.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الدنيا والآخرة والملك والملكوت

نور الأعمال الصالحة في قبر المؤمن

الخوف والرجاء بحران في وجود الإنسان

ترك الذنب وإتيان الطاعة هما نتيجة للخوف والرجاء

نعمتا الخوف والرجاء والحسنان بابي رحمة الحق

السفن العظيمة الهيكل الجارية هي لله تعالى

المركّبات من العناصر الأربعة

حالة الإلتجاء في السفينة الشراعية

الأزواج خلقها من الأرض

التلقيح في النباتات بواسطة الريح والحشرات

فلق الذَّرَّة أثبت زوجية الأشياء

الليل آية الله ومنافع كثيرة

 

الدنيا والآخرة والملك والملكوت

الوجه الظريف الآخر من بطون الآية الشريفة ـ بحرين ـ أي بحر الدنيا وبحر الآخرة ـ الله سبحانه وتعالى، حرّك عالم الإمكان في بحري الدنيا والعقبى عالم الملك والملكوت، ظاهر وباطن البحرين متصلان ببعضهما البعض وقد خلق بينهما عالم برزخٍ هو حائل بين الدنيا والآخرة فطالما الشخص موجود في الدنيا يكون غافلاً عن الآخرة ولا يراها وليس له سبيل إليها، وبعد الموت لا تعود الرجعة إلى الدنيا ميسّرة بعد ذلك[1] لا الدنيا ترجح على الآخرة حتى تغلب عليها، وتزيلها من الوجود، ولا الآخرة هي الأُخرى ترجح على الدنيا. من التقاء وإتصال هذين العالمين يخرج لؤلؤ العقائد الصالحة ومرجان الأعمال الصالحة.

إن من بركة الحياة في هذه الدنيا أنوار عقيدة المؤمن، أين اللؤلؤ من نور إيمان المؤمن؟ يُروى أنّ نور عقائد المؤمن يسطع من جبهته يوم القيامة ويمتد إلى الحد الذي تبقى فيه العين قادرة على الرؤية ونور أعماله الصالحة أيضاً يسطع من جنبه الأيمن.

(مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان فبأيّ آلاء ربّكما تُكذّبان).

الدُّرُّ الكبير والصغير يتكون على أثر هطول قطرات المطر

كان الكلام يدور حول هذه الآيات الشريفة، (مرج البحرين) المالح والعذب ومع أنهما يختلطان ببعضهما البعض إلاّ أنه لا يبغي أحدهما على الآخر لأن الماء العذب ضروري لرفع العطش، وكذلك الماء المالح ضروري للحؤول دون حدوث التعفُّن، وحتى تتمكن الحيوانات من البقاء حيّة.

من هذين البحرين يخرج اللؤلؤ والمرجان اللذين هما دُرٌّ كبير وصغير، ورد في تفسير كيف أنّ بعض حبّات الدُّرّ كبيرة، والبعض الآخر صغيرة، يقال أنّ ذلك يكون باعتبار قطرة المطر حسب كبرها وصغرها.

كما ذُكر سابقاً فإنّ الصدف، هذا الحيوان البحري، عندما يهطل المطر يأتي من قعر البحر إلى سطح الماء ويفتح فمه ويبتلع قطرة مطر وقطرة المطر هذه تكون مادة وجود الدُّر داخل الصدف، فإن كانت صغيرة تتحوّل إلى لؤلؤ، أي دُرّ الحجم، وإن كانت كبيرة تتحوّل إلى مرجان أي حبّة دُرّ كبيرة الحجم.

نور الأعمال الصالحة في قبر المؤمن

من وجوه التأويل، التي ذكرت سابقاً لهذه الآية الشريفة، أنّ البحرين هما الدنيا والآخرة، وعالم البرزخ هو الفاصل بينهما، ويخرج بالنتيجة نور عقائد المؤمن وأعماله الصالحة. بهذه المناسبة أذكر هنا رواية شريفة بشكل مختصر جداً:

يروى أنه عندما يوضع المؤمن في القبر فإنه يشاهد خمسة أنوار: نور من فوقه ونور من تحته،ونور عن يمينه، ونور عن شماله، ونور من أمامه، تلمع كالكواكب الدُّرّيّة. فيُسأل: ما هذه الأنوار؟ فيقال له: النور الأعلى هو نور الصلاة والنور عن اليمين والآخر عن الشمال هما تباعاً نور الصوم والحج، والنور الأسفل هو نور الزكاة، وأما النور الأمامي الذي يطغى على كل الأنوار الباقية فهو نور ولاية محمّد(ص) وآل محمّد(ع).

الخوف والرجاء بحران في وجود الإنسان

من بين وجوه تأويل الآية الشريفة: (مرج البحرين): الخوف والرجاء. فرب العالمين جلّ وعلا قد أجرى في الوجود الإنساني بحرين عظيمين: البحر المالح: الخوف، والبحر العذب: الرجاء، فبنار الخوف وبرودة الرجاء يحدث في الإنسان حالات متنوعة ومتضادّة من إنقباض وانبساط وهيبة وأُنس وغير ذلك.

إن الخوف والرجاء موجودان في كل فردٍ منا بالفطرة. والخوف إذا وجد في أيّ قلب كان فإنه يضنعفه... يشعله ناراً. أمّا الرجاء فهو بمثابة الماء البارد والحلو والعذب الذي لا يدع نار الخوف تقضي عليه.

وجود الإثنين في قلب كل إنسان مؤمن ضروري ولطف الحق تعالى هو الحائل بينهما بحيث لا يطغى أحدها على الآخر لأنه إذا قضي على واحد من هذين الإثنين فإن الشخص ينجر إلى ورطة السقوط. فإذا مثلاً غلب خوفه بحيث لم يبق له أمل، فإنه ييأس ويتصور نفسه من أهل جهنّم، وأنه قد قُضي عليه، إذ لا يمكن بعد ذلك الخروج منها. هذا اليأس من رحمة الحق يجرُّ إلى التفكُّر والشخص اليائس لا يسعى بعد ذلك وراء العمل الصالح.

من جهة أخرى: إذا غلب بحر الرجاء العذب فإنّ الغرور يصيبه، يبلغ به الأمر حدّاً لا يعود معه يخاف من إرتكاب أيّ ذنب كان. فالخوف إذا ما فارق القلب فإنه يتجلّد فلا يصلي النافلة، ولا ينفق، والنتيجة واحدة فيما إذا غلب الخوف على القلب. إن الغرور يؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة معاً.

ترك الذنب وإتيان الطاعة هما نتيجة للخوف والرجاء

(يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان) من بحري الخوف والرجاء هذين يخرج لؤلؤ التقوى وترك المعصية، ومرجان الطاعة.

ببركة الخوف لا يعود يذنب... من يُصدّق بأنه سيحاسب على أعماله حتى وإن كانت مثقال حبّة من خردل فإنه سيخاف بعد ذلك أنْ يحوم حول الذّنب.

في نفس الوقت لأنه يأمل لطف وإحسان الحق تعالى فإنه لن ييأس كذلك أبداً بل دليل رجائه هو أنه يسعى أكثر وراء الخيرات، والعبادات، والأعمال الصالحة... الإثنان ضروريّان بقدرٍ معتدل (لا يبغيان) ببركة الخوف يتقّى، وببركة الرجاء لا يقصِّر في أعمال الخير.

دع عبدنا

ينقل (السيد الجزائري) رحمة الله عليه: أنّ شاباً مبتلىً بغرور الشباب والمعصية مرض، ووقع في فراش الموت، وعندما علم أنه ميّت لا محالة قال لأمِّه على سبيل الوصيّة: إنني أريد منك عندما أموت أنْ تربطي حبلاً وتسحبينني وتقولي: أيها المذنب أسود الطلعة.

وعندما مات لم يطاوع قلب أمه أنْ تفعل به ما قال لها ولكن لأنه وصّاها بذلك ربطت رجله وأرادت أنْ تسحبه فطرق سمعها صوت يقول: دعي عبدنا!!!

روحي فداء لذلك القلب الذي فيه خوف وفيه رجاء... فيه الإثنان وقد نقل مثل ذلك في تفسير (منهج الصادقين): أحدهم أثناء نزعه عندما إنتبه أنّ عمره قد أشرف على نهايته أطلق آهة من صميم قلبه وقال:

(يا من له الدنيا والآخرة إرحم من ليس له الدنيا والآخرة).

فجعل الله تعالى آهته هذه وقوله المليء بالأسى مقدمة وواسطة لرحمته ومغفرته وغفر له.

نعمتا الخوف والرجاء والحسنان بابي رحمة الحق

(فبأيّ آلاء ربكُما تُكذّبان)

ـ فبأيٍّ من نعم ربكما تكذبان أيها الجن والإنس ـ بنعمة الخوف أو الرجاء اللتين جعلهما في قلوبكم، حيث ببركة هاتين النعمتين، والبرزخ الذي هو الفاصل، ولا يدع أيّاً منهما تزول من الوجود، صرتم سعداء! فاتقوا واعملوا العمل الصالح. هذان الأمران التوفيق والعصمة، أو الخوف والرجاء، أو سائر الوجوه الأخرى، كلّها نعم الله التي يجب الشكر عليها لا الكفران.

من وجوه تأويل اللؤلؤ والمرجان التي أشير إليها في الليالي الماضية: الحسن والحسين عليهما السلام كما في سورة الحديد (يؤتكم كفلين من رحمته) فقد فسّرت بالحسن والحسين عليهما السلام. إنهما بحق بابان واسعان من أبواب رحمة الحق الواسعة حيث يجب شكر هذه النعم لا أنْ تكفروا بها.

سيّئة الحظ هي تلك المجموعة التي بدل أنْ تشكر هذه النعم الإلهية العظيمة حاربتها فجعلت الحسن(ع) يستشهد بسم الجفاء والحسين(ع) يستشهد وهو عطشان.

(وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان).

السفن العظيمة الهيكل الجارية هي لله تعالى

من الآيات الإلهية العظيمة السفن التي تجري في البحار. (الجوار) كانت في الأصل (الجواري) وقد حُذفت الياء والكسرة تدل عليها (والجواري): جمع (جاري) و(جارية) بمعنى المتحرك والمتقدّم فوق سطح الماء وهو إسم للسفينة ومرادف للفُلْك (بضم الفاء) وباختصار فإن السفينة والفلك والجارية كلُّها لها معنى واحد، ولكلٍّ منها وجه شبه ومناسبة خاصة به. إذاً معنى الآية الشريفة إلى هنا صار على النحو التالي: (وله الجوار): أي ولله تعالى السفن الجارية.

(المُنشآت): وقد قرئت على نحوين: بفتح الهمزة أي أسم مفعول بمعنى: مرفوعات في السفن الشراعية كانوا ينصبون في وسطها أعمدة خشبية مثبتة تثبيتاً جيداً، وكانوا يربطون إليها أشرعة لكي يحدث الريح عليها ضغطاً، ويدفع السفينة إلى الجريان في الماء. إذاً المنشآت هي إشارة إلى السفن الشراعية التي رُفعت أشرعتها.

القراءة الثانية أتت بكسر الهمزة: (المُنشآت): تعني: البادؤون بالحركة (منشآت في الحركة والسير). السفن الجاهزة للجريان. (كالأعلام): أعلام: جمع علم بمعنى الجبل المرتفع. الله سبحانه وتعالى شبّه السفن الجارية في البحار بالجبال المرتفعة إنه تعالى يريد أنْ يقول: كما أنّ الجبال في اليابسة بادية من بعيد عن بعد عدة فراسخ، كذلك سارية السفينة بادية من بعيد، تبدو كقمة الجبل.

هنا يجب الإلتفات إلى وجه التناسب القائم بين الآية الشريفة والتشبيه الذي ذكره تعالى وكينونة ذلك آية من آياته تعالى.

المركّبات من العناصر الأربعة

سبق لكم أنْ عرفتم أنّ أركان عالم الطبيعة أربعة أمور يُقال لها العناصر الأربعة، والمركّبات جميعها توجد من هذه الأربعة أمور: الماء، الهواء، التراب، النار. هذه هي الأركان الأربعة لموجودات عالم الطبع. طبعاً اليوم قد اكتشفوا أنّ المواد الأولية التي تتكوّن منها الموجودات يصل عددها إلى ثمانين وربما أكثر، ولكن أصولها الأولية هي هذه الأربعة أمور، لأنهم في العلم الحديث قد جزّأوا الماء والنار والهواء والتراب وهم يقومون بدراسة العناصر البسيطة.

في الآيات السابقة كان الحديث يدور عن خلق الإنسان من التراب. هذا العنصر هو المادة الأولية لخلق أعجب وأشرف المخلوقات.

ثم دار الكلام عن خلق الجن من النار، ثم أتى على ذكر الماء، فخلط العذب والمالح منه ببعضه البعض، دون أنْ يفقد كلٌّ منهما خاصيته، ويخرج منهما اللؤلؤ المرجان. بقي من العناصر الأربعة: الهواء الذي يُشار إليه هو الآخر في هذه الآية وذلك عندما يأتي على ذكر الريح التي تجري ببركتها السفن الضخمة كينونة الهواء، وبركاته نعمة، ليست خافية على أحد. دوام حياة الإنسان وجميع حيوانات اليابسة به، كذلك النباتات تحتاج في حدودها الخاصة إلى الهواء. أمّا ما أُشير إليه في هذه الآية فهو حركة السفن الشراعية ومن ضمنها نعمة الهواء. ولهذا هناك حاجة إلى مقدمة ما:

لقد ثبت بالتجربة أنّ كل جسم كان حجمه أخف من الماء فإنه لا يغرق فيه، وإذا كان أثقل فإنه يغرق، أي إنّه كل جسمٍ طيق لحجمه، لنأخذ بنظر الإعتبار حجم الماء، أقل من حجم الماء يبقى فوق سطح الماء وإلاّ فإنه ينزل تحته. إنكم تلاحظون أنه إذا ألقيتم إبرة في الماء فإنها تغرق ولكن السفينة التي تزن عدة أطنان تبقى فوق سطح الماء لأنه لو جعلوا الماء طبقاً لحجم الإبرة فإن الإبرة تكون أثقل ولهذا فهي تغرق في الماء. أمّا خلل وفرج السفينة فكثيرة، وبين أعطافها يوجد قدرٌ كبير من الهواء هو في مجموعه أقل من حجم الماء ولهذا فهي تبقى فوق سطح الماء.

إذاً فالله سبحانه وتعالى هكذا قد جعل الهواء خفيف الوزن، والماء ثقيلهُ، طبعاً إذا ما وزنّاهما بالنسبة إلى بعضهما البعض يكون الهواء أخف من الماء، ذلك لا يتنافى مع ما إذا كان كل منهما على حدة أخف أو أثقل بالنسبة إلى شيء آخر.

الأسماك الكبيرة في المحيطات والبحار تنتقل بسرعة من قعر البحر إلى سطح الماء وتعود بسرعة يقال إنها تستفيد من هذه الخصوصية أي إنه في قسم البطن والحنجرة منها يوجد شيء ما يشبه حوصلة الدجاجة إذا أرادت أنْ تصعد تملأه بالهواء حتى يزداد حجمها، وتصبح أخف وأثناء النزول تجمعه على بعضه البعض. (ذلك تقدير العزيز العليم).

إذاً صار واضحاً إلى هنا أنّ قوام السفينة في الأساس هو بالهواء، ولو لم يكن الهواء لما استطاعت السفينة أنْ تأخذ مكانها فوق سطح الماء أو أنْ تجري بل كانت ستغرق. إضافة إلى ذلك فإن إبحار السفينة الشراعية كان رائجاً منذ عدة مئات من السنين مضت، وذلك قبل أنْ يتم اكتشاف الآلات التي تعمل بالبخار، أو بالبنزين، أو بالكهرباء، وكان ذلك مرتبطاً بالهواء ومجرى الرياح، وحتى الآن لا تزال توجد سفن شراعية يوجهون أشرعتها في الإتجاه الذي يريدون الذهاب فيه فتجري فيهم هذه السفن بسرعة الريح.

حالة الإلتجاء في السفينة الشراعية

طبعاً السفينة الشراعية لها أخطار كثيرة فقد يغرقها الطوفان والامواج العالية، ولهذا فإن سكان السفينة نوعاً ما يلجأون في تلك الحالة ويتوجهون إلى الله سبحانه وتعالى، يطلبون منه السلامة ولكن ويا للأسف يكون ذلك مؤقتاً فعندما يصلون سالمين إلى اليابسة ينسون الله كما يقول في القرآن الكريم: (وإذا ركبُوا في الفلك (ووقعوا في أيدي الأمواج الخطرة) دعوا الله مخلصين له الدّين، فلمّا نجّاهم إلى البرّ (وخلصهم من خطر الأمواج) إذا هم يشركون)[2].

كلّنا هكذا، أثناء الشدة والصعاب نلتجئ إلى الله ونعاهده أنْ يا رب إذا خلصتنا من هذه الشدّة فلن نحوم بعد ذلك حول الذنب أبداً... سنصبح عباداً خلّصاً لك وأشياء من هذا القبيل. ولكن عندما ننجو ونتخلّص من تلك الشدائد، نعود مرّة ثانية إلى حالنا السابق الفاسد وننسى ما كنا قد عاهدنا الله عليه. ولهذا فإن البلاء والمصائب هما هدية الله إلى عبده المؤمن.

روي عن الإمام موسى بن جعفر(ع) أنه قال: كما أنّ أحدكم يهدي إلى أخيه هدية، كذلك الله سبحانه وتعالى يهدي البلاء إلى عبده المؤمن. نعمة ظاهره: مصيبة وشدّة إما باطنه: فلطف. إنه بهذا البلاء يبقي عليه في دائرة الله سبحانه وتعالى. إن لحالة الإلتجاء والتضرع إلى الله قيمة كبيرة.

 

الفصل السادس

بسم الله الرحمن الرحيم

الأزواج خلقها من الأرض

(سبحان الّذي خلق الأزواج كُلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون * وآيةٌ لهم اللّيل نسلخ منه النّهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقرٍّ لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم)[3].

هذه الآيات هي في بيان شواهد القدرة والحكمة، وكذلك معرفة الله ومعرفة المعاد، والعلم بالقدرة والحكمة، الإلهيين.

(سبحان الّذي خلق الأزواج) ظاهر الآية يعني: منزّهٌ ومجرد عن أي عيب ونقص ذلك الإله الذي خلق الأزواج مما ينبت من الأرض من أنواع النباتات ومن أنفسهم من نفس تلك الأزواج ومما لا يعلمون حتى الآن لم يبلغه إدراك البشر. القدماء من المفسرين كانوا يؤولون الأزواج ويأخذونها على أنها بمعنى الأصناف والأنواع. الأصناف والأنواع هكذا قد خلقها. بعض آخر يقول: تركيب جوهر وعرض المادة مع الصورة.

التلقيح في النباتات بواسطة الريح والحشرات

هذه التعابير هي على أثر عدم العلم بغرض نظام الخلق المهم الذي كان الإنسان إلى الآن غير عارفٍ به وهو مسألة تزاوج الكائنات. في السابق في غير الحيوان كانوا يعرفون أنّ النخل فقط فيه ذكر وأنثى،ولذا يجب أنْ يلقح الذكر منها الأنثى حتى تحمل وتثمر تمراً، ولكن مؤخراً صار من المسلم به قطعاً أنه ليس فقط شجرة النخل بل كل الأشجار بحاجة إلى تلقيح. أولاً أزواج: بمعنى أصناف وأنواع ليس صحيحاً بل زوج بالفارسية يعني (جفت): أي المذكر والمؤنث. يقال للذكر والأنثى زوجين.

إن الله تعالى يريد في هذه الآية الشريفة أنْ يُعلن أنّ نظام الخلق كله زوج ولا يختص ذلك بالحيوان أو بشجر النخل فقط بل في كل الأشجار يجب أنْ يصل أثر من الذكر إلى الأنثى. الرياح هي واسطة التلقيح[4] فهي تحمل من الشجرة الذّكر ذرّات هي السبب في حمل الشجرة الأنثى. ومن بين اللواقح، الحشرات فهي بحطها فوق الشجرة الذَّكر تأخذ ذرات اللقاح وتوصلها إلى الشجرة الأنثى.

فلق الذَّرَّة أثبت زوجية الأشياء

(ومما لا يعلمون) ـ ربما يكون إشارة إلى ما علموه مؤخراً عن نظام الذرّة. هذه الذرّة التي كان يقال لها في السابق الجزء الذي لا يتجزأ... كانوا يسمونها بائعة الجوهر... أخيراً فلقها الإنسان بواسطة الأجهزة العلمية وكشف عنها هذه الذرّة هي الأخرى زوج. فيها فاعل ومنفعل ألكترون وبروتون. إذاً إحدى المعاجز العلمية للقرآن هي أنّ الإنسان لم يكن يستطيع أنْ يصدق أنّ الأشياء كلها زوج فكيف إذا بلغ الأمر حدّ الجوهر الفرد (الذرّة) ولهذا كانوا يؤولون الأزواج بالأصناف والأنواع ولكن اخيراً إتضحت هذه الحقيقة أنه (سبحان الذي خلق الأزواج كلّها) الأزواج كلها: أي الأشياء كلها لأن كل شيء هو زوج (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين)[5] ومن أنفسهم: فيما يتعلق بالمذكر والمؤنث فإنه يحتاج إلى تأمل وتفكّر كثيرين.

الإمام الصادق(ع) في أحد مجالسه مع المفضّل يذكر هذا الموضوع نفسه أنْ أمعن النظر في الاعضاء التناسلية وطريقة التزاوج وإنعقاد النطفة فكلما زاد التأمل كلما زادت الدهشة.

الليل آية الله ومنافع كثيرة

(وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار فإذا هم مظلمون) أمعنوا النظر في الآيات وشواهد القدرة الإلهية. مما يحصل في الليل والنهار؟ إستناداً إلى الحسّ يحصل من حركة الشمس حول الكرة الأرضية واستناداً إلى الواقع من حركة الارض الوضعية حول نفسها،(24) ساعة يحدث الليل والنهار. إنتبهوا إلى دقائق الأمور هنا: (وآيةٌ لهم اللّيل) إذا ما حلّ الليل يُذهب بالنهار لكي يكون آمناً وراحة للكائنات، يستريحون ببركة ظلمة الليل. (نسلخ) قال بعض المفسرين: إنها بمعنى (نخرج) لأنه جاء بعدها (منه) وإذا كان السليخ يعني النزع يجب حينئذ استعمال (عن) إذاً يصبح المعنى (نخرج منه النهار) أخذنا الضياء ونأتى بالظلمة... أخذنا ضياء الجو جاءت الظلمة (فإذا هم مظلمون) لو لم تكن تلك القدرة القاهرة تحرّك الكرة الأرضية لظل النهار مثلاً نهاراً دائماً ولما حصلت تلك المنافع التي للّيل، ثم لو أنّ الشمس بقيت مشرقة لمدة (24) ساعة مستمرة فوق منطقة واحدة لكانت أحرقتها بنحوٍ من الأنحاء.

الشمس باتجاه مستقرها نجم فوغا (voga)

(والشمس تجري لمستقر) قال البعض (لمستقر) تعني (إلى مستقر). الشمس هي في حركة دائبة لا هذه الحركة التي نشعر بها تدور حول الأرض خلاف الواقع. إن الشمس تتجه بمنظومتها كلها إلى كوكب عظيم يسمونه (نسر) ومؤخراً أسموه (فوغا). وعندما تصل إلى ذلك الكوكب يصل عمر المنظومة الشمسية إلى نهاية المستقر أي مستقر الشمس وهو ذلك الكوكب العظيم وعندما تقوم القيامة في علم الهيئة الحديث قيل أيضاً إن المنظومة الشمسية هي في عمر الشيخوخة (إقتربت الساعة) عندما تتوقف عن السير. ينتهي نورها مثلنا نحن عندما يبلغ عمرنا نهايته، تنتهي آثار الحياة. هذا السير ليس أبدياً حتى تصل الشمس إلى مستقرها. (ذلك تقدير العزيز العليم).

(والقمر قدّرناه منازل) (27) منزلاً للقمر. تابعوا سير القمر ليلاً بليل.

كتب الزمخشري في (ربيع الأبرار) في شرح الصحيفة ينقل عنه: كانت الليلة الرابعة عشرة من الشهر قام الإمام السجاد(ع) أثناء السّحر للتهجّد جعل يده المباركة في وعاء الماء للوضوء رفع رأسه فوقفت عيناه على القمر، فبقي رأسه مرفوعاً هكذا إلى أنْ قال المؤذن: الله أكبر[6].

(يا من في السماء عظمته) أنظر عظمة الله تعالى في السموات. الجبال العظيمة خاصة إذا ضُمّت إليها الإكتشافات الجديدة إنها بحق مدهشة.



[1] من ضرورات المذهب الجعفري موضوع الرجعة حيث يرجع إلى الدنيا عدد من الأشخاص قبل قيام القيامة، وذلك لا يتنافى مع الوجه الذي ذكرناه وكذلك لا يتنافى مع الآية الشريفة (ربّ أرجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركتُ كلا...) وللتعرّف إلى الوجوه التي لم تذكر في هذا الكتاب فليرجع إلى كتاب (82 مناجاة) للمؤلف الذي جدِّد طبعه مؤخراً.

[2] سورة العنكبوت: الآية 65.

[3] سورة يس: الآيات 36ـ39.

[4] (أرسلنا الرياح لواقح). الحجر/22.

[5] سورة الذاريات: الآية 49.

[6] (إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنّهار لآيات لأولي الألباب) آل عمران/ 190.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست