.

 

نظرات حول

الإعداد الروحي

للشيهد

الشيخ حسين معن

 بسم الله الرحمن الرحيم

إن أكثر ما نحرص عليه ـ خلال الزوبعة الفكرية ـ التي نجتازها هو أن نأخذ الفكر الإسلامي نقيا ومن منابعه الأصيلة وعلى يد علما ء أمناء على دين الله تعالى.

ولم ينل أعداء الإسلام من هذا الدين أمر اخطر من نقاوة وأصالة الفكر كما لم يجاهد العلماء العاملون لأمر أهم من المحافظة على سلامة الفكر الإسلامي من الانحراف والتشويش وقد دخل في فكرنا الكثير من الفكر الدخيل الذي لا يمت إلي الإسلام بصلة واصبح من الصعب معه تمييز ما هو من الإسلام عما ادخل عليه وقد نبت في تربة هذا  الفكر الهجين المختلط الكثير من المذاهب والآراء والتصورات المنحرفة في التأريخ الإسلامي، سواء في المجال العقائدي أو الفقهي أو الأخلاقي أو السياسي.

ولهذا السبب كانت المحافظة على نقاوة وأصالة الفكر الإسلامي وتطهيره عما ادخل عليه من أهم الأدوار والأعمال التي قام بها أهل البيت عليهم السلام ومن بعدهم العلماء الذين ساروا على هديهم.

وكانت قيمة العالم في أدوار الفكر الإسلامي المختلفة في مقدرته على مكافحة الفكر الدخيل والمنحرف والمذاهب الدخيلة والمنحرفة عن الإسلام وتثبيت الفكر الأصيل النابع من منابعه النقية الصافية.

أقول لك بمناسبة التقديم للكتاب الذي بين يدي الشهيد السعيد والعالم الجليل والعبد الصالح الشيخ حسين معن، رحمه الله فقد تناول في هذا الكتاب موضوعاً شديد الحساسية، كبير الأهمية في حياتنا الإسلامية، وهو الأعداد الروحي والتربية الروحية، والبحث في هذا الموضوع يؤدي كثيرا بالباحثين إلى تصورات غير مكتملة، وناقصة تنتزع نحو الرهبانية ومشاركة الدنيا، واعتزال الحياة الدنيا، والحياة الاجتماعية وابتغاء وجه الله تعالى في ذلك كله.. أي بعكس التصور الإسلامي الصحيح الوارد في الكتاب والسنة تماما.

وقد نشأ في ظل هذا التصور المنحرف للتنمية الروحية والتربوية النفسية مذاهب منحرفة قامت على أساس بعد واحد فقط من أبعاد الإسلام الأصيلة، وتكون لهذا الانحراف تاريخ، وثقافة، ومؤسسات، وإمدادات، وعلماء، ومفكرين، وكل ذلك حصل نتيجة الفهم التجزيئي غير الكامل لأصول وافاق هذا الدين.

ومن خلال قراءتي لهذا البحث رأيت ان المؤلف الشهيد رحمه الله يتناول هذا الموضوع الخطير من خلال الرؤية الإسلامية الأصيلة والمتكاملة وينظر إلى الإعداد الروحي من زاوية الحركة، والجهاد، والعمل، والدعوة إلى الله تعالى ويضع هذه المسألة موضعها الطبيعي من هذا الدين، وهو الجو الحركي والسياسي والجهادي، ويدرسه من خلال هذا الجو بالذات على عكس الاتجاهات الفكرية المنحرفة التي تحاول ان تعزل هذا الموضوع الحساس والخطير عن واقع الحياة والأجواء الحركية، والسياسية، والجهادية.

فيحاول المؤلف قدس الله سره ان يمزج بين هذين الشطرين من الفكر الإسلامي ويؤلف بينهما ويجعل منهما طيفاً فكرياً واحداً يكمل بعض ألوانه بعضا كما يطلبه الإسلام تماما في منهجه التربوي والحركي لا عداد الدعاة إلى الله تعالى..

وفي قبال الاتجاه الانحرافي الذي يعزل مسألة الإعداد الروحي عن جو الحركة والجهاد هناك سلوك وتوجه آخر معاكس لهذا التوجه في عزل العمل السياسي والحركي والجهادي عن التربية الروحية والزهد في التربية الروحية وتقليل قيمة التهذيب ودوره في الساحة الحركية الجهادية وهذا اتجاه سلوكي خطير لا يقل خطورة عن الاتجاه الأول.. وهذا ليس اتجاهاً فكرياً كما كان الأمر في الاتجاه الأول، وانما هو غفلة لدى بعض الغافلين عن أهمية البناء الروحي، والتربية النفسية في ساحة العمل السياسي والجهادي، أو غرور يصيب بعض الناس الذين يتحركون على الساحة السياسية الإسلامية أحياناً، فيتصورون ان العمل السياسي والجهادي والحركي الإسلامي يغني عن البناء الروحي والتربية النفسية والمداومة على ذكر الله تعالى والتنفل والتهجد، أو ليس هذا ولا ذاك وانما تلهيهم مسائل العمل ومشاغل الحركة والجهاد عن الانصراف إلى البناء الداخلي وما يتطلب من جهد ومداومة على الرياضة النفسية والتهذيب والتزكية.

ومهما تكن أسباب هذه الظاهرة، فهي ظاهرة انحرافية لا يقل خطرها عن الانحراف الأول.. فأن حاجة الإنسان الذي يتحرك على ساحة العمل الإسلامي والدعوة إلى الله تعالى إلى البناء الداخلي والإعداد الروحي تفوق حاجة الآخرين الذين لا تتجاوز اهتماماتهم شؤون معيشتهم الخاصة مع الالتزام بالحد الأدنى من التدين.

فأن الشيطان لا يتربص بهؤلاء الدوائر ولا يعمد إلى إغرائهم ووسوستهم كما يعمد إلى إغراء ووسوسة أولئك الذين يعملون في صفوف مواجهة الاستكبار، وأذنابه، ولا يتعرض أولئك لمزالق ومخاطر الطريق ولا تشبه خطورة سقوط واحد من عامة الناس خطورة سقوط إنسان يعمل على الخط الحركي على الساحة الإعلامية والسياسية داخل الأمة فأن الإنسان الذي يعمل في وسط الأمة وعلى خط الدعوة والثورة والحركة السياسية إذا سقط لا يسقط وحده وانما يسقط معه أمة من الناس ويجر معه جمعاً من الخطوط الانحرافية والانشقاق ولأمر ما يقال: (إذا هلك العالم هلك العالم) (بالفتح)…

ولكل هذه الاعتبارات، ولغيرها من الاعتبارات، والحيثيات تفوق حاجة العاملين في صفوف الحركة والثورة الإسلامية والعاملين في الساحة السياسية والإعلامية الإسلامية حاجة غيرهم من الناس إلى الإعداد الروحي والبناء الداخلي والتربية النفسية.

لذلك نجد ان القرآن يؤكد على أهمية البناء الروحي للعاملين بشكل خاص ويربط بين هذين الجانبين من شخصية الداعية ربطاً وثيقاً.

وتستعجل هنا تلاوة هذه الآيات من كتاب الله قبل ان نقرأها في العرض القرآني الرائع التي يذكرها المؤلف رحمه الله ضمنه.

" ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون * العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمر بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين "[1].

ترى كيف يتم هذا الاقتران الرائع بين القتال والجهاد في سبيل الله ومبايعة الله ورسوله، وبين التوبة والعبادة، والحمد، والسياحة، والركوع، والسجود..

(محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوهم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل) [2].

ترى هؤلاء القوم الذين وصفهم الله تعالى بأنهم اشداء على الكفار وكأنهم زبر الحديد في مواجهة الكفار صلابة وقوة، كيف يرتسم على وجوههم أثر السجود، وكيف ترق قلوبهم محبة وشفقة على المؤمنين وكيف يكون خشوعهم وتضرعهم بين يدي الله تعالى..

ثم نقرأ الآيات التي يخاطب الله تعالى بها نبيه (ص) داعياً اياه إلى الاستقامة في الدين، والصبر على المواجهة والاذى  والصلابة في الموقف من الكافرين والا يركنوا إلى الذين ظلموا من الجبابرة والمستكبرين، ثم تنتقل هذه الآيات الكريمة من هذا الجو المشحون بالصلابة والقوة والاستقامة إلى جو عبق بالصلاة والذكر، طرفي النهار وزلفاً من الليل، وكأنما الآيات الكريمة تتحدث عن وجهي حقيقة واحدة عندما تنتقل من ذلك الجو السياسي الجهادي المعبأ بالعمل والتحرك والصمود، إلى هذا الجو العبادي الخاشع بين يدي الله تعالى..

" فأستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا انه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون * واقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين " [3].

واليك طرفا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته في عبادته واقباله على الله تعالى في زحمة أعماله السياسية والجهادية في مكة والمدينة، ونبذاً، من سيرة أهل بيته ومن اهتدى بهديهم وسنتهم.

(كان رسول الله صلى عليه وآله وسلم لايقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله) [4].

(وكان يتضرع عند الدعاء حتى يكاد يسقط رداؤه) [5].

وروي الطبرسي في الاحتجاج عن موسى بن جعفر (ع) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي، حتى يبتل مصلاه من خشية الله عزوجل..).

وفي المناقب (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي حتى يغشى عليه فقيل له: (أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)؟ قال: (أفلا اكون عبداً شكورا).

وروي الديلمي في الارشاد: (ان ابراهيم (ع) كان يسمع منه في صلاته أزير كأزير المرجل، من خوف الله تعالى وكان رسول الله كذلك).

وعن الشيخ ابي الفتوح في تفسيره عن ابي سعيد الخدري قال: (لما نزل قوله تعالى: (واذكروا الله ذكرا كثيرا)

اشتغل رسول الله (ص) بذكر الله حتى قال الكفار انه جن) [6].

وفي الكافي عن ابي عبدالله (ع) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوب في كل يوم سبعين مرة).

وفي التهذيب عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: (كان رسول الله (ص) ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس، ثم قلب بصره في السماء ثم تلا الأيات من آل عمران:

" ان في خلق السماوات والأرض "

ثم يستن، ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد، فيركع اربع ركعات على قدر قراءته.. ركوعه وسجوده على قدر ركوعه. يركع حتى يقال متى يرفع راسه؟ ويسجد حتى يقال متى يرفع رأسه؟ ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الأيات من آل عمران، ويقلب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي الركعتين ثم يخرج إلى الصلاة) [7].

وعن عروة بن الزبير قال: (كنا نتذاكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعمال أهل بدر وبيعة أهل الرضوان فقال ابو الدرداء: إلا اخبركم بأقل القوم مالا واكثرهم ورعا واجتهادا في العبادة؟ قالوا من:؟ قال: علي ابن ابي طالب (ع) رأيته في حائط بني النجار يدعو، ثم انغمر في الدعاء فلم أسمع له حساً وحركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، اوقظته لصلاة الفجر فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فلم يتحرك، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن ابي طالب (ع).

فأتيت منزله مبادراً انعاه اليهم، فقالت: فاطمة (ع): يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه وقصته فأخبرتها الخبر فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الخشية التي تأخذ من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوا على وجهه فافاق، ونظر الي، وانا ابكي، فقال ما بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلت: بما أراه تنزله بنفسك فقال (ع):

(كيف بك إذا رأيتني ادعى إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاط شداد وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار واسلمتني الاحباب، ورفضني أهل الدنيا لكنت اشد رحمة بي بين يدي من لا تخفى عليه خافية) [8].

دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد قتل امير المؤمنين (ع) (فقال: صف لي عليا؟ فقال: أعفني فقال: أقسمت عليك لتصفنه.

قال: اما إذا كان ولابد فانه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنفلق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته وكان غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا وقربنا منه لا نكاد نكلمه هيبة له.

يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله..

واشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد ارخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم[9] ويبكي بكاء الحزين يقول:

(يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم ألي تشوقت؟ هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا

رجعة لي فيك فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق..).

فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، قد كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من

ذبح ولدها في حجرها، فهي لا يرقى دمعها ولا يخفى فجعها) [10].

(ودخل ابو جعفر (ع) على ابيه السجاد (ع) فإذا هو قد بلغ من العبادة مالم يبلغه احد، فرآه، وقد اصفر لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانخرم انفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام للصلاة.

قال أبو جعفر: فلم أملك نفسي حين رايته بتلك الحال من البكاء، فبكيت رحمة، له واذا هو يفكر فالتفت الي بعد هنيهة وقال:

يا بني اعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي ابن ابي طالب (ع) فاعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها  من يده وقال: من يقدر على عبادة علي بن ابي طالب (ع) [11].

وكان إذا توضأ يصفر لونه فيقول له اهله: ما هذا الذي يغشاك فيقول: أتدرون لمن أتاهب للقيام بين يديه) [12].

وعن جعفر بن محمد الصادق (ع) قال: (كان ابي علي ابن الحسين رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة يقشعر جلده ويصفر لونه، وترتعد فرائضه، ويقف تحت السماء ودموعه على خديه، وهو يقول: لو علم العبد من يناجي ما أنفتل..

ولقد برز يوما إلى الصحراء فتبعه مولى له فوجده وقد سجد على حجارة مسحنة[13]، قال مولاه: فوقفت وانا اسمع شهيقه وبكاؤه فأحصيت الف مرة وهو يقول:

(لا اله إلا الله تعبداً ورقا، لا اله إلا الله إيماناً وصدقاً).

ثم رفع رأسه من سجوده وأن وجهه ولحيته قد غمرا بالتراب ودموع عينيه منحدرة على خديه) [14].

وقال الباقر (ع) (ان ابي علي أبن الحسين (ع) ما ذكرنعم الله عليه إلا سجد، ولا قرأ أية من كتاب الله عزوجل فيها سجود إلا سجد، ولا دفع عزوجل عنه سوءاً يخشاه او كيد كائد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد ولا وفق لاصلاح بين اثنين إلا سجد وكان اثر السجود في جميع مواضع سجوده فيسمى السجاد لذلك) [15].

وعن أبي حمزة عن أبيه قال: (رأيت علي بن الحسين (ع) في فناء الكعبة من الليل وهو يصلي فأطال القيام حتى جعل مرة يتوكأ على رجله اليمنى ومرة على رجله اليسرى ثم سمعته يقول بصوت كأنه باك: يا سيدي تعذبني وحبك في قلبي اما وعزتك لئن فعلت لتجمعن بيني وبين قوم طالما عاتبتهم فيك) [16].

وان تعجب فعجب ان تحرص سيدتنا زينب بنت علي (ع) ان لا تفوتها نافلة الليل حتى ليلة الحادي عشر من محرم على مقربة من الاجساد الطاهرة.

فقد روى ان سيدتنا زينب بنت امير المؤمنين (ع) [17] ما تركت تهجدها لله تعالى طوال دهرها حتى ليلة الحادي عشر من المحرم.

وروي عن زين العابدين (ع) قال: (رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس).

وعن الفاضل البيرجندي عن بعض المقاتل المعتبرة عن مولانا السجاد (ع) انه قال: (ان عمتي مع تلك الصمائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية. [18].

وقالت فاطمة بنت الحسين (ع): (واما عمتي زينب فأنها لم تزل قائمة في تلك الليلة (أي العاشر من المحرم) في محرابها تستغيث إلى ربها، فما سكنت لنا عين ولا هدأت لنا رنة) [19].

وروي الشيخ جعفر النقدي رحمه الله عن بعض المتتبعين للامام السجاد (ع) انه قال:

(ان عمتي زيبنب كانت تؤدي صلاتها من قيام الفرائض والنوافل وعند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام وفي بعض المنازل كانت تصلي في جلوس فسألتها عن سبب ذلك فقالت: اصلي من جلوس لشدة الجوع لانها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الاطفال) [20].

وما زلنا نتحدث عن عبادة سيدتنا زينب (ع) وانقطاعها إلى الله في مسيرتها إلى كربلاء ثم إلى الشام والمدينة فلا بأس ان نعرض هذه الصور الرائعة التي يذكرها المؤرخون لاصحاب الحسين (ع) ليلة العاشر من المحرم يقول المؤرخون:

(وبات اصحاب الحسين (ع) في تلك الليلة، ولهم دوي كدوي النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد) [21].

 

سمة العبيد من الخشوع عليهم                            لله ان ضمتهم الاسحار

واذا ترجلت الضحى شهدت لهم                               بيض القواضب انهم احرار

 

وفي تاريخنا الجهادي والحركي نلتقي كثيرا بهذه المشاهد الرائعة من اقتران الجهاد البطولي في ساحات الوغى والدعوة إلى الله بالعبادة وتهذيب النفس والابتهال والتبتل والتهجد وقيام الليل.

ومن اروع هذه المشاهد مشاهد التهجد والتنفل على جبهة القتال لجند الإسلام، حيث يرابط جند الإسلام على ثغور الدولة الإسلامية يستقبلون شظايا القنابل ورصاص العدو بصدورهم..

يقف هؤلاء الابطال في الليالي الظلماء خلف الدبابات على خط النار بين يدي ربهم عزوجل، يناجونه ويتضرعون إليه ويسجدون على تراب الجبهة ويطيلون السجود والبكاء حتى تبتل ارض الجبهة بدموعهم.

ولئن كان هؤلاء الابطال لايتركون صلاة الليل على خط النار وفي مواجهة العدوا فأنهم يقتفون خطى قائدهم الامام الخميني حفظه الله.

يقول الشيخ الانصاري أحد المقربين إلى الامام في ترجمة حياة الامام حفظه الله:

(لم يترك الامام صلاة الليل منذ خمسين سنة) فالامام يتهجد في كل ليلة، في المرض، وفي الصحة، وفي السجن وفي

خارج السجن، وفي حالة الابعاد، وحتى على سرير مستشفى القلب في الليلة التي أمر الاطباء بنقل الامام من قم إلى مستشفى القلب في طهران لم يترك الامام صلاة الليل في تلك الليلة، كانت ليلة عسيرة وكان الثلج قد نزل بكميات كبيرة وبقي الامام في سيارة الاسعاف على تلك الحالة عدة ساعات ومع ذلك عندما استقر الامام على سرير مستشفى القلب في طهران بادر إلى صلاة الليل وفي الليلة التي انتقل فيها الامام من باريس إلى طهران صعد إلى الطابق العلوي من الطائرة وصلى هناك صلاة الليل.

لايترك الامام تلاوة القرآن في كل فرصة مناسبة وعادة يقرأ القرآن بعد صلاة الصبح، وقبل صلاة الظهر والعصر، وقبل المغرب والعشاء، ويتفق كثيراً عندما ندخل نحن على الامام نجده يقرأ القرآن) [22].

وبعد فلا أريد ان استرسل اكثر من هذا المقدار في هذه المقولة واحب ان اذكر اخواني الدعاة إلى الله تعالى، قبل ان اقطع هذا الحديث بضرورة الاهتمام بهذا الجانب من شخصيتهم، فان شخصية الداعية لا تتكامل ولا تنمو النمو اللازم لها، مالم يحاول الداعية ان ينقطع إلى الله تعالى في حياته، ويشرب قلبه بحب الله ومالم يأنس بذكر الله، واقامة الصلاة في الليالي الداجية الظلماء، فأن البكاء، والتهجد، وتلاوة القرآن في سكون الليل وظلماته يحيي القلوب الميتة، ويشرح الصدور، ويبعث النور في حياة الإنسان.

واذا كان هذا البعد ضرورياً في حياة كل إنسان ففي حياة الدعاة اكثر ضرورة واهمية.. والدعاة أولى من غيرهم بالاهتمام بهذا الجانب الحيوي والاساسي في شخصيتهم.

ان توثيق العلاقة بالله تعالى والانقطاع إليه عزوجل يؤمن سلامة المسير والسداد للداعية ويقيه عن المزالق والمخاطر ويربط على قلبه في الهزات والزلازل..

ان ثبات الداعية على ارض المعركة والمواجهة، واستقامته، ومقاومته للتحديات وصبره بأتجاه الازمات والمتاعب، وقدرته في تجاوز العقبات.. لا يأتي فقط نتيجة الوعي والفهم، والممارسة، والتجربة والخبرة، وانما يمده الله تعالى، بها، ويشرح صدره، فيفرغ عليه صبراً، ويثبت له على أرض المعركة قدما، وينصره على اعدائه..

وهذا المدد الالهي اكثر ما ينزل على العبد، ينزل عليه في ساعات التضرع، والبكاء، والانقطاع إليه تعالى..والتضرع والبكاء ورقة القلب من افضل الفرص التي تؤهل الإنسان لهبوط الرحمة من جانب الله تعالى.

فلا ينال الإنسان رحمة الله تعالى ولا يكون قريباً من الله تعالى كما يكون كذلك عندما يرق قلبه، وتجري عيناه بالدموع، ويخشع قلبه، ويقف بين يدي ربه قائما، او يطرح نفسه على الارض ساجداً..

وهذه الحالة هي أهم مصادر التسديد والتوفيق والثبات والاستقامة في حياة الدعاة..

والشيطان يكمن للدعاة في كل مكمن ويتربص بهم الدوائر في كل فرصة للايقاع بهم، وتثبيطهم وزرع اليأس في نفوسهم، وتحريفهم عن المسير، وتلبيس الأمر  عليهم..

وليس للداعية في هذه المزالق التي يترقب فيها الشيطان الدعاة غير الله تعالى، ينقطع اليه، ويتضرع بين يديه ويسترحمه..

وبقدر ما ينقطع الداعية إليه عزوجل يمده منه بالرحمة والتاييد والثبات والصبر والسداد..

وبعد فلا يسعني في هذه المقدمة ان لا اتحدث شيئا عن مؤلف هذا السفر الجليل: الشهيد السعيد، والعبد الصالح، الشيخ حسين معه رحمه الله، الذي اختطفته ايدي الاجرام البعثية من بيننا وهو بعد في غضاضة شبابه الطاهر النقي.

إن قراءة سريعة وعابرة لهذا الكتاب يكشف عن ان كاتب هذا الكتاب لا يتحدث فيه عن درس ونظريات وافكار قرأها وسلم بها، وانما يتحدث عن معاناة، وان هذه الاشواط التي يصورها المؤلف في الكتاب لتحرك الإنسان إلى الله تعالى.. قد قطعها المؤلف غالبا فجاء الكتاب تعبيرا عن معاناة ومعايشة.

وهذه الناحية من أهم خصائص المؤلف الشهيد رحمه الله، حيث كان بفضل الله تعالى يضم إلى الذهنية الخصبة والفكر الوقاد، والنبوغ المبكر، والرؤية النافذة.. قلبا واعيا وبصيرة نافذة، وصدرا شرحه الله تعالى، ونورا في القلب، وانقطاعا إلى الله، وتبتلا وابتهالاً ويقينا بالله..

والى هذا، وذاك كان يضم رحمه الله معاناة الداعية وخبرة، وتجربة العاملين في سبيل الله، ولا يمل هم الدعوة، ويسعى في تحقيق اهدافها بنفس صابرة مطمئنة لا يعرف التعب والكلل والا يمل من العمل والا يتسلل إلى روحه الكبيرة اليأس ولا يجزع من ساحة العمل في حالة من الاحوال.

كانت مدرسته محرابه، ومحرابه ساحة عمله وجهاده، وكان يجمع بشكل يبعث على الاعجال بين هذه السوح الثلاث، ويعمل فيها جيمعاً بتوازن عجيب، فهو عالم ضليع يراهق الاجتهاد رغم شبابه الغض.

وكان يطرح فيه استاذه الكبير الشهيد الصدر رحمه الله امالاً كبيرة لمستقبله في الفقاهة والعلم، وفي نفس الوقت كان يتميز بروحه الشفافة النقية والصافية، وانقطاعه إلى الله تعالى، وتهجده، ودعائه، ومداومته على ذكر الله، ثم كان إلى جنب ذلك من خيرة الدعاة إلى الله تعالى في الساحة الإسلامية في العراق، في السراء والضراء لا يكل ولا يتعب ولا يعرف اليأس والخوف طريقا إلى قلبه، يتقد نشاطا وعملا، ويبعث في نفس اخوانه الهمة، والنشاط، والامل والحركة.. وقليل من الناس كذلك وذلك من فضل الله تعالى.

واذا علمنا ان الشهيد السعيد الشيخ حسين معن قد استطاع ان يجتاز هذه الاشواط البعيدة في العمل ويحقق هذه المكاسب ويبلغ هذه القمم الرفيعة من العلم والعمل وهو بعد في سني الشباب لم يتجاوز العشرينات من عمره كان ادعى للاعجاب.

ومن الحق ان نقول في هذا الشهيد السعيد وفي الدعوة المباركة التي التزمها، وامتزجت بدمه، وروحه، وعقله واحاسيسه، فكانت جزءاً لا يتجزأ من وجوده.. ان الدعوة الإسلامية هي التي فجرت هذه الكفاءات والمواهب والقدرات  في نفس شهيدنا السعيد وانه مدين إلى الدعوة بالكثير من الكفاءات والقابليات والمنح..

ان الدعوة الإسلامية لا تبدع هذه الكفاءات، وانما يبدعها الله تعالى بفضله، ويودعها حيث يشاء في نفس عباده، ولكن الدعوة الإسلامية، وساحات العمل، والجهاد تكتشفان هذه المواهب، والكفاءات، وتفجرانها وهذه سنة الله تعالى في حياة العاملين. فان العمل والجهاد كما يأخذان من العاملين يعطيانه ايضا، وما يعطيان اكثر مما يأخذان منه.

وقد تفتحت مواهب هذا الشاب وقدراته في ربيع عمره في هذا الحقل المبارك فأتى ثماره طيبة شهية مباركة..

ولقد هيأ الله تعالى لشباب العراق. بشكل خاص في الدعوة الإسلامية المباركة فرصة مباركة للنمو والانطلاق والتحرك، بعد سنوات عجاف من الخمول والضياع والحيرة والقلق والسقوط.. مرت على العراق وعلى العالم الإسلامي جميعا.

فأنطلقت هذه المسيرة تكتسح من امامها رواسب سني التخلف، وتبعث الحركة والوعي والقوة والعزم في نفس الشباب.. وفي هذا الوسط الحركي المبارك نشأ جيل من الشباب يتطلع إلى اقامة حكم الله على وجه الارض، وتعبيد الإنسان لله، وكسر كبيرياء الطاغوت وهيبته واعادة الإسلام إلى صلب الحياة، واعطاء الإسلام الدور القيادي الفعال في حياة الإنسان.

وتحرك هذا الجيل بهذا الاتجاه وعمل على تطهير المجتمع الإسلامي في العراق من رواسب سنوات التخلف ونفوذ الاستكبار، ومقاومة الحكام العملاء الذين كانو يمثلون مصالح الاستكبار في المنطقة، ومواجهة التحديات بصبر، وإيمان فكان جو الدعوة الإسلامية في العراق مزيجا من الإيمان والفكر والجهاد.

وشاء الله تعالى ان تنطلق هذه المسيرة المباركة من النجف الاشرف بالذات، قاعدة الفقاهة ومدرسة أهل البيت منذ الف سنة، وشاء الله تعالى ان تكوت بداية هذه الحركة على يد عدد من كبار الفقهاء وعلماء هذه الحوزة المباركة، وشاء الله ان يكون الرعيل من ابناء هذه المسيرة خليطا من طلاب الحوزة العلمية في النجف الاشرف وطلبة الجامعات، تصافحا وتعانقا في جو الدعوة، وانطلقا في موكب هذه المسيرة.

والذي يعرف ما بذلت اجهزة الاستكبار العالمي وعملاؤه من جهد لعزل هذين القطاعين المؤثرين في المجتمع الحوزة والجامعة.. يعرف قيمة الدعوة الإسلامية ودورها الكبير في كسر الحواجز النفسية والاجتماعية، والسياسية بينهما وتشكيل مسيرة واحدة منهما..

واستمرت هذه المسيرة المباركة، حتى التحمت بمسيرة الثورة الإسلامية في إيران  ، بقيادة الامام الخميني حفظه الله.. في مثل هذا الجو المزدوج العبق: الحوزة العلمية، والدعوة الإسلامية، نشأ الشهيد الشيخ حسين معن، رحمه الله، وتفتحت كفاءاته وامكاناته، وانطلق بأتجاه العمل الإسلامي، وتحرك، ودعا، وكتب، ودرس، وحاضر، وخطب في الجماهير، وربى، وجاهد، وكافح جلاوزة البعث، وسجن، وعذب في الله، ثم استشهد، رحمه الله، وختم الله حياته بمسك الشهادة وآثره بها.

واذا ذكرنا الشيخ حسين معن رحمه الله، فلا يسعنا ان لا نذكر الجهود التي بذلهها أستاذه الكبير الفقيه والمفكر الإسلامي الرائد السعيد السيد الصدر رحمه الله في تربية وإعداد الشهيد.

فقد لمح السيد الشهيد الصدر رحمه الله في هذا الشاب ملامح الذكاء والنبوغ المبكر والاصالة والنجابة فأحتضنه برعايته الخاصة وأسبغ عليه عواطفه الابوية المباركة، وتبنى تربيته، وكان يضع فيه ثقته وآمالاً كبيرة..

وكان الشهيد الشيخ حسين معن يحفط لأستاذه الكبير إلى آخر حياته احتراماً وحباً خالصاً.. فرحم الله الاستاذ والتلميذ، وحقق الله تعالى آمالهما بسقوط اعمدة الكفر وقيام حكم الله على ارض الرافدين وسلام عليهما يوم ولدا ويوم استشهدا ويوم يبعثان حيين.

محمد مهدي الاصفي

قم المقدسة

21/صفر/1405هـ



[1]  سورة التوبة/111 ـ 112.

[2] سورة الفتح/ 29.

[3]  سورة هود/ 112 ـ 115.

[4]  سنن النبي ص356 عن المناقب ومجمع البيان.

[5]  سنن النبي عن البحار ج53 ص339.

[6]  سنن النبي ص34.

[7]  سنن النبي ص34.

[8]  سنن النبي ص240 عن التهذيب 2/334 والكافي 3/445.

[9]  الانوار العلوية للشيخ جعفر النقدي.

[10]  السليم: الملدوغ.

[11]  الانوار العلوية 405ـ 406.

[12]  كشف الغمة للاردبيلي 2/297.

[13]  الوسائل ابواب مقدمات العبادات ب5 ص33.

[14]  نفس المصدر السابق ص39.

[15]  اصول الكافي ج1 ص33.

[16]  اصول الكافي ج1 ص44.

[17]  اصول الكافي ج1 ص44.

[18]  الوسائل ابواب مقدمات العبادات ب5 ص33.

[19]  في الرواية عن ابي عبدالله (ع): (لقي عباد البصري علي ابن الحسين (ع) في طريق مكة فقال له: يا علي تركت الجهاد وصعوبته واقبلت على الحج ولينه ان الله عز وجل يقول: (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) الاية فقال علي ابن الحسين (ع) اتم الاية فقال: (التائبون العابدون) الاية فقال: علي ابن الحسين (ع) إذا راينا هؤلاء هذه صفتهم فالجهاد معهم افضل من الحج) (الوسائل ـ ابواب جهاد العدو ـب12) ص33.

[20]  في ظلال القرآن ج8 ص341.

[21]  في ظلال القرآن ج8 ص341.

[22]  الميزان م11 ص66 عن مجمع البيان.