.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

يقطع الطريق على التخيلات الفاسدة

سبيل التعرف إلى المبدأ والمعاد

المادة التي لا تشعر لا يمكنها أنْ تخلق

إدراك الإنسان ليس وليد المادة

الإحاطة العلمية دليل تجرد الروح

ليس للجسم في الآخرة آثار مادية

المنكرون لا يملكون أيّ دليل

تمايز الوجوه والحناجر

القدوم على قبور الموتى دليلٌ على قبول المعاد

هارون والمأمون كانا يعرفان الأئمة

حب الدنيا أصل الذنوب

أولم يعرف المنافقون الإمام؟

إدراك عظمة الخلق يوجب تقوى القلب

التدبُّر في الصفات والأفعال والأقوال

 

يقطع الطريق على التخيلات الفاسدة

من هذا التفكّر الأول، كل فرد كان نطفة نتنة لم يكن لديه أي علم أو قدرة بل هو لم يكن (أنا) حتى. وبعد مئة سنة أخرى لن نكون أكثر من قبضة تراب. في البداية لا شيء وفي النهاية لا شيء، هذه (الأنا) في الوسط ما هي؟ هذا هو الخيال حيث يتصوّر أنّ له قدرة إنه الوجود الذي هو موجود بالتأكيد. يرى أنّ اللسان والعين والأذن وغير ذلك... يرى أنها منه هو. هذا التصوّر يجب أن يصحّح. يجب أن يفهم أنّ القدرة هي لغيره الذي صنع هذا الجسم ودفعه على الحركة. إن هو أدرك هذه الحقيقة فلن يعود بعدها ليقول: أنا أنا. التقدُّم والتأخر، التفاخر وطلب الشهرة وإعتبار نفسه أنه أرفع من الآخرين... هذه كلُّها تزول. أنا وغيري الذي بدايتنا واحدة ونهايتنا واحدة في هذه العقبة الزمنية التي تتوسط البداية ما هي الميزة التي طرأت على ذات واحد منا، ولم تطرأ على ذات الآخر. ليس منّا من هو قادر على جلب النفع أو دفع الضرر[1]. من هو الذي يستطيع أن يقف في وجه الشيخوخة أو الإنكسار؟ إنه لينسى بدايته ونهايته ولهذا فهو يرى القدرة منه هو فيشرعُ بقوله: أنا أنا...

لباس عمل (أياز) والقصر الملكي

نقلت قصة عن أهل المعرفة... عن (أياز) والسلطان محمود[2] يحسن سماعها. فعندما جعل السلطان محمود (أياز) غلامه الخاص حيث إنّ له معه تجارب وجد على أثرها السلطان محمود حبّا خاصاً لهذا الغلام في نفسه حتى قرّبه وجعله مشاوره الخاص وزميله في العمل.

الحسّاد والأعداء كانوا مغتاظون أيضاً، لماذا يكون غلامٌ مقرّباً للسلطان إلى هذا الحدّ؟! كانوا دائماً يوشون عليه لدى السلطان. في أحد الأيام قالوا للسلطان: إن (أياز) قد سرق ذخائرك وكنوزك، وهو يخفيها في مكانٍ ما، ويخطط لأمر ما، فقد خصص لنفسه حجرة بابها مقفلة على الدوام، لا يدع أحداً يدخلها. يأتي وحده، بين فترة وأخرى، ويدخلها، ثم يخفي ما سرقه، ويخرج، ثم يعود ويقفل الباب وراءه. إنه يريد أن يفرغ الخزينة!!

لم يكن السلطان يصدق ما يقولون، ولكنه حتى يريهم، أصدر أمراً إلى رجاله ليذهبوا ويكسروا باب الغرفة، ويأتوه بما يجدونه فيها.

وعندما دخلوا إلى الغرفة لم يجدوا فيها شيئاً إلاّ حذاءً جلدياً ومعطفاً كذلك. أتوا بالحفّارة وحفروا، لم يتركوا مكاناً داخل الغرفة إلاّ وحفروا فيه ولم يعثروا على شيء. فأخبروا السلطان الذي أحضر (أياز) وسأله: ما هو السبب في هذا الأمر؟ لماذا خصَّصت حجرة كاملها لحذاءٍ جلدي ومعطف ثم جعلت بابها مقفلاً؟ لقد إتهمت، وهذا ليس بالأمر الذي تعرض لأجله نفسك لإساءة الظن بك.

أجاب (أياز): إني أقول الحقيقة للسلطان، فأنا لم أكن فيما مضى أكثر من عامل بسيط يعمل في قلع الشوك من البساتين والآن وصل بي الأمر أنْ أصبحت وزير السلطان. وحتى لا يغيب عن بالي حالي الأولى وضعت في هذه الحجرة الثوب الذي كنت ألبسه عندما كنت أعمل في قلع الشوك، ألقي إليه نظرة كل يوم وأتذكر حالي السابق وأقول لنفسي: أيا (أياز) ما انت إلاّ قالع الشوك ذاك، وهذا ثوبك لا يزال موجوداً، والآن وأنت تلبس هذه الثياب الفاخرة، لا تنس حالك الأولى، إيّاك أنْ يأخذك الغرور؟!!

كنت أفعل هذا حتى لا أجرؤ على خيانه أحد أو الإعتداء على أحد... عندما سمع السلطان ذلك، سُرَ كثيراً وقرّب (أياز) منه أكثر فأكثر. وعاقب الآخرين بما يناسب نتيجة حسدهم!!

هذه القصة هي لكل فرد بذاته. فلينظر الإنسان مم خُلق. أيّاً كنت، أنظر إلى بداياتك أنت ذاك الماء النتن، تذكّر نهايتك أيضاً فكّر في قبرك حيث تصبح جيفة متعفنة. ما أجمل ما قال إمام الأمة: على رئيس الجمهورية[3] أن لا ينسى أنّ الأمة أتت من باريس، وعلى رئيس الوزراء أن لا ينسى أنّ الأمة أخرجته من السجن. إيّاهما أن يغرّهما المنصب.

سبيل التعرف إلى المبدأ والمعاد

الإسلام أصلاه الإعتقاديان المبدأ والمعاد. وعلى الإنسان أن يعرف مبدأه وإلهه ومن بعدهما المعاد، والأمران يمكن الإستدلال عليهما وإيضاحهما. (فلينظر) على الإنسان أن يعرف مم خلق حتى يعرف إلهه ومعاده أيضاً.

أيُّ بناء عجيب بناه الله سبحانه وتعالى في قطرة ماء، الذي هو من أقصاه إلى أقصاه حكمة ومصلحة إلى حدّ أنه لم يخلق ولا حتى عرق واحد دون حكمة. لم يخلق ولا حتى عظم واحدٌ زائدٌ وما كان لازماً لهذا البناء قد جعله الله فيه ولهذا يُدرك أنّ خالق هذا الجسم قدرته لا متناهية ولا حدّ لها. إنه قادر إلى حدّ أنه خلق في قطرة ماءٍ في ظلمات ثلاث هكذا بناءٌ عظيم الذي يبحث العلماء منذ آلاف السنين في تشريحه، وكيفية خلقه، وخصائصه، وهم يعترفون أنهم إلى الآن لم يدركوا الكثير منها.

المادة التي لا تشعر لا يمكنها أنْ تخلق

ثم إنه يدرك علم الخالق الذي لا حدّ له (ألا يعلم من خلق)[4] ألا يعلم من هو ليست حتى ذرة من ذراته المخلوقة دون حكمة ومصلحة؟ يقول الشيوعيون الذين هم ينكرون الله والعالم العُلوي: كل ما هو موجود هو نتيجة تكامل المادة. ماذا يقولون في هذه الحكم التي تملأ العالم من أقصاه إلى أقصاه؟ هل يمكن لصانعها أن لا يكون حكيماً. إنكم أنفسكم تقولون إن المادة ليست ذات شعور، فكيف يتناسب هذا مع اختيار الأصلح الذي هو ظاهر في الكون. أليس هذا إلاّ التناقض؟ من جهة تقولون بلا شعورية الطبيعة والمادة، ومن جهة أخرى تقولون بأن إختيار الأصلح والأفضل هو فعل إختياري، وهذا دليل على أنّ الفاعل ذو شعور لذلك فهو يختار وحتى يهدئوا من خواطرهم ويستمروا في إنكارهم للمبدأ والمعاد يبدأون الأقوال والأحاديث في الوقت الذي لا يدرون ما يقولون[5].

إعتراض أساسي على فرضيّة داروين

أو إنهم ـ وكمثال على ذلك ـ إعتبروا أنّ الإنسان هو قرد في الأصل عملت الطبيعة على تكميله تدريجياً، فألقت بذيله بعيداً، وقوّمت إنحناءته، وأسقطت عنه وبره و...

حسناً إذا كان الأمر كذلك إذاً كان يجب أنْ لا يبقى في الدنيا ولا قرد واحد فكيف حصل أن تحوّل واحدٌ منها إلى إنسان ولم يتحوّل البقيّة؟! إذا كان أساس الطبيعة مبنياً على التكامل... حسناً فما الفرق بين هذا القرد وسائر القرود حتى تكامل وصار إنساناً فهل تكامل في العالم كله قردٌ واحدٌ ولم يتكامل الآخرون؟ من الواضح أنهم لا يريدون أن يسلّموا للحق... أن يدركوا وقائع الأمور... أن يتفهموا حقائقها، حتى لا تشملهم القيود التي يفرضها الدين ولهذا تراهم ينكرون حتى البديهيات.

إدراك الإنسان ليس وليد المادة

للإنسان شعور أم لا؟ كل إنسان يدرك أنّ له شعوراً. هل صانعك لا يملك شعوراً؟ كل إنسان كان أصله نطفة، هل المادة هي التي وهبتك الشعور؟ يقول الشاعر ما مضمونه: (من وجد أنه نفسه ليس من واهب الوجود، متى يكون قادراً على وهب الوجود. فالغيمة الخالية من الماء لا يمكن وصفها بأنها معطاءة للماء).

النطفة والمادة هما اللتان وهبتاك الشعور؟ هل يمكن لأحدٍ أن يدعي هكذا إدعاء؟ لا بد أن يقول إن مبدأ هو عين العلم والحياة قد يكون هو الذي وهب الشعور. كما أنّ الجسم ذاته حادثٌ، لم يكن ثم كان، كذلك الشعور والإدراك، هما حادثان أيضاً. إن للشعور واهباً أيضاً ومعطياً هذا الإدراك من أين جاء؟ هل يمكن نسبته إلى المادة والقول بأنه تكامل المادة وإختيار الطبعية الأصلح؟ هل يقبل عقلك هذا الكلام؟ الإدراك الذي للإنسان يمكنه أيضاً بلوغ المجرّات والأفلاك.. يمكنه الإحاطة علماً بالكثير من نواحي الوجود وهذا بذاته دليل على تجرُّد الروح.

الإحاطة العلمية دليل تجرد الروح

إن الجسم لن يمكن له في أي وقت من الأوقات أنْ يحيط علماً بمن هو مثله. إذاً فما هو هذا الإنسان الذي يمكنه أنْ يحيط علماً بالعالم كلّه. هل يمكن لهذا الجسم أنْ يحيط علماً؟ ما هي هذه القوة التي تدرك بواطن الأشياء وخواصها وكيفية تحرُّكها؟

هذه الإدراكات هي اكبر شاهد على تجرُّد الروح. فهذه ورقة الشجر لا تعلم شيئاً عن الأوراق الأخرى، هذا الجسم الإصبع فيه لا يعلم شيئاً عن الإصبع الآخر، خلاياه لا تحيط علماً ببعضها البعض.

يعرف من ذلك أنّ الإنسان هو غير هذا الجسم. إن فينا قدرة تتوزعنا من أم الرأس وحتى أخمص القدمين وهي تحيط علما بأجزاء الجسم كلّها بل تحيط علماً بكل مكان طبعا بالقوّة. هل يمكن لأحدٍ أن يُنكر علم نفسه؟ هذا العلم هل هو مادي؟ أي هل إن المادة هي التي وهبتك إيّاه أم ذلك الذي خلقك؟ الإدراك الأشمل دليل على أنّ الإنسان ليس مادياً، وعلى أنّ روحه مجرّدة ولهذا فإن الطريق أمامه ممهدة إلى عالم الغيب وما وراء الطبيعة إن هو أزال العوائق.

يقول الشاعر ما مضمونه: (إن الإنسان ليبلغ حدّاً لا يرى بعده إلا الله. فانظر إليه ما اسمى مقامه).

بناء على هذا على الإنسان أن يستدّل من خلال إنتباهه إلى أصل خلقه... يجب أن يستدل إلى العلم والقدرة اللامتناهيين لله خالقه وخالق غيره الذي من فيض علمه، علم الروح بالجسد وسائر الأشياء. إذاً فالله القادر يمكنه أنْ يعيد ثانية خلق هذا الجسم.

ليس للجسم في الآخرة آثار مادية

طبعاً الجسم يوم القيامة يختلف عن هذا الجسم الفعلي. من هذه الإختلافات أنّ الجسم في الجنة ليست له فضلات وأوساخ هي من لوازم الجسم المادي لا وجود للبول، والغائط، والشعر، والظفر، ليست له فضلات منها: التعب على أثر العمل، وبذل الجهد الذي يحدث للجسم لا وجود له هناك، لا يمرض، الجسم هو نفسه هذا الجسم ولكن تشكيله وتركيبه على نحوٍ لا تكون له آثار التركيب المادي هذه، ونحن مهما حاولنا تصوره على تلك الشاكلة فإنه ليس ميسراً لنا بالفعل لأن هذه الآثار هي من اللوازم التي يمكن إنفصالها عن الجسم المادي ولا يمكننا تصوُّر غير هذا.

وطبقاً لذلك التشبيه الذي قاموا به فالطفل الموجود داخل بطن أمه مهما حاولوا إفهامه أنّ خارج بطن الأم هناك عالم واسع فيه من الفواكه،. والأطعمة، والنباتات، والحيوانات، وغيرها فإن ذلك لن يكون مقدوراً إدراكه بالنسبة.

كذلك وضع الإنسان في بطن عالم الطبيعة بالنسبة إلى عالم ما وراء الطبيعة هو هكذا مهما حاولوا إفهامه أنّ عالم ما بعد الموت عالم ما أوسعه... نظام يا له من نظام، فإنه لن يكون بمقدوره أنْ يدرك ذلك.

كما يقول القرآن: (فلا تعلم نفس ما أُخفيَ لهم من قُرة أعين جزاءً بماكانوا يعملون)[6] وهنا يجب الحديث عن علامة الآيات بالمعاد.

المنكرون لا يملكون أيّ دليل

(إنّهُ على رجعه لقادرٌ)[7]. الذين ينكرون المعاد فذلك مجرّد إستبعاد له فقط فهم ليس لهم أي دليل على عدمه إن ذلك مجرّد إعتراض فقط، لأن الأمر هو ذاته بالنسبة إلى المبدئ تعالى. فقط لا أعلم كيف يمكن لعظام نخرة أن تُحيا مرة ثانية؟ من أين لها ذلك؟ إنه لأمر صعب. ما من دليل على العدم. إن أكبر برهان على المعاد هو: (إنّهُ على رجعهِ لقادرٌ). فمن أوجد من قطرة نطفويّة هذا الجهاز العظيم يستطيع أيضاً إيجاده من قبضة تراب بل كما يقول القرآن الكريم: (وهو أهونُ عليهِ). إعادة الإيجاد أهون من الإيجاد الأوّل. في سورة القيامة يوضح تعالى نكتةً أخرى لطيفة. يقول: (بلى قادرين على أنْ نسوي بنانه)[8]

يكتب الطنطاوي وهو مفسّر مصري يقول:

حتى القرن الأخير لم يكونوا يدركون السرّ الدقيق في هذه الآية وهي من جملة معجزات القرآن. لم يكونوا ملتفتين إلى أنّ رؤوس الأصابع لها خطوط متفاوتة. (4,5) مليار إنسان كل واحد منهم تختلف خطوط رؤوس أصابعه عن خطوط رؤوس أصابع الآخرين، ولهذا أصبح البصم منذ زمن بعيد بدل الإمضاء ومن ثم تخصيص إدارة بحد ذاتها لبصمات الأصابع والكشف على الجريمة وتحديد المجرمين.

تمايز الوجوه والحناجر

في الوجه هذا الذي لا تتعدى مساحته شبراً واحداً ترون أنه لا يوجد شخصان متشابهان في كل شيء، حتى التوأمان لهما ما يتمايزان به عن بعضهما البعض، أو الحنجرة والأصوات ترون أنها ليست واحدة، يعرف الطرف الآخر من لحن صوته وإلاّ فإن نظام العالم لا يستقيم إذا تشابه الأفراد.

كم من المظلومين كانوا سيؤخذون بدل الظالم ويعاقبون؟ وكم من عمليات النصب والإحتيال كانت ستحدث؟ وباختصار فإن الحياة الإجتماعية ما كانت لتستقر! لهذا ترون كيف أنّ الخالق الحكيم راعى هذه الجوانب في ما خلق. هل ترون إلى العالم الأول هذا ماذا تفعل فيه قدرته؟ لماذا لا يتذكرون العالم الآخر[9] حيث تتجلى قدرته بصورة أتم وأكمل وأشرف، لأنه عالم أوسع وأفضل وأبقى. إن المبدأ والمعاد ضروريان وبديهيان ومطابقان لحكم العقل والوجدان.

القدوم على قبور الموتى دليلٌ على قبول المعاد

كتبوا في أوضاع (ستالين) قبل موته أنه كان عندما يعجز عن حل بعض المشاكل بنفسه، أو عن طريق المشورة مع الآخرين، كان يذهب إلى قبر (لينين) ويبقى هناك مدة من الزمن حتى تُحل مشكلته. هذا الشخص المادي وجدانه يشهد أنّ الميّت لم يُعدم وإلاّ فلماذا يذهب إذاً للوقوف على قبره وطلب المدد منه!!

لماذا إذاً يقيمون قبر الجندي المجهول ويؤدون له الإحترام؟! إن وجدان الإنسان يقول له: إنّ له إله، له معاد، له حياة بعد الموت. حتى لو لم يكن هناك وحي فإن هذا الأمر فطري عند الإنسان الإشكال هو هنا:

لماذا ينكر أكثر أفراد الإنسان هذا الأمر الواضح والبديهي؟؟

لقد أوضحت لنا الجواب على هذا الإشكال آية في سورة القيامة هي: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)[10] ولهذا فهو يغض الطرف عن كلّ حقّ، يريد أنْ يترأس، ولازمة ذلك أنه يتساهل في مسؤولياته، وإلاّ إذا كان يعتبر نفسه العبد المسؤول والمقهور... إذا كان يعتبر انه حتى تنفسه هو بيد الله فهل يبقى يقول بعد ذلك: أنا انا...؟

إن العُجب بالنفس والخضوع لله سبحانه وتعالى أمران متضادان لا يجتمعان. إذا إعتبر أحدٌ نفسه عبداً عاجزاً لا يمكن له أنْ يكون أنانياً مسترئساً يريد أنْ يتسلط على الآخرين. ولهذا فهو لأنه يملك إرادة الفجور والشهوات فإنه يدوس على الحق مهما كان واضحاً.

هارون والمأمون كانا يعرفان الأئمة

قيل إنه سئل المأمون: كيف أصبحت محباً للرضا(ع)؟ قال: أخذت هذا الأمر عن أبي فلما دخلت مع أبي المدينة كان العظماء يأتون للقاء أبي وفي أحد الأيام دخل علينا رجل نحيف، فرأيت أبي وقد تقدم وأحتضنه ثم أجلسه بين يديه وأخذ يحادثه بكل أدب واحترام.

في الليل سألت أبي: من كان ذاك الشخص الذي تواضعت له ذاك التواضع قال: هو موسى بن جعفر(ع). قلت: ومن هو موسى بن جعفر؟ قال: ذاك هو إمامي وإمامك. قلت: إذاً أنت لست على حق؟ قال: لا، إن الخلافة حق له.

قال المأمون: فقلت لأبي متجاسراً عليه: إذا كان الأمر كذلك إذا فلماذا تفكر في حبسه وإبعاده؟ قال: إنّ الملك عقيم، لا يعرف له حتى ولداً!! فلو كان قد نافسه فيه لكان قتله أو كان قلع عين ولده كما ينقل عن بعض الملوك مثل نادر.

القصد هو أنّ الإنسان حقير إلى حدّ أنه يلقي جانباً بكلّ حقّ حتى وإن كان واضحاً وضوح الشمس لأنه يريد العلو... يريد السيادة.

حب الدنيا أصل الذنوب

لا أنسى عندما أراد إمام الأمّة أن ينفِّذ حكم رئاسة الجمهورية حتى يصبح رئيس الجمهورية مسؤولاً عن هذا المنصب قانونياً وشرعياً.. لا أنسى أنه قال يومها: (حب الدنيا رأس كل خطيئة). إنه إعلان خطر للجميع. إن الأمر لكذلك فحب الدنيا يسيطر على عقل الإنسان إلى حد أنه يصبح مستعداً لسحق كل حق... يحاول أنْ يزيل من أمامه كل من يُعيق تحركه.

إن هذه الأنانية وهذا العجب بالنفس وهذا التقديس للذات... هذه كلُّها أمور خطيرة. إذاً فقد اتضح الآن لماذا ينكر الكثير الحق على ما هو عليه من وضوح.

أولم يعرف المنافقون الإمام؟

والآن، كل إنسان منصف ما هو شعوره بالنسبة لإمام الأمة؟ هل عنده إلاّ حب الخير للناس والخدمة لخلق الله؟ إنه شريك المستضعفين في همومهم وقد قدّم إمتحانه أكثر من مرّة ألم تدرك هذه المجموعات هذا الأمر بعد؟ هل يمكن إحتمال ذلك؟ من المتيّقن أنّهم أدركوا هذا الأمر جيداً ولكنهم تركوا حقاً بهذا الوضوح... تركوا هكذا قائد وتوجهوا ويتوجّهون إلى أيّ أشخاص؟ ذلك لأنهم لم يغضوا النظر عن أهوائهم.

إدراك عظمة الخلق يوجب تقوى القلب

النجوم التي ترونها. في هذه المجرة توجد ملايين الشموس والكواكب ومثل مجرّتنا هذه يوجد الكثير من المجرّات التي لا ترى بهذه العين أصلاً. في المجرّة الثانية إكتشفت نجمة قطرها مليار (أي ألف مليون) وست مئة ألف كيلومتر. لو ظهر ذلك الكوكب في منظومتنا الشمسية لغطى سدس سمائنا. ذلك الكوكب بتلك العظمة والسِّعة التي له لو ظهر هنا لم يعد للأرض ليلٌ بعد ذلك وذلك لما كان لذلك الكوكب من ضياء.

قلت هذا كنموذج فقط، فكم هو عظيم نظام الخلقة. كل هذه الكواكب بهذه العظمة تدور بقدرة واحدة، تتحرّك بإرادة واحدة، الناظر واحد، المدير واحد، تفكّر في نظام حركات كوكب الأرض هذا (يا من نفذ في كل شيء أمره)، كوكب بهذه العظمة لا يتخلف عن الحركة بمقدار طرفة عين واحدة، حتى كوكب الشمس، بهذه العظمة، لا يتخلف بمقدار طرفة عين، إنه مطيع تكوينياً ما جعله عليه. يا من أعماركم تبلغ الستين، منذ أول العمر وحتى الآن هل لاحظتم تخلفاً. هل ترى إلى هذا البرج الإثنا عشري... الله أكبر كلُّه لا يزال في مكانه. طول وقصر الليل والنهار يتكرر بشكل منظم،. كل سنة.

هذه الستون سنة التي مضت هكذا متهادية من عمرك.

الليالي تقصر حتى أوّل الربيع (الإعتدال الربيعي) يصبح الليل والنهار متساويين، ثم بعد ذلك تبدأ النهارات تطول أكثر فأكثر، إلى أنْ يأتي آخر الربيع فيحدث العكس.

منذ الشهر الأوّل من فصل الصيف منذ الأول من تموز يبدأ الليل يطول تدريجياً يوماً بعد يوم، والنهار يقصر حتى أوّل الخريف، حيث يتساوى الليل والنهار مرة أخرى (الإعتدال الخريفي).

هذه الحركة المنظّمة مضى عليها ستون سنة وهي هكذا وليمضي عليها ستون ألف سنة أيضاً تبقى هكذا. قل (الله أكبر تبارك الله أحسن الخالقين ذلك تقدير العزيز العليم).

الفيل والبعوضة... نظامهما واحد

البعوضة هذه التي هي بهذا الحجم الصغير، تشبه في الخلق الفيل. فخرطوم الفيل وهبه الله للبعوضة أيضاً. في بعض الليالي عندما تحط على جسدك المبارك، توقظك حتى تفهم ولكن لماذا لا تقول: الله أكبر إلهي ما هو هذا العقوص الذي يخرق جسدي. أي قدرة سمعٍ عجيبة قد وهبها لها فما إن ترفع يدك حتى تطير هي على الفور. كم هو قويٌ سمع هذه البعوضة فهي تسمع الصوت الذي لا تقدر أنت على سماعه (إدراك الأمواج على طريقة الرادار) يدك هذه عندما تحاول رفعها فإنها تُحدث صوتاً خفيفاً إلى حدّ أنك نفسك لا تسمعه ولكن هي تسمعه.

إلهي.. ماذا خلقت.. وهبتها اذناً، وعيناً، ويداً، ورجلاً، وكذلك جناحين، بينما الفيل ليس له جناحان. وإذا ما وجد مؤمن تعرف قلبه على الله رويداً رويداً، وعلى أثر التفكُّر والتدبُّر وعلى أثر التقوى، فإن ذلك سببه أنه، وجدت عظمة إله العالم مكاناً في قلبه، ومن آثار ذلك أنه أصبح يرجع كل ما هو عظيم إلى قدرة وعظمة الخالق، خالق خاتم الأنبياء (الذي هو سبب الوجود) محمّد المصطفى(ص). كم تكون قد عظّمت وجلّلت الله سبحانه وتعالى عندما تعظّم رسوله وخليفته في الأرض، خليفة الله هذا الذي هو رشحةٌ من رشحاته جلّ وعلا ورحمة من رحماته سبحانه وتعالى.

الإمام الصادق(ع) عندما كان يذكر أسم جده.. عندما كان يقول: محمّد(ص) كان يبدي له التعظيم إلى حدّ أنّ يده المباركة كانت تصل إلى قرب ركبته على الأرض. وعظماء الدين لم يكونوا يأتون على ذكر إسم محمّد(ص) دون وضوء ولم يكونوا يلمسون إسمه المبارك. مما هو محرّم على كل مسلم هو أن يضع يده دون وضوء على إسم محمّد المبارك(ص). محرّم على كل مسلم هتك حرمة اسم محمّد المبارك(ص).

وهنا توضيح لما سبق ذكره فهذا الحكم يجري في حال أريد من هذا الإسم المبارك خصوص خاتم الأنبياء(ص) أما إذا أريد به شخص آخر... مثلاً محمّد الكربلائي فإنه لا تجري عليه هذه الأحكام.

التدبُّر في الصفات والأفعال والأقوال

إذا ما تدبّر الإنسان في حالات آل محمّد(ص) وتعرَّف إلى صفاتهم الكمالية وأخذ بعين الإعتبار سلوكهم وأقوالهم وأفعالهم. هذا العمل يزيد الحب لهم لأن الإنسان مفطور على حبّ الكمال. كل إنسان مهما كان يحب الكمال وسواء أراد أو لم يُرد فإن هذه المحبة تسري إلى صاحب الكمال.

مثلاً أنتم تحبون الكرم. لو أنّ شخصاً شرح لكم عن كرم (حاتم الطائي) فإنكم سوف تحبونه أيضاً لأنه صاحب كرم. إذاً اللازم التعبدي هو تذكّر هذه الأوصاف والكمالات. بناءً على هذا يجب التدبّر كثيراً في حالات أهل البيت(ع). أولئك الذين لم يردوا عالم الحب، البعض منهم بسبب عدم إطلاعهم على كمالاتهم(ع).



[1] (لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً).

[2] أحد سلاطين إيران.

[3] الرئيس المخلوع بني صدر.

[4] سورة الملك: الآية 14.

[5] (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) الجاثية/24.

[6] سورة السجدة: الآية 17.

[7] سورة الطارق: الآية 8.

[8] سورة القيامة: الآية 4.

[9] (ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكّرون) الواقعة/62.

[10] سورة القيامة: الآية 5.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست