـ بإنجاز ما يخالف الوظائف الشرعية المقررة. فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحق، وتَنْفُـــذُ (بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)(1) في جميع أطراف المملكة ـ جسم الإنسان بما فيه القوى الظاهرية والباطنية ـ .

وفي النتيجة يتحول الإنسان إلى حقيقة الأسماء والصفات، بل إلى صورة اسم الله الأعظم، ومظهره. وهذه هي الغاية القصوى لكمال الإنسان ومنتهى رجاء أهل الله. وكلما حصل انخفاض عن هذا المستوى الرفيع، وقـلّ نفوذ الذكر ـ في الإنسان ـ انتـقص وبنفس النسبة من كمال الإنسان، وأثّر نقصان كل من الظاهر والباطن، في الآخر، لأن نشآت وجود الإنسان مترابطة ومتأثرة بعضها ببعض.

ومن هنا يعلم أن ذكر الحق بالنطق واللسان الذي يعدّ من أقل مراتب الذكر، يكون مجدياً ونافعاً أيضاً لأنه:

أولاً: قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره وإن كان هذا الذكر قالباً لا روح له.

وثانياً: يمكن أن يصير هذا الذكر باللسان سبباً لتفتّح لسان القلب أيضاً بعد فترة من المواظبة على ذكر اللسان والاستمرار عليه بشروطه.

ـــــــــــــــ

(1) سورة هود، آية: 41.

[ 327 ]

قال شيخنا الكامل العارف الشاه آبادي ـ روحي فداه ـ يجب أن يكون الإنسان الذاكر مثل المعلم الذي يريد أن يعلم الطفل الصغير الذي لم ينطق بعد الكلمات، حيث يكرر الكلمة، حتى ينفتح لسان الطفل وينطق الكلمة، ثم نرى المعلم يداعب الطفل ويردد الكلمة بمثل ما سمعها من الطفل فيزول تعب المعلم وكأن مددا يبلغه من الطفل. كذلك الذاكر يجب أن يعلم قلبه الذكر إذا لم ينفتح لسانه ـ القلب ـ على الذكر. وسبب تكرار الذكر هو انفتاح لسان القلب على الذكر. وآية انفتاحه ـ لسان القلب ـ أن لسان الفم يتبع القلب، فيزول نصب تكرار الذكر وعنائه. في البدء كان اللسان ذاكرا والقلب استمد الذكر منه، وبعد انفتاح لسان القلب بالذكر، يتبعه لسان الفم، ويستمد اللسان منه ـ القلب ـ الذكر، أو من الغيب.

ولا بُدَّ من معرفة أن الأعمال الظاهرية الصورية لا تليق بمقام الغيب، ولا تحشر في عالم الملكوت، إلاّ إذا بلغها من باطن الروحانية ولُباب القلب مدداً، ووهبها حياة ملكوتية، ولا يكون ذلك إلاّ بالنفحة الروحية التي هي بمثابة الروح والباطن، لصورة خُلوص النية، والنية الخالصة، وبموجبها يحشر الجسم في عالم الملكوت ويعتبر لائقاً للقبول في مقام الغيب القدسي. ولهذا أورد في الروايات الشريفة أن قبول الأعمال على قدر توجه القلب. ومع كل ذلك أيضاً يكون الذكر باللسان محبوباً ومستحباً، ويقود الإنسان في نهاية المطاف إلى الحقيقة. ومن هذا المنطلق ورد في الأحاديث الشريفة مدح عظيم للذكر اللساني. وقليلاً ما تجد موضوعاً يشتمل على أحاديث كثيرة مثل موضوع الذكر. وقد أثــنت أيضاً الآيات الكريمة كثيراً على ذكر الله باللسان. وإن كانت هذه الآيات غالباً ما تتحدث عن الذكر القلبي أو الذكر مع الروح، ولكن تذكر الحق في كل مرتبة محبوب ومطلوب. ونحن نختم الكلام في هذا المقام بعرض بعض الأحاديث الشريفة للتيمّن والتبرك.

فصـل

في ذكر بعض الأحاديث في فضل ذكر الله

في الكافي بِسَنَدٍ صَحيح عَنِ الفُضَيْـلِ بْنِ يَسارِ قالَ : قالَ أبُوعَبْدِاللهِ عليه السَّـلام: "ما مِنْ مَجْلِـــسٍ يَجْـتَمِعُ فِيهِ أبْرارٌ وَفُجّــارٌ فَيَقُومُونَ عَلى غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وجلَّ إِلاّ كــانَ حَسْرَةً

[ 328 ]

عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ"(1) .

من الواضح أن الإنسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة، النتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنها، ويعلم بأنه قد حرم من نعم كثيرة، ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والندامة. فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله.

الكافي بِسَنَدٍ مُوَثَّقٍ عَنْ أبي جَعْفَرٍ عليه السَّلام: "مَنْ أَرادَ أنْ يَكْتالَ بِالْمِكْيالِ فَلْيَقُلْ إذا أرادَ أنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِه."سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلينَ * وَالْحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ العالَمينَ "(2).

وَنُقِلَ عَنِ الإِمَامِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلام بأَنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْونَ يَومَ القِيَامَةِ كَيْلَهُ تَامّاً مِنَ الثَّوَابِ فَلْيَتْـلُوا هذِهِ الآيَاتِ المُبَارَكةِ ـ سبحان ربك إلى آخره ـ فـِي دَبْرِ كُلِّ صَلاةٍ (3).

وَعَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلام مُرْسَلاً، كَفَّارَاتُ المَجَالِسِ أَنْ تَقُولَ عِنْدَ قيَامِكَ مِنْهَا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(4).

الكافي بِإِسْنادِهِ عَنْ ابْنِ فَضّالٍ رَفَعَهُ قَالَ: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِيسى عَلَيْهِ السَّلام: يَا عِيسى اذْكُرْنِي فِي نَفْسِكْ أذْكُرْكَ في نَفْسِي وَاذْكُرْنِي فِي مَلإك أذْكُرْكَ فِي ملأ خَيْرٍ مِنْ مَلأ الآدَميّينَ. يا عيسى ألِنْ لي قَلْبَكَ وَأكْثِرْ ذِكْري فِي الخَلَواتِ وَاعْلَمْ أنَّ سُرُوري أنْ تُبَصْبِصَ إِلَيَّ وَكُنْ فِي ذلِكَ حَيّاً وَلا تَكُنْ مَيِّتاً"(5).

"التبصبص"هو حركة ذنب الكلب نتيجة الخوف أو الطمع. وهذا كناية عن شدّة الالتماس والمسكنة. و( كـُنْ فِي ذلِكَ حَيًّا وَلا تَكُنْ مَيِّتاً ) بمعنى انتباه القلب وحضوره. الكافي بِإِسْنَادِهِ عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام: قالَ "إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مَنْ

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب ذكر الله في كل مجلس، ح 1.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب ذكر الله في كل مجلس، ح 3.

(3) جامع الأحاديث، كتاب الصلاة، ح 3487.

(4) وسائل الشيعة، المجلد 15، ح 28901.

(5) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ذكر اللّه في السر، ح 3.

[ 329 ]

شُغِلَ بِذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي مَنْ سَأَلَنِي (1).

عَنْ أحْمَد بْنِ فَهْدٍ في عُدَّة الدّاعي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى الله عليه وأله وسلم قالَ: ".... وَاعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمالكُمْ [ عِنْدَ مَليكِكُمْ ] وَأزْكاها وَأرْفَعَها في دَرَجاتِكُم وَخَيْرَ ما طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ذِكْرُ اللهِ سبحانه وتعالى فَإِنَّه أخْبَر عَنْ نَفْسِه فَقالَ: أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي"(2).

إن الأحاديث المأثورة في فضل ذكر الله وكيفيته وآدابه وشرائطه تفوق استيعاب هذه الصفحات. والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب الاشتغال بذكر اللّه، ح 1.

(2) عدة الداعي، ص238.

[ 330 ]

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست