.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

القيامة يحكم بها العقل

الصادقون يخبرون عن يوم القيامة

أفضل دليل هو (إمكان الوقوع)

عُزَير.. مات مئة سنة

إن الله قادرٌ على كل شيء

الماء والنار مجتمعان

العظام النخرة كيف تُحيى

خلق الأفلاك أهم من خلق الإنسان

 

القيامة يحكم بها العقل

لنفرض أنه لم يكن لدينا أدلّة نقلية بأن الأنبياء جميعهم لم يأتوا ليقولوا للناس أنّ هناك قيامة وأنهم سيطالبون بما قالوا وفعلوا وإعتقدوا، فإن العقل هو اكبر شاهد ودليل على أنّ دوران عالم الأفلاك والخلق الأوّل لكل موجود لن يكون دون نتيجة وغاية. كل عاقل إذا ما نظر حواليه فإنه يرى أنّ الليل يصبح نهاراً، والنهار يصبح ليلاً، يأكل، وينام، ويتخلّى، ويقضي شهواته، يكبرُ، ويُصبح شاباً، ثم يصبح شيخاً، ثم بعد ذلك يموت.

هذا النظام اللامتناهي، والطويل، والعريض الذي يُرى، هل القصد منه هو هذا فقط؟! إذاً فقد خلقوا الإنسان معملاً لصناعة النجاسة! هذا عبثٌ ولغو. من أجل الأكل وقضاء الشهوة هناك الحيوانات ولم يكن من حاجة لخلق الإنسان.

إن أولئك الذين ينكرون الآخرة لا يقبلون الله على أنه حكيم (أستغفر الله) لأن معناه أنّ هذا النظام لغوٌ وغير ذي نتيجة[1] ولكنهم أخطأوا ففي أيّ مكان وأيّ شيءٍ نراه فهو مترافق مع آلاف الحكم التي يمكن للانسان أنْ يتوصّل إلى عددٍ منها.

إن أقّل الأشياء في عالم الوجود لا يخلو من مصلحة حتى الأشياء الزائدة، كالشعر والظفر لا يخلوان من حكمة.

مثلاً من بين الحكم التي هي للظفر هذا العضو الصغير والمهمل هي أنه بمنزلة المتكأ والدعامة لاصابع اليد فعندما يحاول الإنسان رفع شيءٍ ما فإنه يرفعه بفضل هذا الظفر حيث إنه يتحمل الضغط الذي يحدث عليه من جرّاء ذلك وإلاّ لما أمكن القيام بذلك العمل كما إذا قلّمتم الأظافر في بعض الأحيان فإنه يشقُّ عليكم حينئذٍ رفع بعض الأشياء فكيف إذا لم يكن هناك ظفراً أصلاً.

ثم إن هذا الظفر يستعمل لحكّ البدن، بالإضافة إلى ذلك فإن المواد الزائدة، والقذرة يتم دفعها عن طريق هذا الظفر نفسه، ولهذا أمرنا بتقليمها على الأقل مرة واحدة في الأسبوع (خاصة يوم الجمعة).

إنه لا يوجد حتى شعرة واحدة في الجسم لا تخلو من مصلحة. يقول الإمام الصادق(ع) للمفضّل:

إن بعض الجهّال قالوا: إنه لو لم ينبت الشعر في بعض أماكن الجسم لكان أفضل. إنّهم لم يعلموا أنّ تلك الأماكن هي محلٌ لتجمع السوائل، والأوساخ، ولو لم يتم دفع المواد الزائدة، والقذرة، على شكل شعر لكان مَرِض الإنسان[2].

ولهذا فقد أمرنا أن نتعجل إزالته (كل أسبوعين كحدٍّ أقصى).

إن أجزاء عالم الوجود كلّها إذا ما نظر إليها الإنسان فإنه يرى أنها غارقة في الحكمة. من المشهور إنه عندما إعترض (جالينوس الحكيم) على خلق جعل وقال: إنني لا أرى فيه أية فائدة تذكر، فلماذا خلقه الله؟ إلى أنْ ابتلي بألمٍ شديد في عينه، ومع أنه نفسه كان من بين أفضل الأطباء، واستعمل كل ما كان يعرفه من الأدوية، إلاّ أنّ كلّ ذلك لم يُفده. داواه الآخرون كذلك، لم ينفع ذلك، إلى أنْ جاءت إمرأة عجوز وقالت: أنا عندي رمادٌ يشفي ألم عينك! فاستعمله وشُفيت عينه. سأل عن تركيبة هذا الرماد فأُعلم أنه كان خليطاً فيه شيء من جسم ذلك الجعل[3].

لا توجد حتى ذرةّ من ذرّات عالم الوجود دون حكمة فهل عالم الوجود نفسه دون حكمة؟! لم يخلق حتى ولا جزء واحد من أجزاء الجسم دون مصلحة حتى الظفر والشعر. إذاً فهل جسم الإنسان نفسه قد خلق دون غاية ومصلحة؟! هيهات.

إن العلماء المحدثون يتفقون جميعهم على أنهم لم يطّلعوا على كلّ حكم وعلل نظام الخلق ثم بعد ذلك الله وحده يعلم أيُّ عجائب تكشف... كما أنه في الثلاثين والأربعين سنة الأخيرة كانوا يظنون في (أوروبا) أنّ (الزائدة العوراء) إضافية في الجسم التي هي نفسها الـ (آپانديست) تلك، ولهذا كان قد راج أنه أيضاً الأفراد السالمين كانوا يذهبون، ويخضعون لعملية جراحية، ويستأصلون هذه الزائدة!! إلى أنْ أعلنوا أنّ الشخص المعافى لا يجب أنْ يقوم بهذا العمل، لأنهم علموا أنّ هذه هي في حكم بوق الخطر للأمعاء (قد يكون لها حكمٌ عديدة أخرى لم يدركوها).

إنه لا يوجد في الجسم حتى ولا سنٌّ واحد دون حكمة فما تقوم به الطواحن لا يمكن للقواطع أنْ تقوم به. من الـ (248) عظماً لا يوجد حتى ولا عظماً واحداً دون مصلحة بمعنى أنه لم يكن فالجسم يكون ناقصاً وكذلك العروق والأعصاب إذاً فهل أنّ الجسم كلّه دون حكمة؟! وبعد أن اعتبرنا أنّ خالق الكون حكيم، وأنّ أقلّ شيء في عالم الخلق لا يخلو من الحكمة.. حينئذٍ نتدبّر في الغاية والحكمة وأصل إيجاد هذا العالم، نرى أنّ الغاية من إيجاد الجمادات والنباتات والحيوانات، هي المنافع التي تحصل للإنسان.

يقول الشاعر ما مضمونه: إن الغيم والرياح والقمر والشمس بل والكون كلُّه في عملٍ دائب لكي تحصل على خبزك وتأكله. إلهي إن الجميع حائرٌ لما تُنعم عليه، وهو لذلك لك مطيع، فليس من الإنصاف أبداً أنْ لا تكون مطيعاً أيها الإنسان.

هل إن الغاية من إيجاد الإنسان هو هذه الحياة الدنيوية والمادية على نحو أنه يقدم بعد الموت؟ إذا حتى لو فرضنا ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ أنّ حياة الإنسان في هذا العالم من أولها إلى آخرها كلّها راحة وعيش رغيد، خالية من كلّ ألم ونصب، لكانت مع ذلك عبثاً ولهواً، لأنها مهما كانت حسنة فهي لن تكون ذات اعتبار لأنها فانية ومن المحال أنْ يكون نظام الخلق هذا الذي هو بهذه السعة والعظمة... من المحال أنْ يكون لغاية فانية في الوقت الذي فيه الحياة المادية البشرية مملؤة من أقصاها إلى أقصاها بالآلام، والمصائب، والمتاعب المختلفة وكما يقول (آسوده) (أي بمعنى مرتاح):

لم أر في هذا العالم كلّه إلا شخصاً واحداً إسمه (مرتاح) مع ذلك فإن راحته هي في خلاصه منه.

وكما يقول شاعر آخر ما مضمونه: ليس في هذا العالم قلبٌ خالٍ من الغم وهو إن وجد فلن يكون ذلك قلب إنسان.

حقاً إذا كان وجود الإنسان يُعدم بالموت وتكون حياته منحصرة بالحياة المادية الدنيوية التي هي ممزوجة بأنواع المكدّرات الجسمية، والروحية، والمصائب، والمحن، والأمراض، والفتن، والخسارة، وغصب الأموال، والمرض، وموت الأبناء والأحبة، وسائر المكدّرات، فإن أصل الخلق والإيجاد سوف يكون عبثاً ومنافياً للحكمة، والكرم، وسائر الصفات الكمالية الإلهية.

وفي هذه الحالة فإن خلق الإنسان في هذا العالم يكون مشابهاً لأن يستضيف كريمٌ ما شخصاً في بيت مملوءٍ بالحيوانات المفترسة، والمؤذية على أنواعها، كالأسد، والفهد، والنمر، والحية، والعقرب، والدبّور، وما إلى ذلك، وعندما يدخل يقدمون له الطعام، ومع كل لقمة يأكلها تتجمع عليه عدة كائنات حية، وتلدغه في يده، ولسانه، وحملة السيوف يقفون أمامه، يهجمون عليه في كل حين،وقبل أنْ يصل إلى الذي يريد الوصول إليه، يقطعون رأسه.

إذاً لا بد أنه سيكون للإنسان في ما يأتي حياة أخرى وعالمٌ أفضل، حيث تظهر فيه سعادته كلُّها أي إنه ينتهي إلى نعيم لا يخالطه جحيم أبداً، وإلى راحة لا يرى بعدها أية مشقّة، وإلى سرورٍ لا يعترضه أي حزن، أو غم أو ملالة أبداً، وإلى لذة وحظوة ليس لهما فناء ولا زوال أبداً. يقول الشاعر ما مضمونه:

ما أجمل ذلك اليوم الذي أرحل فيه عن هذه الدنيا، وهؤلاء الأحبة، إنني بذلك أطلب راحة نفسي، واللحاق بمن أحب.

إذاً لقد تأكد بالبرهان العقلي القاطع أنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان لحياة خالدة، وسعادة ونعيم دائمين، وهو إنما استوقفه في هذه الحياة العارية، حتى يؤمن مستقبله القطعي، ولكي يتزود من هذا العالم لحياته الأبدية، ولكي يطير من هذا العالم بجناحي العلم والعمل، اللذين وهبهما له إلى العالم الأبدي، ولو أنّ الإنسان حقاً راجع وجدانه، وعقله، وفطرته، لأدرك أنه ربما يشك أو يتردّد في كل شيء، ما عدا مسألة المبدأ والمعاد، أي إنه ما من شكٍ أو ترديد في هاتين المسألتين، الإعتقاد برب العالمين والإعتقاد بالحياة الأبدية بعد الموت وعالم الجزاء (وإن السّاعة آتيه لا ريب فيها). السائد هو أنّ أكثر الناس على أثر الغرق في الشهوات، والإشتغال بالماديات وارتكاب الذنوب... قد فقدوا فطرتهم وامتلأت قلوبهم بالريب والشك. (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه). إذاً بحكم العقل هناك غاية من خلق هذه الأفلاك والعوالم وجسم كل واحدٍ منّا يُعرف في اليوم الآخر. بناءً على هذا يجب أن نسعى وراء هذا العالم الآخر.

الصادقون يخبرون عن يوم القيامة

لأن الأنبياء هم أصدق الخلق وقيل إنهم هم لنا جميعنا حجة وبرهان (كما ذكرنا ذلك بالتفصيل في بحث النبوة) قد أخبروا بحلول يوم القيامة وجميع متديني العالم من كل دين وأمة إعتقدوا ويعتقدون باليوم الآخر.

أساساً أسُّ الديانة ومرجعها إلى أصلين إثنين: (المبدأ والمعاد) وفي أكثر آيات القرآن التي تتحدّث عن الإيمان بالله تنتقل على الفور للحديث عن الإيمان بيوم الجزاء (يؤمنون بالله واليوم الآخر)، وجميع المذاهب والأديان هي في هذين الأصلين واحدة أي إن الكل مؤمن بالمبدأ أو المعاد.

إجمالاً المخبرون الصادقون ليسوا واحداً وليسوا عشرة... الألوف يخبرون بحلول يوم الجزاء (إذاً بحكم التواتر) يعترف العقل أنه لا بد من القبول بأن هكذا يوم سوف يجيء.

أفضل دليل هو (إمكان الوقوع)

كما قيل سابقاً قضية المعاد ليست محالاً عقلياً وعندما يقوم العقل بحساباته فإنه يحكم بأن القيامة أمرٌ ممكن، إضافة إلى أنّ المخبرين الصادقين أي الـ (124) ألف نبي وأوصيائهم قد أخبروا بذلك بحيث إنّ كل واحد منهم يكفي لوحده لتصديق العقل السليم.

بعض الرسُل قد ألقوا الشبهة في أنّ (إعادة المعدوم مما امتنعا) أي أنه كيف يمكن لشيء صار لا شيئاً أنْ يصير مرة أخرى شيئاً طبعاً هم لا يملكون أيّ دليلٍ على هذا الإدعاء وهم يتمسكون فقط بالضرورة ويقولون: دليلنا هو كينونة هذا الأمر ضرورياً وواضحاً!! ولنفرض أنّ شخصاً إستطاع أنْ يأتي بالدليل فقط أعطي الجواب مسبقاً.

أولاً: كما يقول (المحقق الطوسي الخواجة نصير الدين) ـ عليه الرحمة ـ: (إنه ليس في المعاد إعادة للمعدوم بل هو جمع للمتفرِّق). وتوضيح قوله هو التالي: إن الجسم الذي هو مركب من أجزاء وذرّات قد تفكك، صار قطعاً صغيرة جداً ومتناثرة، وعندما تحدث القيامة تجتمع هذه الذرّات المتناثرة بقدرة الله. إذاً فالمعاد يعني جمع الأجزاء وجمع الروح والجسد بعد الإنفصال.

إذاً فالمعاد ليس إعادة للمعدوم حتى يكون ممتنعاً أو غير ممتنع (إضافة إلى أنّ أصل الموضوع ليس صحيحاً).

وثانياً: أكبر وأفضل دليل على إمكان كلّ شيء وقوع مثله. فلو أنّ كل إنسان تفكّر في حالة جسده الأوليّة فإنه سوف يدرك أنه في البداية كان هناك جزيئات متفرقة لا حصر لها بعضها من التراب والهواء والماء قد تجمّعت بالقدرة الإلهية وظهرت في شكل أنواع من المأكولات كالخضار، والحبوب،والبقول، والحيوانات، ثم دخلت عن طريق بلعوم الأب إلى المعدة، وتفرّقت للمرة الثانية في جميع أجزاء جسم الأب حينئذٍ وأثناء هيجان الشهوة، تؤخذ خلاصة الأكل المهضوم ومن ذرات الرطوبة وتستخلص السوائل المتفرقة من كل الاعضاء، ثم وعن طريق الأوعية المنوية تخرج من ظهر الأب لتستقرّ في الرحم ولهذا وجب غسل الجسم كله بعد هذه الحالة لأن جزيئات النطفة قد أخذت من الجسم كله.

وإجمالاً كل جسم كان في البداية أجزاء متفرقة لمرتين حيث جمعتها يد القدرة أولاً في قلب التراب والماء والهواء (إنا خلقناكم من ترابٍ) المرة الثانية في كل أجزاء جسم الأب وبعد مشاهدة هاتين المرّتين والعلم بهما هل يبقى هناك من عجب في جمع وتركيب هذه الجزيئات بالنسبة إلى المرة الثالثة حيث تكون قد تحلّل في القبر وتفرّقت (ولقد علمتم النّشأة الأولى فلولا تذكّرون)[4]. أي: أيها الإنسان، أنت كنت تراباً ويد قدرتنا هي التي جمعتك، أي صرت على شكل مادة غذائية هي جزء لا يتجزأ من جسم الأب، وبعد التوزُّع في أنحاء جسم الأب، جمعناك مرّة أخرى وأخرجناك من الأب على شكل نطفة، وأقررناك في رحم الأم.

لقد رأيت هذا الجمع والتفريق في هذا العالم إذاً فلماذا تتعجّب إذ يجمعونك للمرّة الثالثة بعد تفرّق أجزائك في أنحاء العالم؟ وأيضاً كثيراً ما يحدث الإحياء بعد الموت فأنتم تشاهدون حياة النبات في الربيع حيث يبقى هناك من عجب في جمع وتركيب هذه الجزئيات بالنّسبة إلى المرة الثالثة الأشجار النباتية تعود إليها الروح بعد الموت، واليباس، والأرض، إذ تكون ميتة فتدب فيها الحياة مرّة أخرى (يُحيي الأرض بعد موتها) ونفس الإنسان حدثٌ أن أحيي بعد الموت... إحياء الموتى على يد السيد المسيح(ع) وكذلك أئمتنا عليهم السلام فكثيراً ما إتفق أن أدرج بعض ذلك في كتب الأخبار. وكمثالٍ على إحياء الموتى فلنذكر قصّتين من القرآن الكريم:

عُزَير.. مات مئة سنة

يذكر الله سبحانه وتعالى قصة (عزير) في سورة البقرة حيث خلاصة الآيات وشأن النزول وتفسيرها هو التالي:

كان عزير من بين أنبياء بني إسرائيل، وحافظاً للتوراة كلّها، وكان معلماً، وقدوة اليهود في بيت المقدس.

عندما سافر بحماره كان معه كمية من الخبز والعنب. وصل إلى قرية كان أهلها قد هلكوا منذ سنوات كثيرة ولم يكن قد بقي منهم إلاّ عظام نخرة. عزير، ومن باب الحيرة والتّعجُّب، ألقى نظرة إلى هذه العظام وقال:

(أنّى يحيي هذه الله بعد موتها).

طبعاً كان ذلك من باب الدهشة والإستعجاب لا أنه كان قد أنكر القيامة والبعث.

الله سبحانه وتعالى، وحتى يفهمه بالحس أنّ القيامة التي هي عندك محيّرة وعظيمة ولكنها بالنسبة إلى الله لا أهمية لها، أماته في مكانه وهو كان قد بقي على حاله هذه مئة سنة أما حماره فقد كانت عظامه قد صارت هي الأخرى نخرة، ولكن العجب هنا! فالعنب الذي هو بتلك الرّقة، بقي طازجاً.

وبعد مئة سنة أحيا الله عزيراً، فرأى أمامه ملكاً على شكل إنسان فسأله الملك، منذ متى أتيت إلى هنا؟

قال عزير: منذ يوم أو ربما اقل.

فقال الملك: لقد مضى عليك مئة عام وأنت هنا.

فنظر إلى حماره فرآه قد صار عظاماً نخرة. حينئذٍ قال الملك:

أنظر إلى حمارك وشاهد ماذا يفعل الله!

نظر عزير فرأى أجزاء وذرات جسم الحمار تحركت لتوّها، وتلاصقت ببعضها البعض... اليد، الرأس، الرجل العين، الأنف، وغيرها من الأعضاء، إتصلت ببعضها البعض وفجأة صار هناك حمار كامل قام من مكانه.

ثم إنه قال لعزير: أنظر إلى هذا العنب الذي لم يفسد أصلاً، وانظر قدرة الله سبحانه وتعالى فعلم أنّ الله على كل شيء قدير.

عاد عزير إلى بيت المقدس فرآى أنّ وضع المدينة قد تغير، لم ير أولئك الذين كان يعرفهم، جاء إلى منزله على العنوان الذي كان يملكه، دقّ الباب فجاء الصوت من داخل البيت يسأل: مَن؟

قال: أنا عزير.

قالوا: إنّك تمزح فعزير قد انقطعت عنّا أخباره منذ مئة سنة فهل أنت تملك العلامة التي كانت له (إذ كان عزير مستجاب الدعوة) وأنا خالتك وقد فقدت بصري فاطلب من الله أنّ يعيده إليّ.

فدعا عزير وعاد النور إلى عيني خالته.

فقصّ ما حدث له وصار عبرة لنفسه وللآخرين.

القصة الأخرى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم تتعلق بالنبي إبراهيم(ع) الذي طلب من الله أنْ يرى كيف يحيي الموتى حتى يطمئن قلبه، فأُمر أنّ يأخذ أربعة من الطّير مختلفة الأنواع ثم: إذبحها، وقطّعها قطعة قطعة، وإجعل كل قطعة من هذه القطع على رأس جبل، ثم إدعهنّ فسوف يأتين إليك مسرعين[5].

وفي التفسير أنّ إبراهيم(ع) أخذ رؤوس الطير الأربعة بيده، ودعاهم واحداً واحداً، فرأى أنّ أجزاء كل بدن على حدة قد تلاصقت ببعضها البعض، وكل بدن كان يتم تركيبه، يُسرع باتجاه رأسه.

أراد أنْ يقوم باختبار، فأخذ رأس أحدها ووضعه في مواجهة جسد طائر آخر فرأى أنه لا يتصل به بالنهاية، إتصلت الأبدان برؤوسها، ودبّت الحياة في الطيور الأربعة.

إن الله قادرٌ على كل شيء

قد يخطر في البال أنّ الله وحده يعلم كم قد تغيرت وتبدّلت جزئيات الجسم، وكيف تجتمع مع بعضها البعض. هذه الشبهة تكون على أثر الغفلة عن علم وقدرة الله سبحانه وتعالى. فعندما علمنا في بحث التوحيد أنّ الله تعالى قد (أحاط بكل شيءٍ علماً) وليس هناك، حتى ذرّة واحدة من ذرات الوجود، خارجة عن علمه، ومن ثم فهو قادر على كلّ شيء، لا يعود حينئذ لهذه الشبهة مكان.

فهذا الجسم يبقى لفترة ثم يتعفّن ويصبح طعاماً للنمل، والكائنات الحية التي تعيش في المقبرة، أو إنه يبقى حتى يترمّم، ويصبح تراباً تذروه الرياح إلى هذه الجهة وإلى تلك... يصبح جزءاً من القمح، والشعير، وسائر الحبوب... صحيح ذلك ولكن لا يعدم على كل حال، ولا ينقص شيئاً في علم الله، والله سبحانه وتعالى يستطيع أنْ يجمع هذه الأجزاء أينما كانت كما ذكرنا حيث أمر النبي إبراهيم(ع) أن يقطع أجساد الطيور الأربعة، ويجعل كل قطعة منها على رأس جبل.

إجمالاً إنّ الله سبحانه وتعالى عالم بالأجزاء والذرات، وإن وجد منها آلاف الأنواع، وكذلك هو قادر على أن يجمع بينها مرّة أخرى فيثيب أو يعاقب[6].

ولنذكر عدّة شواهد مختصرة إظهاراً لقدرة الله سبحانه وتعالى وأنه قادر على كل شيء:

الماء والنار مجتمعان

(الذي جعل لكم من الشّجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون)[7]... أي أنه يحيى العظام النخرة ذلك الإله الذي يخلق لكم من الشجر الأخضر ناراً، إذاً فأنتم تشعلون النار من هذا الشجر الأخضر. شجر الصفصاف والدلّب إذا قُطع منها غصن فإنه يكون رطباً إلى حدّ أنّ الماء يقطر منه (إحداها ذكر والأخرى أنثى) أما عندما يضربونهما ببعضهما فإن النار تخرج منهما.

وفي جزيرة العرب كانت هاتان الشجرتان مهمّتين جداً لأنه لم يكن لديهم كبريت وأحجار صوان، فكانوا يستفيدون منهما.

إنه لأمر عجيب وعجيب جداً فالماء يقطر منهما دون أي جهد وإذا ما ضربوهما ببعضهما البعض يعطيان ناراً.

كيف جمع الله سبحانه وتعالى بين هذين الأمرين المتضادين فإذا كانّا رطبتين فيجب والحال هذه (إلا أنْ تكونا يابستين) أنْ لا تعطيا ناراً. والحكماء يدّعون أنّ الأشجار كلها فيها نار ما عدا شجر العُنّاب. أو إله كهذا لا يستطيع أنْ يعيد الروح مرة ثانية إلى الجسد المتفرّق ثم المجتمع؟!!

العظام النخرة كيف تُحيى

(وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّةٍ وهو بكلّ خلقٍ عليم).

جاء (أبي بن خلف) مجلس خاتم الأنبياء(ص) في الوقت الذي كان فيه يشدّ على عظم نخر في يده حتى تفتت ثم ذرّه مع الريح وقال:

من الذي يعيد إحياء هذا العظم في الذي هو فيه رميم؟

الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يلوم قوله الجاهل هذا فهو يضرب لنا مثلاً في الوقت الذي نسي فيه خلق نفسه أي إنه أنت لم تكن شيئاً يذكر، وهو خلقك من لا شيء فقل أيها الرسول:

كما أنشأها أول مرة فإنه يعيد إحياءها وهو بكل خلقٍ عليم.

في البداية لم تكن شيئاً يذكر أما الآن فقد صرت شيئاً (عظم نخر) إن أجزاء جسم المؤمن تمتاز كالذهب عن الأجزاء الأخرى فعندما يهطل المطر ينحّي التراب جانباً، وتلمع جزيئات الذهب، وهنا ليس محل خطأ، فجزيئات كلّ شخص يعاد جمعها كما ذكرنا سابقاً في قصة إبراهيم(ع) والطيور الأربعة، حيث أخذ غراباً، وديكاً، وحمامة، وطاووساً، وقطع رؤوسهم، ودقّ أجسادهم حتى إختلطت ببعضها البعض بشكل كامل، ثم قسّمها(17) قسماً جعلها في سبعة عشر مكاناً من الجبل، ثم أخذ رأس الحمامة بيده، وناداها، فتجمعت أجزاؤها من كل مكان والتصقت برأسها. نادى الطاووس فحدث له ما حدث للحمامة فجعل رأس الديك في مقابل جسد الطاووس فلم يلتصق به، ولم يقبل رأساً غير رأسه.

إنّ هدفي مما ذكرت هو أنْ أقول: إنه لا يطرأ الخطأ على علم الله سبحانه وتعالى.

خلق الأفلاك أهم من خلق الإنسان

(لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون)[8].

خلق السّموات والأرض، وجعل نظام معين لدوران كل واحد منها، والعناية بها، وإدارة شؤونها، أكبر أم خلق الإنسان!؟.. طبعاً خلق الأفلاك. إذاً فذلك الذي خلقها، ألا يستطيع أن يعيد إحياء الإنسان ومحاسبته[9]. طبعاً يستطيع، فهو إذا ما أراد أنْ تقوم القيامة حتى تقوم على الفور، وإذا أراد في لحظة واحدة أنْ يحيا الجميع فإن ذلك يحدث فعلاً[10].



[1] (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون).

[2] لتفصيل أكثر فليرجع إلى كتاب (توحيد المفضّل) الذي نشر على شكل كرّاس.

[3] دويبة صغيرة.

[4] سورة الواقعة: 62.

[5] (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطّير فصرهُنّ إليك ثم إجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً) البقرة/262.

[6] وهنا ربما يخطر على الأذهان شبهة (الآكل والمأكول) التي قالوا بها فيما مضى وللجواب عن ذلك يُرجى الرجوع إلى كتاب (82 سؤال) للسيد دستغيب، الباب الخامس، المعاد.

[7] سورة يس: الآية 80.

[8] سورة غافر: الآية 59.

[9] (أوليس الّذي خلق السّموات والأرض بقادرٍ على أنْ يخلُق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم).

[10] (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أنْ يقول له كن فيكون) يس/ الآيات الأخيرة.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست