.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

عالم المحسوسات المصورة:

تنظيم المدارس:

1 ـ الدراسة الأولية:

2 ـ مدارس اللغات الوطنية:

3 ـ المدارس اللاتينية:

4 ـ الجامعة:

اثر الواقعية الحسية في المدارس

النظرة الترويضية في التربية

اصل النظرة الترويضية الحديثة

مميزات الفكرة الترويضية

تطور الفكرة

نقاط القوة والضعف في هذه النظرية

جون لوك ممثل التربية الترويضية

التربية الجسدية:

التربية الأخلاقية:

التربية العقلية:

  التربية الترويضية في المدارس

  عالم المحسوسات المصورة:

وهو كتاب لاقى أعظم النجاح لما احتواه من صور، وهذه هي المرة الأولى التي يحتوى فيها كتاب مدرسي على صورة ولذلك فقد كان له أثر كبير على ما تلاه من الكتب المدرسية التي قلدته واحتذت مثاله وقد تدرج فيه كومينيوس إلى المعقول وفق طريقة بيكون الاستقرائية. وقد حرص على أن يبدأ كل فصل من فصوله بصورة ذات أجزاء مرقمة وتحتها كلمات أو جمل تحمل الأرقام نفسها.

الموشد الأكبر في التعليم: كتب كومينيوس ما يزيد على مائة كتاب وأشهر هذه الكتب على الاطلاق وأعظمها فائدة كتابه هذا. ومن المؤسف حقاً أن يكون طبع هذا الكتاب باللغة الأصلية التي كتب بها قد تأخر حتى أواسط القرن التاسع عشر. ان الأفكار التي عبر عنها الكتاب والمبادئ التي اشار إليها أفكار حديثة عصرية إلا أن الأسلوب الذي استعمل في التعبير أسلوب شبيه باسلوب ذلك الزمان. والكتاب رغم ذلك يمكن اعتباره حتى اليوم من أمهات الكتب التربوية المفيدة وقد شمل حقلاً واسعاً وعالج مواضيع تربوية متنوعة.

تنظيم المدارس:

سبق كومينيوس زمانه بعصرين على الاقل في فكرته عن تنظيم المدارس، فقد قال بوجوب جعل التعليم على مراحل اربعة وهي:

1 ـ الدراسة الأولية:

كتب كومينيوس كتاباً اسمه (مدرسة ركبة الأم) وفيه أشار إلى ما يشبه رياض الأطفال التي نشأت فيما بعد. والمقصود من الكتاب تنبيه الأمهات إلى الطرائق الواجب اتباعها في تربية اولادهن الاولى وفيه يتحدث عن وجوب العناية بالتربية الجسدية والرياضة والألعاب واعادة الحسنة كما قال بوجوب أعطاء الطفل بعض مبادئ التاريخ والجغرافيا والميتافيزيك وهو لم يقصد طبعاً تدريس هذه الأمور بل قصد أعطاء الطفل فكرة عن الزمان والمكان والخالق. وهذه المدارس يربى فيها الطفل حتى السادسة من عمره.

2 ـ مدارس اللغات الوطنية:

وهي مدارس ابتدائية يداوم عليها الطفل بين السادسة والثانية عشرة ويتعلم فيها اللغة الوطنية وهي بمثابة تحضير للمدارس التي تليها وقد يكتفى بها في حالة أولئك الذين لا يستطيعون الأختلاف إلى (الجمنازيوم).

3 ـ المدارس اللاتينية:

ويبقى فيها التلميذ حتى الثامنة عشرة ويتعلم فيها اللغة اللاتينية وآدابها.

4 ـ الجامعة:

ويبقى فيها الطالب ست سنوات يرحل أثناءها إلى بلد أجنبي للفائدة العلمية والخبرة العملية وبعد المرحلة الجامعية يمكن ايجاد مؤسسات للبحث وكليات للتخصص العالي.

اثر الواقعية الحسية في المدارس

ان الأثر الذي تتركه الحركات التربوية في المدارس بطيء وتدريجي وذلك لاسباب منها ان واضعي النظريات قد لا يكونون من المشتغلين بالتعليم وادارة المدارس ووضع المناهج ومنها ان المعلمين لا يميلون عادة على تغيير ما اعتادوا عليه من عادات والأخذ بطرق جديدة وأساليب غير مألوفة.

وهذا ينطبق على الحركة الواقعية عامة والحسية خاصة التي كان تاثيرها بطيئاً وتدريجاً فلم تقو وتظهر نتائجها إلا في القرن التاسع عشر. وأهم المدارس التي طبقت روح التربية الواقعية الحسية هي المدارس الواقعية الألمانية Real-Schulen التي اسست سنة 1747 والمجامع العلمية الانكليزية Academies التي انشئت سنة 1689 حيث طبقت المبادئ الواقعية بصورة منظمة.

اما الجامعات فقد كانت أبطأ المعاهد العلمية في التأثر بهذا المذهب. وهذا طبيعي لأن الجامعات هي أكثر المعاهد العلمية محافظة. وقد كانت جامعة (هال Halle) اسبق الجامعات التي تأثرت بهذه الأفكار الجديدة. والحق ان جامعة هال كانت الجامعة الاولى التي قبلت الشعار الألماني " حرية التعليم والتعلم " . ثم فشت في اواخر القرن الثامن عشر في الجامعات الألمانية كلها حيث انشئت كراس لاستاذة العلوم الطبيعية وحيث بدأ التعليم باللغة الألمانية ونشر المجلات والكتب باللغة نفسها يصبح شائقاً مقبولاً. اما في انكلترا فقد كانت اكسفورد وكمبرج من أبطأ الجامعات في تقبل الفكرة الجديدة ولم تقبلها حتى أواخر القرن التاسع عشر.

النظرة الترويضية في التربية

جون لوك

اصل النظرة الترويضية الحديثة

كان من نتاج حركة الاصلاح الديني ان اللغة اللاتينية لم تعد لغة الدين ورجال الكنيسة، وفي أواخر القرن السابع عشر لم تبق هذه اللغة لغة الجامعات والمدارس والتعليم، وقبل ذلك حلت الفرنسية محلها في السياسة والبلاطات. ولما ازدهرت اللغات والآداب القومية وخلفت اللاتينية في كونها لغة الثقافة أصبح من الصعب أن تتحكم هذه اللغة في المدارس للأسباب القديمة ولكن المناهج اللغوية الأدبية التي صارت تقليدية في القرن السابع عشر كانت تستمد قوتها من أعمال قرنين كاملين كما انها أوجدت عمليات مدرسية لم تسبق إلى مثلها من حيث الطريقة والفحوى ولذلك فإنه لم يكن من السهل التخلص منها، وعلى هذا فقد كان لابد من ايجاد سبب يبرر الابقاء على هذه التربية الإنسانية الضيقة التي لم تبق لها صلة مباشرة بمطالب العصر العملية، والتي لم تعد صالحة لاستيعاب معارف ذلك الزمان. وقد كانت النظرة الترويضية هي التي أوجدت هذا التعليل.

مميزات الفكرة الترويضية

يمكن تلخيص جوهر هذه الفكرة فيما يلي: " عملية التعليم لا مادته هي العامل الهام في التربية " .

ولهذه الفكرة أشكال مختلفة تتفق كلها في القول بأن العمل العقلي إذا احسن اختياره ينتج قابلية او ملكة تفوق بأهمتيها ما انفق في سبيلها من نشاط، وإذا نميت هذه القابلية امكن استخدامها في فاعلية أو نشاط حتى ولو كانت هذه الفاعلية الجديدة لا تمت إلى الملكة النماة بصلة. بل ان هذه النظرية تذهب إلى أبعد من ذلك فتقول بأن اتقان موضوع أو موضوعين أجدى عائدة من اتقان عدة مواضيع تحتاج للزمان نفسه والجهد ذاته. والتريضيون بعد ذلك يعتقدون ان المواضيع التي تمرن ملكات النفس، اما لأن المبادئ التي تستند إليها عامة مثل الرياضيات والمنطق واما لأن طبيعة فحواها شكلية كاللغات، هامة جداً في التربية، وان أهمية هذه المواضيع راجعة لطبيعة هذه المواضيع بقطع النظر عن علاقتها بالحياة أو امكان استخدام التلميذ لها، وان هذه المواضيع تقوي الذاكرة والعقل تلكما القوتان الضروريتان للنجاح في كل منحى من مناحي الحياة.

تطور الفكرة

ليست الفكرة الجديدة من حيث المبدأ إلا احياء للشكلية المدرسية التي عرفناها في القرون الوسطى وقد اشتركت عوامل كثيرة في تنمية هذه النظرية. وأهم هذه العوامل هي التغييرات الاجتماعية العامة فقد تشددت الواقعية في القول بأن المهم ما نتعلم لا طريقة التعلم فقامت هذه النظرية كرد فعل لهذا القول واستعملت في ردها حجج المدرسية القديمة مضافاً إليها أفكاراً جديدة.

ثم ان التربية الترويضية على اعتبارها تكملة للتربية الإنسانية الضيقة نالت قبول رجال الدين ومن يشاركهم الرأي ودليل ذلك موقف الكنيسة العدائي من ديكارت وبيكون وحتى كومينيوس. ولا شك في ان هذه النظرة الترويضية أقرب إلى قلوب رجال الدين من أي نظرية أخرى وذلك لأن التربية في نظر رجال الدين هي عملية القضاء على الغرائز وترويض نفوس البشر.

ثم ان السيكولوجيا الشائعة في ذلك الوقت والمبنية على نظرية ارسطو في ملكات النفس كانت تؤيد هذه النظرية وتتفق واياها في قولها ان اللغة والرياضيات هي خير ما يمكن أن يمرن هذه الملكات وينميها، حتى ان سيكولوجية بيكون نفسه، شأنها في ذلك شأن سكولوجيا لوك، كانت تساعد هذه النظرية على الازدهار أو على الأقل لا تعاكسها، وذلك لأن فلسفات ذلك العصر كانت تنكر الميول الموروثة ولا تقبل إلا الخبرات المكتسبة كأسس للعمل النفسي، وحتى (تمرين الحواس) الذي قالت به الواقعية فإنه لا يمنع بشكل من الأشكال تمرين الملكات الذي قالت به التربية الترويضية.

ولقد سادت هذه النظرية لدرجة ان ثبوت فساد السيكولوجيا التي بنيت عليها لم يسبب القضاء العاجل عليها فقد استمرت حجة (تقوية ملكات النفس وقواها) تتحكم في المدارس حتى أواخر القرن التاسع عشر بل حتى مطلع القرن العشرين، وحين شقت العلوم الفيزيائية طريقها إلى المدرسة لم يؤثر هذا على قيمة النظرية وذلك لأن الحجة التي استعملت في إدخال هذه العلوم إلى المدرسة كانت قيمتها الترويضية لملكات العقل.

وقد يكون في إثبات ما يقوله فوييه Fouillee (من كتاب القرن التاسع عشر) ورد هكسلي Huxley توضيح لفكرة الترويض هذه. يقول فوييه:

" يقترح هكسلي جعل العلوم الطبيعية أساساً للتربية ويجعل سبنسر، الذي يشارك في عبادة العلوم، تلك العبادة المنتشرة اليوم، العلوم التجريبية موضوع الدراسة الوحيد، إدعاء منه ان الهندسة ضرورية في هذه الحياة من أجل بناء الجسور والسكك الحديدية، كما يقول بوجوب حصولنا على معرفة وضعية في كل صناعة، حتى في صناعة الشعر، ولكن هل تخلق معرفة القواعد الشعرية شاعراً مثل فرجيل أو راسين؟ إن خلق رجل العلم لا يكون عن طريق تعليمه العلوم، لأن العلم الحقيقي، كالشعر الحقيقي اختراع، في استطاعتنا أن نتعلم بناء السكك الحديدية بسهولة ويسر، ولكن الذين اخترعوا السكك الحديدية انما اخترعوها لقوة العقل التي حصلوا عليها لا بقوة العلم الذي تلقوه فقط. ولذلك فإن ما يجب أن نعنى بتنميته هو القوة العقلية. ولنعد إلى المشكلة ولنتساءل: ما هي خير واسطة لتقوية عقول الناشئة وتنميتها، هل هي شحن ذاكراتهم بنتائج العلوم الحديثة؟ أم هي تعليمهم المحاكمة، والتخيل والتركيب والتنبؤ؟ ثم هل يمكن تربية الناشئة لتكوين مهندسين وشعراء؟ ليست التربية تعلم حرفة ولكنها تثقيف القوة الخلقية والعقلية عند الفرد والجنس البشري " .

ويجيب هكسلي على هذا القول بلغة تهكمية مظهراً انه يمكن تنظيم العلوم وتعليمها بشكل يؤمن ترويضاً عقلياً يشبه الترويض العقلي الذي تؤمنه مدارس ذلك الزمان. ثم يقول:

" في استطاعتي تمرين طلابي على المتحجرات السهلة لتقوية ذاكرتهم وتنمية ابتكارهم عن طريق بناء هذه الأجزاء. وأما الذين بلغوا الصفوف العليا فيمكنني اعطاؤهم عظاماً غريبة الشكل ليكونوا منها حيوانات. على أن أمنح أكبر جائزة لمن ينجح في خلق شيطان موافق للقواعد أشد الموافقة. ان هذا يشبه نظم الشعر وكتابة المقالات باللغة الميتة. صحيح ان عالم التشريح الذي سينظر إلى ما خلقه طلابي سيهز رأسه أو يضحك، ولكن مإذا يعني هذا، ان ما فعلته هو بالضبط ما يفعله معلمو اليوم. ومإذا تظن ان شيشرون أو هوراس سيقول في خير انشاء يكتبه طالب الصف المنتهي؟ وهلا يغلق (ترنس Trence) أذنيه ويهرب إذا شهد تمثيلاً انكليزياً لإحدى رواياته وهل يمكن أن تكون رواية (هاملت Hamlet) حين يمثلها ممثلون افرنسيون يصرون على لفظ الانكليزية برطانتهم الافرنسية أشد سخافة" ؟

نقاط القوة والضعف في هذه النظرية

لا شك في أن لهذه النظرية التي تحكمت بالتربية زمناً طويلاً وهوجمت فيما بعد مهاجمة عنيفة ميزات ونقائص يحسن بنا استعراضها. ولعل أهم نقائص هذه النظرية اهمالها مطاليب الحياة عامة ومطاليب الحياة الاجتماعية وكفاءات الفرد خاصة. فقد كانت هذه النظرية تعتقد ان بالامكان تلبية مطالب الحياة كلها بتوجيه الملكة أو الملكات التي نولدها بواسطة التمرين الشكلي في المدرسة، الوجهة المطلوبة، وانه بالتالي لا لزوم للعناية بقابليات الطلاب الفردية أو نقائصهم الخاصة وذلك لأن هذه الدراسات هي خير تهيئة للحياة وان الطلاب الذين لا ينجحون في الحياة بعد تهيئتهم وفق هذه الطريقة يبرهنون في الواقع على انهم لا يصلحون للحياة.

ولكن لهذه النظرية ميزة، ان المواضيع التربوية التي تنتجها هذه النظرية مواضيع تبحث الأفكار المجردة ولذلك تفيد طبقة محدودة من الممتازين فكرياً وتقوي فيهم القدرة على معالجة المواضيع ذات العلاقة بالأفكار المجردة، مثل الحقوق واللاهوت وغيرهما. أما الاحتجاج بأن عملية التثقيف هذه ليست ذات قيمة بالنسبة لمجموع الشعب فنقول ان مثل هذا الاحتجاج لا قيمة له في المجتمع الارستوقراطي وفي عصر لم تكن العاطفة الديموقراطية قد انتشرت فيه.

وأهم حجة عصرية كانت تستند إليها هذه النظرية هي كون هذا الترويض ينمي قوة الانتباه الارادي ولكن علم النفس الحديث يتساءل اليوم عما إذا كانت مثل هذه القوة أو القابلية العامة موجودة. إن قوة الانتباه الارادي للتجريدات اللغوية والحقوقية واللاهوتية التي ينميها مثل هذا التمرين كانت كل ما يلزم لنجاح هذه الطبقة الفكرية الخاصة. وعلى ذلك فإن هذا التمرين الترويضي (سواء فسر بقابلية عامة أو خاصة) كان التربية الناجحة للطبقة التي كانت تستطيع الحصول على تربية. إلا ان دخول أطفال جميع الطبقات إلى المدرسة بما لهم من كفاءات مختلفة وحاجات اجتماعية متباينة أظهر بوضوح قصور هذه النظرية وعجزها عن تلبية حاجات المتعلمين جميعهم.

وما قلناه آنفاً لا يمنعنا من التذكير بالتشابه الموجود بين فحوى أنواع الخبرات المختلفة مما يجعل لبعض المواضيع قيمة عامة ليست لغيرها من المواضيع، فالرياضيات واللغات التي تمرن على أعمال ذات مساس بالحياة عامة لها قيمة عامة تشبه القيمة التي كانت تنسب إليها من قبل أصحاب النظرية الترويضية. ولكن، ومن جهة أخرى فإن قولنا بوحدة النفس يعني وجود تشابه بين العمليات النفسية في كل خبرة مما يجعل لكل موضوع قيمة ترويضية وينفي ضرورة نسب هذه القيمة لبعض المواضيع المفضلة دون سواها ولا سيما إذا كان هذا الموضوع لا يفيد في الحياة العملية (مثل اللغة اللاتينية).

جون لوك ممثل التربية الترويضية

يرى جون لوك John Locke (1632 ـ 1704) ان التربية ترويض وبهذا يقوي الاعتقاد الذي كان سائداً في زمانه. ولكن الترويض الذي يقول به هذا الفيلسوف أوسع من الترويض الذي كان يراه معاصروه من المعلمين. لقد أكد لوك في أكثر من محل في كتاباته ان هواه الأعظم هو حب الحقيقة وان العقل هو الدليل للوصول إلى الحقيقة. ولكن النفس لا تستطيع بلوغ هذا الهدف إلا إذا ربيت تربية خاصة عن طريق الترويض الشديد. إن فلسفة لوك التي عبر عنها في كتابه (مقال عن الفهم البشري Essay Concerning Humn Understanding) هي فلسفة بيكون الخبرية Empiricism والتي ترى ان كل معرفة مصدرها الادراك الحسي والادراك العقلي (أي عن طريق الخبرة) ولوك يرى ان الأفكار والمحاكمات انما تتكون عن طريق الادراك العقلي (بعد أن تكون الحواس قد قدمت مواد الخبرة) وان هذا الادراك العقلي انما ينمى عن طريق ترويض القوى العقلية وملكات النفس (ولا سيما العقل) لا عن طريق الادراك الحسي. ثم ان لوك يرى ان نفس الوليد البشري صحيفة بيضاء وان فضائلها وقواها تكتسب من الخارج وعن طريق تكوين عادات وان تكوين العادات هذا انما يكون عن طريق الترويض. وهو يرى ان الدرس والقراءة غير كافية في التربية وانه لا بد من التفكير والتأمل.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا ان لوك من اشهر، ان لم يكن أشهر المربين الانكليز، فهو يقف على قدم المساواة مع اسكام وسبنسر ولذلك فلا باس في استعراض آرائه استعراضاً مفصلاً.

وقد أشار لوك إلى آرائه التربوية في كثير من كتاباته الا ان كتابه (آراء في التربية: Thoughts Concerning Education) هو اشهرها. ويرى لوك ان أوجه التربية ثلاثة: جسدي وأخلاقي وعقلي وان أهدافها ثلاثة أيضاً هي: قوة الجسد والفضيلة والمعرفة وان الأولى هامة كأساس. فإذا حصل الطفل على القوة الجسدية كان لا بد من تحقيق الأهداف التالية: الفضيلة، الحكمة، والمعرفة.

التربية الجسدية:

يقول لوك: " عقل سليم في جسم سليم ـ وصف قصير ولكنه كامل للحياة السعيدة في هذا العالم. ومن حصل على هذا حصل على كل ما يتمناه المرء من السعادة " وهو يقول بوجوب ارتداء الثياب القصيرة الفضفاضة. والنوم على الفرش الخشنة والعيش في الهواء الطلق والاقتصار على الطعام البسيط وكل ذلك في سبيل الترويض القاسي.

التربية الأخلاقية:

مما يثير الاعجاب بلوك تفريقه بين التربية والتعليم، وهذا ما يفرق بين لوك ومعاصريه من المربين الذين يعتقدون ان التربية هي التعليم. ويرى لوك ان التربية بكاملها لا التعليم فقط يجب أن تكون ترويضاً وان التعليم ليس إلا طريقة التربية العقلية وهو بعد يرى ان هدف التربية الأولى يجب أن يكون: تكوين الخلق. يقول:

" ان الفضيلة، الفضيلة المباشرة، هي ما يجب ان تستهدفه التربية " .

وطريقة تحقيق هذا الهدف ترينا حرص لوك على القيمة الترويضية للتربية. يقول:

" كما ان قوة الجسد تنحصر في القدرة على تحمل المصاعب فكذلك قوة النفس أساس كل فضيلة تنحصر في قدرة الإنسان على انكاره ذاته والقضاء على رغباته وميوله التي لا يسمح بها عقله. وهذه القدرة انما تنال عن طريق التعود والتمرن الباكر. ولذلك فأنا أشير بأن يعود الأطفال على قهر رغباتهم منذ المهد وافهامهم انهم انما يحصلون لا على ما يسرهم بل على ما يجب ان يحصلوا عليه.

وهكذا فالتربية في نظر لوك ترويض وطريق الحصول على الفضيلة هو تكوين العادات الحسنة بواسطة ترويض الرغبات. ويقول بوجوب جعل هذه العملية مسرة بقدر الامكان ولذلك يجب اجتناب العقاب الجسدي. ولكن سر التربية هو مراقبة الرغبات والغرائز والقضاء عليها أو ضبطها لا اتباعها وتثبيتها.

التربية العقلية:

يتفق لوك في كثير مما يتعلق بمواضيع الدرس مع الواقعيين الحسيين ولكنه يصر دوماً على نظرته الترويضية، يقول:

" التعلم المحل الثاني بعد الفضائل " .

ويقول في محل آخر:

" ليس عمل التربية تمكين الطفل من اتقان علم ما ، بل فتح نفسه وتجهيزها بما يمكنها من اتقان أي علم عندما يرى لزوماً له... ولذلك فعمل التربية هو زيادة قوى النفس وفاعلياتها لا توسيع محتوياتها.

وهو يرى ان التربية العقلية تنحصر في تكوين العادات الفكرية عن طريق التمرين والانضباط. وهو يرى ان الرياضيات هي خير ما يستعمل لهذه الغاية. ولذلك يجب تعليم الرياضيات لكل من عندهم الوقت الكافي ومن تتاح لهم الفرصة.

ثم يقول " وليست الغاية جعلهم رياضيين، بقدر ما هي جعلهم مخلوقات عاقلة " .

ويتابع رأيه فيقول:

" اننا نسمي أنفسنا عاقلين لأننا نستطيع أن نكون عاقلين إذا أردنا ولكننا نستطيع القول بأن الطبيعة لا تمنحنا أكثر من البذور اللازمة لذلك وان التمرين ضروري لكي ننال صفة العقل. لقد قلت بوجوب دراسة الرياضيات في سبيل تكوين عادة المحاكمة العقلية، لا اعتقاداً مني بأن الناس جميعهم يجب أن يصبحوا رياضيين، ولكن ايماناً مني بأن في امكانهم، وقد حصلوا على ملكة المحاكمة الصحيحة أن ينقلوا هذه القابلية إلى أجزاء المعرفة الأخرى "

التربية الترويضية في المدارس

في انكلترا:

نقد لوك للمدارس الانكليزية في عصره يجب أن لا يعمينا عن الاتفاق الأساسي بين نظرته التربوية ونظرتهم. ان ما احتج عليه لوك هو " ان المدارس قد قصرت جهدها على التربية العقلية وانها في هذا التمرين قد عنيت بما ليس مهماً من فاعليات النفس وان الوسائط التي استعملتها وخاصة اللغة اللاتينية محدودة الأثر وتنمي قابليات وملكات قليلة القيمة " . أما في ما عدا ذلك فقد كانت النظرة الترويضية سائدة في مدارس انكلترا.

هذا وان المبالغة في استخدام العقاب الجسدي لأتفه الأسباب كما ان تكليف التلاميذ الصغار بخدمة الكبار وتحكيم الكبار بالصغار، كل ذلك يدلنا على مقدار سيادة النظرة الترويضية في المدارس الانكليزية خلال القرن الثامن عشر وقسم كبير من القرنين السابع عشر والتاسع عشر، كما ان المناهج الفقيرة المحدودة التي لا تتجاوز قواعد اللغتين اللاتينية واليونانية والانشاء فيهما والتي تحكمت في المدارس الانكليزية حتى مطلع القرن التاسع عشر تؤيد سيادة الفكرة الترويضية القائلة بأن المواضيع غير مهمة في التربية وان الأهمية كل الأهمية لقيمة المواضيع الترويضية.

أما في الجامعات الانكليزية فقد كانت الروح ذاتها تسود التربية حتى وقت متأخر. لقد كانت الآداب القديمة والرياضيات هي كل شيء حتى ان مواد الامتحان كانت تنتخب منها وحدها حتىسنة 1850 في اكسفورد وسنة 1851 في كمبردج. ولعل أصدق دليل على ضيق المفهوم التربوي لهذه الجامعات هو انه ما من عالم من علماء تلك العصور عمل في هذه الجامعات.

في المانيا:

لا أدل على سيادة هذه النظرية في المدارس الألمانية من الاسم الذي كانت تسمى به المدرسة الألمانية النموذجية ونعني بها مدرسة (الجمنازيوم) أي (محل ترويض النفس وتمرينها).

لقد قلنا في الفصل السابق ان المفهوم الواقعي الحسي لم يؤثر على المدرسة الألمانية إلا في القرن التاسع عشر وان هذا التاثير كان خفيفاً خلال ذلك القرن. أما التربية الإنسانية المبنية على الأساس الترويضي فقد كانت عامة لا سيما وان الكنيسة تبنت هذه النظرية. إلا ان الإنسانية الجديدة التي استيقظت في أواخر القرن الثامن عشر جعلت للتربية الألمانية هدفاً جديداً. لقد رأت الإنسانية الحديثة استخدام اللغات الكلاسيكية لغاية جديدة الا وهي تنمية روح الفردية وتقوية الروح القومية والنشاط الوطني عن طريق التعرف على الحياة اليونانية. وهكذا فقد صارت اللاتينية ثانوية بالنسبة لليونانية واستبدلت التربية المدرسية الترويضية بمثل أعلى جديد هو الثقافة المتجلية في الحياة والنشاط. ولكن هذه الحركة لم يطل أمدها وعادت التربية الترويضية إلى سيادتها القديمة حتى لقد قال الامبراطور الألماني سنة 1892 متحدثاً عن التربية التي تسود المدارس الألمانية في زمانه ما يلي:

" لو ناقشت هؤلاء السادة (مناصري التربية الكلاسيكية الضيقة) وحاولت إقناعهم بأن الطفل يجب أن يهيأ للحياة ومشاكلها لقالوا لك بأن هذا ليس من عمل المدرسة التي تستهدف ترويض النفس. وان هذا الترويض إذا حسن، يمكّن الطفل من القيام بكل ما هو ضروري في الحياة. وأنا أعتقد انه ليس بالامكان قبول هذه النظرية بعد الآن " .

في أميركا:

كان التخلص من الأفكار القديمة أسرع في أميركا منه في أي قطر آخر وذلك للأسباب الاجتماعية المختلفة ولحداثة البلاد. ومع ذلك فإن الفكرة الترويضية انتشرت وسيطرت على قسم كبير من العمل المدرسي. ولعل من الغرابة بمكان أن تكون هذه النظرية قد دامت في المدرسة الابتدائية مدة أطول من المدة التي سادت خلالها في المدرسة الثانوية أو الجامعة. إلا ان المواضيع الحديثة بدأت تشق طريقها في مطلع القرن التاسع عشر نازلة من الجامعة والمدارس الثانوية إلى المدرسة الابتدائية.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست