.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

6 ـ الفروسية أو التربية كترويض اجتماعي

طبيعة الفروسية واصلها

مثل الفروسية

النظام التربوي للفروسية

7 ـ التربية في أواخر القرون الوسطى

نهضة القرن الثالث عشر

الاخوان أو الرهبان الشحاذون

تأثير العرب

أنواع جديدة من المدارس

مدارس الأوقاف:

مدارس النقابات:

مدارس المدن:

المدارس الخاصة:

الطلبة المتجولون:

التربية العربية الاسلامية

العصر الجاهلي

 

6 ـ الفروسية أو التربية كترويض اجتماعي

طبيعة الفروسية واصلها

ليست الفروسية إلا محاولة لتنظيم المجتمع تنظيماً مثالياً، أنها بالنسبة إلى المجتمع الدنيوي كالرهبنة للحياة الدينية. ولقد كانت تضم النبلاء بالدرجة الأولى وتضم إلى جانبهم، وبصورة عامة، أولئك الذين قبلوا أرفع الالتزامات الاجتماعية. ولهذا كله لم تكن الفروسية وراثية، بل كانت مفهوماً تقوم وراءه تربية سيطرت على المجتمع الدنيوي عامة كما كانت النوع الوحيد من التربية التي تتلقاها طبقة النبلاء. ولقد كانت هذه التربية شأنها في ذلك شأن جميع أنواع التربية في القرون الوسطى، ترويضاً للفرد وللطبقة الاجتماعية التي تدين بها، ومما تجدر الاشارة إليه ان العنصر العقلي في هذه التربية كان ضئيلاً، بل انه أضأل من العنصر العقلي في الرهبنة.

أما أصول الفروسية فتوجد في أخلاق التوتون وعاداتهم وتقاليدهم كما توجد في بناء المجتمع الروماني المتأخر وفي الكنيسة المسيحية، ولقد وجهت الكنيسة قوى التوتون في أقنية خاصة وأرتهم ما بين الدين المسيحي وبعض أخلاقهم الطيبة من صلة وثيقة.

مثل الفروسية

يختلف مفهوم الفروسية للفضيلة الشخصية اختلافاً كبيراً عن مفهوم العصور اليونانية والرومانية من جهة وعن مفهوم المجتمع المسيحي الأول من جهة أخرى وهذا المفهوم أدخل تغييراً كبيراً فيه شيء كثير من التحرر بالنسبة لمفهوم المسيحية الأولى ولقد وصف (كورنيش Cornish) الفرسان الأول فقال:

" اننا نلاحظ فيهم شجاعة فائقة، واحتراماً للنفس، وانفة، وحرصاً زائداً على كلمة الشرف وانصرافاً عن كل نفع شخصي عدا المجد العسكري. كما نجد فيهم من جهة أخرى وحشية بربرية وعنفاً قاسياً وغضباً يصل حد الجنون، وتفاخراً مسرفاً، وإسرافاً صبيانياً، وحاجة للانضباط العسكري والايمان المسيحي.

وفي ذلك الحين كانت صفات السيد Gentleman أكثر تحديداًوصراحة منها في العصور الحديثة، ولقد كان الفارس يلخص واجبات الحياة كلها في واجباته نحو الله وسيده وحبيبته.

لقد كانت الخدمات التي قدمتها الفروسية للحياة الدنيا مماثلة للخدمات التي قدمتها الرهبنة للحياة الدينية. فلقد جعلت من الخدمة والطاعة والاخلاص وضبط النفس أموراً مقبولة عند شعوب متوحشة قاسية. ومع كل ما كان في الفروسية من نقائص وتفريق بين الطبقات وظلم فإنه ليس في الإمكان نكران أثرها في ترقية شعوب أوروبا البربرية في ذلك الحين.

لقد سمت فكرة الخدمة والطاعة وامتدت فأصبحت تشمل احترام أولي الأمر والعطف على الفقراء واللطف نحو العاجز والضعيف والتهذيب مع كل امرأة. ولقد كان من نتائج الفروسية عند جميع طبقات الشعب ان لطفت العادات وازداد احترام الناس بعضهم لبعض في القول والعمل حتى لقد رق المجتمع بكامله وسما تهذيبه، وفي قول كورنيس التالي برهان على ذلك " لقد علمت الفروسية العالم واجب الخدمة النبيلة يؤديها الإنسان عن طيبة قلب. لقد مجدت الشجاعة والطاعة والاخلاص في الحكم، انها وضعت القوة العسكرية في خدمة الكنيسة، ومجدت فضائل التاسمح والإيمان والتضحية واللطف ولا سيما اللطف نحو النساء. ولكن للفروسية نقائصها التي تتجلى في العجرفة وحب سفك الدماء واحتقار الأدنى طبقة وبعض العادات السيئة. لقد كانت الفروسية ترويضاً ناقصاً، ولكنها ترويض على كل حال وترويض مناسب لزمانه ".

النظام التربوي للفروسية

كانت تربية الفارس مقسومة إلى عهدين ـ عهد الغلام Page وعهد الحاجب (أحد أفراد الحاشية) Squire. وكان العهد الأول يمتد 7 سنوات (من السابعة إلى الرابعة عشرة) أما العهد الثاني فمن الرابعة عشرة إلى الحادية والعشرين، ولقد كان لكل سيد اقطاعي ولكل كبير من كبراء الكنيسة بلاط يعيش فيه ابناء الخاصة من رعيته وبناتهم في كثير من الأحيان. ولقد كانت العادة أن ترسل طبقة الفرسان أبناءها وبناتها لمثل هذه البلاطات ليتربوا فيها، وفي بعض الأحيان كانت تقوم في هذه البلاطات مدارس. ولكن القاعدة كانت أن يتربى هؤلاء الشباب عن طريق الخدمة في البلاط.

لقد كان الغلام يبدأ بخدمة بسيطة في الحصن أهمها خدمة السيدات فإذا تقدم به السن خدم على المائدة ومن ثم يكمل هذا النوع من الخدمة حين يصبح حاجباً، وبالاضافة إلى ذلك كان يقوم بخدمات كثيرة للسيد ثم يصبح عضواً في الحرس الخاص بالسيد يرافقه في رحلاته وصيده ومعاركه.

ولقد كان على الغلام والحاجب أن يتعلما مبادئ الحب والحرب والدين أما مبادئ الحب فقد كانت ـ اللطف والدماثة والتهذيب والكرم ومعرفة قواعد السلوك والعادات الحسنة وطيب الحديث ونظم الشعر. لقد كان عمل الحب حماية الشباب من شرور الغضب والحسد والكسل والنهم والاسراف بجميع أنواعه. ولقد كانت طريقة تعلم مبادئ الحب هي خدمة السيدات والتعرف على تعليمات المنشدين الموسيقية. ولذلك فكثيراً ما كان يحرص الفارس على تعلم العزف على القيثار والغناء. ولقد كان المفروض فيه أن يكرس نفسه لخدمة سيدات القصر وتسليتهن ولذا فقد كان يرافقهن في صيدهن ولهوهن ويقرأ لهن الأدب والشعر ويلاعبهن الشطرنج.

ولقد كانت ممارسة الألعاب الفروسية والتمرن عليها أهم ما يتهيأ الفارس بواسطته للحرب فلقد كان يتمرن منذ الحداثة على ركوب الخيل واستعمال الترس والسيف والرمح وباقي أنواع السلاح. ولقد كان الصيد والقنص تسلية وتمريناً على الحرب وتعويداً للفارس على تحمل شدائد الحياة وقساوة الألم وضراوة الجوع وشدة التعب. حتى إذا قرب عهد الفروسية أي أوشك الحاجب أن يصبح فارساً بدأ التشديد على الناحية الدينية فلقد كان على الفارس المستقبل أن يتطهر وأن يبارك الكاهن سيفه ولقد كان عليه أن يقسم في الكنيسة على الدفاع عن الدين وعلى محاربة الظالم واحترام الكهنوت وحماية النساء والفقراء وعلى تأمين سلام البلاد وعلى سفك دمه في سبيل اخوانه.

ومما يلاحظ في كل مظاهر هذه التربية فقدان العنصر العقلي. لقد كانت معرفة الكتابة شبه مفقودة بين أفراد هذه الطبقة في أول الأمر ولكن القراءة والكتابة أخذت تعم بين رجال الطبقات العليا ونسائها فيما بعد. ولقد كانت معرفة اللغة الفرنسية، لغة الفروسية، أمراً ضرورياً فإذا استثنيئا هذه المعرفة الضحلة والغناء والموسيقى فإننا لا نكاد نجد في هذه التربية أي عنصر عقلي.

7 ـ التربية في أواخر القرون الوسطى

نهضة القرن الثالث عشر

لعلنا لاحظنا من دراستنا للمدرسية وللجامعات ان النصف الثاني من القرون الوسطى أبعد ما يكون عن وصمة (العصور المظلمة) وان الاهتمام بالعلوم ومقتضيات الفكر كان شديداً وان الفاعلية التربوية كانت بالغة. ولعل من المناسب ان نعمل النظر مرة أخرى في التربية في اثناء هذا القسم من العصور الوسطى لنفهم التربية في العصور الوسطى من جهة ولنتبين العوامل التي اثرت في تهيئة النهضة التي قادت إلى العصور الحديثة من جهة أخرى.

يعتبر القسم الأخير من القرن الخامس عشر والقسم الأول من القرن السادس عشر عهد الانتقال الفكري من القرون الوسطى إلى القرون الحديثة وسنرى فيما بعد ان هذا الانتقال متصل بروح التربية ومحتواها. ولقد حضر لهذا الانتقال الفاعلية الفكرية والتقدم التربوي اللذان تميز بهما القرنان الثالث عشر والرابع عشر. فلقد كان التنظيم الاجتماعي لهذين القرنين محل للحياة الفكرية تركت أثراً قوياً وسمحت بكثير من الحرية وتميزت بنظام تربوي مهم.

يضاف إلى هذا كله ان الاهتمامات الفكرية والعمل التربوي بكامله انتقل من الأديرة إلى المدارس خلال القرن الثالث عشر، ومع ان الروح المدرسية كانت دينية بالاسم فإنها أصبحت دنيوية بالفعل فانتقل التأثير من أيدي رجال الدين إلى أيدي المعلمين، وبعد ان كان التعليم دينياً أصبح منطقياً فلسفياً، ولكن النظرية الهامة في التربية بقيت النظرة الترويضية. ولقد كان عمل المدرسة تنمية قوى الطالب لعرض المفاهيم المجردة وتفسيرها وتعريفها ومناقشتها والدفاع عنها. نعم لقد كانت هذه التربية ضيقة، ولكنها مع ذلك اعترفت للأمور الفكرية بأهميتها ولقد بدأت علوم القدماء أو على الأقل ما كان معروفاً منها، تعود إلى المدارس التي ازداد عددها بجميع درجاتها. وبهذا كله تهيأ العالم التربوي لتغيير روحه وتبني الروح الجديدة التي أتت مع القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

من أهم مميزات العصور الوسطى وحدتها الموجودة في الفكرة الدينية التي سادتها. ولقد كانت الوحدة التي ميزت القرن الثالث عشر فريدة من نوعها فلقد كانت (الواقعية) فلسفته التي آمن بها ديناً ودنيا. ولقد كانت هذه الوحدة تتجلى أول ما تتجلى في وحدة المثل الأعلى. فلقد كانت السلطة المطلقة مثله الأعلى الأهم. الكنيسة سلطة دينية مطلقة، والنظرية المدرسية سلطة فكرية عليا، والامبراطورية الرومانية المقدسة سلطة سياسية عليا، والاقطاعية نظام اجتماعي سائد، ونظام النقابات نظام اقتصادي مقرر. وفي التربية كانت الجامعة هي المؤسسة والمدرسة هي الفكرة وفي كليهما تتجلى السلطة المطلقة التي تجلت في العالم الخارجي.

ولقد دامت روح القرون الوسطى بدوام قبول الناس لهذه السلطات المطلقة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ولكن هذا لا يعني ان بعض الأفراد لم يحاولوا خلال هذين القرنين الثورة على مبدأ السلطة المطلقة. ولذلك فإن وحدة القرن الثالث عشر الكاملة لم تستمر تمام الاستمرار خلال القرنين اللذين تلياه.

وحين حاولت السلطات المطلقة كبح جماح الأفراد الثائرين والقضاء على جهودهم بدأت عيوبها تظهر حتى إذا جاءت أواخر القرن الخامس عشر بدأت جهود الأفراد المتحررين تؤتي أكلها وبدأ عصر النهضة يذر قرنه وبدأ النقد ومحاولة تهديم القديم تهيمن على العصر الجديد. لقد كانت الواسطة الأهم للتعبير عن الروح الجديدة هي اللغات القومية الجديدة وما كتب فيها. ولقد كانت للشعوب التوتونية والسلتيكية آداب ابتدائية بلغاتها الأصلية القومية امتدت خلال القرون الوسطى بكاملها، وفي القرن الثاني عشر غذت الفروسية والحروب الصليبية وما رافقها من دوافع وتأثيرات هذه اللغات والآداب فنشأ في البلاطات والقصور آداب جديدة ساهم الموسيقيون والشعراء مساهمة فعالة في انشائها، وهذه الآداب هي التي سميت بالانكليزية والجرمانية الوسيطة ولقد كانت هذه الآداب تعبر عن حياة الفروسية والبلاط وما فيها من جمال، وعن حياة الرهبان والقسس وما فيها من شك وظلام. وهذه الآداب وما عبرت عنه من حيوات جديدة واهتمامات مبتكرة كانت بواكير الآداب الحديثة وهي التي مهدت للتخلص من السلطات المطلقة التي تحكمت بالقرون الوسطى كما عبرت عن كفر عصر النهضة.

ولابد قبل ختام هذا البحث من الحديث عن بعض الحركات التربوية، غير الجامعية لنستكمل الصورة التي رسمنا للتربية في القرون الوسطى.

الاخوان أو الرهبان الشحاذون

في منتصف القرن الثالث عشر سيطر على التربية الاخوان أو الرهبان الشحاذون كما سمو أنفسهم، فلقد قام الفرنسيسكان أو الاخوان الشيب (الرماديون) Grey Friends 1212 وقام الدومنيكان أو الاخوان السود سنة 1216 ولقد كان همّ الجماعتين انقاذ النفوس وإعادة الدين إلى صفائه ولذلك فقد حالوا السيطرة على التربية.

ولقد حاول الدومنيكان، أو الاخوان الواعظون، أن يسيطروا على الكنيسة والجامعة ولذلك فقد نظموا أنفسهم في كل مدينة فيها جامعة وحاولوا أن يوجهوا التعليم ولقد كانت انتصارات توماس ألكوين في اللهوت المسيحي انتصاراً لهم، وعلى اعتبار ان هذه الجماعة جعلت الوعظ اهتمامها الأول فقد كان لابد للمنخرط في سلكها من ذكاء شديد وتمرين طويل منظم، ولذلك فقد اصبح أفراد هذه الجماعة مربين بمعنى مزدوج فبالمعنى الأول كانت التربية التي تعطى للراهب تربية من نوع جديد أعمق من التربية التي كان على الراهب السابق أن يتلقاها، وبالمعنى الثاني كان الراهب مربياً للجماهير ومعلماً لنظرية معينة.

تأثير العرب

سنتحدث في الفصل القادم حديثاً مفصلاً عن التربية عند العرب وسنعرض آنئذ لما أخذوه عن اليونان والرومان وما أعطوه لأوروبا في القرون الوسطى. ولكن لابد هنا، ونحن في معرض الكلام عن التربية المسيحية من كلمة سريعة عن أثر العرب في تطور التربية المسيحية في أوروبا.

منعت الكنيسة الشرقية خلال القرن السادس دراسة الفلسفة اليونانية كما راينا فوجدت هذه الفلسفة عند مسيحي سورية من نساطرة ويعاقبة مأوى أمينا تزدهر فيه، ولقد شجع العرب المسملون وخلفاؤهم ترجمة هذه الفلسفة والعلوم اليونانية إلى اللغة العربية فتمثلها العرب وشرحوها وزادوا عليها. ولقد كان اهتمام العرب بالغاً بالفلسفة والرياضيات والعلوم الطبيعية والطب. وفي القرن العاشر كان ابن سينا (980 ـ 1037) يعلم فلسفة اليونان ويناقشها وكانت مدارس بغداد والبصرة والكوفة ودمشق مراكز علمية تشع المعرفة. وفي اسبانيا وبصورة خاصة في قرطبة ازدهرت العلوم والفلسفة في القرن العاشر وما بعد فنشأت الجامعات أو ما يمكن أن يسمى جامعات وازدهرت المكتبات وغنيت الحلقات العلمية. وفي ذلك الحين كان الظلام يخيم على أوروبا وكانت المسيحية تضع العراقيل في سبيل الفكر وكان الناس يتدارسون ان الأرض مسطحة وفي جوارهم في الأندلس كان الطلاب يدرسون الجغرافيا على كرات. كان الناس في أوروبا يتخبطون في مهامه الأرقام الرومانية في حين كان العرب قد اتقنوا الأرقام الهندية واستخدموا آلات في تدريس أرقى أنواع الرياضيات وفي قياس أدق القياسات الفلكية مما ثبت على الدهر ولم تستطع العصور الحديثة أن تبعث الشك في صحته. في الطب، في الجراحة، في الصيدلة، وفي الفلك وفي الفيزيولوجيا زاد العرب زيادات ما زالت تعتبر أساسية. فسروا انكسار الضوء ودرسوا قانون الثقل ووصفوا قانون الجاذبية الأرضية وشرحوا كثيراً من صفات الطبيعة التي استعصت على من سبقهم، عينوا ارتفاع الجو وثقل الهواء والأوزان النوعية للاجسام، خلفوا جداول فلكية واخترعوا الساعة ذات الرقاص. تاجروا وجابوا الآفاق في رحلات جغرافية وقطعوا الأرض ملاحين ماهرين وأغنوا فنون الحياة بكاملها فكانوا أمام الأوروبيين بمسافات شاسعة عرّفوا أوروبا بالأرز والسكر والقطن كما علّموها تربية دود القز. علّموا أوروبا استعمال الفرجار والبارود والمدفع، وخلاصة القول فتحوا عيون أوروبا ليناموا هم وهيأوا أوروبا لعصر منير ليستسلموا إلى ظلام دامس دام عصوراً.

ولعل أهم ما يهمنا هنا هو الصلة بين عرب الأندلس ومن جاورهم من برابرة أوروبا. ففي القرن الثاني عشر طلب ريمون Raymund أسقف طليطلة إلى عالم يهودي أن يترجم مؤلفات العرب الفلسفية إلى اللغة القشطالية ثم ترجمها الرهابين إلى اللاتينية وبعد ذلك بقليل أمر الامبراطور فريدريك الثاني بترجمة تعليقات ابن رشد على كتابات ارسطو فترجمت ومن ذلك الحين أي منذ أواخر القرن الثاني عشر أصبح ارسطو معروفاً في أوروبا. وفي القرن الثالث عشر بدأت العرب في اسبانيا ينحلوا وبدأت منطق ارسطوا وفلسفة ابن رشد تعيش في جامعات أوروبا المسيحية وأذهان الفلاسفة إليهود فقط.

أنواع جديدة من المدارس

لقد كانت المدارس عديدة في أواخر القرون الوسطى وبدأت التربية الثانوية والابتدائية في القرن الرابع والخامس عشر تنتشران أكثر من قبل، وعلى اعتبار ان المدارس الكهنوتية لم تعد تكفي فقد كان لابد من قيام أنواع جديدة من المدارس.

مدارس الأوقاف:

وهي أكثر هذه المدارس الجديدة انتشاراً وكانت تعيش على المنح التي يعطيها المحسنون للقسس ليصلوا على أرواحهم وأرواح أفراد عائلتهم، وبما ان الصلوات عن أرواح هؤلاء المحسنين لم تكن تشغل أوقات القس كلها فقد انصرف رجال الدين إلى التعليم في أوقات فراغهم وبعض هذه المدارس كان لا يعلّم إلا عدداً محدوداً من الطلاب في حين ان البعض الآخر كا يعلّم كل من يطلب.

بعض هذه المدارس كان مجانياً، وبعضها كان يتقاضى أجراً، بعضها كان لا يعلم إلا البسائط وبعضها علم النحو وغيره من فروع العلوم.

مدارس النقابات:

وهذه المدارس كانت أكثر تحرراً من تأثير الكنيسة فلقد جرت عادة نقابات التجار والصناع على أن يدفعوا للكهنة مبالغ في سبيل تعليم أولادهم والعناية بأمور دينهم. ولقد أنشأت بعض هذه النقابات مدارس تمتعت بصيت ذائع ولعل اشهرها مدرسة الخياطين في لندن وفي البدء كان هذا النوع من المدارس ابتدائياً فقط ولكن كثيراً ما كانت هذه المدارس تتوسع فيما بعد فتصبح ثانوية لتعليم أبناء المنتمين إلى النقابة وغيرهم. وكانت هذه المدارس تعلم باللغة القومية وذلك قبل عصر النهضة.

مدارس المدن:

لما بدأت النقابات بالضعف وقامت الحكومات البلدية أصبحت مدارس النقابات وحتى بعض مدارس الأوقاف تسمى بمدارس المدن، وصارت السلطات المدنية تراقب هذه المدارس وتطالبها بالاهتمام بما يفيد في الأمور الصناعية والتجارية. ومع ان المعلمين كانوا من الكهنوت فإن المعلمين المدنيين وجدوا طريقهم إلى هذه المدارس.

المدارس الخاصة:

أغلبها ابتدائية وقد حاولت أن تستجيب أكثر من غيرها للحاجات الصناعية والتجارية الجديدة، ورغماً عن أن هذه المدارس لم تكن راقية فإنها لعبت دورها في تثبيت دعائم التعليم المدني. صحيح ان التعليم الديني كان عاماً وان الكنيسة كانت تراقب هذه المدارس إلا أن التعليم المدني بدأ يشق طريقه.

الطلبة المتجولون:

انتشرت عادة العيش عن طريق التسول بين الطلاب الذين بدأوا يتنقلون من بلد إلى آخر ويعيشون بما تجود عليهم أكف المحسنين ولعل أهم ما يجب أن يلاحظ قبل ختام هذا البحث هو ان بذور التعليم المدني قد وجدت قبل عصر النهضة وانه هيأت لعصر النهضة ثم ازدهر في أثنائه.

التربية العربية الاسلامية

تقسم البعثة النبوية تاريخ العرب إلى عهدين كبيرين جداً أولهما العصر الجاهلي وثانيهما العصر الإسلامي، ومن الجدير بالذكر أن تاريخ العرب في جاهليتهم مشوب بالغموض لا تتوافر الوسائل لدرسه دراسة توضح معالمه وتمكن الباحث من تقرير واقعه. ولذلك فإنه من العسير على من يتعرض لتاريخ التربية فيه أن يقوم بأكثر من تلمس بعض الحقائق والمقارنات والاستقراءات التي تنير الطريق بعض الانارة:

العصر الجاهلي

ينقسم عرب الجاهلية إلى بدو وحضر. أما البدو فأقوام رحل ينتقلون في طلب المرعى وانتجاع المياه ولذلك فقد كان تأمين معاشهم همهم الأكبر الذي صرفهم عما عداه من شؤون الحياة. وأما الحضر فقد كانت لهم مدنهم وحضارتهم وبالتالي مدارسهم ومؤسساتهم العلمية، ازدهرت حضارتهم في جزيرة العرب نفسها وتعدتها إلى العراق والشام، اهتموا بالعلوم والفنون فدونوها وعلموها، اشتغلوا بالهندسة والرسم وفن البناء واهتموا بالحساب والطب والزراعة والآداب، وانه لمؤسف حقاً أن لا تساعدنا مخلفاتهم التاريخية على جلاء غوامض حضارتهم ووصف مدنيتهم وصفاً علمياً دقيقياً. إلا ان الثابت المؤكد انهم قطعوا شوطاً بعيداً في مضمار الرقي. وبديهي أن نشير هنا إلى أن البدو كانوا أميين في غالبيتهم عاشوا على تجاربهم ومقتضيات حياتهم البسيطة واتقنوا من الفنون والعلوم ما كان على صلة مباشرة بحاجاتهم اليومية كعلم النجوم يستفيدون منه في تنقلهم والطب والقيافة والفراسة والأنواء.

وبدهي أيضاً أن يكون غرض التربية عند البدو، اعداد الناشيء لحياته البسيطة وتمكينه من السيطرة على محيطه واتقان ما تعلمه آباؤه من فنون ومعارف عن طريق توريثه هذه الفنون والمعارف وتعليمه استعمال السلاح وركوب الخيل للدفاع عن عشيرته، وبسط سلطانها ان أمكن. ولا شك في أن الهدف الثاني لهذه التربية كان تعويد الطفل البدوي عادات قومه وتخليقه بأخلاقهم ومثلهم لا سيما وان الخلق والعادات كانت مفرطة الأهمية عند البدو.

أما غرض التربية عند الحضر من العرب الجاهليين فقد كان إعدادهم لحياتهم الحضرية عن طريق تعليمهم الصناعات والمهن وتدريسهم الطب والهندس وطرق الري وفن البناء والنقش وغيرها من الحرف.

ثم انه من تحصيل الحاصل ان يقال ان الاسرة والعشيرة كانت الوسط الذي يتربى الطفل البدوي فيه يعلمه أبواه الصناعات البسيطة التي يحتاجها ويدربانه على الدفاع عن نفسه كما تطبعه القبيلة بطابعها وتفرض عليه تقاليدها وعاداتها وأخلاقها. أما الطفل الحضري فقد كان يخضع لعملية تربوية أرقى، يدرس في مدارس ابتدائية وعالية فيتعلم القراءة والكتابة والحساب وشيئاً من الهندسة والفلك والطب والأدب والتاريخ.

وإذا كان الطفل البدوي يتعلم ما يتعلم بالتقليد وعن طريق الأوامر والزواجر يلقيها عليه أبواه ويأخذها عن شيوخ قبيلته فإن الطفل الحضري كان يحفظ في المدرسة ما يلقى إليه وكان المعلم يعطي بعض وقته لكل طفل بمفرده على طريقة الكتاتيب ويترك الآخرين يدرسون. وأغلب الظن ان المعلم كان يكتب نماذج من الخط على ألواح من الطين الطري ثم يجفف هذه الألواح ويدفعها لتلاميذ فيحاولون تقليدها.

ولقد كان للعرب الجاهلين اسواق ومجالس أدب ففي الأسواق يجتمع الناس في مواسم معينة فيبيعون ويشترون وينشدون الشعر ويلقون الخطب فيحكم بينهم قضاءة من فحولهم مما كان له أطيب الأثر في ترقية اللغة وتهذيبها والنهوض بالشعر والنثر مما ترك لنا ثروة أدبية ذات بال، ومن أشهر ما ترك المعلقات العشر وغيرها من روائع الأدب الجاهلي، وأشهر هذه الأسواق عكاظ ومجنّة وذو المجاز. وكانت تشبه إلى حد بعيد ملاعب اليونان حيث يتناظر فلاسفتهم ويتناقش علماؤهم. وفي مجالس الأدب كان الناس يتناشدون الأشعار ويتبادلون الأخبار ويبحثون أمورهم العامة وأشهر هذه المجالس أو الأندية نادي قريش.

اما في المدن المتحضرة فقد كانت المدارس زاهرة ودور الكتب عامرة وقد عثر بين آثارهم على انقاض مدارس وبقايا ألواح من قرميد عليها دروس في الحساب والهجاء وغيرها من ضروب العلم.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست