.

.

النهاية

اللاحق

البداية

البداية

  الفهرست
 
 

 

الحَديث الثامن والثلاثون

" ان الله خلق آدم على صورته ِ"

[ 671 ]

بالسَّند المتّصل إلى الشيخ الجليل عماد الإِسلام محمّدِ بن يعقوبَ الكلينيِّ _ رضوان الله عليه _ عن عدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمدَ بنِ محمّد بن خالد، عن أبيه، عن عبدالله بن بحر، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن محمَّد بن مسلم قال: " سَأَلْتُ أبا جعفر عليه السّلام عمّا يَرْوُونَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عليه السّلام عَلَى صورَتِهِ، فَقالَ: هِيَ صورَةٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ[و] اصْطَفَاهَا اللهُ وَاخْتَارَهَا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ المُخْتَلِفَةِ فَأَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا أَضَافَ الْكَعْبَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَالرُّوحَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: " بَيْتي "وَ(نَفَخْتَ فِيهِ مِنْ رُوحي).(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب الروح، ح4.

[ 672 ]

الشرح:

إنّ صدر هذا الحديث من الأحاديث المشهورة في أيام الأئمة عليهم السلام إلى يومنا هذا. وأنّ الفريقين السنة والشيعة يستشهدون في كتبهما. وقد أيّد الإمام الباقر سلام الله عليه صدور هذا الحديث وصدّقه وتولى بيان المقصد منه:

وهناك حديث آخر رواه الصدوق في كتاب(عيون أخبار الرضا) عليه السّلام بسنده إلى ثامن الحجج عليهم السلام (عن الحسين بن خالد قـَالَ: قُلْتُ لِلْرُضَا عَلَيْهِ السَّلاَمَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ إِنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُوْرَتِهِ فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللهُ لَقَدْ حَذَفُوا أَوَّلَ الْحَدِيثِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلَيْنِ يَتَسَابَّانِ فَسَمِعَ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ قَبَّحَ اللهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ يُشْبِهُكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا عَبْد اللهِ لاَ تَقُلْ هذَا لأَخِيْكَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)(1).

ولأجل هذا قال المرحوم المجلسي(أو لم يتعرض لنفيه تقية)(مرآة العقول ج 2، ص 84) واحتمل أيضاً رحمه الله أن الإمام عليه السّلام(أجاب هكذا على تقدير تسليم الخبر)(2) ولكن هذا الاحتمال بعيد جداً.

ويحتمل أن يكون الحديث المروي عن الأمام الرضا عليه السّلام)، قد أرجع إلى الحديث الأول ويكون المقصود من " آدم " في نهاية الخبر " إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار، المجلد الرابع، الباب 3، من كتاب التوحيد ح 1، ص 11.

(2) مرآة العقول ج 2، ص 84.

[ 673 ]

صُورَتِهِ " هو نوع الإنسان، ويعود الضمير في قوله " عـَلـَى صـُورَتِهِ " إلى الحق المتعالي، ولمَّا علم الإمام الرضا عليه السّلام بأن الراوي ليس في مستوى الاستيعاب والفهم لمدلول الحديث الشريف اقتصر صلوات الله عليه على ذكر صدر الحديث، حتى يتخيل الراوي بأن المقصود من آدم، هو أبو البشر، وأن ضمير على صورته يرجع إليه. تأمل.

ولعل الحديثين قد صدرا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كما في حديث الإمام الرضا عليه السّلام. ولكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد حدَّث تارة من دون ذكر أول الحديث وهو ما رواه الأمام الباقر عليه السّلام بصورة مختصرة. وحدّث صلّى الله عليه وآله وسلم مرة أخرى مع تلك البداية وذلك المدخل. وحيث أن الإمام الرضا عليه السّلام قد عرف بأن الراوي لا يستوعب معنى الحديث، أشار عليه السّلام إلى الحديث الشريف المبدوّ بذلك المدخل. والشاهد عليه أن بعض الروايات تشتمل على جملة(صـُورَةِ الرَّحمن) بدلاً عن(صـُورَتِةِ) وهذا لا ينسجم مع الحديث المروي في كتاب(عيون الرضا) الظاهر في أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد أتى على ذكر _ على صورته _ مع الضمير مرتين.

وإذا فرضنا بأن الحديث الشريف المذكور لم يصدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكنَّ معناه موجودٌ في الأحاديث الشريفة الأخرى كما نشرح ذلك إن شاء الله.

فلنرجع إلى شرح ألفاظ الحديث الشريف:

قوله عليه السّلام:"آدَمَ"يقول الجوهري في(صحاحه):(أًصله) أأدم على وزن أفعل، بدّلت الهمزة الثانية إلى الألف وتحوّل الألف إلى الواو لدى تحريكها. وجمعها أوادم). ويحتمل أن يكون وجه تسمية أبي البشر ب(آدَمَ) هو أنه عليه السّلام كان أسمر اللون ففي اللغة الآدَمُ مِنَ النَّاسِ: الأَسْمَرُ. وفي بعض الروايات أن سبب التسمية بآدم هو أنه من أديم الأرض أي من على وجه الأرض.

قوله عليه السّلام: " عَلَى صُورَتِهِ". إن الصورة في اللغة، بمعنى المثل والهيئة. ونستطيع أن نقول بأن للصورة معنى عاماً مشتركاً بين الأمور، وذلك المعنى

[ 674 ]

المشترك هو شيئية الشيء وفعليته، غاية الأمر أن لكل شيءٍ فعلية خاصة به. ومن هذا المنطلق يقال للشيء بذي الصورة وللفعلية بالصورة. وما قيل في الفلسفة في معنى الصورة الذي تعمّه وتشمله فعلية الشيء وشيئيته، لا يتنافى مع المعنى اللغوي، ولا يكون من قبيل تقارن وضعين للفظ واحد على معنى واحد في نوعين من العلم كي يكون اللفظ مصطلحاً في كل واحد من المعنيين.

قال الشيخ أبو علي ابن سينا رئيس فلاسفة الإسلام في إلهيات كتابه(الشفا):"ويقال صورة لكل هيئة وفعل يكون في قابل وحداني أو بالتركيب، حتى تكون الحركات والأعراض صوراً. ويقال صورة لما تتقدم به المادة بالفعل فلا تكون حينئذٍ الجواهر العقلية والأعراض صوراً. ويقال صورة لما تكمل به المادة وان لم تكن متقدمة بها بالفعل، مثل الصورة وما يتحرك بها إليها بالطبع. ويقال صورة خاصة لما يحدث في المواد بالصناعة من الأشكال وغيرها. ويقال صورة لنوع الشيء ولجنسه ولفصله ولجميع ذلك، وتكون كلية الكلي صورة للأجزاء أيضاً)(1).

ويستفاد بعد التأمل في كل موارد استعمال الصورة، أن المعنى في جميع تلك الموارد، هو الفعلية التي ذكرناها فيكون استعمال الصورة في هذه الموارد على أساس الاشتراك المعنوي. ويقال للحق المتعالي صورة الصور.

قوله عليه السّلام: " اصطفاها " تكون " الصفوة " بمعنى الخالص من الشوائب، والصافي من الكدر و" الاصطفاء " هو أخذ الخالص والصافي هو يلازم الخالص، ولكن رأي الجوهري وغيره أن " الاصطفاء " بمعنى الاختيار، كما فسّروا في اللغة " الاختيار"ب " الاصطفاء " هذا أيضاً من التفسير باللازم، لأن الاختيار أيضاً بمعنى أخذ ما هو خير وحسن، فيكون لازماً لواقع الاصطفاء في الخارج، وليس بمدلول مطابقي للإختيار.

قوله عليه السّلام: " الكعبة " . إن الكعبة اسم لبيت الله. وانما سُمي البيت بالكعبة لما قاله بعض بأنه يضاهي الجسم المكعب أو لكونه مربعاً. والمكعب لدى

ـــــــــــــــ

(1) الشفاء، المجلد الثاني من الإلهيات، ص 282، منشورات مكتبة المرعشي، قم.

[ 675 ]

الرياضيين هو الجسم المحفوف بسطوح ستة تكون الزوايا فيها قائمة.

قوله عليه السّلام: " والروح " . إن الروح لدى الأطباء عبارة عن البخار اللطيف الناجم عن حرارة دم الحيوان في القلب. ويقال إن للقلب تجويفين: الأول في الجانب الأيمن حيث يتدفق الدم من الكبد باتجاه هذا التجويف ومن جراء حرارة القلب يتبخر الدم، ويتسرّب البخار إلى التجويف الثاني الكائن في الجانب الأيسر من القلب، فيتلطّف من وراء حركات القلب، فيتكون الروح الحيواني منه، وتسري في الشرايين نتيجة ضخ القلب بالبسط والقبض، حسب البيان المذكور في محله. فإذن مصدر الروح الحيواني هو القلب، ومجراها الشرايين.

وقد تطلق الروح على الدم المتجمع في الكبد. والذي يمشي في الأوردة، ويسمى بالروح الطبيعية. كما أنه قد تستعمل الروح في مصطلح الحكماء، في الروح النفسية التي تنبعث من الدماغ، وتجري في الأعصاب، وتكون مظهراً ومرتبة نازلة من الروح المجرد، التي هي السرّ السبحاني، وروح الله المشار إليها بقوله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوحِي). وبعد هذا نستعرض ونبين بأن هذه الروح تنفخ بالنفخة الإلهية، وتُصطفى لدى الحق جل وعلا وتصير مختارةً لديه سبحانه.

فصل

في بيان أن الإنسان مظهر تامّ لِلَّهِ وأنه الاسم الأعظم للحق جل وعلا

اعلم: يقول أرباب المعرفة وأصحاب القلوب، بأن لكل أسم من الأسماء الإلهية لدى الحضرة الواحدية، صورة، تابعة للتجلي بالفيض الأقدس لدى الحضرة العلمية، وذلك بواسطة الحب الذاتي وطلب مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلاّ هو، ويعبّر لدى أهل الله عن تلك الصورة بـ"العين الثابتة"وتحصل أولاً، من جراء هذا التجلي بالفيض الأقدس، التعيّنات الاسمائية، والاسم الأول الذي يبرز ويظهر مع مرآته، بتجلي الأحدية، والفيض الأقدس، لدى حضرة العلمية الواحدية، هو الاسم الأعظم الجامع الإلهي، والمقام المسمى بـ"الله"الذي يكون من الناحية الغيبية عين التجلي بالفيض الأقدس. وفي التجلي الظهوري يكون

[ 676 ]

كمال الجلاء والاستجلاء عين مقام جمع الواحدية باعتبار، وعين الكثرة الأسمية باعتبار آخر. وإنّ تعين الاسم الجامع وصورته، عبارة عن العين الثابتة للإنسان الكامل، وعين الحقيقة المحمدية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم. كما أن مظهر التجلي الحقيقي للفيض الأقدس هو الفيض المقدس، وأن مظهر التجلي لمقام الواحدية، هو مقام الالوهية، وأن مظهر التجلي لحقيقة الإنسان الكامل الثابتة، هي الروح الأعظم، وأن كافة الموجودات الاسمية والعلمية والعينية - الخارجية - تكون مظاهر كلية وجزئية لهذه الحقائق والرقائق على أساس ترتيب بديع لا يسعه هذا الكتاب المختصر وإنما ذكرناه في كتاب(مصباح الهداية).

ويستفاد مما ذكرناه بان الإنسان الكامل مظهر الاسم الجامع، ومرآة تجلي الاسم الأعظم، كما أشير إلى هذا المعنى في الكتاب والسنة كثيراً. قال الله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(1). وقد تمّ هذا التعليم الإلهي على يدي الجمال والجلال تجاه باطن آدم بواسطة التخمير الغيبي الجمعي لدى الحضرة الواحدية، كما أنه تم التعليم الإلهي تجاه صورة آدم وظاهره، في عالم الشهادة بمظهره الطبيعي المادي، بواسطة ظهور يدي الجلال والجمال. قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(2).

وتكون الأمانة لدى العرفاء الولاية المطلقة التي لا يليق بها غير الإنسان، وهذه الولاية المطلقة، هي مقام الفيض المقدس. وقد أشير إليه في القرآن الكريم بقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)(3). وفي كتاب(الكافي) بسنده إلى(أسود بن سعيد قال: كنت عند أبي جعفر عليه السّلام فأنشأ يقول ابتداءاً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَسْأَلَهُ نحْنُ حُجّةُ اللهِ، وَنَحْنُ بَابُ اللهِ، وَنَحْنُ لِسَانُ اللهِ وَنَحْنُ وَجْهُ اللهِ وَنَحْنُ عَيْنُ الله ِفِي خَلْقِهِ وَنَحْنُ وُلاةُ أَمْرِ اللهِ فِي عِبَادِهِ)(4) وفي دعاء الندبة " أَيْنَ وَجْهُ اللهِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة: آية: 31.

(2) سورة الأحزاب، آية: 72.

(3) سورة القصص، آية: 88.

(4) أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب النوادر، ح7.

[ 677 ]

الأَوْلِيَاءُ؟ أَيْنَ السَّبَبُ المُتَّصِلُ بَيْنَ أَهْلِ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ "(1). وفي زيارة الجامعة الكبيرة " وَالْمَثَلُ الأَعْلَى " (2) . وهذا المثل الأعلى وذلك الوجه الإلهي، هو الوارد في الحديث الشريف " إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُوَرتِهِ " ومعناه أن الإنسان هو المثل الأعلى للحق سبحانه، وآيته الكبرى، ومظهره الأتم، وأنه مرآة لتجلي الأسماء والصفات وأنه وجه الله وعين الله ويد الله وجنب الله، "هـُوَ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَبْطِشُ بِاللهِ، واللهُ يُبْصِرُ وَيَسْمَعُ وَيَبْطِشُ بِهِ " . ووجه الله هذا هو النور المذكور في قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(3).وقال الأمام الباقرعليه السّلام كما في كتاب(الكافي) بسنده إلى أبي خالد الكابلي(قال سألت أبا جعفرعليه السّلام عن قول الله عز وجل (فَآمنِـُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورَ الَّذِي أَنْزَلْنَا) فَقَالَ يَا أَبَا خَالِد النُّورُ واللهِ نُورُ الأئِمَةِ مِنْ آلِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الِقَيَامِة وَهُمْ وَاللهِ نُورُ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَ ، وَهُمْ وَاللهِ نُورُ اللهِ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)(أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب أن الأئمة نور الله، ح1) وفي كتاب الكافي الشريف بسنده إلى الإمام الباقر روحي لتراب مقدمه الفداء في تفسيره عليه السّلام للآية الشريفة (عَمَّ يَتَسَائَلُونَ * عَنِ النَّبَأ الْعَظِيمِ) قائلاً: "هـِيَ فِي أميرِ المُؤْمِنِينَ، كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِيَن صلوات الله عليه يَقولُ: مَا لِلَّهِ تَعَالَى آيَةٌ هِيَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَلاَ لِلَّهِ مِنْ نَبَأٍ أَعْظَمُ مِنِّي"(5)

وملخص الحديث أن الإنسان الكامل الذي يكون آدم أبو البشر فرداً منه، أكبر آية ومظهر لأسماء وصفات الحق سبحانه، وأنه مَثَل الحق المتعالي وآيته. ولابد من تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن المِثْل بمعنى الشبه ولا يلزم تنزيه ذاته المقدس عن المَثَل الذي هو بمعنى الآية والعلامة (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى)(6).

إن كافة ذرّات الكون، آيات ومرآة تجلي ذاك الجمال الجميل عزّ وجلّ كل حسب حجمه ومنزلته الوجودية. ولكن لا يكون شيء آية للاسم الأعظم الجامع أي " الله "عدا الكون الجامع، والبرزخية الكبرى المقدسة جلّت عَظَمَتُه بِعَظَمَةِ باريه.

ـــــــــــــــ

(1) مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.

(2) مفاتيح الجنان، زيارة الجامعة الكبيرة.

(3) سورة النور، آية: 35.

(4) اصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب أن الائمة نور الله، ح1.

(5) اصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب ان الآيات التي ذكرها الله في كتابه، ح3.

(6) سورة الروم، آية: 27.

[ 678 ]

فَاللهُ تَعَالَى خَلَقَ الإِنْسَانَ الْكَامِلَ وَالآدَمَ الأَوَّلَ عَلَى صُورَتِهِ الْجَامِعَةَ وَجَعَلَهُ مِرْآة أسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ: فَظَهَرَ جَميعُ مَا فِي الصُّورَةِ الإِلهِيَّةِ مِنَ الأَسْمَاءِ فِي هذِهِ النَّشأْةِ الإِنْسَانِيَّةِ فَحَازَتْ رُتْبَةَ الإِحَاطَةِ وَالْجَمْعِ بِهذَا الْوُجُودِ وَبِهِ قَامَتِ الْحُجَّةُ لِلَّهِ عَلَى الْمَلائِكَةِ.

وتبين من بحثنا هذا السالف الذكر، السبب في اصطفاء واختيار الحق المتعالي للصورة الجامعة الإنسانية من كل الصور المختلفة للكائنات بأسرها. كما تبيّن السرّ في تفصيل الحق سبحانه لآدم عليه السّلام على الملائكة، وتكريمه دون كافة المخلوقات وفلسفة نسبة روحه إليه في الآية الكريمة (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(1).وحيث أن هذا الكتاب قد التزم على نفسه الاختصار، غضضنا الطرف عن بيان حقيقة النفخة الإلهية، وكيفيتها في آدم، وسبب اختصاصها به دون الموجودات الأخرى. والحمد لله أوَّلاً وآخِراً.

ـــــــــــــــ

(1) سورة الحجرات، آية: 29.

[ 679 ]

الحديث التَاسِع وَالثَلاثون

"الخير والشر"

[ 681 ]

بالسند المتّصل إلى ركن الإِسلام محمَّد بن يعقوبَ الكليني _ رضوان الله عليه - عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن ابن محبوب وعليِّ بن الحَكَم، عن معاوِيَة بنِ وهب قال: سَمِعْتُ أبا عبد الله عليه السّلام يقولُ: " إنَّ مِمّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى موسى عليه السّلام وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ: أنِّي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا، خَلَقْتُ الْخَلْقَ وَخَلَقْتُ الْخَيْرَ وَأجْرَيْتُهُ عَلَى يَدَيْ مَنْ أْحِبُّ، فَطوبى لِمَنْ أَجْرَيْتُهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَا اللَّهُ لا إلهَ إلاّ أَنَا، خَلَقْتَ الخَلْقَ وَخَلَقْتَ الشَّرَّ وَأجْرَيْتُهُ عَلَى يَدَيْ مَنْ أُريدُهُ، فَوَيْلٌ لِمَنْ أَجْرَيْتُهُ عَلَى يَدَيْهِ"(1).

ـــــــــــــــ

(1) أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب الخير والشر،ح1.

[ 682 ]

الشرح:

قوله: إلهَ: يكون " أَلَهَ " - بفتح الهمزة واللام - إِلهَةً على وزن عَبَد عبادة. ويكون إله بكسر الهمزة على وزن فِعال بمعنى المفعول أي المعبود مثل الإمام بمعنى من يؤتم به. وأن " إله " أساس اشتقاق " الله " حيث أدخلت الألف واللام وحذفت الهمزة تخفيفاً. وقال البعض أن الألف واللام أدخلتا عوضاً عن الهمزة التي حذفت. ولكل من القولين دليل لغوي لا حاجة لذكره. فتطلق " الإلهية والألوهية " غالباً في لسان أهل الله - العرفاء - على مقام التجلي بالفعل، وعلى مقام الفيض القدس. وتطلق عندهم " الله " : اسم الجلالة، غالباً على مقام الذات المستجمع للصفات. وقد يستعملون على العكس من ذلك - فتطلق الألوهية والإلهية على مقام الذات والله على مقام التجلي بالفعل ومقام الفيض المقدس -.

ويحتمل أن يكون " الإله " في هذا الحديث الشريف بمعناه اللغوي العرفي أي(أنا المعبود ولا معبود غيري) وعليه يكون قصر العبودية في الله سبحانه إما على أساس أن غيره لا يستحق العبادة حتى وان أخطأ الناس ورأوا غيره معبوداً. وأما على مذهب أهل القلوب وأرباب المعرفة من أن العبادة في أي صورة ومظهر كانت، تكون للكامل المطلق، وأن الإنسان حسب(فطرة الله الـّتي فـَطـَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) يطلب الجميل المطلق، وأن كان الإنسان العابد محجوباً عن هذه الفطرة، وزاعماً أنه قد ارتبط بالمتعين والمحدود - من غير الإله سبحانه -.

ولعلّ المقصود من الإله حسب ما ورد في ذيل الحديث الشريف من نسبة

[ 683 ]

الخير والشر إليه سبحانه، هو مقام الألوهية الذي يكون إشارة إلى مقام توحيد الأفعال، والذي عبر عنه الحكماء العظام بقولهم(لا مـُؤْثِّرَ فِي الْوُجُودِ إلاَّ اللَّهُ) كما سنشير إليه بعد قليل ان شاء الله تعالى.

قوله: " الخير " قال محقق المحدثين المجلسي رحمه الله في ذيل هذا الحديث الشريف:(والخير والشر يطلقان على الطاعة والمعصية وعلى أسبابهما ودواعيهما وعلى المخلوقات النافعة كالحبوب والثمار والحيوانات المأكولة والضارة كالسموم والحيات والعقارب وعلى النعم والبلايا. وذهب الأشاعرة إلى ان جميع ذلك من فعله تعالى. والمعتزلة والإمامية خالفوهم في أفعال العباد وأوّلوا ما ورد في أنه تعالى خلق الخير والشر بالمعنيين الأخيرين - ثم قال - وأما الحكماء فأكثرهم يقولون لا مـُؤَثَّرَ فِي الوُجُودِ إلاَّ اللَّهُ، وإرادة العبد مُعِدَّة لإيجاده تعالى الفعل على يده فهي موافقة لمذاهبهم ومذاهب الأشاعرة ويمكن حمله على التقية)(1) انتهى كلامه رفع مقامه.

في تحقيق الخير والشر

إن الخير والشر في موارد استعماليهما يكونان بمعنى الكمال والنقص في الذات أو الصفات وفي الوجود وكمالاته، وأن جميع ما هو خير بحسب ذاته، فهو عائد إلى حقيقة الوجود وإذا أطلق على غيره، فهو من أجل الوجود. كما أن الشرَّ بالذات، هو عدم الوجود أو عدم كمال الوجود، وإطلاقه على غير ذلك مثل الموجودات المؤذية والحيوانات الضارّة، فإنما هو إطلاق بالعرض والمجاز لا بالذات والحقيقة. ولو تصوّرنا هذا الموضوع مع مبادئه ومنطلقاته، للزم أن يكون تصديقه ضرورياً، رغم وجود البرهان السديد أيضاً على ذلك.

وما قاله المحقق المجلسي رضوان الله تعالى عليه في موضوع "خلق أفعال العباد"من أن الأمامية والمعتزلة قد خالفوا الأشاعرة، وأنهم قاموا بتأويل الآيات والأحاديث التي تنسب الخير والشر إلى الحق سبحانه. ففيه بعض الملاحظات: إذ أن مخالفة الإماميه والمعتزلة، للأشاعرة القائلين بالجبر، الذاهبين إلى مسلك

ـــــــــــــــ


(1) مرآة العقول، المجلد 2، ص 172.

[ 684 ]

مخالف للعقل والبرهان والوجدان، هذه المخالفة تكون صحيحة ولكن لا وجه لتأويل الآيات والأخبار، على مذهب المعتزلة القائلين بالتفويض الذي يكون أسوأ وأشنع من مذهب الأشاعرة.

وكذلك لا يحتاج الشيعة رضوان الله تعالى عليهم، الذين استناروا بنور هداية أهل البيت العظام، واختاروا بسبب بركة أهل بيت الوحي والعصمة مسلك الحق الموافق للآيات الكريمة، والبراهين المتقنة والمطابقة مع مذهب العرفاء الشامخين ومسلك أصحاب القلوب، هؤلاء لا يحتاجون إلى تأويل هذه الأخبار والآيات الكثيرة، وخاصّة التأويل الذي عرضه المحدث المذكور رحمه الله والذي يعتبر مرفوضاً وغير ممكن. بل إن الإمامية وأئمتهم عليهم السلام، لا يعزلون إرادة الحق سبحانه عن أي فعل من أفعال العباد، ولا يرون تفويض أي أمر من الأشياء إلى العباد.

وأما ما ذكره في نهاية كلامه:(أكثر الحكماء يقولون بأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وهذا يتطابق مع مذهبهم ومذهب الأشاعرة).

فإن هذه الكلمة " لاَ مُؤَثِّرَ فِي الوُجُودِ إِلاَّ اللَّهُ " صحيحة لدى أكثر الحكماء، بل لدى جميع الحكماء وأهل المعرفة بل يقولون إن من لم يذعن لهذه القضية من الفلاسفة، لم ينفذ نور الحكمة في قلبه، ولم يشعر عمق قلبه بالمعرفة ولكن ليس معناها أن إرادة العبد من الأمور المُعِدَّة لإيجاد الحق سبحانه، الفعل في العبد، كما هو واضح لدى أهل العلم والفلسفة.

وقوله (ويوافق مع مذهب الأشاعرة) غير صحيح فإن من الغرابة بمكان عطف مذهب الأشاعرة على مذهب الحكماء، لوجود البعد الشاسع بين مذهب الحكماء ومذهب الأشاعرة، ولا تجد حكيماً محققاً لم يطعن في مذهب الأشاعرة ولم يخالفه.

وأما ما ذكره(يمكن حمل هذه الأخبار على التقية) فتتوجه نحوه الملاحظات التالية:

أولاً: لا مجال لمثل هذا التوجيه، لأن ظواهر الأخبار تتوافق مع مذهب الحق والبرهان القويم.

[ 685 ]

ثانياً: إن هذه الأخبار تتطابق مع آيات كثيرة من القرآن الكريم، ولا معنى لتوجيه الآيات والأخبار الموافقة لها على التقية.

ثالثاً: لا توجد أخبار تتعارض مع هذه الأخبار، حتى نحملها على التقية التي تكون من المرجحات في باب التعارض، إذ يمكن الجمع بينها وبين ما يدل على أن الإنسان فاعل للخير والشر.

رابعاً: إن هذه الأخبار تنسجم حسب زعمه مع مذهب الأشاعرة الذي لم يعتنقه الغالب من الناس فلا مسوّغ لحمل الأخبار على التقية.

خامساً: أن المرجحات لدى تعارض الخبرين لا تجري على الموضوع الذي نحن فيه من المسائل العقائدية كما هو واضح.

قوله: طوبى. قال الجوهري(إن طوبى على وزن فُعلى وأنه مشتق من الطيّب، فبمناسبة الضمة السابقة على الطاء انقلبت الياء إلى الواو). وفي مجمع البحرين:(طوبى لهم أي طيب العيش، وقيل طوبى الخير وأقصى الأمنية. وقيل طوبى اسم للجنة بلغة أهل الهند. وقيل طوبى شجرة في الجنة. ويقال طوبى لك وطوباك على نحو الاضافة إلى ضمير المخاطب. وفي الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم:(طـُوبى شـَجـَرةً فِي الجَنَّةِ أصْلُها فِي دارِي وَفَرْعُها فِي دارِ عَليٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذلِكَ فَقالَ لِي دارِي وَدارِ عَليٍّ فِي الْجَنَّةِ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ)(1).

قوله: ويل. قال الجوهري (إن ويح كلمة رحمة كما أن ويل كلمة عذاب) وقال اليزدي هما بمعنى واحد تقول ويح لزيد وويل لزيد ترفعهما على الابتداء وتنصبهما بإضمار فعل مثل ألزمه الله الويل(2). ويقال ويل واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لذابت من حرّه(3). وقيل انه اسم بئر في جهنم.

[ 686 ]

فصل

في بيان أن كلاً من الخير والشر يتعلق به الإيجاد والخلق وبيان كيفية ذلك

وفيه إشارة إلى كيفية وقوع الشرّ في القضاء الإلهي

إعلم انه قد ثبت بكل وضوح في الفلسفة المتعالية، أن نظام الكون في أسمى مرتبة من الكمال والخير، وأقصى درجة من الحسن والجمال. وبُرهن على ذلك بنوع من البرهان اللمي على نحو إجمالي تارة، وعلى نحو تبسيطي وتفصيلي أخرى. والوقوف على تفاصيل ذلك بصورة دقيقة، مختص بالخالق تقدست أسماؤه أو بمن يوحي له الله سبحانه ويخبره عن ذلك. ولكن ما يستدعيه الكتاب في هذا الموضوع هو ما أومأنا إليه سابقاً: من أن ما هو من سنخ الكمال والجمال والخير، لا يكون خارجاً عن نطاق حقيقة الوجود لأنه المتحقق، دون غيره. ومن الواضح أن ما يقابل حقيقة الوجود، هو العدم أو الماهية، وكل منهما حسب ذاته وفي نفسه لا شيء، وبطلان محض، أو اعتبار محض، ولا يكون لهما ثبوت إلاّ إذا تنورا بنور الوجود، وظهرا بظهوره، ومن دون الوجود لا ثبوت في ذاتهما ولا في صفاتهما وآثارهما، وعندما يلقي الوجود بظلّه على رؤوسهما، ويمسح بيد رحمته الواسعة على وجههما، يصبح لكل منهما ظهوراً وخصائص وآثاراً. فإذن تكون كافة الكمالات نتيجة جمال الجميل المطلق، وتجلي النور المقدس للكامل المطلق. وأما الكائنات الأخرى فهلاك في نفسه، وفقر محض وبطلان مطلق. فجميع الكمالات تصدر من الوجود وتعود إلى الوجود.

وتقرر أيضاً في محلّه أن الصادر من الذات المقدس هو أصل حاقّ الوجود، وصرفه من دون أن يكون محدوداً بحدود عدمية أو ماهوية، لأن العدم أو الماهية لا يكونان صادرين من شيء، وأن التحديد المفروض على الفيض، يكون ناشئاً من المفيض المحدود. ومن تدبر في شرح أهل المعرفة حول كيفية الإفاضة والفيض، لأذعن بأنه لا يمكن بتاتاً تصور التقييد والتحديد في الفيض النازل من الباري عز وجل. فكما أن ذاته القدسيّة منزّهة من كل نقص وإمكان وتقييد، فكذلك يجب تنزيه فيضه المقدس وتقديسه من كافة الحدود والإمكانيه، والأمور المنبثقة من الماهيات والتحديدات الراجعة إلى الحدود والنقائص. إذن فيضه الذي هو ظل

[ 687 ]

للجميل المطلق ، يكون جميلاً مطلقاً، وجمالاً تاماً، وكمالاً تاماً، فـَهـُوَ جَمِيلٌ فِي ذَاتِهِ وَصفاتِهِ وأفعالِهِ، فلا يتعلق الجعل والإيجاد إلا بالوجود.

وقد برهن أيضاً في محلّه، أن جميع الشرور والإحترام - الموت المبكر - والهلاك والأمراض والحوادث الغربية والمهلكة والحيوانات المؤذية وغير ذلك من المصائب والآلام الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي، وفي هذه الهاوية الضيقة المظلمة، ينشأ من التضادّ والاصطدام الحاصل بين الموجودات، هذا التضاد، الذي لم يكن نتيجة الجهة الوجودية للموجودات بل يحصل من جرّاء النقص في هذه النشأة وضيق المحلّ والمقرّ للموجودات، ويعود ذلك إلى الحدود والنقائص الخارجة عن إطار نور الجعل بل تكون في الحقيقة دون الجعل.

إن الوجود هو الحقيقة وهو كل شيء وهو البريء والمقدّس من كل الشرور والعيوب والنواقص وأن النقائص والشرور والأشياء الضارة والمؤذية التي تعود إلى جهة النقص والضرر، وإن كانت غير مجعولة بالذات، ولكنها مجعولة بالعرض حسب الأدلة والبراهين . لأنه لو لم يتحقق أصل العالم المادي ولم يتعلق الجعل للجهة الوجودية من عالم الطبيعة لما كان هناك نقص وشرّ كما أنه لم يكن نفع وخير وكمال، لأن هذه النقائص والأعدام لم تكن من الأعدام المطلقة، بل هي من نوع الأعدام المضافة التي تتحقق بالعرض تبعاً لملكاتها، والقضية التي تتألف من الأعدام المضافة تعتبر من القضايا المعدولة أو القضايا الموجبة السالبة المحمول وليست من السالبة المحصلة.

وملخّص الكلام أنّ ما هو مخلوق ومجعول بالذات لله سبحانه هو الخير والكمال، وإنَّ تخلُّل الشرور والمضارّ وغيرها في القضاء الإلهي، يكون بالتبع والانجرار. وقد أشارت الآية الكريمة التالية القرآن الكريم (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )(1).إلى المقام الأول - الوجود مصدر الخير والكمال وأنه (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(2). إلى المقام الثاني - مجعول بالذات والشرور والنقائص مجعولة بالعرض - ووردت في الآيات الشريفة وأحاديث أهل

ـــــــــــــــ

(1) و(2) سورة النساء، آيات: 79 ـ 78.

[ 688 ]

بيت العصمة عليهم السّلام إشارات كثيرة إلى هذين الاعتبارين، ومن تلك الأخبار هذا الحديث الشريف الذي يحتوي على هذه الجملة(خـَلـَقـْتُ الخَلْقَ وَخَلَقْتُ الشَّرَ).

فصل

في بيان كيفية إجراء الحق سبحانه الخير والشر على أيادي عباده

يتبين لأصحاب العلم والتحقيق بعد التأمل في الأبحاث السابقة، كيفية إجراء الحق سبحانه، الخير والشرعلى أيدي مخلوقه، من دون أن يستلزم الجبر وآثاره الباطلة. والتحقيق في ذلك على مستوى يتّضح الموضوع وتندفع الملاحظات، يستدعي ذكر مقدمات كثيرة، وعرض المذاهب الفلسفية بصورة مسهبة، في حين أن هذا الكتاب لا يسع ذلك، فاعتذر عن الخوض فيه بصورة مفصلة، ولكنني سأشير بصورة مجملة تنسجم مع بحثنا هذا فنقول:

اعلم أنه لا يمكن أن يكون موجوداً من الكائنات مستقلاً في عمل من الأعمال، إلاّ بعد أن ينهض الموجد والفاعل، بسدّ كافة أبواب العدم التي قد تنفتح على المعلول. مثلاً إذا كان لوجود معلول وتحققه مائة شرط مثلاً، وقامت العلة بتوفير تسع وتسعين شرطاً أي بإغلاق تسع وتسعين باباً من العدم المنفتحة على المعلول المفروض - إذ في عدم تحقق كل شرط عدم للمعلول - ولم يبق الا باب واحد، لما أمكن أن تكون العلة مستقلة في إيجاد المعلول، فالاستقلال في العليّة يتوقّف على قيام العلّة بسدّ أبواب العدم الممكن فتحها على المعلول سدّاً نهائياً، حتى يصل المعلول إلى حد الوجوب لكي يصير موجوداً- الشيء ما لم يجب لم يوجد -.

ومن المعلوم بالضرورة والبرهان، أن القوى الفعّالة الظاهرية والباطنية من جميع الممكنات في هذا العالم من أهل عالم الجبروت العظمى والملكوت العليا حتى سُكّان عالم المُلك والمادة، قاصرون وعاجزون عن القيام بمثل هذا العمل، لأن العدم الأول الذي يمكن أن ينفتح على المعلول، هو عدم المعلول عند عدم علته الفاعلة والمؤثرة، ولا تجد في سلسلة الممكنات، موجوداً يستطيع أن يغلق هذا الباب بنفسه، لأن ذلك يوجب انقلاب ما هو ممكن بالذات إلى ما هو واجب

[ 689 ]

بالذات، وخروج الممكن عن حدود بقعة الإمكان، وهو محال بالبداهة والضرورة، لدى العقل. فاتضح بأن الاستقلال في الإيجاد يتطلب الاستقلال في الوجود، وهذا الشيء لا يتحقق في عالم الممكنات.

ويتبين بأنه لا يمكن التفويض في الإيجاد، في أي شأن من الشؤون الوجودية، ولأي موجود، من الكائنات، وأنّ عدم الإمكان هذا، لا يختص بالمكلفين وأفعالهم، كما يُفهم ذلك من الكلمات الجارية على ألسنة المتكلمين، ولكن ملاحظة أقوالهم في الأبواب المختلفة، تفيد أن عدم الإمكان هذا يعمّ المكلّف وأفعاله وغيرهما.

وحيث أن أصحاب علم الكلام قد اهتموا بأفعال المكلفين وجعلوها محور بحثهم، نجد بأن دراساتهم تدور حول أفعال المكلفين.

والخلاصة أننا لا نقترب من أقوال المتكلمين وأبحاثهم، وإنما نبحث عن قول الحق في الموضوع، وقد ثبت واتضح عدم امكان التفويض في أي أمر من الأمور ولأي موجود من الكائنات.

في إبطال الجبر

ويعلم بطلان مذهب الجبر أيضاً، بعد أن نشير إليه وهو:(أنه لا دور لأي واسطة وجودية في خلق الكائنات والموجودات، وإنما يتوهم الإنسان ذلك. مثلاً: إن النار لا تؤثر أبداً في الحرارة ولا توجدها، وإنما جرت سنة الله على تحقق الحرارة إثر تحقق النار، من دون أن يكون للنار دور في ذلك. ولو كانت سنّة الله جارية على تحقّق البرودة عقيب تحقق النار، لما اختلفت الأمور عما هو عليه الآن. والخلاصة أن الحق سبحانه من دون أي واسطة، يباشر جميع أفعال المكلفين، ويخلق آثار الكائنات). ويزعمون أنهم ارتأوا هذا المذهب كي ينزّهوا الحق المتعالي ويقدّسوه، حتى لا تكون يد الله مغلولة (غُلَّتْ أيّديهِمْ وَلُعِنُوا)(1). ولكن يستلزم هذا الضرب من التنزيه والتقديس، النقص والتشبيه، كما ثبت ذلك بالأدلة

ـــــــــــــــ

(1) سورة المائدة، آية: 64.

[ 690 ]

والبراهين، ولدى مذهب أهل العرفان. ويستلزم التفويض المذكور التعطيل، كما أشير إليه في الفصل المتقدم حيث قلنا: بأن الحق سبحانه كمال مطلق، ووجود صرف، ولا يتصور الحدّ والنقص في ذاته وصفاته، وأن متعلق إيجاده عز وجل وجعله، الموجود المطلق، والفيض المقدس الإطلاقي، ولا يمكن صدور الموجود المحدود الناقص من الذات المقدس، ونشوئه من النقص في الإيجاد، بل هو نتيجة النقص في المعلول والمستفاض، وهذا لا يتنافى مع الفاعل بالإرادة كما يزعم المتكلمون منافاته. وقد ثبت ذلك في محله، فما يمكن أن يكون مرتبطاً من الموجود والمعلول، بالذات المقدس الحق المتعالي مباشرة هو الموجود المطلق وصريح الوجود وهو إما الفيض المقدس بناءً على مسلك العرفاء، أو العقل المجرد أو النور الشريف الأول بناءاً على مذهب الحكماء والفلاسفة، وأما الوجودات الأخرى فتوجد مع الوسائط لا بالمباشرة.

وبعبارة أخرى لاشك في أن الموجودات تختلف فيما بينها من جهة تقبل الوجود، فبعض الموجودات، تقبل الوجود ابتداءاً واستقلالاً مثل الجواهر، وبعض الموجودات لا تقبل الوجود الا بعد موجودية شيء آخر، وتبعاً لموجود آخر، مثل الأعراض والأشياء التي يكون وجودها ضعيفاً، مثل تكلم زيد، حيث لا يتحقق ولا يوجد إلاّ تبعاً لزيد. ومثل الأعراض والأوصاف التي تأبى الوجود من دون وجود الجواهر والموصوف، وترفض التحقق لوحدها. ويكون هذا الرفض نتيجة النقص الذاتي، والنقص الوجودي لهذا الموجود، وليس من آثار نقص الفاعل وموجدية الحق تعالى شأنه. فتبين أن الجبر ونفي الوسائط الوجودية غير ممكن في سلسلة الكائنات الموجودة بل هناك وسائط في الإيجاد.

ومن البراهين القوية السديدة في موضوع بطلان الجبر هو أن الماهيات في نفسها عديمة التأثير والتأثر، وغير مجعولة بالذات، في حين أن حقيقة الوجود بذاته منشأ للتأثير وأن سلب التأثير عنه بصورة مطلقة يستلزم الانقلاب الذاتي أي سلب ما هو من ذاته التأثير عن ذاته كي يتحول إلى عدم التأثير . فإيجاد مراتب من الوجود غير مؤثرة ومسلوبة التأثير كلياً، غير ممكن، وموجب لنفي الشيء عن ذاته بل تكون مؤثرة وموجدة حسب الوسائط والمراتب.

[ 691 ]

فتبين بصورة مجملة أن مذهب التفويض والجبر نتيجة البراهين القاطعة، والمقاييس العقلية يكونا باطلين وممتنعين، وأن مذهب الأمر بين الأمرين لدى أهل المعرفة والفلسفة العلية هو الثابت والصحيح.

غير أن العلماء رضوان الله عليهم قد اختلفوا في معنى الأمر بين الأمرين اختلافاً عظيماً، والقول السديد المتقن، الذي يكون أبعد من المناقشات وأقرب إلى التوحيد، هو رأي العرفاء الشامخين وأصحاب القلوب. ولكن مسلك العرفاء في كل موضوع من المعارف الإلهية من قبيل(السهل الممتنع) حيث لا يمكن فهمه على أساس البحث والبرهان، ولا استيعابه من دون التقوى الكاملة والسداد الإلهي، ولهذا نتركه لأهله الذين هم أولياء الحق سبحانه، ونسلك منهج الأصحاب في البحث وهو:

أننا نرفض كلاً من التفويض الذي هو عبارة عن استقلال الموجودات في التأثير، والجبر الذي هو عدم تأثير الموجودات نهائياً ونؤمن بالمنزلة بين المنزلتين التي هي إثبات التأثير ونفي الاستقلال في التأثير، ونقول:

إن منزلة الإيجاد مثل الوجود وأوصافه، فكما أن الكائنات موجودة وليست بمستقلة في الوجود، وأن الأوصاف ثابتة لها وغير مستقلة فيها، وأن الآثار والأفعال ثابتة فيها وصادرة عنها ولكنها غير مستقلة في الوجود، فكذلك الفاعل والموجد، يفعل ويوجد ولكنه غير مستقل في الفاعلية والإيجاد.

ولا بد من معرفة أنه قد اتضح بعد التدبر في البيان المذكور في الفصل المتقدم بأن كلاً من الخير والشر يصحُّ أن ينتسب إلى كل من الحق والخلق، ولهذا قال عليه السّلام في الحديث الشريف" وَخَلَقْتُ الْخَيْرَ وأجْرَيتُه عَلى يَدي مَنْ أُحبّ فَطُوبى لِمَنْ أجْرَيتُه عَلى يَدَيْه، وأنا الله لا إلهَ إلاّ أنَا خَلْقتُ الْخَلْقَ وَخَلَقْتُ الشَّرَّ وَأَجْريتُه عَلى يَدَيْ مَنْ أُرِيدُ " ومع ذلك تكون نسبة الخير إلى الحق سبحانه، بالذات، وإلى العباد والكائنات، بالعرض، في حين أن نسبة الشرور إلى الموجودات الأخرى بالذات، وإلى الحق سبحانه بالعرض، وقد أشار إلى هذا المعنى الحديث القدسي القائل " يا بـَنـِي آدَمْ أنَا أولى مِنْك بِحَسَناتِكَ وأنْتَ أوَلى بِسَيِئَاتِكَ منّي " وقد أشرنا إلى هذا المعنى قبل ذلك، ونغض الطرف عنه هنا فعلاً. والحمد لله أوَّلاً وآخِراً.

[ 692 ]  

 

.

النهاية

اللاحق

البداية

البداية

  الفهرست