.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

النهضة والتربية الإنسانية

ماهية النهضة

النهضة في ايطاليا

النهضة في شمالي أوروبا

المعنى التربوي للنهضة:

أ ـ احياء فكرة التربية الحرة

ب ـ التربية الإنسانية الضيقة

بعض المربين في عصر النهضة

فيتورينو دا فلترا Vitturino Da Felrta

ايراسموس Erasmus

المربون الإنسانيون الانكليز

النهضة والتربية الإنسانية

ماهية النهضة

كانت النهضة الكلاسيكية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر حركة فكرية واجتماعية جمالية (بديعية) ولقد احدثت، بوصفها هذا، تغييرات تربوية عميقة الأثر. ان النظام المنطقي الكامل للفكر والحياة والتربية الذي تمخضت عنه القرون الوسطى نتيجة للرهبنة والفروسية والمدرسية ان غير مستقر وذلك بسبب كماله الذي اشرنا إليه ونقدناه، ذلك الكمال الذي وقف في وجه كل تغيير أو تقدم. انه أقصى الفرد ولذلك صارت الفردية أوضح مميزات عصر النهضة. لقد قام النظام الفكري الذي بناه المدرسيون والنظام الاجتماعي الذي انشأه الرهبان والفرسان على انهما محلان للحياة الكاملة فبرهنا على انهما سجن. وما كان بناتهما ينتهون من بنائهما حتى قوضهما الناس على اعتبارهما رمزين للعبودية، ولكن هذا لم يمنع البناة الجدد من أخذ انقاضهما واستعمالها في البناء الجديد.

ورغماً عن تباين وجوه النشاط في عهد النهضة، فإن من الممكن جمعها في ثلاثة اتجاهات عامة تكاد لا تكون معروفة في القرون الوسطى. أول هذه الاهتمامات هو الاهتمام بالماضي. لقد ادرك رجال النهضة ان اليونان والرومان عاشوا حياة غنية ثرة وأنهم لذلك عرفوا العالم اكثر مما عرفه رجال القرون الوسطى وانهم انتجوا أدباً وفناً لم تنتج القرون الوسطى مثله ولذلك فقد وجه رجال النهضة اهتمامهم نحو هذه الآداب والفنون. وثاني هذه الاهتمامات هو الاهتمام بالعواطف، لذة الحياة عامة والتلذذ بالجمال خاصة. ثم لذة التأمل والتحليل البديعيين الإنسانيين التي اخذت تحتل مكاناً أسمى من لذة التأمل الديني أو الفلسفي. ولقد اعتقد رجال النهضة ان طريق الحصول على هذه اللذائذ هو الاهتمام بالحياة الواقعية والمساهمة فيها بغية تثقيف النفس والسمو بها فكانت النتيجة لكل هذا ارتقاء الآداب والفنون ارتقاء كان غير ممكن في اثناء القرون الوسطى التي كانت تتجاهل هذا العالم. وثالث هذه الاهتمامات كان الاهتمام بالطبيعة، ذلك الاهتمام الذي لم يكن مجهولاً في اثناء القرون الوسطى فحسب بل كان يعتبر غير لائق وذا أثر سيء على الإنسان.

كانت نتيجة الاهتمام الأول الاهتمام بدراسة اللغتين اللاتينية واليونانية وآدابهما ثم تلا هذا الاهتمام بالبحث عن مخطوطات اللغتين وكان من أثر ذلك أن تعرف العالم على قسم كبير من هذه المخطوطات ثم عممها عن طريق الطباعة. ولا بد هنا من التنبيه إلى وجوب عدم الخلط بين وسائط النهضة وغاياتها أو أسبابها فإن إحياء الآداب الكلاسيكية ليس سبب النهضة، ان سببها عميق الجذور في التاريخ يجب لمعرفته ان نتتبع مجرى الفكر البشري عامة ولا نقتصر على ما يذكر عادة من الاسباب الفرعية كظهور بعض الأدباء الكبار أمثار بترارك Petrarch ممن تملكهم هوى التعريف على آداب القدامى. ان كتب القدماء كانت واسطة لتقدم المعرفة هذا واتساع آفاق أدباء ذلك العصر اتساعاً جعل منهم قادة لتلك الحركة. ولقد كانت نتيجة دراسة هذه الآداب استثارة الاهتمام بكل ما يشحذ الخيال ويدغدغ القلب. ويجب ان نشير هنا على انه رغماً عن ان الأهمية الكبرى كانت للآداب فإن الاهتمام بالفنون الاخرى كان أقوى منه في أي وقت سابق. ولقد ادى الاهتمام بالحياة العاطفية إلى الانتاج الأدبي والفني بما في ذلك الشعر والدراما والقصص والتاريخ وبالتالي العلوم الاجتماعية وقد بدأ التطور في أول الأمر بمعاكسة الاهتمام الديني السائد ثم عاد وأصبح دينياً في القرن السادس عشر ولكن الأساس المدرسي السابق تغير فأصبح إنسانياً.

وأخيراً فإن اعتقادات اليونان وطرائقهم قادت طلاب العلم في عصر النهضة إلى ملاحظة الحوادث الطبيعية ملاحظة مباشرة والتجريب فيها تجريباً علمياً مما أدى إلى الاكتشافات الجغرافية البرية والبحرية كما أدت إلى الاكتشافات الفلكية التي أصبحت فيما بعد أساساً للتفكير العلمي الحديث. ولقد قادت هذه النزعة إلى دراسة الطبيعة إلى تعديل الافكار وكان من نتاجها عمل (بيكون Bacon) و(ديكارت Descartes) في القرن السابع عشر وإلى الأبحاث الفيزيائية والبيولوجية الحديثة. وهكذا يمكننا القول بأن الاتجاهات التربوية التي تلت عصر النهضة لم تكن إلا نتاجاً له.

ومن المناسب ان نشير هنا إلى ان الانتقال من التفكير القديم إلى التفكير الحديث كان تدريجياً ولم تتخل الافكار القديمة عن مكانها إلا بعمل القرون الطويلة. والواقع ان آثارها ما زالت موجودة حتى الآن.

النهضة في ايطاليا

كانت ايطالي مركز النهضة وذلك لتركز الحياة السياسية والدينية والفكرية فيها وقد جرى ذلك خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر بكامله. أما أسباب هذه الحركة فهي تأثير الجامعات من جهة والنشاط الفكري الذي تميز به القرن الثالث عشر ويمكننا ان نعتبر (دانتي Dante) (1264 ـ 1321) الذي كانت عقليته حديثة وقديمة في الوقت نفسه حلقة اتصال بين العهدين.

ولقد قلنا في الفصول السابقة ان معرفة اللغة اللاتينية اصبحت أمراً غير نادر خلال القسم الأخير من القرون الوسطى وذلك بسبب العثور على كثير من المخطوطات التي كتبت بهذه اللغة كما قلنا ان فرجيل Vergil كان معروفاً تمام المعرفة ولكننا أشرنا إلى أن تذوق الآداب القديمة وقبولها لم يكن شائعاً شيوع منطق أرسطو والفلسفة المدرسية التي بنيت عليه.

ولا بد لنا من الاشارة إلى جهود بترارك Petrarch (1304 ـ 1374) الذي جاهد ضد المدرسية والافكار التربوية الشائعة في زمانه. ولقد كان لنبوغ هذا الزعيم الأدبي ولحماسته الفضل في اهتمام الناس بالآداب القديمة اهتماماً مخالفاً لمفاهيم أهل زمانه ولتعاليم الجامعات والكنيسة في ذلك الحين. هذا وانه وان كان بترارك ليس الوحيد الذي بشر بهذه الافكار، فإن له رغم ذلك مقاماً فريداً في تاريخ التربية، حتى انه ليعتبر الممثل الاول والاكبر للاتجاه الفكري الجديد.

ان عمل بترارك واخوانه يعني أشياء أكثر من مجرد الاحتجاج على ضيق الفكر في القرون الوسطى. انه يعني التنبيه إلى أهمية الحياة وخبراتها، تلك الخبرات التي جهدت روح القرون الوسطى في إنكارها وتحريمها. ولقد كانت كتابات بترارك أول من نبه إلى قيمة النفس البشرية في افراحها واتراحها، ولقد كان الفضل له في التنبيه إلى قيمة الغوص على النفس وتحليلها والنظر فيها، تلك الميزة التي تتصف بها الآداب الحديثة. وإذا كانت كتابات بترارك قد بالغت في تقدير قيمة هذا العالم والتقليل من قيمة العالم الآخر فإن ذلك إنما كان رد فعل منتظر على سخافات القرون الوسطى.

هذا وتجب الاشارة هنا إلى اننا إذا نظرنا إلى كتابات بترارك نظرة ضيقة فإننا لا نجد فيها ما يمكن أن يعتبر تربوياً. ان كتاباته التي كتبت باللغة المحلية والتي اشتملت على قصائد ورسائل وتاريخ أدب لا تشتمل في محتواها على ما يمكن أن يعطي بترارك محله في تاريخ التربية. ولكن ما يعطيه هذا المحل هو نظرته الجديدة للحياة عامة والروح التي تسبغها على التربية خاصة. لقد كانت النهضة في ايطاليا شخصية وفردية وبقيت كذلك، إنها لم تحاول قط اصلاح الأخلاق أو محاربة الدين وما في الحياة الاجتماعية من ضيق ولكنها كانت تعبيرات شخصية عن حياة الافراد ومشاعرهم.

ولقد تعاون مع بترارك مفكرون وأدباء كثيرون أشهرهم بوكاشيو Bocaccio (1313 ـ 1375) الاديب المشهور فقادوا حملة قوية تهدف إلى احياء اللغة اللاتينية وآدابها والحصول على مخطوطاتها واصلاح هذه المخطوطات وانشاء المكتبات. أما الجهود في سبيل إحياء اللغة اليونانية فلم يشترك فيها بترارك وان كانت ايطاليا ومفكروها قد عملوا في ذلك جاهدين ولعل أشهر وأول معلم حقيقي للآداب واللغة اليونانية هو (كريزولوراس chrysoloras) الذي مات سنة 1415 والذي حاضر في جامعة فلورنسا وفي غيرها من الجامعات الايطالية ثم عم تعليم اللغة اليونانية وتكاثر عدد معلميها فازدادت ثروة الغرب الأدبية والعلمية. وما كادت النهضة تبلغ أشدها وتتجه نحو شمال الألب حتى كانت اللغتان اللاتينية واليونانية قد استعادتا سابق مجدهما. والإنسانية مدينة بأكثر ما تملكه الآن من كنوز هاتين اللغتين إلى عصر النهضة هذا.

النهضة في شمالي أوروبا

في النصف الأخير من القرن الخامس عشر وفي معظم القرن السادس عشر طرأ تغييران هامان على النهضة:

1 ـ بدأت أفكار النهضة تنصب في قوالب شكلية لا تفوق القوالب القديمة إلا قليلاً.

2 ـ انتقلت الحركة إلى شمالي الألب فرحب بها الافرنسيون أولاً ثم احتضنتها الشعوب التوتونية فآتت خير الاكل.

في الجنوب بدأت التعاليم الجديدة تضيع أفقها الواسع واهتمامها الشديد بالطبيعة والحياة وايمانها بالفرد وتطوره وأخذت تمركز اهتمامها حول الدراسة الشكلية للآداب حتى انتجت ما يسمى تربوياً بالشيشورونية. أما في الشمال فإن الثقافة والذوق البديعي لم يعتبروا واسطة النمو الشخصي كما كان الحال في ايطاليا. ان الشمال لم يهتم بالحياة أو مسراتها وامكاناتها وفرصها في نمو الفرد ولم يفرق بين الحياة وبين الدين. كما أن الاهتمام بالطبيعة ودراستها كان أضعف منه في الجنوب ولذلك فإن (ايراسموس Erasmus) الذي يعتبر ممثلاً للنهضة في عهدها الثاني لم يهتم بكل هذه الاتجاهات. وبما ان الفلسفة والفنون والحفريات اهتمامات تعبر عن الميل إلى تثقيف الذات وإنماء الشخصية فإن الاهتمام بها كان قليلاً نسبياً.

وهكذا فنحن إذا نظرنا إلى النهضة في الشمال من وجهة الفرد والنماء الشخصي نرى أنها ضيقة محدودة، أما إذا نظرنا إليها من وجهة المجتمع فإننا نقطع بدون تردد بأنها أوسع وأنمى ولقد نتج عنها اصلاح اجتماعي ذو بال. ان الحركة في الجنوب كانت ارستوقراطية أما في الشمال فقد بقيت ديموقراطية حتى أواخر القرن السادس عشر. وكان زعماؤها كلهم مصلحين اجتماعيين أو دينيين وعلى أيديهم امتزج الاصلاح الاجتماعي بالاصلاح الديني. لقد كانت أعمال (ايراسموس) كلها تهدف إلى هدف واحد فقط ألا وهو القضاء على الجهل الذي اعتبره ايراسموس أساس كل شر في الكنيسة أو الدولة ولقد الح في شجب الأنانية والطمع والنفاق عند اولئك الذين يستخدمون مراكزهم ان في الحكومة أو في الجامعات أو في الكنيسة لتقوية الجهل عند من وسدت أمورهم إليهم.

المعنى التربوي للنهضة:

أ ـ احياء فكرة التربية الحرة

إن دراسة الآداب الكلاسيكية لم تكن المظهر الهام لروح النهضة فحسب ولكن هذه الآداب أصبحت الواسطة الرئيسية لتطور الحياة الجديدة. ان الآمال الجديدة لنمو شخصية الفرد الأخلاقية الحرة لم تجد من الماضي القريب إلا أساساً واهياً وتشجيعاً لا قيمة له. على عكس حياة القدامى المتجلية في آدابهم والتي أصبحت مثلاً يحتذى وحافزاً يعتد به. نعم ان النهضة لم تكن محاولة مباشرة لاحياء أفكار القدامة وطرائق حياتهم. ولكنها مع ذلك اصبحت تقليداً لهم. وسبب ذلك اعتقاد رجال النهضة بأن بعض وجوه الحياة كانت كاملة عند القدامى لا يمكن تحسينها وأن بعضها الآخر يمكن أن يحور تحويراً طفيفاً لتتناسب مع مقتضيات القرنين الرابع عشر والخامس عشر لا سيما وان الحياةحينئذ كانت عجفاء متواضعة.

ولعل أهم وجه لهذا الاحياء هو احياء فكرة التربية الحرة كما فهمها اليونان والرومان وقد يتراءى للناظر في النهضة من الوجهة التربوية إنها ليست إلا انصرافاً لدراسة الآداب الكلاسيكية والتمارين اللغوية ولكن هذا ليس لب الأمر، أو قل انه ليس لب الأمر بالنسبة لقيمة النهضة على الأقل، لقد كانت الرغبة الكبرى رغبة في نمط من الحياة جديد وبالتالي في نمط من التربية جيد معاد للقديم، مضاد لدعاوى المدرسية المتحذلقة. ولقد وجد مفكروا النهضة طلبهم في تربية القدامى الحرة.

لقد كانت النهضة في عهديها الأول والأخير غزيرة الانتاج التربوي. ولم تكتف الكتابات التربوية الاولى باحياء فكرة التربية الحرة بل انها عرفت التربية تعريفات افلاطون وارسطوا وكونتيليان لها. لقد كان هدف التربية في نظر رجال النهضة الاولى انتاج الإنسان الكامل المناسب للمساهمة في نشاط المؤسسات الاجتماعية السائدة.

ولقد كان المثل التربوي الأعلى فردياً يختلف كل الاختلاف عن المثل الأعلى عند الرومان (النجاح الفردي للمواطن) أو عند الرهبان (الزاهد والمتقشف) أو عند المدرسيين (الترويض العقلي الشكلي) ولذلك فقد اعتبر ديموستين وارسطو وقيصر وبالأخص شيشرون المثل الأعلى للمثقفين.

ومن المناسب هنا ان نشير إلى غاية التربية كما فهمها بعض المربين الأوائل من رجال النهضة. يقول (بولس فرجيريوس Paulus Vergerius 1349 ـ 1420) وقد كان استإذا في جامعة بادوا " اننا نسمي دراسات حرة كل الدراسات اللائقة بالإنسان الحر، تلك الدراسات التي نحصل بواسطتها على الفضيلة والحكمة وتلك التربية التي تظهر مواهب الجسد والنفس وتنميها وتسمو بها وتعتبر بحق في المنزلة الثانية بعد الفضيلة " . ولكي يميز بين هذا النوع من التربية وبين التربية العملية المحضة التي كانت تخاصم التربية الحرة في زمان انتعشت فيه الحالة الاقتصادية اضاف قائلاً: " ان الربح والسرور هما غاية الوجود الوحيدة في نظر العامي. اما في نظر ذي الخلق الرفيع فإن الغاية هي الخلق القويم والشهرة " .

ولقد خصص القسم الأكبر من الكتابات التربوية في ذلك الحين لمناقشة محتوى التربية وطريقتها وذلك لأن اختلاف التربية الحديثة عن التربية القديمة كان في المحتوى والطريقة. وإذا كان افلاطون قد عرّف هدف التربية على انه المعرفة وعرّفه شيشرون على انه الاناقة (ويعني بذلك معرفة محتوى الأدب وشكله) فإن المعرفة والاناقة كانتا تعنيان في عصر النهضة أكثر بكثير مما تعنيان الآن، انهما لم تكونا تعنيان الناحية الشكلية أو التلقينية من التربية فحسب بل كانتا تشملان إلى جانب ذلك التعبير عن الأفكار تعبيراً لا يقتصر على الكتابة والكلام فقط بل يتعداه إلى كافة مناحي النشاط البشري. ومن أهم مظاهر التربية في عصر النهضة اشتمالها على عناصر كانت شائعة أيام اليونان والرومان ثم زالت أثناء القرون الوسطى (باستثناء الفروسية) وأول هذه العناصر هو العنصر الجسدي وما رافقه من اهتمام بالسلوك والأخلاق. وبهذا المعنى يمكن اعتبار التربية الاولى في عصر النهضة مزيجاً من التربية الفروسية والأدبية وهو مزيج يفوق ما سبقه وما لحق به. وأما العنصر الآخر فهو الفكرة القائلة بأن الاهتمام الأدبي يجب ان لا يكون تأملياً يقود إلى قلة الاهتمام بالحياة العملية. ويمكننا التاكيد بأنه رغماً عن الطبيعة الأدبية للتربية في عصر النهضة فإن صحة المحاكمة العملية في الحياة اليومية كانت من أهم أهدافها فنتج عن ذلك ان اصبح للعنصر الأخلاقي أهمية كبيرة جديدة تختلف عن طبيعته في القرون الوسطى تلك الطبيعة الدينية اللاهوتية. والعنصر الثالث هو العنصر البديعي الذي لم يكن له اثر في تربية القرون الوسطى بسبب فكرة التقشف التي سادتها حتى لقد أصبحت لهذا العنصر أهمية خاصة عبر عنها بدراسة الآداب التي سادت المدارس ولم تقتصر على اللغة فقط بل تعدتها إلى السلوك.

ب ـ التربية الإنسانية الضيقة

سمي محتوى التربية الجديدة المؤلف من اللغتين اليونانية واللاتينية وآدابهما بالإنسانيات Humanities وذلك لأن اهتمام التربية الحرة كان موجهاً إلى الفاعلية والنشاط الخاصين بالنوع البشري وما آداب اليونان والرومان إلا واسطة لفهم هذا النشاط وهذه الفاعلية البشرية ولكن ما كاد يطل القرن السادس عشر حتى اصبحت هذه الواسطة غاية في حد ذاتها واصبحت كلمة (إنسانيات) تدل على لغات القدامى وآدابهم وأصبح هدف التربية بالتالي اللغة والأدب عوضاً عن الحياة. واتجه النشاط التربوي نحو اتقان هذه الآداب كما اصبح القسم من هذه الآداب المتميز باناقة شكله مركز الاهتمام التربوي ولذلك فقد اتجه الاهتمام إلى الشكل لا إلى الفحوى وكان من نتاج ذلك التغير التدريجي نوع من التربية احط من النوع الذي ساد في النهضة. ومن المؤسف حقاً ان يكون هذا النوع قد ذاع وشاع وبقيت آثاره حتى العصر الحاضر وهكذا فقد أصبح المدلول المستعمل للتربية الإنسانية هو ذلك النوع من التربية اللغوية الضيقة التي سادت مدارس اوروبا من القرن السادس عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر.

ولقد خلا المفهوم الضيق للتربية من العنصر الجسدي والاجتماعي ولم يعد المقصود من دراسة الآداب القديمة التهيئة للحياة عامة وللحياة الاجتماعية خاصة، كما خلت التربية من كل محاولة لدراسة الطبيعة أو المجتمع في البدء ثم من الرياضيات فيما بعد. ولم تعد فردية هذه التربية تنمية لمحاكمات الفرد وقابلياته بل أصبحت تمرينا له على الشكليات وتهيئة لحياة شكلية كانت مقبولة في ذلك الحين ولم يبق من العناصر البديعية التي تميزت بها التربية الاولى إلى دراسة البديع والبيان واقتصرت التربية مرة اخرى على عمل المدرسة، ذلك العمل الذي كان مغرقاً في الشكلية القاصر على اللغة والأدب. وحتى التذوق الأدبي لم يعد أمراً  مهماً لأن الأهمية انتقلت إلى الشكل. وقد شملت هذه النزعة الجامعات كما سادت المدارس الثانوية. وما كاد القرن السابع عشر يطل حتى أصبحت شكلية هذا النوع من التربية لا تقل سخافة عن شكلية التربية المدرسية حتى ليمكننا القول بأن هذه التربية لم تفعل أكثر من انها انزلت سقراط عن العرش لتجلس عليه شيشرون. ولقد سميت هذه التربية الإنسانية الضيقة بالشيشرونية. ولقد كان الشيشرونيون يدعون ان هدف التربية ليس إلا تمكين الفرد من الانشاء باللاتينية انشاء صحيحاً وان شيشرون هو معلم مثل هذا الانشاء ولذلك فعمل المدرسة يجب أن يقتصر على دراسة كتابات شيشرون ومقلديه وأن الحديث والكتابة يجب ان يكونا على طريقة شيشرون وبجمله. ولقد احتج على هذه الشيشرونية الضيقة التي سادت ايطاليا وفرنسا ايراسموس Erasmus وكتب ضدها وهجاها.

وهكذا فإننا نجد ان هدف التربية الإنسانية أصبح قاصراً على الاطلاع على الأدب الكلاسيكي. وبصورة خاصة على اقسامه المشتملة على صناعات بديعية وبيانية يضاف إلى ذلك كتابة اللغة اللاتينية والتحدث بها حتى أصبح فحو التربية ومواد الدراسة في المدرسة لا شيء أكثر من تمرين طويل في قواعد اللغة اللاتينية. ولغة الكلام اللاتينية نفسها كان المفروض فيها ان تكون شيشرونية صحيحة. وإذا أضيف إلى اللغة اللاتينية شيء فبعض اللغة اليونانية وشيء بسيط من الحساب أما الطرائق المتبعة فكانت نحوية شكلية لا تلتفت إلى طبيعة الطفل الذي كان يعتبر رجلاً صغيراً تختلف طبيعته عن طبيعة الراشد بالكم لا بالكيف، ولذلك فقد كان يطالب بتعلم لغة أجنبية قبل أن يتعلم لغته هو وكان عليه ان يتعلم هذه اللغة عن طريق دراسة شكلية للنحو والبيان وبواسطة كتب مكتوبة بهذه اللغة ولذلك فقد اشتد الاهتمام بالحافظة وهبط مستوى التربية حتى عن أيام المدرسية، واصبح العقاب البدني المشوق التربوي الوحيد والوازع الأخلاقي الأهم. وهكذا فقد ساد الشكل مرة أخرى كل نواحي التربية وبالتالي كل نواحي الحياة.

بعض المربين في عصر النهضة

لم يكن كل المربين الكبار في عصر النهضة معلمين، وكثيراً ما جاءت الآراء التربوية في معرض الكلام عن المعرفة الجديدة وأهمية الآداب ولذلك فإن مصدر الكتابات التربوية الأولى في ايطاليا كان من خارج الجامعات والمدارس. هذا وقد أشرنا في الصفحات السابقة إلى مكان بترارك وبوكاشيو وغيرهم من الإنسانيين في التربية ومن المهم ان نلاحظ هنا ان كثيرين من هؤلاء الإنسانيين الاول، من كانوا منهم على صلة بالجامعات، أو من كان على صلة بالبلاطات، كانوا ذوي إملاق ولذلك فقد درجوا على قبول طلاب خصوصيين يعلمونهم في بيوتهم فساعد عملهم هذا، لا عملهم الجامعي، على اتضاح معالم النظام التربوي الجديد، وعلى ظهور أثرهم العظيم على الفكر عامة والتربية خاصة. وفيما يلي ترجمة واحد من هؤلاء المشاهير تعتبر مثلاً لحياة الباقين:

فيتورينو دا فلترا Vitturino Da Felrta

(1378 ـ 1446) يعتبر دافلترا اشهر المربين الايطاليين في ذلك العهد. ومما يؤسف له ضياع كتبه جميعها، ولذلك فإن تاثيره إنما جرى عن طريق تلامذته ومدرسته. ودافلترا نتاج الرعيل الاول من الإنسانيين وعمله متصل بعملهم وقد علم بصورة خاصة في بادوا وفينيسيا كما علم في جامعة بادوا قبل أن ينشئ مدرسته التي كان لها أكبر الاثر والتي انشأها سنة 1428 بتكليف من (أمير مانتوا) الذي أحب ان يكون في بلاطه مدرسة تبشر بالتعاليم الجديدة وتضاهي مدارس البلاطات المجاورة. وقد بقي دافلترا في هذه المدرسة حتى وفاته. ولا نبالغ إذا قلنا ان هذه المدرسة تمثل أول محاولة لتنظيم التربية الجديدة في مدرسة خاصة متميزة عن الجامعة. وفي هذه المدرسة حقق دافلترا فكرة اليونان عن التربية الحرة تحقيقاً عصرياً وعلم للمرة الأولى آداب الرومان وتاريخهم ومدنيتهم عوضاً عن لغتهم فقط ولذلك سمي فيتورينو دافلترا فيما بعد بالمعلم العصري الأول. وقد عمل دافلترا على عقد الصلة بين أطفال النبلاء من الجيران وبين ابناء البلاط حتى اتسعت المدرسة واحتلت قصراً بكامله. ولقد كان هدفه ان يجعل حياة الطلاب نشيطة وسعيدة إلى أقصى حد ممكن وذلك لكي يتحقق بالفعل اسم المدرسة ألا وهو " البيت البهيج " ، ولقد قرن دافلترا الرياضة والألعاب بالدراسةوالتقدير البديعي والأخلاق المسيحية (وهي أهمها) ورغماً عن ان البرنامج استبقى الفنون الحرة السبعة فإن الأدب سادها. ولعل أظهر تغيير هو التغيير في الهدف. ذلك ان التربية أصبحت الآن التحضير لحياة مفيدة متزنة غايتها القيادة في الكنيسة والدولة وذلك عن طريق معرفة خير ما في حياة اليونان والرومان والعطف على ثقافتهم وأدبهم. ولقد تميزت مدرسة مانتوا هذه بأن طلابها كانوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم وأن ميولهم الطبيعية كانت تراعى في معظم العمل المدرسي وان نشاطهم الذاتي كان موضع اهتمام المعلم كتمهيد لتهيئتهم للحياة.

المربون الإنسانيون الألمان: وهم كثرة، وتعود أهميتهم إلى اشاعتهم الروح الجديدة بين الطلاب الالمان أكثر منها إلى وضعهم نظريات تربوية حديثة اشهرهم هو:

ايراسموس Erasmus

( 1467 ـ 1535) الذي قضى حياته الطويلة في التبشير بأن التربية الجديدة ضرورية في الاصلاح الأخلاقي والديني والتربوي الذي تحتاجه أوروبا أشد الحاجة. وإذا كان ايراسموس لا يقف كباحث على قدم المساواة مع بعض كبار الباحثين الإنسانيين إلا انه كان أبعد المربين أثراً وأكثرهم نشاطاً خلال كل تلك العصور. ولقد كانت كتابات ايراسموس تربوية كلها وكان المقصود منها اصلاح فساد المجتمع الذي كان سببه في نظر ايراسموس الجهل.

لقد كان ايراسموس يعد نفسه للرهبنة فقضى بضع سنين من دراسته في مدرسة رهبانية مثالية ولكنه لم يلبث أن تركها إلى مدرسة دافنتر Daventer وهناك بدأ يتحمس تحت تاثير أساتذته للتربية الجديدة، وبعد ذلك تنقل بين جامعات ايطاليا وباريس واكسفورد وازداد شغفه بآداب القدماء ولغتهم التي اتقنها أيما اتقان، ولقد كان طول حياته جم النشاط يحرم نفسه ابسط ضروريات الحياة ليقتني الكتب، واثناء اقامته في باريس واكسفورد كان يعطي دروساً خاصة ثم أصبح المعلم الاول للثقافة الجديدة في كمبردج. وقد سلخ جزءاً كبيراً من حياته في التجوال في مراكز العمل في انكلترا وفرنسا وهولاندا وسويسرا وايطاليا مبشراً بتعاليم الثقافة الجديدة. وقد أقام مدة عشرين سنة قبل وفاته في مدينة (بال) التي كانت آنئذ احدى مراكز الطباعة الرئيسية. ولقد كان لمراسلاته واتصالاته الشخصية بالعلماء والطلاب اثراً في نشر الثقافة الجديدة يكاد يفوق عمله الرسمي في الجامعات. ولعل أقوى واسطة لجأ إليها أيراسموس في نشر الثقافة الجديدة والدعاية لها كانت كتاباته التي انتشرت انتشاراً واسعاً جداً في أثناء حياته حتى ليمكننا القول بأن قليلين هم الذين رأوا بأم عينهم انتشار كتبهم اثناء حياتهم كما رأى ايراسموس. ولقد كان ايراسموس خصب الانتاج. ولقدكرس كل هذا الأنتاج للاصلاح الجديد الذي آمن به لا سيما وان ايراسموس لم يكن مولعاً بالآداب ولع غيره من الإنسانين ولا بالفلسفة والمنطق ولع غيره من المدرسيين. ان هدفه الأهم كان الاصلاح وأدبه المفضل كان الهجاء، هجاءشكلية سابقيه. ولقد نشر ايراسموس كثيراً من الكتب اليونانية واللاتينية وكان يقصد من ذلك تزويد المتعلمين بالمصادر الصحيحة للمعرفة الجديدة من جهة واظهار سخافة الشكلية في كتابات المعاصرين من جهة أخرى. ولم يقتصر ايراسموس على ذلك بل أضاف إليه ما كتب هو في قواعد اللغة اليونانية تلك الكتب التي استعملت ككتب مدرسية مدة طويلة.

واخيراً فإن ايراسموس تعرض لمناقشة الموضوعات التربوية في أكثر ما كتب. ولقد كان يعتقد ان كتابات الادباء القدماء والآباء الكنسيين والكتاب المقدس تحتوي على كل ما هو ضروري للتوجيه في هذه الحياة واصلاح ما طرأ عليها من فساد ولكنه من الضروري الاطلاع على هذه الكتابات بشكلها الاصلي ولذلك فإن عمل المدرسة الأهم هو دراسة منتخب كبير من هذه الكتابات والتشرب بروحها ولا يكفي اتقان الشكل كما لا يكفي انتخاب بعض الكتابات لبعض الكتاب. ومن آرائه انه يجب ان يحل علم البيان محل علم الكلام وان النحو يجب ان يكون اساساً لكل عمل مدرسي على ان يكون تمهيداً ذكياً للادب وأخيراً يجب ان تكمل دراسة الطبيعة والتاريخ والحياة هذه الدراسة.

ومن آرائه وجوب تعميم التعليم وان يكون مجانياً للنساء والرجال، كما يجب ان يشدد بصورة خاصة على الناحية الأخلاقية والدينية وان تشكل العبادة جزءاً من التربية كما تجب العناية بالسلوك. ويشير ايراسموس إلى أهمية دراسة الطفل وتوجيه تعليمه كما يشير إلى أهمية عمل الأم وقيمة اللعب والتمرين الرياضي ووجوب المحافظة على الصلة بين الحياة والمدرسة وحاجات العصر. وأخيراً فإن كتابات ايراسموس التربوية مليئة بالطرق الصحيحة المقبولة الآن كأهمية الدراسات التمهيدية والتكرار. واعتبار النحو علماً تمهيدياً. الخ...

ولقد جهد ايراسموس في محاربة زملائه من المؤمنين بالثقافة الجديدة الذين حاولوا قصرها على الشكل ونبههم إلى ان طريقتهم هذه لا تقل عقماً عن الطريقة القديمة.

والخلاصة فإن اثر ايراسموس كان بالغاً على عمل كل من تلاه من المربين في القرنين السادس عشر والسابع عشر وعلى مدارس ذلك الحين.

المربون الإنسانيون الانكليز

لم تنتج انكلترا قادة فكريين في عصر النهضة. وإذا كان لبعض مفكريها من اثر فهو محلي أو قومي على أبعد تقدير ولعل اشهر هؤلاء هو:

روجر اسكام Roger Ascham (1515 ـ 1568).

وهو اشهر المربين الإنسانيين الانكليز وذلك لسببين أولهما كونه الانكليزي الاول الذي كتب عن التربية باللغة القومية وثانيهما ان كتاباته كانت جميلة لدرجة اشتهر معها بأنه أديب إلى جانب كونه مربياً. ولقد كان اسكام استاذ اللغة اليونانية في كمبردج ثم أصبح معلماً للاميرة اليصابات التي اصبحت الملكة اليصابات فيما بعد كما كان سكرتيرها اللاتيني. ولقد كان مهتماً بالأمور العامة اهتمامه بالتربية ولقد كان لذلك ذا قيمة كبرى في زمانه. ولم ينشر كتابه المشهور باسم (المعلم The Schoolmaster) إلا بعد موته (1571). وفي هذا الكتاب عن هدف التربية يشير إلى هدفين هامين هما الثقافة والفضيلة، ودراسة الآداب هي الواسطة للسمو الأخلاقي والكفاءة العملية. اما مواضيع الدراسة عنده فشبيهة بالمواضيع التي اشار إليها ايراسموس ولا تختلف عن مناهج ايراسموس وطرائقه. ولعل أهم اثر تركه كتاب اسكام هو الضيق الذي سيطر على الثقافة والتعليم بعده وذلك لسبب تشديده على أهمية النحو واعتقاد من تلاه بأن معنى ذلك الاقتصار على الشكل والاكتفاء به عن المحتوى.

ومن أهم الطرائق التي اشار بها في التعليم هي طريقة (الترجمة المزدوجة) التي اعتقد انها كافية لاتقان المتعلم فحوى القطعة الأدبية وشكلها. وقد اهتم بالانضباط المدرسي وكتب عنه مفصلاً وشنّع على الضرب والقسوة اللذين سادا عصره واشار بمعاملة الطفل بالحسنى.

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست