.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 
 

 

الحَـديث السَادِس

"من أصبح وأمسى والدنيا أو الآخِرة أكـبر همـّه"

[ 143 ]

بالسند المتَّصل إلى محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عبدالله بن س نان وعبدالعزيز العبدي، عن عبدالله بن أبي يعفور، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "مَنْ أَصْبَحَ وأَمْسى وَالدُّنْـيَا أَكْبَرُ هَمَّه، جَعَلَ اللَّهُ الفَقْـرَ بَيْنَ عَينَيْهِ وَشَتَّتَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إلاّ مَـا قُسِمَ لَهُ وَمَنْ أَصْبَحَ وَأمْسَى وَالآخِـرَةُ أَكْبَرُ هَمَّه، جَعَلَ اللَّهُ الغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 15.

[ 144 ]

الشرح:

اعلمِ أن للدنيا والآخرة اطلاقات حسب آراء أرباب العلوم ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء المصطلحات العلمية بمهمة لدينا، فإن بذل الجهد في فهم الاصطلاحات والرد والقبول والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد.

وإنما المهم في هذا الباب هم فهم الدنياالمذمومة التي على طالب الآخرة أن يتحرز منها. وما يعين الإنسان على النجاة، وسوف نبين ذلك إنشاء الله في بضعة فصول، ونسأل الـلّه تعالى التوفيق في سلوك هذا الطريق.

فصل

في بيان كلام مولانا المجلسي ـ رحمة اللّه عليه ـ في حقيقة الدنيا المذمومة

يقول المحقق الخبير والمحدث المنقطع النظير مولانا المجلسي رحمة اللّه عليه:

( فاعلم أن الذي يظهر من مجموع الآيات والأخبار على ما نفهمه أن الدنيا المذمومة مركبة من مجموع أمور تمنع الإنسان من طاعة الـلّه وحبه وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة، ضرّتان متقابلتان فكلما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان بحسب الظاهر من أعمال الدنيا كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لأمره تعالى به وصرفها

[ 145 ]

في وجوه البر، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك، فإن هذه كل ها من أعمال الآخرة وإن كان عامة الخلق يعدونها من الدنيا.

والرياضات المبتدعة والأعمال الريائية، وإن كان مع الترهب وأنواع المشقة فإنها من الدنيا لأنها مما يبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه كأعمال الكفار والمخالفين ) انتهى كلامه (1).

ونقل المجلسي ـ رحمه اللّه ـ عن أحد المحققين:

"دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يسمى الدنيا وهي كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكل مالك فيه حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذ ة في عاجل قبل الوفاة، فهي الدنيا في حقك..."(2).

يقول الفقير إلى الله: إن الدنيا مرة تطلق على نشأة الوجود النازلة والتي هي دار تصرّم وتغيّر ومجاز، والآخرة تطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان وباطنه والتي ه دار بقاء وخلود وقرار. وهاتان النشأتان متحققتان لكل نفس من النفوس وشخص من الأشخاص. وعلى العموم، لكل كائن مقام ظهور وملك وشهود. وتلك هي مرتبته النازلة الدنيوية. ومقام باطني، وملكوت غيبي، وهي النشأة الصاعدة الأخروية. وهذه النشأة النازلة الدنيوية وإن كانت ناقصة بذاتها وإنها آخر مراتب الوجود، ولكن لما كانت مهد تربية النفوس القدسية، ودار تحصيل المقامات العالية، ومزرعة الآخرة، فإنها من أحسن مشاهد الوجود وأعز النشآت، وهي المغنم الأفضل عند الأولياء وأهل سلوك الآخرة. ولولا هذه الأمور الملكيّة والتغييرات والحركات الجوهرية، الطبيعية والإرادية، ولولا أن يسلط الـلّه تعالى على هذه النشأة التبدّلات والتصرّمات، لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حد كماله الموعود ودار قراره وثباته، ولحصل النقص الكلي في الملك والملكوت.

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 63.

(2) بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 25.

[ 146 ]

إن ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذم هذه الد نيا، لا يكون عائدا في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجه نحوها وانشداد القلب بها ومحبتها.

وعليه، يتبين من ذلك أن أمام الإنسان دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة وهي دار التربية ودار التحصيل ومحل التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة، مما لا يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى هذه الدنيا، كما جاء في خطبة لمولى الموحدين أمير المؤمنين علي عليه السلام ردا على من ذم الدنيا:

".. إنّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَها، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنْ اتّعـَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أحِبّاءِ اللّهِ، وَمُصَلّى مَلائِكَةِ اللَّهِ، وَمَهْبـَطُ وَحْي اللَّهِ، وَمَتْجَرُ أوْلِيَاءِ اللَّهِ. اكْتَسَبُوا فِهَا الَّحْمَةَ، وَرَبَحُوا فِيهَا الجَنَّةَ ..."(1).

وقال تعالى: (... وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)(2). وهي دار الدنيا حسب ما ورد في تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر عليه السلام. وعليه، فإن عالم الملك، وهو مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة، ليس مذموماً بهذا المعنى، بل المذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجه إليها والتعلق بها وحبها، وهذا هو منشأ كلّ المفاسد والخطايا القلبية والظاهرية. كما جاء في كتاب الكافي الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: قال عليه السلام: "رَأْسُ كُلّ خَطِيئَةٍ حُبُّ الدُّنْيَا"(3). وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "مَا ذِئْـبَانِ ضَارِيَان فِي غَنَمٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ هذا في أَوَّلِهَا وَهذا في آخِرِ هَا بِأَسْرَعَ فِيهَا مِنْ حُبِّ الـمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دينِ المُؤْمِنِ"(4). فتعلق القلب بالدنيا وحبها، هو الدنيا المذمومة. وكلما كان التعلق بها أشد كان الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة، والحاجز بين القلب والحق سبحانه،

ـــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، الحكمة رقم 131 ( الشيخ صبحي الصالح ).

(2) سورة النمل، آية: 30.

(3) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح1 و 3.

(4) نهج البلاغة  ـ الخطبة 5 ـ ( الشيخ صبحي الصالح ).

[ 147 ]

أسمك وأغلظ. وإن ما جاء في الأحاديث الشريفة من أن لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة، يمكن أن يكون المقصود من حجب الظلمة هذه الميول والتعلقات القلبية نحو الدنيا. فكلما كان التعلق بالدنيا أقوى، كان عدد الحجب أكثر، وكلما كان الحب لها أشد، كان الحجب أغلظ واختراقها أصعب.

فصل

في بيان سبب ازدياد حب الدنيا

اعلم أنه ولما كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي أمه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإن حب الدنيا يكون مغروساً في قلبه منذ مطلع نشوئه ونموه، وكلما كبر في العمر، كبر هذا الحب في قبه ونما. وبما وهبه الـلّه من القوى الشهوانية ووسائل التلذذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية، يزداد حبه ويقوى تعلقه، ويظن أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك ا للذات، وحتى لو كان يعرف من أدلة الحكماء أو أخبار الأنبياء صلوات اللّه عليهم أن هناك عالماً أخروياً فإن قلبه يبقى غافلاً عن كيفية عالم الآخرة وحالاته وكمالاته ولا يتقبله، فضلاً عن بلوغه مقام الاطمئنان. ولهذا يزداد حبّه وتعلقه بهذه الدنيا.

وبما أن حب البقاء فِطري في الإنسان، فهو يكره الزوال والفناء، ويظن أن الموت، فناء. ولو أنه آمن بعقله بأن هذه الدنيا دار فناء ودار ممر، وأن العالم الآخر عالم بقاء سرمدي، فما دام إيمانه العقلي هذا يكون موجوداً، ولم يدخل الإيمان قلب، بل ولم يحصل الاطمئنان الذي هو المرتبة الكاملة للإيمان القلبي. فهو لا يزال يميل فطرةً، إلى الدنيا والبقا ء فيها كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحق المتعال هذا الاطمئنان، فأنعم به عليه. إذاً، إما أن القلوب لا تؤمن بالآخرة، مثل قلوبنا، وإن كنا نصدق بها تصديقاً عقلياً، وإما أنها لا اطمئنان فيها، فيكون حب البقاء في هذا العالم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالم في القلب موجوداً. ولو أدركت القلوب أن هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنها دار الفناء والزوال والتصرم والتغيّر، وأنها دار الهلاك ودار النقص، وأن العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا. ولو ارتفع الإنسان عن هذا

[ 148 ]

العالم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى الصورة الباطنية لهذا العالم وللتعلق به، والصورة الباطنية لذلك العالم ـ عالم الآخرة ـ والتعلق به، لأصبح هذا العالم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه ولنفر منه، واشتاق للتخلص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغير. كما جاء في كثير من كلام الأولياء.

يقول الإمام علي عليه السلام: "وَاللَّهِ لابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنـَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفـْلِ بِثَـدْيِ أُمِّهِ"(1).

ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثر على مجاورة رحمة الحق المتعال شيءٌ أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة، لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إن الوقوع في الكثرة، ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبرات المُلكية بل التأييدات الملكوتية، يعدّ كل ذلك للمحبين والمنجذبين، ألم وعذاب ليس بقدورنا أن نتصورهما.

إن أكثر أنين الأولياء إنما هو ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنهم لا يحجبهم حجاب مُلكي أو ملكوتي، وقد اجتازوا ج حيم الطبيعة الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا من التعلق بالدنيا وتطهرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية. إلاّ أن الوقوع في عالم الطبيعة هو بذاته تلذذ طبيعي وقسري، مما كان يحصل لهم، ولو بأقل مقدار، فكان ذلك من باب الحجاب. وفي ذلك ي قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم:

"لَيُرَانُ عـَلَى قَلْبِي وإنّي لأَسْتَغفِرُ اللّه فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعينَ مَرَّةً"(2). ولعل خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا التوجه القسري نحو تدبير المُلِك والحاجة الاضطرارية إلى القمح وسائر الأمور الطبيعية، وهذه خطيئة بالنسبة إلى أولياء الـلّه والمنجذبين إليه. ولو بقى آدم عليه السلام في ذلك الانجذاب الإلهي، ولم ي دخل في قضية المُلك، لما حدث كل هذا الشقاء والعناء في الدنيا والآخرة.

ـــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة ـ الخطبة 5 ـ ( الشيخ صبحي الصالح.

(2) نهاية ابن أثير، ص 180، ج 3. الجامع الصغير، ج 1 ص 103. صحيح مسلم، ج 8 ص 72.

[ 149 ]

فصل

في بيان تأثير الحظوظ الدنيوية في القلب ومفاسده

اعلم أن ما تناله النفس من حظ في هذه الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها، إلى أن يتجه القلب كـُلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد. إن جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحب للدنيا والتعلق بها كما ورد في الحديث الذي أوردناه من كتاب أصول الكافي قبل قليل.

وإن من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا ـ كما كان يقول شيخنا العارف (روحي فداه) ـ هو أنه إذا انطبع حب الدنيا على صفحة قلب الإنسان، واشتد الأنس بها، انكشف له عند الموت أن الحق المتعال يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على ولي نعمته. إن هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إي قاظ للحفاظ على قلبه. فالعياذ باللّه من إنسان يسخط على ولي نعمته، مالك الملوك الحق، إذ ليس أحد يعرف صورة هذا السخط والعداء، غير اللّه تعالى.

ويقول أيضاً شيخنا المعظم ـ دام ظله ـ نقلاً عن أبيه المعظم، إنه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب المحبة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنه بعد الانهماك بالرياضات النفسية تخلص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الـلّه عليه.

جاء في "الكافي" بإسناده عن طلحة بن زيد، عن أبي عبدالله عليه السّلام قال: "مَثَلُ الدُّنيا كَمَثـَلِ ماءِ البحرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ العطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتَّى يقتل"(1).

إن حب الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبدي، وهو أصل البلايا والسيّئات الباطنية والظاهرية وقد نقل عن رسول الـلّه صلّى الـلّه عليه وآله وسلم قول: "إِنَّ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ أَهْلَـكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ".

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا ح 54.

[ 150 ]

وعلى فرض أن الإنسان لم يرتكب معاصي أخرى ـ على الرغم من أن هذا الفرض بعيد، أو من المستحيل عادة ـ فإن التعلق بالدنيا نفسه معصية، بل أن مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر والبرزخ هو أمثال هذه التعلقات. فكلّما كان التعلق بالدنيا أقل كان البرزخ وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر. لذلك فقد ورد في بعض الروايات: إن عالم القبر لأولياء الله لا يزيد عن ثلاثة أيام، وإنّما كان هذا لأجل التعلق الطبيعي والعلاقة الجِبِلّية لأولياء الـلّه تجاه العالم.

وإن من مفاسد حب الدنيا والتعلّق بها هو أنه يجعل الإنسان يخاف الموت. وهذا الخوف الناشئ من حب الدنيا، والتع لق القلبي بها المذموم جداً. غير الخوف من المرجع  ـ مآل الإنسان بعد الموت ـ المعدود من صفات المؤمنين. إن أهم صعوبة في الموت هي ضغوطات لرفع هذه العلائق، والخوف من الموت. يقول المحقق المدقق الإسلامي البارع، السيد العظيم الشأن، الداماد، كرّم اللّه وجهه، في كتابه "القبسات" الذي يعد من الكتب النادرة: "لاَ يُخيِفنك الموتُ، فإنَّ مَرارَته في خوفه"(1).

ومن المفاسد الكبيرة لحب الدنيا أنه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك، ويُقويّ جانب الطبيعة في الإنسان بحيث يجعلها تعصي الروح وتتمرد عليها ويوهن عزم الإنسان وإرادته، مع أن من أكبر أسرار العبادات والرياضات الشرعية هو أن تجعل الجسم وقواه الطبيعية تابعة ومنقادة للروح بحيث يكون للإرادة دوراً مؤثراً في الجسم ويخضع الجسم لأوامر الإرادة فيعمل ما تشاء، ويمتنع عمّا تشاء، ويصبح مُلك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت بحيث أنه يقوم بما يريد من دون مشقة ولا عناء.

إن من الفضائل والأسرارالشاقة والصعبة للعبادات تحقق هذا الهدف ـ تسخير مُلك الجسم للملكوت ـ أكثر حيث يصير الإنسان بذلك ذا عزم، ويتغلب إلى الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة وقوي العزم واشتد، أصبح كمَثَل الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مَثَل ملائكة اللّه الذين لا يعصون الله وإنما يطيعونه

ـــــــــــــــ

(1) قبسات ميرداماد، ص 72.

[ 151 ]

في كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه، من دون أن يعانوا في ذلك عنتاً ولا مشقة.

كذلك إذا أصبحت قوى الإِنسان مسخّرة للروح، زال كل تكلف وتعب وتحوّل إلى الراحة واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السبعة للملكوت وأصبحت جميع القوى عمّالاً له.

فاعلم، يا عزيزي، أن العزم والإرادة القوية لذلك العالم ضروريان وذات فعالية. إن البلوغ لأحد مراتب الجنة والذي يُعدّ من أفضلها هو العزم والإرادة. فالإنسان الذي ليست له إرادة نافذة ولا عزم قوي لا ينال تلك الجنة ولا ذلك المقام الرفيع.

جاء في الحديث، أن أهل الجنة عندما يستقر ون فيها، تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الإلهي جلّت عظمته بهذا المضمون: "هذه رسالة من الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد. أنا الذي أقول للشيء: كن، فيكون. وقد جعلتك اليوم أيضاً في مستوىً إذا أمرت الشي: وقلت له كن، فيكون".

فلاحظ أي مقام و سلطان هذا؟ وأية قدرة إلهية هذه التي تجعل إرادة الإِنسان مظهراً لإرادة اللّه! فيُلبس العدم لباس الوجود؟ هذه القدرة وهذا النفوذ هما أفضل وأرفع من كل النعم الجسمانية. وبديهي، أن تلك الرسالة لم تكتب عبثاً وجزافاً. إن من كانت إرادته تابعة للشهوات الحيوانية، وعزيمته ميته خامدة، لا يصل إلى هذا المقام. إن أعمال اللّه منزّهة عن العبث. فكما أن هذا العالم قائم على النظام والترتيب، على الأسباب والمسببات، كذلك هي الحال في العالم الآخر، بل إن العالم الآخر ألْيَق بالنظام والأسباب والمسببات، وإن جميع نظا عالم الآخرة ينبعث من المناسبات والأسباب، وإن نفوذ الإرادة يجب أن يتهيأ من هذا العالم، فإن الدنيا مزرعة الآخرة وإن هذا العالم مادة لكل نعم الجنة ونقم النار.

إذاً، كل عبادة من العبادات وكل منسكٍ من المناسك الشرعية، فضلاً عن إن لها صورة أخروية وملكوتية، وبها يتم عمارة الجنة الجسمانية وقصورها، وتهيئة الغلمان والحور  ـ طبقاً للبراهين والأحاديث ـ فإن لكل عبادة من العبادات أيضاً أثراً يحصل في النفس، مما يقوّي الإِرادة شيئاً فشيئاً ويصل بقدرتها إلى حد الكمال.

[ 152 ]

لذلك كلّما كانت العبادات أشق كانت أرغب: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا"(1). فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحق المتعـال، يزيد من قوة الروح وتغلبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة. وإذا ك ان هذا في أول الأمر على شيءٍ من المشقة والعناء، فإن ذلك يخف تدريجاً كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. إذ أننا نلاحظ أن أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقة وتكلف. أما نحن فشعورنا بالكسل وبالمشقة ناشئ من أننا لا نبدأ بالعمل. فلو إننا بدأنا العمل وكررناه عدة مرات، لتبدلت مشقته إلى راحة، بل إن أهلها يلتذون بها أكثر مما نلتذ نحن بمشتهيات الدنيا. إذاً، الأمر يصبح عادياً بالتكرار. والخير عادة.

ولهذه العبادة ثمرات، منها: أن صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم لا يكون له نظير في هذا العالم، ونكون عاجزين عن تصور مثلها.

ومنها: أن النفس تصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة، وقد سمعت واحدة منها.

ومنها:أيضاً أنها تجعل الإِنسان يأنس بالذكر والفكر والعبادة، فإن المجاز قد يقرّب الإنسان إلى الحقيقة، فيتوجه القلب إلى مالك الملوك، وتحل المحبة لجمال المحبوب الحقيقي، ويخفّ تعلق القلب وحبه للدنيا والآخرة. إذ لو حصلت الجاذبية الربوبية والحال الخاصة، لأمكن إدراك حقيقة العبادة والسر الحقيقي للتذكر والتفكر، ولسقط كِلا العالمين ـ الدنيا والآخرة ـ من نظره، ولأذهب تجلّي الحبيب غبار الرؤية الإثنينيّة من القلب ولا يعر ف أحد سوى الـلّه الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد؟ وكما يقوى عزم الإِنسان بالرياضات الشرعية والعبادات والمناسك وترك الرغبات ويصبح الإنسان ذا عزم وإرادة، فكذلك في المعاصي تتغلب الطبيعة لدى الإنسان وتضعف إرادته وعزمه. كما سبق ذكر شيء منه.

ـــــــــــــــ

(1) نهاية ابن الأثير، المجلد الأول، ص 440، مادة"همز"أهمزها أي أقواها وأشدّها.

[ 153 ]

فصل

الإنسان بفطرته يحب الكمال التّام المطلق

لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسـان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قل به شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس علي ها وبهذا الحب للكمال، تتوفر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقق أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم.

غير أن كل امرئ يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجهة إليها. وأهل اللّه يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه يقولون (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)(1). ويقولون: "لي مَعَ اللَّهِ حال"(2) وفيهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتـبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كانَ التوجه الفطري والعشق لذاتي قد تعلقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق. إن الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّه، ونار عشقه التهاباً. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. وكذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجه بنظرة طامعة إلى آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمتها، لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها. إلاّ أن هذه النفس المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنّما تتطلع إلى شيءٍ آخر. إن العشق الفطري الجبلّي يتجه إلى المحبوب المطلق، إن جميع الحركات

ـــــــــــــــ

(1) سورة الأنعام، آية: 79.

(2) إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ( لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ) راجع كتاب أحاديث المنوي.

[ 145 ]

الجوهرية والطبيعية والإرادية، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية تتوجه نحو جمال الجميل الأعلى على الإِطلاق، ولكنهم لا يعلمون، فينحرفـون بهذا الحب والعشق والاشتياق ـ التي هي براق المعراج وأجنحة الوصول ـ إلى وجهة هي خلاف وجهتها، فيحرّروها ويقيدوها بلا فائدة.

لقد بعدنا عن القصد، وهو أنه لمّا كان الإنسان متوجهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنه مهما جمع من زخرف الحياة فإن قلبه يزداد تعلقاً بها. فإذا اعتقد أن الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد ولعه بها، واشتدت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغِنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها. كما أن أهل الله مستغنون عن كلا العالمين ( الدنيا والآخرة )، متحررون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم نحو الغنى المطلق، متجلّياً الغِنَى بالذات في قوبهم، فهنيئاً لهم.

إذاً، مضمون الحديث الشريف يمكن أن يكون إشارة لما مرّ شرحه من قوله: مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ الفقرَ بَيْنَ عَيْـنَيْهِ، وَشَتَّتَ أَمْرَه، وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قـُسِمَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ الغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ".

ومن المعلوم، أن من يتجه قلبه إلى الآخرة، تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرّمة، ومتغيرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتم بما فيها من ألم وسرور، فتخف حاجاته ويقل افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى حيث لا تبقى له حاجة، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغِنى الذاتي والقلبي.

إذاً، كلّما نظرتَ إلى هذه الدن يا بعين المحبة والتعظيم، وتعلق قلبَك بهـا، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبك لها، وبان الفقر في باطنك وعلى ظاهرك، وتشتـتّت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهم، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغم والتحسر، ويتمكن اليأس من قلبك والحيرة، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث

[ 155 ]

الشريف. فقد روي في "الكافي" بإسناده عن حفص بن قرط، عن أبي عبدالله الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

"مَنْ كَثُرَ اشْـتِبَاكُه بالدُّنْيَا كَانَ أَ شَدَّ لِحَسْرِتَهِ عِنْدَ فِرَاقِهَا"(1).

وعن أبي يعفور قال، سمعت أبا عبدالله ( الصادق ) عليه السلام يقول:

"مَنْ تَعَلَّق قَلْبُهُ بِالدُّنْيا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِثَلاثِ خِصَا لٍ هَمٍّ لاَ يَفْنَى وَأَمَلٍ لاَ يُدْرَكُ وَرَجَاءٍ لا يُنالُ"(2).

أما أهل الآخرة، فإنهم كلّ ما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها. ولولا أن الله قد عين لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة. فَهُم، كما يقول أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السّلام: "نُزِّلَتْ أَنْفُسَهُ فِي البَلاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلـَوْلا الأَجَلُ الّـَذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهم، لَمْ تَسْتَقِر أّرْوَاحُهُم فِي أَجْسَ ادِهم طَرَفَةَ عَيْنٍ شَوْقـاً إِلَى الثَّوَابِ"(3). جعلنا الله وإياكم منهم، إن شاء الله.

إذاً، يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد هذا التعلق والحب، وأدركت أن ذلك يفضي بالإنسان إلى الهلاك، ويجرّده من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين مضطربتين، فشم ّر عن ساعد الجد، وقـلّل حسب طاقتك، التعلق بهذه الدنيا، واقتلع جذور حبها من نفسك، واحتقر الأيام القليلة التي تقضيها في الحياة، وأزهد في خيراتها المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من اللّه أن يعينك على الخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة، ويجعل قلبك يأنس بدارِ كرمه تعالى: "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى".

ـــــــــــــــ

(1) و(2) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 16 وح17.

(3) نهج البلاغة ـ الخطبة 193 (الشيخ صبحي الصالح).

[ 156 ]

الحَديث الـسَابع

"الغـضـب"

[ 157 ]

بالسند المـتَّـصل إِلى محمدّ بن يعقوب عن علي بن إبراهيم، عن محمدّ بن عيسى، عن يونـس، عن داود بن فرقـد قـال: قال أبو عبدالله عـلـيه السّلام: "الغَـضبُ مِفْتاحُ كُـلِّ شَر"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 3.

[ 158 ]

الشرح:

قال المحقق الكبير أحمد بن محمد، المعروف بابن مسكويه، في كتاب تهذيـب الأخلاق وتطهير الأعراق القيم الذي يقل نظيره في حسن التنظيم والبيان م نصه (1):

"والغضب بالحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة، أججت نار الغضب وأضرمتها، فاحتـدّ غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخاناً مظلماً مضطرباً يسوء منه حال العقل ويضعف فعله، ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما حكته الحكماء مثل كهف مليء حريقاً وأضرم ناراً فاختنق فيها اللهيب والدخان وعلا منه الأجيج والصوت المسمى وحي النار، فيصعب علاجه ويتعذر إطفاؤه، ويصير كل ما تدنيه منه للإطفاء سبباً لزيادته ومادة لقوته. فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصمّ عن الموعظة، بل تصير المواعظ في تلك الحال سبباً للزيادة في الغضب ومادّة للّهيب والتأجج وليس يرجى له في تلك الحال حيلة".

ثم يقول (2) "وأما سقراطيس(3) قال أني للسفينة إذا عصفت بها الرياح

ـــــــــــــــ

(1) تهذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 193 منشورات الجامعة الأمريكية ـ بيروت.

(2) تهذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 195 منشورات الجامعة الأمريكية ـ بيروت.

(3) في كتاب ( الأربعون حديثا ) وأما بقراط... وفي كتاب تهذيب الأخلاق وأما سقراطيس... ( المترجم ).

[ 159 ]

وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج التي فيها الجبال، أرجى مني للغضبان الملتهب، وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لها الملاحون ويخلصونها بضروب الحيل فأما النفس إذا استشاطت غصباً فليس يرجى لها حيلة البتة وذلكن كل ما رُقي به الغضب من التضرع والموعظة والخضوع يصير له بمنزلة الجزل من الحطب يوهجه ويزيده استعاراً"انتهى.

فصل

في بيان فوائد القوة الغضبية

اعلم أن غريزة الغضب من النعم الإلهية التي يمكن بها عمارة الدنيا والآخـرة، وبها يتم الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشري والنظام العائلي، ولها تأثير كبير في إيجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع. فلولا وجود هذه الغريزة الشريفة في الحيوان لما قام بالدفاع عن نفسه ضد هجمات الطبيعة، ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال. ولولا وجودها في الإنسان، لما استطاع، أن يصل إلى كثير من مراتب تطوره وكمالاته زائداً على تحقق ما تقدم. بل إن التفريط والنقص من حال الاعتدال يعد من مثالب الأخلاق المذمومة ومن نقائص الملكات التي يترتب عليها الكثير من المفاسد والمعايب، كالخوف، والضعف، والتراخي، والتكاسل، والطمع، وقلة الصبر، وعدم الثبات في المواقف التي تتطلب الثبات، والخمود، والخنوع، وتحمل الظلم، وقبول الرذائل والاستسلام لما يصيبه أو يصيب عائلته، وانعدام الغيرة، وخور العزيمة...

إن الله سبحانه يصف المؤمنين بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(1).

إن القيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والتعزيرات وسائر التعاليم السياسية الدينية والعقلية، لا يكون إلاّ في ظل القوة الغضب ية الشريفة. وعلى ذلك، فإن الذين يظنون أن قتل غريزة الغضب بالكامل وإخماد أنفاسها يعد من الكمالات والمعارج النفسية إنّما يرتكبون خطيئة عظيمة، ويغفلون عن حدّ الكمال ومقام الاعتدال. هؤلاء المساكين لا يعلمون أن الله تبارك وتعالى لم

ـــــــــــــــ

(1) سورة الفتح، آية: 29.

[ 160 ]

يخلق هذه الغريزة الشريفة في جميع أصناف الحيوانات عبثـاً، وأنه جعل هذه الغريزة في بني آدم رأسمال الحياة المُلكية والملكوتية، ومفتاح الخيرات والبركات. إن الجهاد ضد أعداء الدين، وحفظ النظام العائلي للإنسان، والدفاع عن النفس والمال والعِرض، وعن سائر القوانين الإِلهيـة، والجهاد مع النفس وهي ألد أعداء الإِنسان، لا يكون كل ذلك إلاّ بهذه الغريزة الشريفة. إن منع الاعتداءات والذب عن الحدود والثغور، ودفع المؤذيات والمضرات عن الفرد والمجتمع، ويجري تحت لواء هذه الغريزة. لذلك سعى الحكماء إلى معالجة خمود هذه الغريزة وركودها. وهناك معالجات علمية وعملية لإيقاضها وتحريكها: مثل الإقدام على الأمور العظيمة المخيفة، والذهاب إلى ميادين الحرب، والجهاد ضد أعداء الله. فقد نُقل عن بعض المتفلسفين أنه كان يرتاد الأماكن المخوفة ويلبث فيها قليلاً ويلقى بنفسه في المخاطر العظيمة، ويركب البحر في أوج تلاطم أمواجه، وذلك لكي يخلص نفسه من الشعور بالخوف ويتحرر من الضعف والكسل.

وعلى أي حال، فإن غريزة الغضب موجودة لدى كل إنسان ومودعة في باطنه، ولكنها في بعضهم خامدة منكمشة، كالنار تحت الرماد. فالواجب على من يلحظ في نفسه حال الخمول والضعف وانعدام الغيرة أن يعالج الحالة بضدها، ويخرج نفسه مما هي فيه إلى حال من الاعتدال. وهذه الحال المحاولة من الشجاعة التي تعدّ من الملكات الفاضلة والصفات الحسنة، مما سوف ترد الإِشارة إليه.

فصل

في بيـان ذم الإفراط في الغضب

إذا كانت حال التفريط ونقص الاعتدال من الصفات المذمومة التي تؤدي إل ى كثير من المفاسد التي ذكرنا بعضها، كذلك هي حال الإِفراط وتجاوز حد الاعتدال، فهي أيضاً تعدّ من الصفات المذمومة التي تقود إلى مفاسد كثيرة. ويكفي لتبيان مفاسد هذه الحال ذكر هذا الحديث الشريف الوارد في الكافي. عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال، قال رسول اللّه صلّى اللّه عل يه وآله وسلم "الغَضَبُ يُفْسِدُ الإِيمانَ كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 1.

[ 161 ]

فقد يصل الغضب بالإنسان إلى حد الارتداد عن دين اللّه، وإطفاء نور الإيمان، بحيث أن ظلام الغضب وناره تحرق الحقائق الحقّة. بل قد يصل الأمر إلى الكفر الجحودي الذي نتيجته الهلاك الأبدي، ثم ينتبه على نفسه بعد فوات الأوان وحين لا ينفع الندم ويمكن أن تكون نار الغضب، جمرة الشيطان، التي وردت في كلام الإمام الباقر عليه السلام "إنَّ هـذَا الغـَضَب جَمْرَةٌ مِن َ الشَّيْطانِ تُوقـَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ" (1) صورتها في ذلك العالم، صورة نار الغضب الإلهي.

كما ورد عنه عيه السلام فـي حديث شريف رواه صاحب"الكافي":

"مَكْتُوبٌ فِي الـتَّوْراةِ فيما ناجَى اللهُ عزّ وجلّ مُوسى: يا مُوسى أَمْسِكْ غـَضَبَكَ عَمَّنْ مَلَّكْتُكَ عَلَيْهِ أكُفَّ عَنْكَ غـَضَبِي"(2).

ولا شك في أنه ليست هناك نار أشد من نار غضب اللّه عذاباً. وقد جاء في كتب الحديث، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "قَالَ الحَواريّـون لِعيسى عليه السّلام: أَيُّ الأَشْياءِ أَ شَدّ؟ قٌالَ أَشَدُّ الأَشْياءِ غَضَبُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالُوا بِمَ نَتقي غَضَبُ اللّهِ؟ قالَ بَأْن لا تَغْضِبُوا"(3).

وهكذا يتضح أن غضب الله من أصعب الأمور وأشدها، وأن نار غضبه أشد إحراقـاً، وصورة الغضب للإنسان في هذه الدنيا هي صورة نار غضب الله في العالم الآخر. وكما أن الغضب يظهر من القلب، فلعل نار الغضب الإلهي الذي يكون مبدأه الغضب وسائر الرذائل القلبية الأخـرى، تنبعث من باطن القلب، وتسري إلى الظاهر، وتخرج ألسنة نيرانها المؤلمة من الأعضاء الظاهرية مثل العين والإذن واللسان وغيرها بل إن هذه الأعضاء تكون أبوابا تنفتح على جهنم، فتحيط نار جهنم بالأعمال والآثار الجسمية التي في ظاهر جسد الإنسان، لتتجه إلى باطنه، فيقع الإنسان في العذاب والشدّة بين جهنمين: أحدهما يبرز من باطن القلب ويدخل ألسنة لهيبها بواسطة أم الدماغ إلى عالم الجسم. وثانيهما صورة قبائح الأعمال وتجسم الأفعال، حيث تتصاعد نيرانها من الظاهر إلى الباطن، والله

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 12.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 7.

(3) وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، ص289.

[ 162 ]

سبحانه وتعالى يعلم مدى هذا الضغط؟ وهذا العذاب؟ إنه غير الاحتراق وغير الانصهار. أتظن أن إحاطة جهنم تشبه هذه الإحاطات التي تتصوره؟ إن الإحاطة هنا إنما تكون بظاهر السطح فقط. أما الإحاطة هناك فتكون بالظاهر وبالباطن، بالسطوح وبالأعماق. وإذا أصبحت صورة الغضب عند الإنسان صفة راسخة لا سمح الله  ـ وصورة الغضب آخر مراحل الرسوخ ـ كانت المصيبة أعظم، وأصبح للإنسان في البرزخ ويوم القيامة صورة السباع، السباع التي لا شبيه لها في الدنيا. وذلك لأن سَبُعية الإنسان، وهو في حالة الغضب، لا يمكن مقارنتها بسبعية أي حيوان آخر من الحيوانات. وكما أن الإنسان في حالة كماله أعجوبة الدهر ولن تجد له نظيراً، كذلك في حال نقصه واتصافه بالرذائل وبالصفات الخسيسة لن تجد بين الكائنات من يقف معه في ميزان المقارنة، لقد وصفهم الله بقوله: (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(1). ووصـف قلوبهـم فقال: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(2).

هذا الذي مرّ بك كان جانباً من مفاسد نار الغضب الحارقة، إذا لم يستتبع الغضب معاص أخرى، بل بقى ناراً داخلية مظلمة تتعقدّ في الباطن وتنجس وتختنق فتطفئ نور الإيمان، كالنار المشتعلة التي يخالطها الدخان الأسود الذي يغشى النور فيطفئه. ولكن ذلك أمر بعيد، بل قد يكون من الأمور المستحيلة أن يكون الإِنسان في حال غضب شديد مستعرة ناره، ثم يمتنع عن إرتكاب معاص وموبقات مهلكة أخرى. فكثيراً ما يؤدي الغضب المستعر، وهذه الجمرة الشيطانية الملعونة، في مدة دقيقة واحدة إلى إلقاء الإِنسان في هاوية الهلاك والعدم، كأن يسبّ الأنبياء والمقدسات ـ والعياذ بالله ـ أو يقتل نفساً بريئة مظلومة، أو يهتك الحرمات، فيخسر الدنيا والآخرة، كما جاء في الكافي عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث له: كان أبي يقول: "أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ الغَـضَبِ؟ إِنَّ الـرَّجُـلَ لَيَـغْـضَبَ فَيَـقْـتُلَ النَّـفْـسَ الَّـتي حَرَّمَ اللهُ وَيَقْـذِفُ المُحْـصَنَةَ"(3).

ـــــــــــــــ

(1) سورة الفرقان، آية: 44.

(2) سورة البقرة، آية 74.

(3) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب،ح 4.

[ 163 ]

لقد وقعت أفظع الفتن وارتكبت أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. وعلى الإِنسان، وهو سليم النفس، أن يكون على حذر كثير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه حدوث حالات الغضب، عليه، في أثناء هدوئه النفسي، أن يعالجها وأن يفكر في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النهاية، لعله يصل إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكر في أن هذه الغريزة التي وهبها الله تعالى إياه لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الإِلهية، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقها؟ وكم هو ظلوم جهول؟ لأنه لم يَصُنْ أمانة الحق تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إن إِمرءً هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهي.

ثم إن عليه إن يفكر في المفاسد العملية والأخلاقية التي تتولد من الغضب وسوء الخلق. إذ كل مفسدة من هذه المفاسد يمكن أن تكون سبباً في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا، وبالعذاب والعقاب في الآخرة.

أما المفاسد الأخلاقية التي تتولد من هذا الخلق فهي الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء، بل وحتى على ذات الله المقدسة الواجبة الوجود ووليّ النعم، وشدّة هذا القبح وهذه المفسدة واضح للجميع، نعوذ بالله تعالى من شر نفس عنيدة إذا ما انفصم وثاقها للحظة واحدة، جرّت الإِنسان إلى تراب الذل وقادته إلى أرض الهلاك الأبدي. وكذلك الحسد الذي مرّت بك بعض مفاسده وشروره في شرح الحديث الخامس. وغير ذلك من المفاسد الأخرى التي تتولد من الغضب.

وأما مفاسد الغضب المؤثرة في الأعمال فإنها ليست بمحصورة، فلعله يتفوه بما فيه الارتداد أو سب الأنبياء والأولياء ـ والعياذ بالله ـ وهتك الحرمات الإِلهية، وخرق النواميس المقدسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة بما يصمها بالعار والذل ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك الأستار. وغير ذلك من المفاسد التي لا تحصى والتي يبتلي بها الإنسان لدى فورة الغضب الباعثة على نسف الإيمان وهدم البيوت.

[ 164 ]

لذلك يمكن أن توصف هذه السجية بأنها أم الأمراض النفسية ومفتاح كل شر. و يقابلها كظم الغيض وإخماد سعير الغضب فإنه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات. كما جاء في حديث ( الكافي ) عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال سمعت أبي يقول:

"أتى رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ بَدَوِيٌ، فَقالَ: إنّي أسْكُنُ البادِيَةَ فَعَلِّمْنِي جَوامِعَ الكَلامِ فَقالَ: آمُرُكَ أَنْ لاَ تَغْضَبَ. فَأعادَ عَلَيْهِ الأعْرَابِيُّ المَسْأَلَةَ ثَلاثَ مَرّاتٍ حَتّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِه. فَقالَ: لا أَسْأَلُ عَنْ شيْء بَعْدَ هذَا. ما أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ إِلاّ بِالْخَيْرِ. قالَ: وَكانَ أَبي يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ الغَضَبِ؟ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتي حَرَّم اللهُ وَيَقْذِفُ المُحْصَنَةَ"(1).

بعد أن يدرك الإنسـان، في حال تعلقه وسكون نفسه وخمود غضبه، المفاسد الناجمة عن الغضب، والمصالح الناجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن يحتم على نفسه أن يطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النار المشتعلة في قلبه، مهما لاقى من عنت ونصب في سبيل ذلك، ليغسل قلبه من الظلام والكدر، ويعيد إليه صفاءه ونقاءه. وهذا أمرٌ ممكن تماماً بشيءٍ من مخالفة النفس والعمل ضد هواها، وبقليل م ن النصح والإرشاد والتدبر في عواقب الأمور. وهذه وسيلة يمكن بها إزالة جميع الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة من ساحة النفس، وإبدالها بجميع الصفات الحسنة والأخلاق المحمودة التي يجب أن يتحلّى بها القلب.

فصل

في بيان علاج الغضب إن للغضب المشتعل

إن للغضب المشتعل علاجاً علمياً وعملياً أيضاً.

أما علاجه العملي فهو أن يتفكر الإِنسان في تلك الأمور التي ذكرت، ويعدّ هذا من العلاج العملي أيضاً.

أما العلاج العملي فأهمّه صرف النفس عن الغضب عند أول ظهوره. وذلك لأن الغضب أشبه بالنار، فهو يزداد شيئاً فشيئاً ويشتّد، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 4.

[ 165 ]

حرارته ويفلت العنان من يد الإنسـان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان ذليلاً مسكيناً. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره، فيشغل نفسه بأمور أخرى، أو أن يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه، أو أن يغير من وضعه . فإذا كان جالساً فلينهض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس، أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى. بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب، أو أن يشغل نفسه بأي أمر آخر.

على كل حال، يسهل كبح جماح الغضب في بداية ظهوره. ولهذا العمل في هذه المرحلة نتيجتان:

الأولى: هي أن يهدئ النفس ويقلل من اشتعال الغضب. والثانية: هي أن يؤدي إلى المعالجة الجذرية للنفس. فإذا راقب الإنسان حاله وعامل نفسه بهذه المعاملة تغيّرت حاله تغيراً كُلياً واتجهت نحو الاعتدال. وقد وردت الإشارة إلى بعض ذلك كتاب (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال:

"إِنَّ هَذَا الغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ وإِنَّ أحَدَكُمْ إِذا غضِبَ احْمَرَّتْ عَيْناهُ وَانْتَـفَخَتْ أوْدَاجُهُ وَدَخَلَ الشَّيْطانُ فيه، فَإِذا خاف أَحَدُكُمْ ذلِكَ مِنْ نَفْـسِهِ فَلْيَلْزَمِ الأرْضَ فَإنَّ رِ جْزَ الشَّيْطانِ يَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذلِكَ"(1).

وبإسنـاده، عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال: "إِنَّ الرَّجـلَ لَيَغْـضَبُ فَما يرضى أبداً حَـتّى يَدْخُلَ النّـار فَأَيُّـما رَجُلٍ غَضـبَ عَلى قَوْمٍ وَهُوَ قائِـمٌ فَـلْيَجْـلِسْ مِنْ فَوْرِه ذلِـكَ فَإنَّـهُ سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْـطانِ وَأَيُّـما رَجُلٍ غَضِبَ عَلى ذي رَحِمٍ فَلْـيَدْنُ مِنْهُ فَلْـيَمَسَّه، فَإنَّ الرَّحِمَ، إذا مُسَّـت، سَكَـنَتْ"(2).

يستفاد من هذا الحديث الشريف علاجان عمليان حال ظهور الغضب. الأول عام، وهو الجلوس من القيام، أي تغيير وضعية الإِنسان، ففي حديث آخر أنه إذا كان جالساً عند الغضب فليقم واقـفاً.

وقد نقل عن الطرق ا لعامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح12.

(2) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 2.

[ 166 ]

يغضب، يجلس، إذا كان واقفـاً، ويستلقي على قفاه إذا كان جالساً، وبذلك يسكن غضبه.

والعلاج العملي الآخر علاج خاص بالأرحام، وهو أن يمسّـه فيسكن غضبه.

هذه معالجات يقوم بها الغاضب لنفسه. أما إذا أراد الآخرون معالجة الغاضب فعند ظهور بوادر الغضب، عليهم أن يعالجوه بإحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة. ولكن إذا اشتدت حاله واشتعل غضبه، فإن النصائح تنتج عكس المطلوب. ولذلك يكون علاجه وهو في هذه الحال صعباً، إلاّ بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه، وذلك لأن الغاضب إنما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممن يغضب عليه، أو يرى أنه، على الأقل، يتساوى معه في القوة. أمـا مع الذين يرى أنهـم أقوى منه، فـلا يُـظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه ويبقى محبوساً في داخله ويولد الحزن في قلبه. وعليه فإن العلاج في حالات الانفعال الشديدة من الغضب والفورة يكون على جانب كبير من الصعوبة. نعوذ بالله منه.

فصل

في بيان أن معالجة الغضب باقتلاع جـذوره

من أهم سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له. وهي أمور عديدة، وسوف نتناول بعضاً منها مما يتناسب وهذا الكتـاب.

من تلك الأسباب حبّ الذات، ويتـفرّع عنه حب المال والجاه والشرف والنفوذ والتسلط. وهذه كلها تتسبب في إشعال نار الغضب، إذ أن من كانت فيه هذه الأنواع من الحب، يهتم بهذه الأمور كثيراً، ويكون لها في قلبه مكان رفيع. فإذا اتفـق أن واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحس بأن هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع وسائر الرذائل الناجمة عن حب الذات والجاه وتمسك بزمامه، وتحيد بأعماله عن جادة العقل والشرع. ولكن إذا لم يكن شديد التعلق والاهتمام بهذه الأمور ، فإن هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حب الجاه والمقام

[ 167 ]

وسائر تفرعاته، تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة. إن الإِنسان البسيط غير المتكلف يتحمل المنغصات و لا تـتـقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أما إذا اقتـلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحل محلها الفضائل الأخلاقية السامية.

ومن الأسباب الأخرى لإثارة الغضب هو أن الإِنسان قد يظن الغضب، وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، وذلك لجهله وقلة معرفته. فيحسب الغضب من الفضائل ويراه بعض الجهال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على نفسه في أنه فعل كذا وكذا، فيحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة، هذه الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، والصفات الحسنة. فلا بد وأن نعرف بأن الشجاعة غير الغضب، وأن أسبابها ومباد ئها وآثارها وخواصّها تختلف عن أسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصّه. مبدأ الشجاعة هو قوة النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلباتها. أما الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلة الإِيمان، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الروح، وحب الدنيا والاهتمام بها، والتخوف من فقدان اللذائذ البشرية. لذلك تجد هذه الرذيلة مستحكمة في المرضى أكثر مما هي في الأصحاء، وفي الصغار أكثر مما هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر مما هي في الشبان. فالشجاعة عكس الغضب تماماً. ومن كانت فيه رذائل أخلاقية كان أسرع إلى الغضب ممن فيهم فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع في الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر.

هذا من حيث مبادئ الشجاعة والغضب وما يوجبهما، وهما من حيث الآثار والنتائج مختلفان أيضاً. فالغاضب، وهو في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الذي فقد عنان عقله، ويصبح مثل الحيوان المفترس الذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو احتكام إلى العقل، فيسلك سلوكاً قبيحاً، يفقد سيطرته على لسانه ويده و سائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث أنه لو أعطى مرآة، لخجل من صورته التي يراها فيها.

إن بعض أصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه الأمور، بل يغضبون حتى على

[ 168 ]

الحيوانات والجمادات، ويلعنون حتى الريح والأرض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت خلاف رغباتهم. ويغضبون أحياناً على القلم و الكتاب والأواني فيمزقونها أو يحطمونها. أما الشجاع فهو بخلاف ذلك تماماً. فأعماله لا تكون إلاّ عن رويّة ووفق ميزان العقل وطمأنينة النفس. يغضب في محله، ويحلم في محله، لا تهزّه التوافه ولا تغضبه. وإذا غضب غضب بمقدار، وينتقم بعقل، ويعرف كيف ينتقم ومتى وممـن؟ وكيف يعفو ومتى وممن؟ وفي حال غضبه لا يفقد زمام نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء ول ا بالأعمال القبيحة، ويزن كل أعماله بميزان العقل والشرع والعدل والإِنصاف، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد ذلك.

فعلى الإِنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلق الذي يتصف به الأنبياء والأولياء والمؤمنون، يعدّ من الكمالات النفسية. والخلق الآخر الذي هو من النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخناس. إلاّ أن حجاب الجهل وعدم المعرفة وحب الدنيا وحب الذات، يعمي عين الإِنسان ويصمّ أذنه ويلقيه في المسكنة والعذاب.

وهناك أسباب أخرى ذكروها للغضب، مثل العُـجب والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها مما يطيل البحث الدخول في تفاصيلها، ولعل أكثرها ينطوي تحت هذين الموضوعين المذكورين بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والحمد لله.

[ 169 ]

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست