.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 
 

فصل

في التفكر في أحوال النفس

من درجات التفكر أيضاً التفكر في أحوال النفس يؤدي إلى نتائج كثيرة ومعارف عديدة. وإننا سنلقي نظرة على نتيجتين اثنتين: الأولى: العلم بيوم المعاد. والثانية: العلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، أي النبوة العامة، والشرائع الحقة.

إن من حالات النفس هو تجرّدها، وهي حالة لم يُولِ الحكماء العظام أهمية لأية مسألة حكمية فلسفية أخرى مثلما أَوْلُوا هذه المسألة وأثبتوها بالأدلة والبراهين. ولكننا لسنا الآن في صدد إثبات تجرد النفس بصورة مفصلة، وإنما نكتفي ببعض الأدلة التي لا تستعصي مبادئها على الفهم، للوصول إلى المقصود.

فنقول: يجمع الأطباء وعلماء الأبدان، وفي ظل التجارب، على أن جميع أعضاء الجسم، من أم الدماغ التـي هي مركز الإدراكات ومحل ظهور قوى النفس، وحتى آخر أجزائه الصلبة، تبدأ، من سن الخامسة والثلاثين، أو الثلاثين فما فوق، بالانحدار نحو الانحطاط والنقصان، والاقتراب من الضعف والانحلال. ولقد جربنا بأنفسنا أيضاً كيف يبدو الضعف في القوى كلها. ولكن في هذه الفترة نفسها، أي من سن الثلاثين أو الأربعين فما فوق، تزداد القوى الروحية والإدراكات العقلية كمالاً ورقياً وسداداً. ويتضح من هذا أن القوى العقلية ليست جسمانية، إذ لو كانت

 [ 231 ]

جسمانية لانحدرت، مثل سائر قوى الجسم، نحو الضعف والوهن. كما لا يمكن القول بأن القوى العقلية تزداد قوة بكثرة أعمال القوة الفكرية وحصول التجربة، إذ أن القوى الجسمانية ينتابها التعب والانحلال، لا القوة والكمال، نتيجة لكثرة العمل وبذل الجهد. وهذا بذاته دليل على أن القوى العقلية ليست جسمية ولا من آثار الجسم. والاعتراض على هذا الكلام بضعف القوى الفكرية أيام الكهولة، كالضعف الجسماني، لا محل له، وذلك لأنه:

أولاً: ليست هناك قوة جسمانية تنمو وتشتد حتى سن الكهولة بحيث يمكن أن نقول بأن الموضع الفلاني من الجسم هو موضع الإِدراكات العقلية وأنه كان يشتد ويزداد قوة حتى سن الكهولة، والآن بعد أن ضعف هذا الموضع ضعفت بضعفه القوة الفكرية أيضاً.

ثانياً: هل إن هذا الضعف في الكهولة يعود إلى الفكر كقوة حالّة في الجسم، أم أن الفكر يحتاج إلى قوة جسمانية فعند وهن الجسم ـ محل الفكر ـ لا يؤدي دور الفكر؟ هذا كله بالنسبة إلى القوة الفكرية. وأما الإدراكات المحضة والملكات الفاضلة في فترة الكهولة تكون أقوى أيضاً مما كانت عليه من قبل، حتى وإن قل ظهورها أو إظهارها. وعلى كل حال، يكفي لإثبات دعوانا تجرد النفس ما قلناه من قوة الإدراك في سنّ الأربعين أو الخمسين مع أن الجسم ينحدر نحو الوهن والضعف.

وأما الإجابة على الاعتراض والنقض فهو أن النفس لمَّا تستجمع قواها من مُلك الب دن، وتعود القوى إلى باطن ذاتها، كلما كانت القوى أقرب إلى عالم الجسم والجسماني، كلما كان أسرع إلى الضعف والكلال، وكلما كانت أبعد كانت أبطأ في الإصابة بالضعف. أما القوى التي تنتمي إلى عالم التجرد والملكوت فتقوى وتزداد شدّة عندما يزداد عمر الإنسان. وهذا دليل على أن النفس ليست جسماً ولا هي قوة جسمانية.

وأيضاً أن خصائص النفس وآثارها وأفعالها على النقيض من خصائص الأجسام وآثارها وأفعالها بصورة مطلقة. وهذا دليل على أن النفس ليست جسماً. فمثلاً، نحن نعلم أن الجسم لا يتقبل بالضرورة سوى صورة واحدة، وإذا

[ 232 ]

أريد إعطاؤه صورة أخرى كان لا بُدَّ للصورة الأولى أن تفارقه لكي يمكنه تقبل الصورة الثانية. فإذا رسمت مثلاً، صورة على صفحة الورق، لا يمكن رسم صورة أخرى مكانها إلاّ إذا أزيلت الصورة الأولى تماماً. وهذا الحكم يجري في جميع الأجسام بالضرورة العقلية.

أما النفس فتختلف تم اماً، ففي الوقت الذي تكون هناك صورة مرسومة فيها، يمكن رسم صورة أخرى مضادة لها من دون زوال الصورة الأولى.

وأيضاً إن الجسم ترتسم فيه الصور المتـناهية. أما في النفس فترتسم الصور غير المتناهية. ولهذا فهي تحكم على الأمور غير المتناهية.

وأيضاً أن الجسم الذي تزول منه الصورة، لا تعود إليه من دون استئناف السبب، ولكن النفس إذا غابت عنها بعض الصور عادت إليها من دون سبب خارجي.

إذاً، يتبين أن النفس تضاد جميع الأجسام في خصائصها وآثارها وأفعالها. أي أن النفس مجردة وليست من سنخ الأجسام والجسمانيات، والمجردات لا تفسد، كما هو مبرهن عليه في محله. وذلك لأن الفساد لا يكون من دون مادة قابلة للفساد، والمجردات منزهة عن مادة قابلة للفساد. إذ أن ذلك من لوازم الأجسام. إذاً، لا تفسد النفس. ومن هنا يستنتج أن النفس لا تفسد بفساد البدن وبمفارقتها له، بل تبقى في عالم آخر، ولا تفنى. وهذا هو المعاد الروحي للنفوس والأرواح قبل يوم القيامة إلى أن يشاء الله لها أن تعود إلى الأبدان. إننا الآن في صدد إثبات المعاد المطلق في قبال المنكر المطلق وقد اتضحت الفكرة من خلال هذه المقدمات.

ولا بُدَّ أن نعرف أن النفوس صحّة ومرضاً، وصلاحاً وفساداً، وسعادة و شقاء، وأن إدراك طرقها ودقائق مصالحها ومفاسدها لا يتسنّى لأحد سوى ذات الله المقدسة. لذلك ففي النظام الأتم ـ الذي هو أحسن نظام، وقد تبين من قبل أن منظِّمة حكيم على الإطلاق ومحيط بكل شيء ـ لا يمكن أن يهمل بيان طرق السعادة والشقاء، والطرق الهادية إلى الصلاح والفساد، وطرق علاج النفوس، إذ أن مثل هذا الإهمال يقتضي النقص في العلم أو النقص في القدرة، أو الظلم

[ 233 ]

والبخل من دون سبب.

ولقد تبيّن أن ذات الله المقدسة منزهة عن كل ذلك، فهو الكامل على الإِطلاق والمفيض على الإطلاق، وأن إهمال بيان الطرق الموصلة إلى السعاد ة والشقاء يعدّ خللاً كبيراً في الحكمة، ويبعث على الفساد والاختلال في النظام والحكم. إذاً، أصبح من اللازم بيان طرق السعادة والهداية في النظام الأتم.

وقد حصلت من هذا نتيجتان واضحتان:

الأولى: هي أن الشريعة ـ وهي الوصفة الخاصة بإصلاح الأمراض النفسية ـ لا توجد إلاّ عند ذات الحق المقدس.

والثانية: هي أن الله تعالى يعلنها ـ الشريعة ـ حتماً. ومعلوم أن مثل هذا الهدف العظيم، وهذا العلم الكامل الدقيق الذي يعجز عن إدراكه أعقل العقلاء، الذي يربط بين المُلك والملكوت وتأثير الصور الملكية في باطن النفس، لا يقع لأحد إلاّ عن طريق الوحي والإِلهام. أي يجب أن يكون تعليمه من جانب الحق تعالى. وبديهي، أن جميع أفراد البشر ليسوا خليقين بمثل هذه الهبة، وليست لهم القابلية والقدرة على القيام بمثل هذه المهمة. ولكن يظهر خلال بضعة قرون من يكون جديراً بالاضطلاع بمثل هذا الواجب وتحقيق مثل هذا الهدف العظيم، فيبعثه الحق تعالى ليبيّن للناس الطريق إلى السعادة والطريق إلى الشقاء، ليعلم الناس كيف يصلحون أنفسهم. وهذه هي النبوة العامة.

ولمّا انتهى بنا الحديث إلى هنا، خطر لي أن أشير استطراداً إلى موضوع أراه من البديهيات.

وهو أننا وبعد أن علمنا ضرورة وجود شريعة إلهية لبني البشر، ولزوم رجوعنا إلى الشرائع السائدة بين الناس، وهي على الأغلب الشرائع الإِلهية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإِسلام، نرى بأن الشريعة الإسلامية هي أكمل من الشرائع الأخرى في أبعادها الثلاثة، التي هي أساس الشرائع ومدار التـشريع، ـ أحدها ما يعود إلى العقائد الحقة، والمعارف الإِلهية وتوصيف الحق وتنزيهه. وكيفية ذلك. والعلم بالملائكة وتوصيف الأنبياء ( عليهم السلام ) وتنزيههم، مما هو أصل الشريعة

[ 234 ]

وأساسها. وثانيها ما يعود إلى الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة وإصلاح النفس. وثالثها هو جانب الأعمال الفردية والاجتماعية والسياسية والمدنية وغير ذلك ـ بل إن كل ناظر منصف وغير مغرض في هدفه يدرك أن الإِسلام أرقى من أن يقارن بدين آخر، وأن الحياة البشرية لم تشهد قانوناً ولا شريعة بهذا الإتقان بحيث تكون تامة وكاملة في جميع مراحل الحياتين الدنيوية والأخروية. وهذا بذاته خير دليل على أحقية الإسلام وصدقه.

وعليه، وبعد إثبات النبوة العامة، وأن الله قد شرع لبني البشر شريعة، وبيّن لهم طريق الهداية، ووضعهم ضمن إطار نظم ونظام، لم يعد إثبات أحقية الدين الإسلامي بحاجة إلى مقدمات أبداً، سوى التمعن فيه ومقارنته بسائر الأديان والشرائع في جميع المراحل التي يمكن تصورها، ابتداء من حاجة الإِنسان إلى الملكات الحقّة والمعارف النفسانية، وحتى بلوغ الواجبات النوعية الفردية والاجتماعية. وهذا معنى من معاني الحديث الشريف: "الإِسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى عليه"(1) إذ كلما ازداد العقل البشري تقدماً وتطوراً في مدركاته وتمعّنا في حجج الإسلام وبراهينه، ازداد خضوعاً لنور هدايته، وقوّة أمام الحجج فلا تظهر حجة ودليل في العالم ضد الإسلام إلاّ وينتصر عليه.

والمستخلص من أدلتنا على إثبات نبوة خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلم هو أنه لمَّا كان اتقان خلق الكائنات وحسن تربيتها وتنظيمها دليلاً يهدينا إلى الاعتراف بوجود الخالق والمنظِّم الذي يحيط علمه بكل الدقائق واللطائف والجلائل، كذلك يهدينا إتقان أحكام شريعة وحسن نظامها وتربيتها الكامل وكونها تتكفل بكل الحاجات المعنوية والمادية، الدنيوية والأخروية، الفدية والاجتماعية، إلى أن مشرّعها ومنظمها عالم محيط بجميع حاجات العائلة البشرية. وكما أن العقل يهدينا إلى أن عقل ذلك الإنسان، الذي كتب تاريخه جميع المؤرخين من مختلف الأمم قائلين إن ه كان أمياً وعاش في محيط خال من الكمالات والمعارف، لا يمكن أن يكون قادراً على وضع مثل هذا الترتيب الكامل والنظام التام بنفسه. كذلك ندرك بالضرورة أن هذه الشريعة قد شرعت في الغيب وفيما وراء الطبيعة،

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الش يعة، المجلد 17، كتاب الفرائض والمواريث، ح 32365.

[ 235 ]

ونزلت عن طريق الوحي والإلهام على ذلك الإنسان العظيم. والحمد لله على وضوح الحجة.

كنت ناوياً الإشارة إلى نوع آخر من أنواع التفكر، وهو التفكر في عالم المُلك الذي تكون نتيجته الزهد. ولكن عنان القلم في المقالات السابقة قد أفلت من يدي، فشرحت ذلك بصورة مطولة، أدّت إلى الخروج عن الموضوع ولهذا غضضت الطرف عنه.

فصل

في فضيلة صلاة الليل

بقي علينا شرح جملتين أخريتين من الحديث الشريف حيث يقول صلوات الله عليه "جافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ وَاتَّقِ اللهَ رَبَّـكَ".

في هذا الكلام المبارك يقرن الإمام عليه السلام الأعمال القلبية والتفكر المنبّه، وتقوى الله تعالى، بإحياء اللي ل ومجافاة الفراش من أجل العبادات. وهذا دليل على كمال صلاة الليل وفضيلتها وأهميتها. كما أن الأحاديث الشريفة تمجد هذا العمل الشريف كثيراً. ويُستدل من سيرة أئمة الهدى عليهم السلام والمشايخ العـظام والعلماء الأعلام أنهم كانوا مثابرين على أدائها. بل كانوا يحرصون على اليقظة في الهزيع الأخير من الليل، بصرف النظر عن التعبد فيه.

لقد جاء في كتاب"وسائل الشيعة" ـ الذي يعتبر من أعظم كتب الإمامية، ومدار المذهب ومرجع العلماء والفقهاء ـ واحد وأربعون حديثاً في فضلها، والعديد من الأحاديث في كراهية تركها. وفضلاً عن ذلك يشير إلى السابقات واللاحقات من الأحاديث في شأنها. وهناك، بالطبع، أحاديث كثيرة جداً في كتب الأدعية وغيرها، ولكننا، من أجل التيمن والتبرك نورد بعضاً منها:

"عـَنِ الكافِي بإسْنَادِه عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ عَمّارِ قَالَ: سَمِعْتُ أبا عَبْد اللهِ عليه السّلام يَق ُولُ: كانَ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلَّى اله عليه وآله وسلم لِعَليٍّ قوله: يا عَلِيُّ! أوصيكَ في نَفْسِكَ بِخِصالٍ فَاحْفَظْهَا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْهُ... إلى أنْ قالَ: وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْلِ

[ 236 ]

وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْل"(1).

يتبيّن من صدر هذا الحديث وذيله ما لصلاة الليل من أهمية.

"وعـَنِ الخِصالِ بِإسْنادِهِ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام قالَ: قالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لِجَبْرَئيلَ: عِظْنِي، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وأحْبِبْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفارِقُهُ، وَاعْمَلْ ما شِئْتَ فَإنَّكَ مُلاقِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفِ المُؤْمِنِ قيامُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزُّهُ كَفُّهُ عَنْ أَعْراضِ النَّاسِ"(2) .

إن تخصيص الموعظة المقدسة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر ليدل أيضاً على أهميته البالغة. ولو كان جبرائيل الأمين يرى أهمية أكبر لأجر آخر لكان قدّمه في هذا المقام:

وفي المجالس بإسْنادِه عَنْ ابْنِ عَبّاس قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حَدِيثٍ:"فَمَنْ رُزِقَ صَلاةَ اللَّيْلِ مِنْ عَبْدِ أوْ أمَةٍ قامَ للهِ مُخْلِصاً فَتَوضَّـأ وضُوءاً سابِغاً وصَلّى لله عَزّ وجلّ بِنِيَّةٍ صادِقة وقَلْبٍ سَليم [ وَبَدَنٍ خاشِعٍ ] وَعَيْنٍ دامِعَة جَعَلَ اللهُ تَعَالَى خَلْفَهُ سَبْعَةَ صُفُوفٍ مِنَ المَلائِكَةِ فِي كُلِّ صَفِّ ما لا يُحْصَى عَدَدَهُمْ إلاّ اللهُ أحَدُ طَرَفَيْ كُلِّ صَفٍّ بِالمَشْرِقِ وَالآخَرُ بِالمَغْرِبِ، فَإذا فَرَغَ، كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِعَدَدِهِمْ دَرَجاتٍ"(3).

وَعَنِ العِلَل بِإسْنادِه إلى أَنسٍ قالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: الرَّكْعَتانِ في جَوْفِ اللَّيْل أحَبُّ إليّ مِنَ الدُّنْيا وَما فِيها"(4).

 وثمة أحاديث كثيرة أشير فيها إلى صلاة الليل هي شرف المؤمن، وزينة الآخرة، مثلما أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا. وَعَنِ العِلَلِ بِإسْنادِه إِلى جَابِرِ بْنْ عَبْدِ اللهِ الأنْصارِيِّ قالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم يقولُ: مَا اتَّخَذَ اللهُ إبْراهيمَ خَليلاً إِلاّ لإطْعامِ الطَّعامِ وَالصَّلاةِ بِاللَّيْلِ وَالنّاسُ نِيامٌ"(5).

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة،ح1.

(2) وسائل الشيعة،المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب الصلوات المندوبة، ح3.

(3) و(4) و(5) المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة، ح 29 و ح 31 و ح 30.

[ 237 ]

ولو لم تكن لصلاة الليل سوى تلك الفضيلة لأهلها لكفتها، ولكنهم ليسوا بأمثالي. إننا لا نعلم شيئاً عن عظمة رداء الخَلّة وما يعني مقام اتخاذ الله تعالى العبد حبيباً وخليلاً. فكل العقول تعجز عن تصور ذلك. فلو أنهم أكرموا الخليل بكل ما في الجنة من نعم، فإنه لا يلتفت إليها ( ما دام مع خليله ). وأنت أيضاً إذا كان لك محبوب عزيز، أو كان لك صديق حميم ودخل عليك، فإنك تترك كل نعمة ورفاه، وتستغني عن ذلك بجمال المحبوب ولقاء الصديق، بالرغم من أن هذا المثل بعيد عن المقام بعد المشرقين.

وَعَنْ عَلِيٍّ بْنِ إبْرَاهيمَ بِإسْنادِهِ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام قالَ: "ما مِنْ عَمَلِ حَسَنٍ يَعْمَلَه العَبْدُ إلاّ وَلَهُ ثَوابٌ فِي القُرْآنِ إلاّ صَلاةَ اللَّيْلِ فَإنَّ الله لَمْ يُبّيِّنْ ثَوابَها لِعَظِيم خَطَرِهَا عِنْدَهُ فـَقال"تَتَجافى جُنوبُهُ م عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون * فـَلا تـَعْلـَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلونَ"(1).

ترى ما قرة العين هذه التي يدخرها الله ويخفيها حتى لا يعلم أحد عنها شيئاً، وما يمكن أن تكون؟ فلو كانت من قبيل"أنهار جارية" و"قصور عالية" ومن نِعم الجنة المختلفة، لذكرها الله، مثلما بيّن ما للأعمال الأخرى وأطلع الملائكة عليها.

ولكن يبدو أنها ليست من ذلك السنخ، وأنها أعظم من أن ينوّه بها لأحد، وخصوصاً لأحد من أهل هذه الدنيا. إنه لا تقارن نِعم ذلك العالم بالنعم هنا، ولا تظنن أن الفردوس والجنان تشبه بساتين الدنيا، أو ربما أوسع وأبهى. هناك دار كرامة الله ودار ضيافته. فكل هذه الدنيا لا شيء إزاء شعرة وا حدة من الحور العين في الجنة. بل ليست شيئاً إزاء خيط من خيوط الحلل الفردوسية التي أعدّت لأهل الجنة. ومع كل هذا الوصف، لم يجعلها الله ثواب من يؤدي صلاة الليل، وإنما ذكرها من باب التعظيم له. ولكن هيهات! نحن الضعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلاّ لما كنا نستمر في غفلتنا، ونعانق النوم حتى الصباح. لو أن يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما كان ثمّة ثواب له إلا جمال

ـــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة، المجلد الخامس، الباب 40، من أبواب بقية الصلوات المندوبة، ح13.

[ 238 ]

الحق الجميل وحده.

الويل لنا نحن الغافلين الذين لا نستيقظ من النوم حتى آخر العمر. نبقى في سُكر الطبيعة غارقين، بل نزداد كل يوم سكراً وغفلة، ولا نفهم شيئاً سوى الحالة الحيوانية من مأكل ومشرب ومنكح، ومهما فعلنا، وإن كان من سنخ العبادات، فإنما نفعله في سبيل البطن والفرج. أتحسب أن صلاة خليل الرحمن كانت مثل صلاتنا؟ الخليل لم يطلب حاجة حتى من جبرئيل، ونحن نطلب حاجاتنا من الشيطان نفسه ظناً منا بأنه يقضي الحاجات! ولكن علينا أن لا نيأس. فلعلك بعد مدة من سهر الليالي والاستئناس بذلك والاعتياد عليه، يلبسك الله بلطفه الخفي خلعة الرحمة. كما أن عليك ألاّ تغفل عن سرّ العبادة بصورة عامة، ولا تقصر همك على التجويد في القراءة وتصحيح الظاهر فقط. ولئن لم تـقدر أن تكون خالصاً لله تعالى، فاسعَ، على الأقل، من أجل قرة العين التي يخفيها الله عزَّ وجلَّ، وتذكر الفقير، العاصي، الحيواني السيرة الذي اكتفى من كل المراتب، بالحيوانية. وإذا وجدت في نفسك الرغبة، فقل بخلوص نية:

"اللهمّ ارزقني التَّجافِيَ عَنْ دارِ الغُرُورِ، وَالإنابة إلى دارِ الخلودِ، وَالإسْتِعْدَادِ للموت قبل خُلُولِ الفوت"(1).

فصل

في بيان التقوى

اعلم أن التق وى من"الوقاية"بمعنى المحافظة. وهي في العرف وفي مصطلح الأخبار والأحاديث تعني:"وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه "وكثيراً ما عرفت بأنها"حفـظ النفس حفظـاً تاماً عن الوقوع في المحظورات بترك الشبهات "فقد قيـل:"وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبَهاتِ وَقَعَ فِي المُحَرَّماتِ وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُ"(2) "فـَمـَنْ رَتَعَ حَوْلَ الحِمى أوشِكَ أَنْ يَقَعَ فيهِ"(3).

ـــــــــــــــ

(1) "مفاتيح الجنان"أعمال ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.

(2) أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب فضل العلم، باب إختلاف الحديث، ح9.

(3) وسائل الشيعة، المجلد 18، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب وجوب التوقف والاحتياط في القضاء و الفتوى،ح39.

[ 239 ]

لا بُدَّ أن نعرف أن التقوى، وإن لم تكن من مدراج الكمال والمقامات، ولكنّه لا يمكن بدونها بلوغ أي مقام، وذلك لأن النفس ما دامت ملوثة بالمحرمات، لا تكون داخلة في الإنسانية، ولا سالكة طريقها، وما دامت تميل إلى المشتهيات و اللذائذ النفسية وتستطيب حلاوتها، لن تصل إلى أول مقامات الكمال الإنساني، وما دام حب الدنيا والتعلق بها في القلب، فلا يمكن أن يصل إلى مقام المتوسطين والزاهدين، وما دام حب الذات باقياً في دخيلة ذاته. لن ينال مقام المخلصين و المحبين، وما دامت الكثرة المُلكيّة والملكوتية ظاهرة في قلبه، لن ينال مقام المنجذبين، وما دامت كثرة الأسماء متجلية في باطنه، لن يصل إلى الفناء الكلي، وما دام القلب يلتفت إلى المقامات، لن يبلغ مقام كمال الفناء، وما دام هناك تلوين، لن يصل إلى مقام التمكين ولن تتجلى في سرّه الذاتُ في مقام الاسم الذاتي تجلياً أزلياً وأبدياً. فتقوى العامة إذاً تكون من المحرمات، وتقوى الخاصة تكون من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حب الدنيا، والمخلصين من حب الذات، والمنجذبين من كثرة ظهور الأفعال، والفانيـن من كثرة الأسمـاء، والواصلين من التوجه إلى الفنـاء، والمتمكنن من التلوينات (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)(1).

ولكل من هذه المراتب شرح وتفصيل لا يحصل لأمثالنا منه سوى الحيرة والضياع في المصطلحات، والتلفع في حجب المفاهيم، إذ لكل معركة رجال.

والآن نعود إلى بيان نبذة من التقوى المذكورة في بدأ الأمر، لأهميتها للناس بصورة عامة:

فصل

في بيان تقوى العامة

اعلم أيها العزيز أنه مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إن صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية، وإن الأمراض النفسية أشد فتكاً آلاف

ـــــــــــــــ

(1) سورة هود، آية: 112.

[ 240 ]

المرات من الأمراض الجسمية. وذلك لأن هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما أن يحل الموت، وتفارق الروح البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسيمة والاختلافات المادية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد. ولكنه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية ـ لا سمح الله ـ فإنه ما أن تفارق الروح البدن، وتتوجه إلى ملكوتها الخاص، حتى تظهر آلامها وأسقامها.

إن مَثَل التوجه إلى الدنيا والتعلق بها، كمثل المخدر الذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس بالآلام والأسقام التي كانت في باطنها، فتظهر مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت الرماد. وتلك الآلام والأسقام إما أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإما أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ أن آخر الدواء الكي. قال رسول الله تعالى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)(1).

إن الأنبياء هم بمنزلة الأطباء المشفقين، الذين جاءوا بكل لطف ومحبة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد."إننا أطبّاء وتلاميذ الحق"وإن الأعمال الروحية القلبية والظاهرية والبدنية هي بمثابة الدواء للمرض كما أن التقوى، في كل مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرة للأمراض. ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدل المرض إلى صحة.

قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسيمة حتى مع عدم الحمية جزئياً. وذلك لأن الطبيعة هي نفسها حافظة للصحة ودواء لها. ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب، وذلك لأن الطبيعة قد تغلبت على النفس منذ البداية، فتوجهت هذه نحو الفساد والانتكاس (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(2)، وعليه، فإن من

ـــــــــــــــ

(1) سورة التوبة، آية: 35.

(2) سورة يوسف: آية 52.

[ 241 ]

يتهاون في الحمية، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتى تقضي على صحته قضاء مبرماً.

إذاً، فالإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفق بحاله، إذا تنبه أن وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر، هو الامتناع عن كل ما يضرها ويؤلمها.

ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أي شيء، ومقدمة على كل هدف، وممهدة للتطور إلى ما هو أحسن.

إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث أن من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات، وأن أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدمة على المرحلة الأولى، إذ يتضح من الرجوع إلى الأخبار والروايات وخطب "نهج البلاغة" أن المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيرا بهذه المرحلة.

إذاً، أيها العزيز! بعد أن عرفت بأن المرحلة مهمة جداً. ثابر عليها بدقة، فإذا أنت خطوت الخطوة الأولى وكانت صحيحة، وبنيت هذا الأساس قوياً، كان هناك أمل بوصولك إلى مقامات أخرى، وإلاّ امتنع الوصول، وصعبت النجاة.

كان شيخنا العارف الجليل يقول: إن المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة، من الآية الشريفة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)(1). إلى آخر السورة المباركة، مع تدبر معانيها، في تعقيبات الصلوات، وخصوصاً في أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ البال، مؤثرة جداً في إصلاح النفس، وفي الوقاية من شر النفس والشيطان. وكان يوصي بدوام حال الوضوء، قائلاً: إن الوضوء مثل"بزّة جندي". وعلى كل حال، عليك أن تطلب من القادر ذي الجلال، من الله المتعال جلّ جلالة، مع التضرع والبكاء والالتماس كي

ـــــــــــــــ

(1) سورة الحشر، آية: 8.

[ 242 ]

يوفقك في هذه المرحلة ويعينك في الحصول على خصلة التقوى.

واعلم، أن بدايات الأمر صعبة وشاقة، ولكن بعد فترة من الاستمرار والمثابرة تتحول المشقة إلى راحة، والعسر إلى يُسر، بل تتبدل إلى لذة روحية، خصوصاً، وأن أصحاب هذه اللذة لا يستبدلونها بجميع اللذائذ. ويمكن، إن شاء الله، وبعد المواظبة الشديدة والتقوى التامة، أن تنتقل من هذا المقام إلى مقام تقوى الخاصة. وهي التقوى التي تتلذذ الروح بها. إذ أنك بعد أن تذوق طعم اللذة الروحية تترك شيئاً فشيئاً اللذائذ الجسدية وتتجنبها. وعندئذٍ يسهل عليك المسير حتى لا تعود تقيم وزناً للذات الجسدية الزائلة، بل تنفر منها، وتقبّح زخارف الدنيا في عينيك، وتنظر في باطنك فتجد أن كل لذة من لذّات هذا العالم قد أوجدت في النفس أثراً وأبقت في القلوب لطخة سوداء تبعث على شدة الإنس بهذه الدنيا والتعلق بها. وهذه هي نفسها تكون سبب الإخلاد إلى الأرض. وعند سكرات الموت تتبدل إلى صعوبة ومشقة ومعاناة. والواقع أن صعوبة سكرات الموت وحالة النزع الأخير القاسية ناجمة عن هذه اللذات وحب الدنيا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا أدرك الإنسان هذا المعنى سقطت لذات العالم من عينه كلياً، ونفر من الدنيا وما فيها من مباهج وزخارف. وهذا هو التقدم الثاني إلى المقام الثالث من التقوى.

وبذلك يصبح سبيل السلوك إلى الله سهلاً ميسوراً، وطريق الإنسانية نيّراً واسعاً، وتصبح خطوته شيئاً فشيئاً خطوة الحق، ورياضته رياضة الحق، ويتهرب من النفس وآثارها وأطوارها. إذ يجد في ذاته عشق للحق، فلا يعود يقنع بوعود الجنة والحور العين والقصور، بل يكون مطلوبة ومقصوده أمراً آخر، وينفر من الأنانية حب الذات.

فيتقي حب النفس ويتقي ذاته وأنانيته. وهذا مقام على قدر كبير من الشموخ والرفعة، وهو أول مراتب هبوب نسيم الولاية، فيدرجه الحق المتعال في كنف لط فه ويعينه ويجعله موضع ألطافه الخاصة.

أما ما يحدث للسالك بعد ذلك فخارج عن قدرة القلم. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطـناً، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

[ 243 ]

الحَديث الثَالِث عشرَ

"التوكل"

[ 245 ]

بالسَّنَدِ المُتَّصل إلى الشَّيْخِ الجَلِيلِ ثِقَةِ الإِسْلاَمِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ غَيْر وَاحِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أسْبَاطٍ، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ عُمَرَ الحَلاّل، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الأَوَّلِ عليه السَّلام قالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) فَقَاَل"التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ دَرَجَاتٌ مِنْهَا أَنْ تَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا فَمَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ عَنْهُ رَ اضِياً تَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَأْلُوكَ خَيْرَاً وَفَضْلاً وَتَعْلَمُ أَنَّ الحُكْمَ فِي ذلِكَ لَهُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ بِتَفْويضِ ذلِكَ إِلَيْهِ وَثِقْ بِهِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه، ح 5.

[ 246 ]

الشرح:

"الحلاّل" بتشديد اللام: بائع الحِلّ، وهو دهن السمسم. وأبو الحسن الأول هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام. ويكنى أيضاً بأبي الحسن المطلق. وأبو الحسن الثاني هو الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، وأبو الحسن الثالث هو الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام.

و"التوكل" كما في اللغة، هو إظهار العجز والاعتماد على طرف آخر: واتكلت على فلان في أمر اعتمدته. وأصله: اوتكلت. و"حسبه"أي مُحْسِبُه وكافيه. و"يألوك": من ألا، يألو، ألواً. ويعني التقصير. وقد قال بعضهم: إذا عدّى هذا الفعل إ لى مفعولين تضمن معنى المنع، وهذا حسن، لأن المعنى يكون أسلس، وإن لم تكن ثَمَّة حاجة إلى ذلك، فمعنى التقصير وحده يكفي، كما يستفاد خلاف ذلك من "الصحاح" الذي جاء فيه: "ألا، يألو: أي قصّر. وفلان لا يألوك نصحاً". فيتبيّن من ذلك أن المعنى واحد حتى مع المفعولين.

و"التوكل" غير "التفويض"، وكلاهما غير"الرضا"وغير"الوثوق"كما سيأتي بيانه. وسوف نشرح في ما يلي ما يحتاج من الحديث الشريف إلى شرح.

فصل

في بيان معنى التوكل ودرجاته

اعلم إن للتوكل معاني متقاربة، ولكن بتعبيرات مختلفة، بحسب المسالك المختلفة، كما يقول صاحب"منازل السائرين": (التَّوَكُّلُ كِلَهُ الأمْرِ كُلهِ إِلَى مَالِكِهِ

[ 247 ]

وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وِكَالَتِهِ)(1). ويقـول بعض أصحاب العرفان:"التـَّوَكُّلُ طَرْحُ البَدَنِ فِي العُبُودِيَّةِ وَتَعَـلُّقُ القَلْبِ بِالرُّبُوبِيَّـةِ". وقال آخرون:"ا لتـَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ انْقِطَاعُ العَبْدِ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُلُهُ مِنَ المَخْلُوقِينَ".

وهكذا تجد هذه المعاني متقاربة، ولا حاجة للبحث في المفهوم. وكل ما يتطلب القول هو أن للتوكل درجات مختلفة بحسب اختلاف مقامات العباد. ولما كانت معرفة درجات التوكل مبنية على العلم بدرجة معرفة العباد بربوبية الحق جلّ جلاله، كان لا بُدَّ من الإشارة إلى ذلك.

فاعلم، أن أحد أصول معارف السالكين ومقاماتهم، التي لا تكون إلاّ به، هو العلم بربوبية الحق تعالى، ومالكيته وكيفية تصرف الذات المقدسة في الأمور. إننا لا ندخل هذا البحث من الناحية العلمية، لأن ذلك يتطلب التحقيق في "الجبر والتفويض" وذلك ما لا يتناسب مع هذه السطور. وإنما نقتصر على ذكر درجات الناس في معرفة ذلك.

وعليه، نقول أن الناس في معرفة الربوبية مختلفون متباينون إلى حدّ كبير: فالموحّدون عموماً يعرفون أن الحق تعالى هو خالق م بادئ الأمور، وكلّيات الجواهر، وعناصر الأشياء، ويرون بأنّ تصرفه محدود، ولا يقولون بإحاطته بالربوبية. فهؤلاء تراهم تارة يقولون: مقدِّر الأمور حق؟ وهو المتصرف في كل شيء، فما في كائن يكون إلاّ بإرادته المقدسة. ولكنهم ليسوا أصحاب هذا المقام، لا علماً، ولا إيماناً، ولا شهوداً، ولا وجداناً.

إن هذا الفريق من الناس ـ والظاهر أننا منهم ـ ليس لهم علم كامل بربوبية الله بل يكون توحيدهم ناقصاً، حيث حجبت عنهم ربوبية الحق وسلطنته لعللٍ وأسباب ظاهرة، وليس لهم مقام التوكل وهو ما يدور كلامنا عليه إلاّ لفظاً وادعاءً. لهذا، فإنهم في الأمور الدنيوية، لا يعتمدون على الحق سبحانه، بأيّ شكل من الأشكال، ولا يتشبثون إلا بالأسباب الظاهرية والمؤثرات الكونية. وإذا ما اتفق أحياناً أن توجهوا إلى الحق تعالى وطلبوا منه حاجة، أو رجوا منه رجـاء، فذلك من

ـــــــــــــــ

(1) "منازل السائرين" ـ التوكل.

[ 248 ]

 باب التقليد، أو من باب الاحتياط، ل أنه لا يرون في ذلك ضرراً عليهم، بل ربما يحتملون فيه الفائدة. وفي هذه الحال توجد رائحة التوكل. ولكنهم إذا رأوا الأسباب الظاهرة ملائمة ومطابقة لأهوائهم، غفلوا كليا عن الله تعالى وعن تصريفه للأمور. إن المقولة القائلة بأن التوكل لا يتنافى مع العمل والتكسب، صحيحة، بل هي مطابقة للبرهان وللنقل، ولكن الاحتجاب عن ربوبية الحق وتصريفه للأمور واعتبار الأسباب مستقلة، يتنافى والتوكل.

إن هؤلاء الذين لا يتمسكون حتى بأدنى درجات التوكل في أعمالهم الدنيوية، يتحدثون فيما يتعلق بالأمور الأخروية عن التوكل بزهو ومباهاة، وإذا ما ظهر منهم أيّ تهاون وضعف وكسل في العلم أو في تهذيب النفس والعبادات والطاعـات، وبادروا إلى إظهار اعتمادهم وتوكلهم على الحق تعالى وفضله. وكأنهم يريدون بمجرد تلفظهم بأن"الله عظيم"و"إننا متوكلون على فضل الله"أن ينالوا الدرجات الأخروية! فإنهم يقولون في الشؤون ال دنيوية: إن السعي والعمل لا يتنافيان مع التوكل على الله، وفي الأمور الأخروية يرون السعي والعمل ينافيان الاعتماد والتوكل عليه. وما هذا إلاّ من مكائد النفس والشيطان. فهؤلاء ليسوا متوكلين على الله، لا في الأمور الدنيوية ولا في الأمور الأخروية، ول هم يعتمدون عليه في أي أمر من الأمور. ولكنهم، لاهتمامهم بالأمور الدنيوية، تشبثون بالأسباب، دون الاعتماد على الحق تعالى وتصريفه للشؤون في العالم. وعلى العكس من ذلك، فهم، لعدم اهتمامهم بأمور الآخرة، وعدم إيمانهم إيماناً صادقاً بيوم المعاد وتفاصيله، ويصطنعون لذلك الأعذار. فمرة يقولون: "الله عظيم" ومرة يظهرون الاعتماد على الله وعلى شفاعة الشفعاء، مع أن هذا كله ليس سوى لقلقة لسان لا أساس لها من الحقيقة في شيء.

وثمّة فريق آخر من الناس اقتنعوا، إما بالبرهان وإما بالنقل، وصدّقوا بأن الحق تعالى هو مقدِّر الأمور، ومسبّب الأسباب، وا لمؤثر في الوجود، ولا حدود لقدرته وتصرّفه. هؤلاء يتوكلون على الله سبحانه عن طريق العقل، أي أن أركان التوكل تامة عندهم، بحسب الأدلة العقلية والنقلية ولهذا فهم يرون أنفسهم من المتوكلين، ويقيمون الدليل أيضاً على لزوم التوكل، لأنهم أثبتوا أركان التوكل، والتي هي أمور:

[ 249 ]

أن الحق تعالى عالمٌ بحاجات العباد.

أنه قادر على تلبية تلك الحاجات.

أنه ليس في ذاته المقدسة بخل.

أنه رحيم بالعباد و رءوف بهم.

وإذاً، يجب التوكل على عالم قدير كريم رحيم بالعباد، قائم بمصالحهم، لا يفوّت عليهم شيئاً فيها، حتى وإن لم يميزوا هم بين ما ينفعهم وما يضرهم. هؤلاء وإن كانوا من المتوكلين عملياً، إلاّ أنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان. فهم لهذا مضطربون في اتخاذ أمر من أمورهم، وعقولهم مغلوبة في الصراع مع قلوبهم، لأنها بالأسباب متعلقة، وعن تصرف الحق سبحانه في الأشياء محجوبة.

أما الطائفة الثالثة، ف هم الذين توصّلوا بقلوبهم إلى معرفة تصرّف الحق تعالى في الكائنات، فآمنت تلك القلوب بأن مقدّر الأمور، والسلطان ومالك الأشياء، هو الحق تعالى، وكتبوا بقلم العقل على ألواح القلوب أركان التوكل. هؤلاء هم أصحاب مقام التوكل. غير أن هؤلاء أيضاً يختلفون من حيث مراتب الإيمان ودرجاته اختلافاً كبيراً، قبل أن يصلوا إلى درجة الاطمئنان الكامل. وعند ذاك تظهر في قلوبهم درجة التوكل الكاملة، ولا تتعلق بالأسباب، بل تتشبث بمقام الربوبية، فتطمئن إليه وتعتمد عليه، كما وصف العارفُ المتقدم، التوكلَ قائلاً إنـه:"طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية". وكل ما قلناه يعود إلى ما إذا كان القلب في مقام الكثرة الأفعالية، وإلاّ فإنه يتجاوز مقام التوكل ويخرج عن المقصود.

إذاً، فقد اتضح أن للتوكل درجات. ولعل الدرجة التي تعرض لها الحديث الشريف هي توكل الطائفة الثانية. إذ أنه جعل العلم من م بادئه، وربما أشار أيضاً إلى درجات أخرى ذات اعتبارات مختلفة. إذ أن للتوكل درجات أخرى في تقسيمات مختلفة، مثلما هي الحال في درجات سلوك أصحاب العرفان والرياضات، حيث يصلون من مقام الكثرة إلى مقام الوحدة تدريجاً، فلا يحصل فناء أفعالي مطلق، دفعة واحدة، بل يشاهد أولاً في مقامه، ومن ثم في سائر الكائنات. فكذلك يحصل التوكل والرضا والتسليم وسائر المقامات بالتدرّج أيضاً.

[ 250 ]

وربما يبدأ أول الأمر بالتوكل على الأسباب الغائبة والخفية، ومن ثم يصل إلى مقام المطلق تدريجاً، سواء أكانت له أسباب ظاهرة جليّة، أم أسباب باطنة خفيّة، وسواء أكان ذلك في أعماله هو أم في أعمال أقربائه ومقرّبيه. ولذلك جاء في الحديث: "إِنَّ مِنْ دَرَجَاتِ التَوكّلِ أَن تَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أُمُورك".

فصل

في بيان الفرق بين "التوكل" و"الرضا"

اعلم أن مقام"الرضا"غير مقام"التوكل"، وهو أسمى منه وأرفع. وذلك لأن المتوكل يطلب الخير والصلاح لنفسه، فيوكل الحق تعالى، بصفته فاعل الخير، للحصول على الخير والصلاح. أما الشخص"الراضي"فيكون قد أفنى إرادته في إرادة الله، فلا يختار لنفسه شيئاً. ولقد سئل أهل السلوك:

"مَا تُرِيدُ؟". فـَقـَالَ:"أُرِيدُ أَنْ لا أُرِيدَ".

فمطلوبه هو مقام الرضا. أما ما جاء في الحديث الشريف:"فـَمـَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ عَنْهُ رَاضِياً"فإنه لا يعني مقام الرضا، ولذلك جاء بعد ذلك قوله:"تـَعـْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَأْلُوكَ خَيراً وَفَضلاً"، وكأنه صلّى الله عليه وآله وسلم أراد أن يوجد في السامع مقام التوكل، وذلك بوضع المقدمات، فقال أولاً:"تعلم أنه لا يألوك خيراً وفضلاً"ثم قال:"تعلم أن الحكم في ذلك له"طبيعي أن من يعلم أن الله تعالى قادر على كل شيء، وأنه لا يفوّت على نفسه خيره وفضله، فإن مقام التوكل يحصل له، وذلك لأن ركني التوكل الأساسيين قد ذكرهما، بينما الركنين أو الثلاثة الأخرى لوضوحهما. إذاً، تكون نتيجة المقدمات المذكورة المطوية والمعلومة هي أن ما يفعله الحق تعالى يبعث على الرضا والسرور. إذ أن فيه الخير والصلاح، وبذلك يحصل مقام التوكل. ولذلك فرّع عليه السلام في الحديث الشريف قوله: "فتوكل على الله".

فصل

في بيان الفرق بين "التفويض" و"التوكل" و"الثقة"

ثم اعلم أن"التفويض"أيضاً غير التوكل، وأن"الثقة"غيرهما. ولذلك فقد أشير إليهما في مقامات السالكين بصورة منفصلة.

[ 251 ]

يقول الخواجة عبد الله الأنصاري:"التَّفْويضُ ألْطَفُ إشَارةُ وَأَوْسَعُ مَعْنىً مِنَ التَّوَكُّلِ ثُمَّ قَالَ: التَّوَكُّلُ شُعْبَةٌ مِنْهُ". وذلك لأن التفويض هو أن لا يرى العبد في نفسه حولا ولا قوة، ولا يجد أن له التصرف في شيء، ويرى الحق تعالى هو المتصرف في كل الأمور. أما في التوكل فليس الأمر كذلك، لأن المتوكل يجعل الحق سبحانه قائماً مقامه في التصرف واجتلاب الخير والصلاح. وأما أن التفويض أوسع، لأن التوكل فرع منه، لأن التوكل يكون في المصالح والتفويض يكون في الأمور كافة.

ولأن التوكل لا يكون إلاّ بعد وقوع سبب يستوجبه، أي عند وجود أمر يتوكل فيه العبد على الله، مثل توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الله في أن يحفظهم من المشركين، حينما قيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(1). وأما التفويض فيكون قبل وقوع السبب، كما جاء في الدعاء المروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: "اللـَّهــُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيكَ"(2) وقد يكون بعد وقوع السبب، مثل تمثيل مؤمن آل فرعون.

إن ما ذكرناه يكون حاصل ترجمة شرح العارف المعروف"عبد الرزاق الكاشاني"للتوكل والتفويض مأخوذاً من كلام العارف الكامل"الخواجة عبد الله"مع شيء من الاختصار وفي كلام الخواجة ما يدل على ذلك. ولكن في اعتبار التوكل شعبة من التفويض يستدعي النظر.

كما أن في جعل التفويض من التوكل مسامحة واضحة. وكذلك ليس ثَمّة دليل على أن التوكل يقع بعد وقوع السبب. إذ في كِلتا الحالتين قبل وبعد وقوع السبب يصحّ معنى التوكل. أما الحديث الشريف الذي يقول:"فـَتـَوَكَّل عَلَى اللهِ بِتَفْوِيضِ ذلِكَ إِلَيْهِ"فيمكن القول بأنه لا توكل إلاّ مع رؤية تصرفه بنفسـه، ولهذا يتخذ لنفسه وكيلا في أمر من أمور الخاصة به. إلاّ أن الرسول الأكرم أراد أن يرفع ذلك من مقام التوكل إلى مقام التفويض، وليفهمه أن الحق تعالى لا يقوم مقامك في

ـــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران، آية:173

(2) كتاب من لا يحضره الفقيه، ح 1351.

[ 252 ]

التصرف، بل هو المتصرف في ملكه ومملكته. وقد نبّه على ذلك الخواجة نفسه في "منازل السائلين" بشأن الدرجة الثالثة من درجات التوكل.

وأما "الثقة" فهي غير "التوكل" و"التفويض"، كما يقول الخواجة: "الثـِقـَةُ سَوَادُ عَيْنِ التَوَكُّلِ، وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ، وَسُوَيْداءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ".

أي أن المقامات الثلاثة لا تحصل من دون"ثقة"، بل إن روح تلك المقامات هي الثقة بالله تعالى. فما لم يثق العبد بالحق تعالى، لا يمكن أن ينالها.

فتبين السرّ في قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بعد التوكل والتفويض، "ثـِقْ بِهِ فِيْهَا وفِي غَيْرِهَا".

[ 253 ]

الحديث الرَابع عشَر

"الخوف والرَّجاء"

[ 255 ]

بِسَنَدِي المُتَّصِلِ إلى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، ثِقَةِ الإِسْلاَم وَعِمَادِ المُسْلِمِينَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغَيرَةِ أَوْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ عليه السَّلام قالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ؟ قالَ:"كَانَ فِيهَا الأَعَاجِيبُ وَكَانَ أَعْجَبَ مَا كَانَ فِيهَا أَنْ قَالَ لابْنِهِ: خَفِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خيفةً لَوْ جِئْتَهُ بِبِرِّ الثِّقَلَيْنِ لَعَذَّبَكَ، وَارْجُ اللَّهَ رَجاءً لَوْ جِئْتَهُ بِذُنُوبِ الثِّقَلَيْنِ لَرَحِمَكَ. ثُمَّ قَالَ أبو عَبْدِ اللَّهِ ـ عَليه السّلام ـ كان أبِي يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلاّ وَفِي قَلْبِه نُورَانِ نُورُ خَيفَةٍ وَ نُورُ رَجَاءً، لَوْ وُزِنَ هذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هذَا وَلَوْ وُزِنَ هذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هذَا"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، ح 1.

[ 256 ]

يقول "الجوهري" في الصحاح: "أعاجيب" كأنهم أرادوا جمع "أُعْجُوبَة" مثل أحدوثة وأحاديث. وقال: إن "الأعْجُوبة" هي ما يكون حسنة أو قبحه مثيراً للتعجب. ويكون المقصود في هذا الحديث هو المعنى الأول وكأنّ اللفظ في الأصل مختص بما يثير حسنه العجب، وإن استعملت تطفلاً في الأعم.

"والبِّرُّ" خلاف "العقوق" و"فـُلان يَبِرّ خَالقَه" يعني أنه يطيعه، كما يقوله الجوهري. و"الثقلان"هما الجن والإنس. ويدل هذا ( الحديث الشريف ) على أن كلاً من الخوف والرجاء يجب أن يصل إلى مرتبة الكمال، ولا يجوز اليأس من رحمة الله تعالى أبداً، ولا الأمان من مكره مطلقاً. فهناك الكثير من الأحاديث التي تؤكد ذلك، كما ينص القرآن الكريم على ذلك أيضاً. ثم يجب ألاّ يرجح أحدهما على الآخر. وسوف نقوم، بشرح ذلك وبيان المواضيع الأخرى من الحديث ـ إن شاء الله ـ ضمن فصول عديدة.

فصل

في بيان الإنسان العارف

اعلم، أن للإِنسان العارف بالحقائق والمطلع على النسبة بين الممكن والواجب جلّ وعلا نظرتين: الأولى: نظرته إلى نقصه الذاتي وإلى نقص جميع الممكنات وانحطاط الكائنات فهو يدرك في هذه النظرة، عيناً أو علماً، أن الممكن غارق بكلّيته في الذل والنقص وفي بحر ظلام الإِمكان والفقر والاحتياج أزلاً وأبداً،

[ 257 ]

وأنه لا يملك بذاته شيئاً إطلاقاً،وهو محض لا شيء، ومجرد ضعة، ونقص مطلق، بل إن هذه التعبيرات نفسها لا تصدق عليه حقيقة وإنما هي من ضيق أفق التعبير والكلام، وإلاّ فإن النقص والحاجة من سمات الشيئية، وليس لجميع الممكنات والخلائق كافة، شيئية بذواتها. وهو في هذه النظرة، لو تقدم إلى أعتاب الربوبية بكل العبادات والطاعات والعلوم والمعارف، فلن يكون أمامه سوى أن يطأطأ رأسه خَجَلاً وذلاً وخوفاً، فما هذه العبادة والطاعة؟ ممن؟ ولمن؟ إن كل المحامد تعود إليه تعالى، وليس للممكن أي تصرف فيه، بل إن تصرف الممكن يبعث على نقص في إظهار محامد الله والثناء عليه. وهذا ما سألوي عنه عنان القلم، ففي هذا المقام يقول عزَّ وجلّ:(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ...)(1). كما يقول في المقام الأول (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(2).

يقول الشاعر في هذا المقام:

قال مُرشدنا: أن قلم الصانع لم يخطأ.......... . ( فإن الأخطاء منّا ).

بُوركت نظرته السديدة الساترة للعيوب...... وهي: ( قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

إن قول المرشد ( الشطر الأول ) راجع إلى المقام الثاني ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمـِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ). وأما ( الشطر الثاني من الشعر ) فيعود إلى المقام الأول ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) وفي هذا المقام يستولي على الإنسان الخوف والحزن والخجل والخزي.

والنظرة الأخرى نظرته إلى الكمال الواجب، وبسط رحمته، وسعة لطفه تعالى وعنايته. فهو يرى أنه سبحانه قد بسط هذه النِعم والرحمات المتنوعة، التي لا يمكن الإحاطة بها ولا حصرها وتحديدها، من دون استعداد وتهيأ مسبق لها. وإنه قد فتح أبواب لطفه وعفوه على العباد دون استحقاق. فنعمه مبتدءة لا يسبقها سؤال.

كما أشار إلى ذلك حضرة الإمام زين العابدين وسيد الساجدين كثيراً في أدعية الصحيفة وغيرها، فيقوى رجاؤه برحمة الحق تعالى ويزداد أمله، بالكريم

ـــــــــــــــ

(1) سورة، النساء، آية: 79.

(2) سورة النساء، آية: 78.

[ 258 ]

الذي لا يسبغ كرمه إلاّ من باب الرحمة واللطف، وبمالك الملوك الذي يفيض علينا بنعمه من دون سؤال أو استعداد. تلك النعم التي تعجز العقول عن إدراك بعضها وتقصر. والمالك الذي لا تنقص من ملكه الواسع معصية العاصين، ولا تزيده طاعة المطيعين، بل إن هداية ذاته المقدسة لنا إلى طرق الطاعات، ومنعه إيّانا عن العصيان، إنما هو من عناياته الكريمة ونعمه وآلائه، لأجل وصولنا إلى مقامات الكمال ومدارجه الرفيعة، وللتنزه عن النقص والقبح والتشوه.

فإذا جثونا عند أعتاب رحمته وعنايته، لوجب أن نقول: اللهم إنك إذ ألبستنا لباس الوجود، ووهبتنا كل أسباب الحياة والرفاه بما يفوق إدراك المدركين، وأريتنا طرق الهداية، وأسبغت علينا من نعمك، إنما كان ذلك لمصلحتنا لننعم بأفضالك ونعمك. وها نحن وفدنا إلى دار كرامتك، وعلى أعتاب سلطنتك، مثقلين بذنوب الثقلين، مع أن ذنوب المذنبين لم تنقص من خزائن رحمتك، ولم تخلّ خطاياهم بمملكتك. فماذا أنت صانع بقبضة تراب لا تساوي شيئاً عند أعتاب عظمتك سوى أن تشملها برحمتك وعنايتك؟ أيمكن أن نأمل غير الرحمة من لطفك؟

فعلى الإنسان، إذاً، أن يتردد بين هاتين النظرتين. فلا هو يغمض عينيه عمّا فيه من نقص وقصور في القيام بالعبودية، ولا هو ينسى سعة رحمة الحق جلّ جلاله وعنايته وشموليتهما.

فصل

في بيان مراتب الخوف ودرجاته

اعلم أيها العزيز، أن للخوف والرجاء مراتب ودرجات حسب حالات العباد ومراتب معرفتهم. فخوف العامة يكون من العذاب وخوف الخاصة يكون من العتاب، وخوف أخص الخاصة يكون من الاحتجاب. ولكننا لسنا الآن بصدد شرح ذلك، وإنما سنشير إلى الموضوع السابق ببيان آخر.

فاعلم أن ليس أحد من المخلوقات بقادرٍ على عبادة الحق تعالى حق عبادته. لأن العبادة هي الثناء على مقام ذات الله المقدسة، وثناء كل شخص فرغ

[ 259 ]

معرفته بمن يُثني عليه. ولمّا كانت يد أرجاء العباد، في الحقيقة قصيرة، عن عِزَّ جلال معرفة ذاته المتعال، فهم إذاً ليسوا قادرين بالثناء على جماله وجلاله. وقد اعترف بذلك أشرف الخلائق وأعرف الكائنات بمقام الربوبية:

"مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَمَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ"(1) حيث الجملة الثانية هي بمثابة التعليل للجملة الأولى، إذ قال:

"أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"(2).

إذاً، فالقصور الذاتي من حق الممكن، والعلو الذاتي خاص بذات كبرياء الله جلّ جلاله. ولمّا كان العباد قاصرين عن الثناء على الله تعالى وعن عبادة ذاته المقدسة. ومن دون معرفة الحق سبحانه وعبوديته لا يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكمالية والمدارج الأخروية، كما هو ثابت ومبرهن عليه عند علماء الآخرة في محله، ولكن العامة غافلون عن ذلك، ويحسبون المدارج الأخروية جزافاً أو شبيهة بالجزاف ـ تعالى الله عن ذلك عـُلواً كبيراً ـ لمّا كان كذلك فقد فتح الله تعالى بلطفه الشامل ورحمته الواسعة باباً من الرحمة والرعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبية والإلهام، وبوساطة الملائكة والأنبياء. ذلكم هو باب العبادة والمعرفة. فعلّم العباد طرق عبادته، وفتح لهم سبيلاً إلى المعارف لكي يخففوا من نقائصهم قدر الإمكان، ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة، ويهتدوا بأشعة نور العبودية للوصول إلى عالم كرامة الحق، وإلى الروح والريحان وجنات النعيم، بل إلى رضوان الله الأكبر.

إذاً، ففتح باب العبادة والعبودية من النِعم الكبرى التي تدين لها الكائنات كافة، دون أن تستطيع الوفاء بحق الشكر، بل إن كل شكر هو فتح باب كرامة لا تقدر على شكره أيضاً. فإذا علم الإنسان مشربه هذا، واطّلع قلبه عليه، اعترف بتقصيره. وحتى لو أنه تقدم إلى أعتاب الله جلّ جلاله بعبادة الجن والإِنس والملائكة المقربين، لكان مع ذلك خائفاً ومقصراً. وكذلك إن عباد الله العارفين وأولياءه المختصين به الذين فتح لهم باباً من سرّ القَدر، واستنارت قلوبهم بنور

ـــــــــــــــ

(1) "سفينة البحار"ج 2 ص 180 وما بعدها.

(2) "سفينة البحار" ج 2 ص 181 وما بعدها.

[ 260 ]

المعرفة، لارتجفت قلوبهم من الخوف، ونفوسهم من الخشية، بحيث لو اتجهت إليهم الكمالات كلها، وأعطوا مفاتيح المعارف كلها، وأُترعت قلوبهم بالتجلّيات، لما قلّ من خوفهم قدر ذرة، ولا من خشيتهم قدر شعرة، كما يقول أحدهم: الناس تخاف النهاية وأنا أخاف البداية. سُبْحَان الله وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، أعوذ بالله تعالى. يعلم الله يجب أن يتقطع قلب الإنسان من هذا الكلام، ويذوب خوفاً، ويهيم على وجهه في البراري فإلى أيّ حدّ يكون الإنسان غافلاً؟

ثم أنه سبق منا في شرح أحد الأحاديث السابقة وقلنا بأننا في كل عبادتنا وطاعتنا إنّما نريد مصالحنا الخاصة، ودافِعُنا إليها هو حبّ النفس. وما الزهد في الدنيا في الحقيقة إلاّ من أجل الآخرة. وهو أشبه بالزهد في الدنيا من أجل الدنيا عند الأحرار. فلو ذهبنا بعبادة الثقلين إلى محضر قدسه الربوبي، لما كان استحقاقنا سوى البعد عن ساحته المقدسة. لقد دعانا الحق تبارك وتعالى إلى مقام قربه وأُنسه. قال: "وَخَلَقْتُكَ لأَجْلِي" وجعل غاية الخلق معرفته، وهدانا إلى طرق المعارف والعبودية، ولكننا مع هذا لم نشغل أنفسنا إلاّ بتعمير البطن والفرج، ولا همَّ لنا سوى الأنانية وحب الذات.

فيا أيها الإِنسان المسكين، الذي لم تجنِ من عبادتك ومناسكك إلاّ البعد عن ساحة الله المقدسة، والاستحقاق للعتاب والعقاب، علامَ اعتمادك؟ ولماذا لا يقلقك ولا يزعجك الخوف من شدة بأس الحق؟ أعندك متكأ تتكئ عليه؟ أتثق بعملك وتطمئن إليه؟ إذا كان الأمر كذلك فالويل لك من معرفتك بحالك وحال مالك الملوك! وإذا كان اعتمادك على فضل الحق وسعة رحمته وشمول عناية ذاته المقدس، لكان ذلك في محلّه جدّاً. لقد اعتمدت على أمر وثيق، ولجأت إلى أوثق ملجأ.

إلهي، وربي! إن أيدينا عن كل شيء قاصرة، ونحن عارفون بأننا ناقصون وتافهون، ولا نملك ما يليق بأعتاب قدسك. كلنا نقص وعيب. ظاهرنا وباطننا ملوث بالمهالك والموبقات. فمن نحن حتى نرجو القدرة على الثناء عليك، فيما يعترف الولي من أوليائك قائلاً:"أَفَبِلِسَانِي الكالّ هذَا أَشْكُرُكَ!"مقراً بعجزه وقصوره، فكيف بنا نحن أهل المعصية المحجوبين عن ساحة كبريائك؟ ما عسانا نقول سوى

[ 261 ]

أن نحرك ألسنتنا قائلين: إن رجائنا موكول إلى رحمتك، وأن أملنا وثقتنا بفضلك ومغفرتك وجودك وكرمك، كما على ألسنة أوليائك.

في الكافي، بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:"قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم: قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (لاَ يَتَّكِلُ العَامِلُونَ لِي عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَها لِثَوابِي، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَهَدُوا وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ ـ أعمارَهُمْ ـ في عِبَادَتِي كَانُوا مُقَصِّرِينَ غَيْرَ بالِغَينَ فِي عِبَادَتِهِمْ كُنْهَ عِبَادَتِي فِيمَا يَطْلُبُونَ عِنْدِي مِنْ كَرَامَتِي وَالنَّعِيمِ فِي جَنّاتِي وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ العُلَى فِي جِوارِي، وَلكِنْ بِرَحْمَتِي فَلْيَثِقُوا، وَفَضْلِي فَلْيَرْجُوا، وَإِلَى حُسْنِ الظَّنِ بِي فَلْيَطْمَئِنُّوا، فَإِنَّ رَحْمَتِي عِنْدَ ذلِكَ تُدْرِكُهُمْ، وَمِنّي يُبْلِّغُهُمْ رِضْوانِي، وَمَغْفِرَتِي تُلْبِسُهُمْ عَفْوي، فَإِنِّي أَنَا الله الرّحْمنُ الرَّحيمُ، وَبِذلِكَ تَسَمّيْتُ)(1).

ومن أسباب الخوف أيضاً التفكر في شدة بأس الله تعالى، وفي دقة سلوك طريق الآخرة، والأخطار التي تحيط بالإنسان في حياته وعند موته، وشاقّ البرزخ، ويوم القيامة، ومناقشــات الحساب والميزان، مع ملاحظة الآيات والأخبار التي تنبئ عمّا وعد الله تعالى عباده، مما يُحيـى كامل الأمل والرجاء.

لقد جاء في الأحاديث، أن الحق تعالى يبسط يوم القيامة بساط رحمته بصورة يطمع حتى الشيطان بالمغفرة منه. وأن الحق سبحانه لم ينظر إلى هذا العالم منذ تكوينه وخلقه، نظرة لطف كما ورد في الرواية وأنه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذا العالم رحمته إلاَّ بمقدار ذرة بالنسبـة إلى العوالم الأخرى، هذه الذرة قد بعثت على إحاطة النِعم الإلهية، وألطافه ورحمته وغفرانه، بالجميع من جميع جوانبهم، وأن الظاهر من النعم والباطن منها تعتبر مائدة نِعم الله تبارك وتعالى وعطاياه التي لا يقدر العالم برمّته على الإِحاطة بجزء منها، فكيف إذاً بنعمه سبحانه في عالم هو عالم كرامته، ودار ضيافته، وموضع رحمته، حيث يبسط رحيميته ورحمانيته؟ فيحقّ للشيطان أن يطمع في نيل رحمة الله، ويرجو عطيته! إذاً، فأكمل حسن ظنك بالله وثق بفضله (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)(2) . فالله يغرق الجميع في بحر جوده وكرمه، والله لا يخلف وعده، وإن كان الخلف في الوعيد مكن، كثيراً ما يقع

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الظن بالله، ح 1.

(2) سورة الزمر، آية: 53.

[ 262 ]

[263] فعلاً. فليستبشر قلبك برحمته التامة. ولولا شمولك برحمته الواسعة لما كنت قد خلقت، فكل مخلوق مرحوم: (وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ)(1).

فصل

في الفرق بين الرجاء والغرور

ولكن أيها العزيز كن على حذر، لئلا تخلط بين الرجاء والغرور. فقد تكون مغتراً وتحسب نفسك من أهل الرجاء. إن من السهل التمييز بين الحالين في مباديهما. أنظر إلى هذه الحال التي فيك والتي تظن نفسك بها بأنّك من أهل الرجاء. فهي إمّا أن تكون ناشئة من التهاون في أوامر الحق سبحانه والتقليل منها، وإمّا أن تكون ناجمة عن الاعتقاد بسعة رحمة الله وعظمة ذاته المقدسة. وإذا عسر عليك التمييز بينهما أيضاً، أمكنك التمييز من خلال الآثار. فإذا كان الإحساس بعظمة الله في القلب، وكان قلب المؤمن محاطاً برحمة ذاته المقدسة وعطاياه، لقام القلب بواجب العبودية والطاعة. لأن تعظيم العظيم المُنعم وعبادته من الأمور الفطرية التي لا خلاف فيها.

وإذا لم تكن في أداء واجبات العبودية، وفي بذل الجُهد والجدّ في الطاعة والعبادة، معتمداً على أعمالك، ولم تحسب لها حساباً، وكنت آملاً رحمة الله وفضله وعطائه، ووجدت نفسك مستحقاً للّوم والذم والسخط والغضب بسبب أعمالك، ولم تعتمد إلاّ على رحمة الجواد المطلق، فأنت من أهل الرجاء. فاشكر الله تبارك وتعالى، واطلب من ذاته المقدسة أن يثبّت ذلك في قلبك، ويمنحك أعلى منه مقاماً.

أما إذا كنت ـ لا سمح الله ـ متهاوناً في أوامر الحق تعالى ومستحقراً ومستهيناً لتعاليمه، فاعلم أنه الغرور الحاصل في قلبك وأنه من مكائد الشيطان، ومن نفسك الأمّارة بالسوء. فلو آمنت بسعة الله ورحمته وعظمته. لظهر أثر ذلك فيك. إن

ـــــــــــــــ

(1) مقتبس من آية 156 في سورة الأعراف.

[ 263 ]

المدعي الذي يخالف عمله دعواه يكذب نفسه بنفسه. والشواهد على هذا في الأحاديث المعتبرة كثيرة.

ففي الكافي بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ عليه السّلام قالَ: "قُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالمَعَاصِي وَيَقولُونَ نَرْجُو فَلاَ يَزَالونَ كَذلِكَ حَتّى يَأْتِيَهُمُ المَوْتُ. فقَالَ: هؤُلاَءِ قَوْمٌ يَتَرَجَّحُونَ فِي الأَمَانِي. كَذَّبُوا لَيْسُوا بِرَاجِينَ، إِنَّ مَنْ رَجَا شَيْئاً طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ"(1) .

وبهذا المضمون رواية أخرى في كتاب الكافي الشريف:

وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي سَارَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْداللَّهِ عليه السّلام يَقُولُ: لاَ يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِناً َحَتّى يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً وَلاَ يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً حَتّى يَكُونَ عَامِلاً لِمَا يَخَافُ وَيَرْجُو"(2).

قال بعضهم: إنّ مَثَلَ من لا يعمل وينتظر رحمة ربه ويرجو رضوانه مَثَلُ من يرجو المسبِّب دون أن يُعِدَّ الأسباب، وَمَثَلُ الفلاّح الذي ينتظر الزرع من دون أن يبذر الأرض أو يهتم بها وبإروائها أو يقضي على موانع الزرع. إن مثل هذا الانتظار لا يسمى بالرجاء، بل هو بله وحماقة. وإن مَثَلُ من لم يُصلح أخلاقه أو لم يبتعد عن المعاضي فينهض بأعمال راجياً تزكية نفسه، مَثَلُ من يودع البذر في أراضي سبخة، ومن الواضح أن هذا الزرع لا يثمر النتيجة المتوخاة.

فالرجاء المستحسن والمحبوب هو تهيأة كافة الأسباب التي يمتلكها الإنسان كما أمر الله بها واستغلالها حسب القدرة التي زوده بها الحق المتعال بعنايته الكاملة، وحسب هدايته ـ عز وجل ـ إياه إلى طرق الصلاح والفساد، ثم ينتظر ويرجو الحق المتعال أن يتمّ عنايته السابقة تجاه الأسباب التي وفّرها من قبل، ويحقق الأسباب التي لا تدخل تحت إرادته واختياره من بعد، ويزيل الموانع والمفاسد.

فإذا نظف العبد قلبه من أشواك الأخلاق الفاسدة وأحجار الموبقات

ـــــــــــــــ

(1) و(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء ح 5 و ح 11.

[ 264 ]

وسباختها، وبذر فيها بذور الأعمال، وسقاها بماء العلم الصافي النافع والإيمان الخالص، وخلصها من المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وأمثالها التي تعد بمثابة الأعشاب الضارة العائقة لنمو الزرع، ثم انتظر ربه المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحق، ويجعل عاقبة أمره إلى خير، كان هذا الرجاء مستحسناً. كما يقول الحق المتعالي:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ)(1).

فصل

في سبب تعادل الخوف والرجاء

ورد في نهاية هذا الحديث الشريف ـ الحديث الرابع عشر ـ أنه لا بد من تعادل الخوف والرجاء وعدم تفوق أحدهما على الآخر، كما ورد هذا المضمون في مرسلة ابن أبي عمير عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً.

إن الإنسان عندما يدرك منتهى قصوره في النهوض بالعبودية، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة، يتولد فيه الخوف بأعلى درجة، وعندما يجد ذنوبه ويفكر في أناس كانت عاقبة أمرهم الموت من دون إيمان وعمل صالح، رغم حسن أحوالهم في بدء الأمر ولكنهم انتهوا إلى سوء العاقبة، يشتدّ فيه الخوف. ففي الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام:

قال: "المُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبِ قَدْ مَضَى لاَ يَدْرِي مَا صَنَعَ اللَّهُ فِيهِ وَعُمْرٍ قَدْ بَقِيَ لاَ يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ مِنَ المَهَالِكِ فَهُوَ لاَ يُصْبحُ إلاّ خَائِفاً وَلاَ يُصْلِحُهُ إلاّ الخَوْفُ"(2).

ونقل الكافي في حديث آخر عن الإمام ـ عليه السلام ـ خطبة عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بهذا المضمون.

وعلى أي حال يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحق في منتهى العظمة والجلال، وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، آية: 218.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء ح 5 و ح 11.

[ 265 ]

النظرتين دائماً في حال متوازية بين الخوف والرجاء. وحيث أن الأسماء الجلالية والجمالية تتجليان في قلب السالك متعادلة لا يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر.

وقال (1) بعض أن الخوف في بعض الأحيان أنفع للإنسان مثل أيام الصحة والعافية، حتى يجهد الإنسان نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح. وفي بعض الأحيان الرجاء أفضل مثل أيام ظهور علامات الموت، حتى يلاقي الإنسان الحق المتعالي مع حال مفضلة أكثر عنده سبحانه ـ .

ولكن هذا الكلام لا يتطابق مع الكلمات السابقة والأحاديث المذكورة، لأن الرجاء المحبوب يدفع الإنسان أيضاً نحو العمل واكتساب الآخرة، والخوف من الحق سبحانه محبوب لديه ـ عز وجل ـ ولا يتنافى مع الرجاء المؤكد.

وقال بعضهم (2) أن الخوف لا يعتبر من الفضائل النفسية والكمالات العقلية في عالم الآخرة وإنما يعدّ من الأمور النافعة في دار الدنيا التي هي دار العمل، حيث يحرص الإنسان على فعل العبادات وترك المعاصي وينتهي دوره بعد الخروج من هذه الدنيا. في حين أن الرجاء لا ينقطع ويستمر حتى في عالم الآخرة. لأن العبد كلما نال رحمة الله أكثر، ازداد طعمه نحو فضل الحق المتعالي أكثر، لأن خزائن رحمة الحق الجليل لا تتناهى. فالخوف ينقطع بالموت ويبقى الرجاء حتى إلى ما بعد الموت.

يقول (3) المحدث المحقق المجلسي ـ رحمه الله تعالى ـ "والحق أن العبد ما دام في دار التكليف لا بد له من الخوف والرجاء وبعد مشاهدة أمور الآخرة يغلب عليه أحدهما لا محالة بحسب ما يشاهده من أحوالها".

يقول الكاتب: إن ما قيل من غلبة الخوف والرجاء في عالم الآخرة، لا يتلاءم مع ما ذكر من معنى الرجاء. وعلى فرض صحة الكلام المذكور فهو صحيح بالنسبة إلى المتوسطين حيث يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين إلى الثواب والعقاب.

ـــــــــــــــ

(1) و(2) و(3) بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص355.

[ 266 ]

وأما حال الخواصّ والأولياء فيختلف المر عما ذكروا، لأن الخوف والرجاء الناجمان عن مشاهدة عظمة وجلال وتجلّي أسماء اللطف والجمال، والحاصلان في القلب لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة. ولا يترجح أحدهما على الآخر، بل إن آثار الجلال والعظمة وتجليات الجمال واللطف في عالم الآخرة أكثر، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية، ولا يتنافى هذا مع الآية الكريمة (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(1). كما يتبين ذلك بالتمعن في الآية المباركة. وما نقل ـ قبل  أسطر ـ من أن الخوف ليس بفضيلة نفسية، ليس هو الخوف من الجلال والعظمة، لأن مثل هذا الخوف يكون كمالاً ومن صفات الكاملين والمكملين. كما أن خوف غيرهم يكون أكثر. والحمد لله على جماله وجلاله والصَلاة على محمّد وآله.

ـــــــــــــــ

(1) سورة يونس، آية: 62.

[ 267 ]

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست