.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

التراث الأدبي للرهبنة ـ الفنون الحرة السبعة

مربو القرون الوسطى الأولى

3 ـ النهضة التعليمية في عهد شارلمان

عمل شارلمان (771 ـ 814)

4 ـ المدرسية أو التربية كترويض عقلي

ماهية المدرسية

هدف المدرسية

محتوى المدرسية

شكل المعارف المدرسية

طريقة المدرسية

تطور المدرسية

مزايا التربية المدرسية ونقائصها

5 ـ الجامعاتَ

اصل الجامعات

تأسيس الجامعات

تكوين الجامعات وتنظيمها

الأمم والجامعات:

الكليات:

الادارة والموظفون:

طريقة التعليم في الجامعة وفحواها

تاثير الجامعات الأولى

 

التراث الأدبي للرهبنة ـ الفنون الحرة السبعة

لقد كانت المعرفة في القرون الوسطى تشمل معرفة ما سبقها من قرون ولكن بشكل هزيل فقير، لقد كانت عبارة عن الهيكل العظمى للمعرفة السابقة. وفي هذا الحين بدأ استعمال التعبير المشهور (الفنون الحرة السبعة). من المعروف أن أفلاطون فرق بين الثالوث (النحو والجدل والبيان) والرابوع (الحساب والهندسة والموسيقى والفلك) الا ان هذه الفروع كانت تشمل عند افلاطون فروعاً أخرى كفن البناء والطب والهندسة والحقوق والفلسفة. ولما كتب (كونتيليان Quintilian) كتابه عن التربية أهمل علم الكلام والحساب. أما القسيس أوغسطين فقد كتب عن اثنين من الفنون الحرة وقال انه سيكتب عن الخمسة الأخرى. أما (كابيلا Capella) فقد كتب عن الفنون السبعة جميعها ولخص جميع المعرفة التي كانت في زمانه.

ولابد هنا من الاشارة إلى محتوى هذه الفنون السبعة لكي نستطيع تقدير قيمة المعرفة في القرون الوسطى ومداها. فقد كانت الهندسة مثلاً تشمل مبادئ الجغرافيا، وكان الفلك يشمل الفيزياء ، والنحو يشمل الآداب والبيان يشمل التاريخ. هذا ومما يجدر ذكره ان تعيين المدى الذي وصلت إليه معارف ذلك الحين امر صعب. ولكن من المعروف ان معرفة اللغة اليونانية قد زالت في ذلك الحين من أوروبا الغربية بكاملها. وحتى المعرفة المباشرة لهذه اللغة عن طريق ما ترجم منها إلى اللاتينية كانت هزيلة ضعيفة برغم معرفة بعضهم لفرجيل وشيشرون معرفة بسيطة. وخلاصة القول فإن موقف الكنيسة المعادي للآداب اليونانية والفلسفة الاغريقية سبب قلة الاهتمام بهما بل الانصراف عنهما حتى لقد قال (الكوين Alcuin) لتلامذته في تور " اقتصروا على ما كتبه القديسون، واني لا ارى سبباً لتلويث نفوسكم بما كتبه فرجيل ".

مربو القرون الوسطى الأولى

اشهر من كتب في التربية في النص الأول من القرون الوسطى هم مارتيانوس كابيلا Martianus Capella: كتب بين سنة 410 ـ 427 وقد درس العلوم والفلسفة اليونانية في شمالي أفريقيا، اشهر كتبه " زواج اللغة بعطارد " الذي كان أكثر الكتب انتشاراً في النصف الأول من القرون الوسطى. وتتلخص قصة الكتاب في ان الآله عطارد (آله الفصاحة) أراد ان يتزوج فدبت الحركة في السماء لاختيار العروس السعيدة من جهة وللقيام بالحفلات اللائقة من جهة أخرى. وقد وقع الاختيار على أوسع الناس علماً وهي اللغة وقد كانت الوصيفات هي النحو وعلم الكلام وعلم البيان والهندسة والحساب والفلك والموسيقى، وكانت كل واحدة من هؤلاء الوصيفات تتقدم فتعرف بنفسها وبقرابتها إلى كل من الوصيفات الأخرى. وخطب هؤلاء الوصيفات كونت مادة الكتاب الذي اشتمل على جميع العلم المعروف في ذلك العصر الذي بقي المصدر الوحيد للمعرفة طوال كل تلك القرون.

بوثيوس Boethius (480 ـ 524) وقد كان اكثر رجال القرون الوسطى تاثيراً وأهم خدماته انه عرف القرون التي تلته، ولو تعريفاً بسيطاً، على مفكري اليونان ولا سيما افلاطون وارسطو. وقد كتب في المنطق والأخلاق كما كتب في غيرهما من العلوم. وقد استخدمت كتبه كمصادر للبحث والدرس في كثير من الجامعات حتى أوائل القرن الثامن عشر.

كاسيدوروس Cassidorus  (490 ـ 585) وزرّ لأربعة من الملوك البرابرة على الأقل. اهتم بالأدب اليوناني والفلسفة واهتم بجمع الكتب وعمل على نشر النسخ وتعميمه في الأديرة. وإليه يرجع الفضل في التاريخ الميلادي الذي بدأه سنة 562.

ايزيدور Isidure (570 ـ 636) كان مطراناً لاشبيلية وألّف موسوعة بقيت مدة طويلة تستعمل كمصدر لكل معرفة.

3 ـ النهضة التعليمية في عهد شارلمان

عمل شارلمان (771 ـ 814)

إحياء التعليم في عهد شارلمان كان العمل التربوي غير الرهباني الوحيد في تاريخ التربية في القرون الواقعة بين القرن السابع والقرن الثاني عشر، فلقد كان هدف شارلمان هو توحيد أعمال التوتون والرومان، وترويض الفرنجة على المدنية الرومانية وإدخال التنظيم الاجتماعي إلى حياة الجرمان وذلك بغية تنظيم مجتمع عصري حديث، ولقد ساعدت الكنيسة في نقل البرابرة إلى الدين المسيحي الكاثوليكي على هذا التنظيم، إلا ان شارلمان أكمل هذا التنظيم وأدخل عنصر الاستقرار في حياة هؤلاء البرابرة عن طريق إقامته للامبراطورية الرومانية عام 800م فأضاف إلى الاستقرار الديني استقراراً سياسياً وشرعياً في حياة التوتون. إلا ان شارلمان رأى بثاقب نظره ان يضيف إلى هذا الاستقرار الخارجي استقراراً داخلياً فكرياً ولغوياً واجتماعياً. ولقد كان شارلمان يطمع في هذا كله عن طريق جعل اللغة اللاتينية لغة العلم والكنيسة وبذلك يحيي الثقافة الرومانية.

هذه الاسباب كلها استدعى شارلمان عام 1782 الاسقف (ألكوين Alcuin) من المدرسة الكاتدرائية في يورك ليساعده في عمله. ولقد كان الرهبان الايرلنديون نشيطين مدة قرن كامل في العمل على تثقيف أوروبا. ولذلك فلا عجب أن يفكر شارلمان في واحد منهم ليسلمه مدرسة القصر التي كان يراسها ويشرف عليها بنفسه. وما أن تسلم ألكوين هذه المدرسة حتى عمل على تحويلها إلى مؤسسة علميه وطيدة الأركان دخلها كثير من الاشراف وأولادهم كما ساهم في عملها الأمراء والنبلاء، ومن هذه المدرسة تخرّج عدد كبير من الذين ساعدوا شارلمان على ادارة امبراطوريته. ورغماً عن ان عمل المدرسة العلمي والأدبي كان هزيلاً إلا ان أهميتها بالغة وذلك للاثر الكبير الذي تركته ولأنها أصبحت مثلاً يحتذى. وفي عام 787 وما تلاه من الأعوام أصدر شارلمان أنظمة للمدارس يبالغ البعض فيعتبرها اساس التربية الحديثة، ولعل سبب ذلك تحتيم هذه الأنظمة على الرهبان ورجال الكهنوت درس الآداب.

جاء في القانون الذي نشر عام 789 ما يلي " على كل دير وكل أبرشية أن تؤسس مدرسة يتعلم فيها الصبية المزامير والسلم الموسيقي والترتيل والحساب والنحو ولتكن الكتب التي تدفع إليهم خالية من الأخطاء، وليعنى بألا يضر الأطفال بالكتب حين يقرأون فيها أو يكتبون عليها ". ولقد كان لشارلمان موظفون عملهم المرور على الأديرة ومراقبة تطبيق هذه الأنظمة وأنظمة الاديرة العامة. ولقد حاول شارلمان تعميم مثل هذه المدارس في كل مطرانية تور على الأقل ولهذا قيل بأن المدارس الابتدائية في عهد شارلمان في هذا القسم من فرنسا على الأقل كانت أوفر منها في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

ألكوين Alcuin (735 ـ 804)

يعتبر ألكوين اكثر المربين أهمية في النصف الأول من القرون الوسطى وذلك بالنظر لنفوذه عند شارلمان. ولقد كانت مطرانية تور التي أقطعه شارلمان إياها أهم مطرانية في فرنسا فقد كانت مترامية الأطراف وكان لألكوين (200000) عبد فيها. ولقد جعل ألكوين من هذه المطرانية المركز العلمي والديني في فرنسا فقصدها الراغبون في العلم من كل حدب وصوب ومنها خرج رسل العلم من تلامذة ألكوين ومريديه فغمروا الأقطار الأوروبية الغربية. وبعد أن كان الكوين كثير التسامح نحو الثقافة اليونانية التي درسها هو نفسه في شبابه بدأ يعاكسها ويحض على التقشف ويطالب الرهبان بالاقتصار على الآداب المقدسة. إلا انه اسس مكتبة عظيمة في تور وأرسل نساخاً إلى انكلترا لنسخ أهم ما فيها من مخطوطات وشجّع على إنشاء مثل هذه المكتبات في كل دير. ولعل أهم خدمة قام بها هي جعل العلم في خدمة الكنيسة. ولقد عاون شارلمان في تقرير الحقيقة القائلة بأن العلم ضرورة لرفاه المجتمع ضرورة الدين والأخلاق.

ولقد كتب ألكوين في الفنون الحرة السبعة عامة وفي النحو والبيان وعلم الكلام والرياضيات خاصة. ولقد كتب ما كتب على الطريقة الكنسية، طريقة السؤال والجواب، التي شاعت فيما بعد شيوعاً عظيماً، ولعل اشهر مؤلفاته العلمية هي مؤلفاته النحوية.

حنا الاسكتلندي John the scot (810 ـ 875)

اشهر خلفاء الكوين في مدرسة القصر استدعاه شارل الأصلع سنة 845 من الجزر البريطانية، ولقد كان أوسع علماً من ألكوين، فأدخل دراسة اللغة اليونانية وعرف المتعلمين على الثقافة اليونانية وكتابات الآباء الكنسيين اليونان. وبما انه كان أكثر تحرراً من سابقيه ونظراً لمعرفته الجيدة لكتابات اليونان فقد جعل من كتابات كابييلا التي مر ذكرها مصادر العلم في الأديرة. ولقد شدد على وجوب دراسة علم الكلام وشجع على النقاش الديني وبذلك ابتدأ الجدل بين (الواقعية) و(الاسمية) ذلك الجدل الذي أوجد (المدرسية) التي سنبحث عنها في القسم التالي.

4 ـ المدرسية أو التربية كترويض عقلي

ماهية المدرسية

المدرسية هي الحياة الفكريةوبالتالي النوع من التربية التي سادت منذ القرن الحادي عشر حتى القرن الخامس عشر، وهي المسؤولة عن نشوء الجامعات كما انها تمثل عملها خلال هذه القرون. ولقد أنتجت المدرسية نتاجاً ضخماً ذا صفات مميزة. كما انها كانت واضحة الهدف برغم ضيقه محدودة الغرض، لها طريقة واضحة ثاقبة ونتاج مثمر في تقوية بعض القابليات وتنميتها. ولقد كانت المدرسية موضع أخذ وردّ كثيرين فبالغ أتباعها في تقديرها كما بالغ خصومها من مثقفي النهضة التهجم عليها. ولا تتميز المدرسية بأي مبادئ أو اعتقادات، بل انها في الواقع منهاج أو نوع من الفاعلية العقلية.

هدف المدرسية

إن أهم ما يميز الحياة الفكرية في النصف الأول من القرون الوسطى هو الخضوع الأعمى للسلطة المطلقة، انه قبول لنظريات الكنيسة ومبادئها وتسليم مطلق لحقائقها المفروضة فرضاً لا يقبل الجدل، وعداء لكل تساؤل أو بحث واعتباره خطأ وإجراماً. أما في القرن الحادي عشر فقد كان لا بد من موقف جديد، وذلك لأن الأفكار قد تسربت من الشرق وكان لابد من مقابلتها سواء بالجدل أو القوة، ولقد طرح بعض نبغاء القرن التاسع أمثال حنا الاسكتلندي أسئلة كان لا بد من الجواب عليها إذا لم يعد في الامكان تجاهلها، كما ان دراسة علم الكلام التي شاعت منذ القرن التاسع اثارت اهتماماً في تمحيص المعتقدات والنظر فيها، وأخيراً فإن الحروب الصليبية قضت على عزلة الغرب ووضعته وجهاً ولجه أمام ميزات الشرق، فكانت نتيجة هذه المثيرات كلها ان اهتم رجال الدين والعلم في وضع العقائد تحت منظار جديد وصبها في قوالب جديدة.

وهكذا فقد كان غرض المدرسية وضع العقل في خدمة الدين، وتقوية العقائد عن طريق تنمية القوى العقلية، انها هدفت إلى تخريس الشكوك والاجابة على الأسئلة، ولكن هذا لم يمنع الايمان طبعاً من أن يبقى فوق العقل وان شعار تلك الأزمنة قول (انسلم Anselm) " أؤمن لأستطيع أن أفهم " والخلاصة فإن نظريات الكنيسة كانت قد أخذت شكلها النهائي إلا ان الوقت قد حان لتحليلها وتعريفها وتنظيمها.

ولقد كانت أهداف المدرسية التربوية مشمولة بهذا الهدف الواسع. انها هدفت إلى صوغ العقائد في قالب خلقي والدفاع عنها ضد من يتهجم عليها ويحاول تهديمها أو الانقضاض على سلطتها. وإذا أردنا التعميم قلنا ان هدف المدرسية كان تنظيم المعرفة بغية إعطائها شكلاً علمياً. انما يجب ان نذكر ان العقلية المدرسية كانت تعتبر المعرفة ذات طبيعة لاهوتية فلسفية، ولذلك فالقالب الذي اتخذته كان قالباً منطقياً وصورياً ولقد وفقت في ذلك إلى أبعد حدود التوفيق. وأخيراً فإن هدف المدرسية بالنسبة للفرد كان تمكينه من هذه المعرفة التي أصبحت مصبوبة في قوالب وتعاريف نظمت على شكل كل منطقي.

محتوى المدرسية

قلنا ان المدرسية ليست إلا وضع الفكرة الدينية في قالب منطقي وبما ان هذا التنظيم جرى وفقاً لمنطق ارسطو، فإن المدرسية كثيراً ما تعرف بأنها اتحاد العقائد المسيحية بمنطق ارسطو. وعلى اعتبار ان كل وجوه المعرفة خضعت للدين وان كل معرفة لا توافق عليها الكنيسة تصبح في حكم العدم ولذلك كان لا بد لكل نوع من أنواع المعرفة من أن تأخذ مكانها ضمن نطاق الفكرة المدرسية وان تتخذ شكلاً منطقياً. وهذا بالذات كان عمل المدرسية.

لقد كان أكثر ما يهتم به العلماء في ذلك الحين هي نظريات الكنيسة في القضاء والقدر وحرية الارادة الخ... ولذلك فإن صوغ هذه المشاكل في قوالب منطقية وشرحها وتبريرها والرد على ما قد يكون عليها من اعتراضات كان يكوّن فحوى الكتابات المدرسية. وتشاء الصدفة أن يحدث في هذا الوقت، وقت محاولة تبرير عقائد الكنيسة بمقتضيات العقل، ان تصل إلى أسماع الناس نتف من فلسفة افلاطون وارسطو، فأقبل العلماء على هذه الفلسفة وحاولوا استخدامها في تبرير معتقدات الكنيسة.

يقول أفلاطون ان المثل والمفاهيم هي وحدة الحقائق وان ما عداها مما يوجد في عالم الواقع ليس الا صوراْ لهذه الحقائق ونسخاً عنها فوافقه رجال المدرسية على ذلك وسموا بالواقعيين وسميت فلسفتهم بالواقعية Realism وخالفهم بعض المفكرين وقالوا ان هذه المفاهيم والمثل ليست إلا اسماء والحقائق هي الأشياء الموجودة في عالم الواقع فسموا بالاسميّين وسميت فلسفتهم بالاسمية Nomialism ولقد طال الجدل بين هاتين المدرستين الفلسفيتين حتى دام أربعة قرون واستوعب مجلدات ضخمة كثيرة.

ويجب أن نلاحظ هنا ان النزاع كانت له أهمية بالغة تتجاوز الحد الفلسفي المحض. ففي ذلك العصر الديني كانت مسألة (التحول) مسألة هامة جداً تشغل بال الفلاسفة من رجال الدين وقد وجدوا في نظرية أفلاطون عوناً لهم كبيراً على تفسير هذه المسألة التي طال الاخذ والرد فيها. وذلك لأنه إذا صحت نظرية أفلاطون فكانت المثل (او ما يسميه افلاطون بالجوهر) هي الواقع والحقيقة وإذا كانت لذلك قابلة الانفصال عن (العرض) أو الصفات التي تميزها في عالم المحسوسات والتي هي كل شيء بالنسبة للاسميين، فإنه من الممكن حينئذ ان نقبل تغيراً في الجوهر دون تغير في العرض، وحينئذ فالتحول ممكن وبالتالي فإنه من الممكن ان يتغير الخبز والخمر في العشاء الرباني فيصبحا لحماً ودماً. وبهذا الشكل ايضاً يمكن تفسير كثير من نظريات الكنيسة وعقائدها.

يتضح مما تقدم ان المحتوى التربوي للمدرسية ينحصر في هذا النوع من التعليل للعقائد وما جره من شروح وتفاسير ومجادلات. ولعل اشهر ما انجبت المدرسية من كتب هو كتاب (خلاصة الإلهيات Summa Theoligucae) للقديس (توماس الاكويني Thoumas Aquinas) (1225 ـ 1274) الذي كان وما زال يعتبر أوسع وأضبط ما كتب في اللاهوات المسيحي والذي ما زالت الكنيسة الكاثوليكية تعتبره الممثل الرسمي لعقائدها.

ولقد كانت المدرسية تطالب، قبل اتقان مثل هذا الكتاب، باتقان المنطق وعلم الكلام. والخلاصة فإن محتوى المدرسية والتربية المدرسية يبحث بالمجردات والأمور غير المادية على خلاف التربية الحديثة التي تهتم بالمحسوس المادي.

شكل المعارف المدرسية

إن فكرة تنظيم المعرفة تنظيماً يتفق مع نمو الطفل العقلي فكرة حديثة جداً. اما الفكرة التي تكملها والتي هي أقل أهمية منها ونعني فكرة تنظيم المعرفة تنظيماً يتفق مع منطق الموضوع، الفكرة التي سيطرت على التربية أمداً طويلاً، فقد أدخلتها إلى التربية هذه المدرسية التي نبحث عنها وكان من جراء ذلك ان رتب النحو، مثلاً، ترتيباً منطقياً وصورياً وقدم للطفل على صورة لا يقبلها الا عقل العالم النحرير المنطقي، ولقد كانت الطريقة المتبعة قبل ذلك هي الطريقة الكنسية، طريقة السؤال والجواب، ثم جاءت المدرسية ففرضت على التعليم هذه الطريقة المنطقية الجافة وقضت على الطريقة الأولى.

طريقة المدرسية

كانت الطريقة التي تتبعها المدرسية هي طريقة التحليل المنطقي. والحق انه كانت هناك طريقتان تتبعان في الجامعات والمدارس من قبل رجال المدرسية:

أولاهما، وهي أكثرهما شيوعاً، هي الطريقة التحليلية، فقد كان الموضوع يقسم إلى أجزاء وهذه الأجزاء إلى أجزاء تالية وهكذا حتى نصل إلى أدق الأقسام، ثم يصار إلى فحص كل قسم وفقاً لقواعد منطقية فحصاً دقيقاً متعباً.

أما الطريقة الثانية وهي أكثر تحرراً فقد كانت تلجأ إلى عرض المشكلة ثم تذكر الحلول المختلفة لها وتناقش كل حل على حدة ثم تختار أصلح هذه الحلول. ولقد كانت هذه الطريقة تعتبر أدنى من الأولى مع أنها أكثر فائدة واجدى عائدة وأقدر على استثارة الفضول والانتاج المثمر.

تطور المدرسية

بدأ النقاش الكلامي، وخاصة الجدل حول مسألة التحول، أيام حنا الاسكتلندي 1088 وفي القرن الحادي عشر اتضح الجدل بين الواقعية والاسمية وذلك في مناقشات (آنسلم anslem) و(روسلينوس Roscellinues) حتى لقد دعى انسلم بأبي المدرسية. ثم جاء (آبيلارد Abelard) (1079 ـ 1142) الذي عاكس المبالغة في كل من الواقعية والاسمية وحاول التوفيق بينهما فقال بأن المثل موجودة ولكنها ليست مفصولة عن الوقائع والحوادث إلا بكونها مفاهيم في النفس الإلهية قبل الخلق. وهذا بالطبع لم يرض الكنيسة. واشهر كتابات آبيلارد كتاب في متناقضات الكتابات الكنسية وعدم محاولة حل هذه المتناقضات. ولقد كان من رأي آبيلارد ان العقل أسبق من الايمان وان كثيراً من العقائد المسيحية يمكن دعمها بالعقل.

وفي كل من القرنين الثالث عشر والرابع عشر سادت المدرسية سيادة تامة، حتى لقد ظن خلال هذين القرنين ان اللاهوت والفلسفة قد اصطلحا إلى الأبد.

ولا بد هنا من الاشارة إلى (ويليم اوكام W.Ocam 1280 ـ 1348) والى محاولته في القرن الرابع عشر لبعث الحياة في الاسمية ومهاجمته الشديدة للواقعية.

مزايا التربية المدرسية ونقائصها

لعل اشد ما يؤخذ على المدرسيين انهم لم يحاولوا قط النظر في صحة ما يبحثون أو التأكد عما إذا كانوا يملكون كل العناصر اللازمة للبحث قبل أن يخلصوا إلى النتائج. يضاف إلى ذلك ان المادة التي كانوا يشتغلون بها كانت مجردة وميتافيزيقة لا تشاركها في ذلك أي معرفة حسية أو مادية، ولذلك فإن الحقائق التي توصلوا إليها كانت لا تملك أكثر من قيمة صورية قد يكون لها بعض القيمة المنطقية ولكنها بعيدة كل البعد عن الحياة.

والمأخذ الآخر على المدرسيين هو ان مناقشاتهم قلما كانت تتصف بالواقعية ولسنا نقصد الواقعية الحياتية فحسب، بل حتى الواقعية الفكرية. انها كانت مناقشات لا نهاية لها حول الكلمات والتعابير والصور. وانه لمؤسف حقاً أن تكون هذه الانتقادات صحيحة حتى بالنسبة لأعظم رجال المدرسية. إن ما اشغل بالهم هو مشاكل من هذا النوع "كم ملاكاً يستطيعون الوقوف على رأس ابرة؟" و"هل يستطيع الله خلق هضبتين لا وادي بينهما؟" و"مإذا يحدث إذا أكل فأر العشاء الرباني؟ ".

انما يجب أن لا يغرب عن البال أن الفلاسفة المدرسين كانوا يرون ان تحت هذه السخافات مشاكل هامة تتناول العلاقة بين المحدود وغير المحدود وطبيعة الواقع الخ... ثم ان غرضهم كان يختلف عن غرض رجال الفكر الحديث ولقد كانت طرقهم تحقق غرضهم وحسبهم هذا مبرراً لهم.

5 ـ الجامعاتَ

اصل الجامعات

تحت تأثير الاهتمام بالجدل، تعاظم شأن بعض المدارس الكاتدرائية ومدارس الأديرة في أواخر القرن الحادي عشر ومطلع القرن الثاني عشر، وقبل منتصف القرن الثاني عشر وجد في باريس العنصران اللازمان للجامعة الطلاب والأساتذة، ومن قبل ذلك، خلال القرن الحادي عشر، كانت أوروبا الغربية بدأت تتخلص من العوائق التي تقف في وجه الحرية الفكرية.

فإذا اضفنا إلى ذلك استقرار التوتون وقبولهم للمدنية في ذلك الوقت وما استتلى ذلك من سلام نسبي تيسر لسكان فرنسا وإنكلترا وما يسر هذا السلام للسكان الجدد من امكان لاستخدام مواهبهم في غير السلب والنهب والحرب، عرفنا الجو الذي نشأت الجامعات فيه. ان التوتون بالدم الجديد النشيط الذي جلبوه إلى انكلترا وفرنسا والمانيا وايطاليا هيأوا هذه البلاد للنهوض، كما ان الكنيسة التي خرجت بمفاهيم جديدة واهتمامات جديدة من نضالها مع الاباطرة والرومان المقدسون سمحت للفضول الثائر والمناقشات الدينية المحتدمة بأن تتخذ شكلاً علمياً ذا بال. ثم ان نمو التجارة وظهور الحكومات البلدية، ولا سيما في المدن الايطالية، نفخت في التعليم المدني روحاً جديدة، وأخيراً فإن الحروب الصليبية بقضائها على عزلة أوروبا وجعلها على اتصال بالعالم العربي الاسلامي المتمدين سمحت بدخول الأفكار الجديدة وبالتالي بتوسيع الآفاق الفكرية عند الغربيين. وهكذا بدأ الغربيون يرون ان ((برابرة الشرق)) كما كانوا يسمونهم على حق حين كانوا يسمونهم هم بالبرابرة، وهكذا نمت روح البحث وحرية الفكرة وغزت الغرب من الشرق، فتعرف الغرب عن طريق العرب، على أرسطو وأفلاطون والفلسفة اليونانية. كل هذه المؤثرات اجتمعت بنسب مختلفة وعلى اشكال مختلفة، فأوجدت الجامعات، والجدير بالذكر هو ان الظروف التي انشأت الجامعات مختلفة حتى انه يتعذر علينا اقول بأن الظروف نفسها أنشأت جامعتين اثنتين.

تأسيس الجامعات

في ايطاليا الجنوبية كان الاتصال وثيقاً مع العرب والنورمان والسكان اليونان والذي ينحدرون من أصل يوناني. ولذلك كان الاتصال بالثقافتين العربية واليونانية أسهل وأيسر. ولقد كان دير (سالر نو) شديد الاهتمام بالطب بسبب الحروب الصليبية ومداواة رهبان هذا الدير للمحاربين الصليبين فنشأ عن ذلك مدرسة للطب. وفي سنة 1224 توحدت هذه المدرسة مع مدرسة نابولي المجاورة وسميت بإذن من فردريك الثاني (جامعة نابولي).

وفي ايطاليا الشمالية، حيث اشتد النزاع وطال مع الاباطرة الجرمان حول حقوقهم اشتد الاهتمام بالحقوق الرومانية  ذلك لأن هؤلاء الأباطرة الجرمان بنوا ادعاءاتهم على ما للأباطرة الرومان من حقوق فاضطرت المدن الايطالية الشمالية لدراسة الحقوق الرومانية للرد على ادعاءات الجرمان، فنشأ عن ذلك مدارس كثيرة لدراسة الحقوق فاشتهرت مدرسة بولونيا لشهرة واحد من اساتذتها.

ولقد منح الطلاب والاساتذة امتيازات بمراهيم خطية أصدرها الأباطرة والباباوات فأصبحت هذه الامتيازات قوانين تتمسك بها الجامعات، وهكذا فقد اعترف لويس السابع بجامعة باريس سنة 1180 وفي الوقت نفسه اعترف بها البابا، ولقد تم الاعتراف النهائي بها سنة 1200 أما الاعتراف بأكسفورد وكمبردج فقد تأخر عن الاعتراف بجامعة باريس.

وفي كل هذه الجامعات وجد التلامذة والأساتذة قبل الاعتراف الرسمي بها. كما ان المدارس أو الكليات وجدت قبل ذلك بكثير في مختلف الأديرة والكاتدرائيات. ولم تلبث هذه المؤسسات أن أصبحت واسعة النفوذ كثيرة العدد فقام في القرن الثالث عشر 19 جامعة، وفي القرن الرابع عشر 25 وفي القرن الخامس عشر 30.

تكوين الجامعات وتنظيمها

تميزت الجامعات بديموقراطية تكوينها ونشوئها في المراكز الآهلة بالسكان. بخلاف مدارس الأديرة، كما تميزت بالامتيازات الممنوحة لها.

امتيازات الجامعات: يمكننا القول، بصورة عامة، بأن طلاب الجامعات واساتذتها قد منحوا امتيازات رجال الدين، فاعفوا من الخدمات الحكومية والخدمات العسكرية إلا في الأحوال الاستثنائية فمثلاً كان طلاب جامعة باريس لا يدعون إلى الخدمة العسكرية (إلا حين يكون العدو على بعد خمس مراحل) كما أعفو من الضرائب والسخرة الخ... ولعل أهم الامتيازات التي منحت للجامعة هي امتياز المقاضاة الذاتية أي الحق في ان تحاكم الجامعة نفسها الأفراد المنتمين إليها، شأنهم في ذلك شأن رجال الدين، مما أعطاهم نفوذاً لا يقل عن نفوذ رجال الدين أنفسهم. وأخيراً أعطي للجامعات حق منح الدرجات التي لم تكن في ذلك الحين اكثر من اجازات للتعليم. ذلك الحق الذي كان من اختصاص رجال الدين وحدهم والذي مكنهم من مراقبة التعليم قروناً طويلة.

ولقد كان لرجال الجامعات الحق في الاضراب إذا مست امتيازاتهم هذه أو على الأقل الانتقال من مركز إلى آخر في حال غضبهم. وبديهي أن نقول بأن رجال الجامعات أعطو نفوسهم هذا الحق بعد نضال طويل. ولقد روى التاريخ ان جامعة باريس انتقلت إلى اكسفورد 1229 كما ان جامعة اكسفورد انتقلت إلى كمبردج 1209.

الأمم والجامعات:

كانت الجامعات تضم طلاباً وأساتذة من كافة أنحاء أوروبا، وكانت الحدود في ذلك الحين غير محددة ولا ثابتة، كما ان القوميات لم تكن متميزة ولذلك فقد كانت اللغة والبلاد العاملين المهمين في تقسيم الطلاب والأساتذة إلى جماعات عرفت بالأمم فكان في جامعة باريس أمم أربعة هي: الافرنسية والنور ماندية والبيكاردية والانكليزية.

الكليات:

كان لتقسيم الطلاب إلى (أمم) علاقة بالسلوك والحقوق المدنية والمحاكمات ولا علاقة له بأمور الدراسة، ولذلك كان لابد، فيما بعد، من تقسيم الطلاب بحسب دراستهم فنشأت الكليات التي يشرف عليها اصحاب الدرجات.

الادارة والموظفون:

كانت كل أمة تنتخب مستشاراً في كل سنة، وكل كلية تنتخب عميداً وهؤلاء المستشارون والعمداء ينتخبون رئيس الجامعة الذي كان يعتبر ممثل الجامعة والذي جرت العادة في الجنوب على أن يكون من الطلاب. وفي القرن السادس عشر صارت هذه المناصب سياسية كما اضاعت (الأمم) أهميتها.

الدرجات:

كان الطفل الذي يبلغ الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره والذي يرغب في دراسة الفنون الحرة أو في إعداد نفسه لمهنة التعليم يجبر على تسجيل نفسه عند استاذ يعتبره مسؤولاً عنه، وكان يقضي مدة تتراوح بين 3 ـ 7 سنين في تعلم القراءة والكتابة والنحو والبيان والمنطق وتحديد معنى الكلمات ومدلول الجمل والتصانيف، ومتى أتقن ذلك بدأ بتعليم من هم أصفر منه سناً وفي الوقت نفسه يكمل دراسته العليا فيدرس النصوص ويتعلم الجدل المنطقي ثم يطلب إليه ان يكتب أطروحة وان يدافع عنها أمام اصحاب الصناعة من المعلمين فإذا نجح منح درجة أو اجازة تعني انه أتقن العلم وانه يسمح له بالتعليم.

طريقة التعليم في الجامعة وفحواها

لقد تحدثنا عن فحوى التعليم في الجامعة وطريقته حين تحدثنا عن المدرسية. ومن المناسب هنا ان نشير إلى انه اعتباراً من مطلع القرن الثالث عشر صار منهاج الدرس الجامعي يقرر بمرسوم بابوي أو جامعي. ولقد كانت معظم الكتب التي تدرس هي الكتب التي تلخص أو تشرح منطق ارسطو وما يستتبع ذلك من مناقشات وتلخيص وجدل. ويمكننا القول بأن ارسطو سيطر على جامعات أوروبا حتى منتصف القرن الخامس عشر، وان أشد ما كان يعتني به هو المنطق فقط. أما دراسة الهندسة والفلك فقد تقدمت بعض التقدم في الجامعات الايطالية وفي الجامعة فيينا وحتى الكليات الاختصاصية فإنها لم تكد تدرس أكثر من بعض الكتب التي كانت تعتبر أساسية في ذلك الحين مع بعض الشروح والمناقشات.

ولقد كانت التربية الجامعية حينئذ كتابية محضة (نسبة للكتاب) وكانت النصوص محدودة. ولقد كانت العناية القصوى توجه للشكل لا للمحتوى ولتنمية قوة الجدل وحسن الالقاء أكثر منها للمعرفة أو البحث عن الحقيقة، كما كان يحال بين الطالب وبين كل ما لا تقره الكنيسة من مصادر المعرفة.

تاثير الجامعات الأولى

كان تأثير الجامعات المباشر وغير المباشر عظيماً، انها كانت أولى المؤسسات الديموقراطية، وفيها وجدت حرية الفكر ملاذها الأول في مناقشة السياسة واللاهوت. ورغماً عن ان الجامعات ضمت، أول ما ضمت، أصحاب الامتيازات من النبلاء ورجال الدين، ورغماً عن امتيازاتها هي فإنها كثيراً ما كانت صوت الشعب ضد الملوك ورجال الدين.

ولعل في حق الجامعة في أن يكون لها صوت مسموع في السياسة عن طريق ممثليها في المجالس النيابية الانكليزية والفرنسية والاسكتلندية دليلاً ساطعاً على ما قلنا. وكثيراً ما كانت الجامعات هي التي تحل الخلافات التي تقوم بين الملوك والباباوية كما حدث في طلاق فيليب ملك فرنسا وهنري الثامن ملك انكلترا. وفي بعض الأحيان كانت الجامعات تقوم مقام الشعب في مهاجمة الباباوية، ويرجع إلى رأيها العلمي في الاختلافات القانونية.

إلا ان أهم تاثير لها كان في الحياة الفكرية ، فقد وجد للعلم مؤسسات الآن إلى جانب مؤسسات الدين والحكومة. وحتى حين كان محتوى العلم في هذه الجامعات هزيلاً فإنها كانت الملاذ الوحيد للعباقرة من العلماء والمفكرين ممن أبقوا على شعلة المعرفة حية لاهبة وإذا كانت لم تقدم للإنسانية إلا اشخاصاً ـ أمثال بيكون وبترارك وكوبرنيك ـ ممن وضعوا دعائم العلم الحديث لكفاها فخراً.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست